أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - صرخة الضمير المعّذب وحشرجة الإعلام المهّذب















المزيد.....



صرخة الضمير المعّذب وحشرجة الإعلام المهّذب


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1790 - 2007 / 1 / 9 - 12:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


للأموات أصوات هي الصدى الفعلي لما فيهم من انسجام في تقفية أنشودة الحياة، أو نشاز يشوه أنغام أغانيها. وهي الحالة التي يعّبر عنها بصورة نموذجية تضاد المواقف من "إعدام صدام"! لكنها تبقى مع ذلك عبارة تحتوي بحد ذاتها على سجع الحقيقة!. ففي ظاهرها نعثر على تناغم الاسم ونهايته، وفي الباطن نعثر على حقيقة الخاتمة، ألا وهي بلوغ صدام حالة الانعدام، أي اللاشئ! وليس هناك من فجيعة تعيسة يمكن تخيلها لنهاية المرء أكثر منها. وهو إعدام على خلاف ما هو متعارف عليه في لغة العقوبات القانونية، يستمد مقوماته أولا وقبل كل شيء من الإحساس العميق بضرورة إعدام الصدامية من حيث كونها فكرة وأسلوبا ونموذجا في التعامل مع الدولة والمجتمع والحق. وذلك لما فيها من نشاز في موسيقى الحياة العراقية. بحيث جعل منها أصوات متطايرة من البكاء والنحيب والعويل والتوعد والانتقام والثأر، أي من كلّ يصعب وصفه بالعبارة لكنه مقبول ومعقول بمعايير الضمير المعذب. وبالتالي لا يعني الانتقاد "السياسي" و"الدعائي" العنيف لصورة إنزال القصاص الحقوقي والأخلاقي بصدام، سوى المظهر "المهّذب" للعهر "المؤدب". وبالتالي لا يعني طوفان الجرائد المأجورة بشجبها ونحيبها عما جرى، والقنوات الفضائية الهائجة بلباس الرياء الحزين والتباسها العقلي المشين في "نقل ما حدث"، سوى الصورة المتكاملة لطبيعة الانحطاط في العقل والنقل، أو في الدراية والرواية! وهي الصيغة التي تعكس الجهل بقيم الثقافة والتاريخ، والاغتراب عن الحق والحقيقة.
إن الجهل بقيم الثقافة والاعتبار بالتاريخ هي الحالة الأكثر انتشارا في الواقع العربي المعاصر. وهو سبب هذا التراكم الهائل والنوعية المريعة للتخلف التاريخي والانحطاط الثقافي. من هنا القدرة الفائقة في التزوير والتزييف والرياء، والمهارة في تطويع الأفكار بما يتعارض مع حقيقتها والانحراف عن مضمونها الأصلي. بحيث نقف أمام "ثقافة" مهمتها "تهذيب" مهارة التزييف والحذلقة الماكرة، وتشويه الحقائق التاريخية والواقعية الفعلية بالشكل الذي يتنافر مع ابسط مقومات المصلحة الوطنية والقومية. وبالتالي رمي الحقائق في مزبلة الدعاية مع ما يترتب عليه من "سيادة" للسلطة هي عين التدمير الشامل لفكرة الدولة والحق بوصفهما الأسلوب الضروري لتراكم وعي الذات القومي ومؤسساته الشرعية والمدنية الحديثة. وهي حالة لا ذكاء فيها، بقدر ما أنها تعكس طبيعة الانحطاط الروحي والعقلي. وليس مصادفة أن يتحول إعدام صدام إلى صدمة صدمت "العقل والضمير العربيين"! وهي مفارقة أن يكون العقل لا علاقة له بالضمير! كما أن من الصعب الحديث عن عقل أو ضمير عربي بالمعنى الدقيق للكلمة. وذلك لان العقل هو صيرورة تاريخية متراكمة في قيم ومبادئ عامة كبرى ومؤسسات تستجيب لها، كما أن الضمير هو الصوت الوجداني الفاعل بمعايير العقل وتاريخه الفعلي. وبما أن العالم العربي المعاصر لا يتمتع بهذا القدر الفعلي من العقل والضمير المشار إليه أعلاه، من هنا فان ما يجول ويدور ويخاطر به ليس أكثر من قدرة المكر المميزة للبنية التقليدية وهواجسها ووساوسها. وهي صفات يمكن للمرء أن يراها بوضوح حالما يقرأ القرآن ويتأمل ما في مواقفه من العرب الجاهلية ضمن هذا السياق. سوف يرى صورة الحاضر. والفرق الوحيد بين مكر الجاهلية ومكر المعاصرة(!) هو الاحتراف الأكبر والقدرات الأوسع في تكنولوجيا الخداع. بمعنى انه يستطيع أن يتوصل إلى أن ما يجري وضعه في الصحافة والإعلام العربي من "تحليل" و"نقد" و"رؤية" و"استشراف للآفاق" حول إعدام صدام، ليس إلا الجهل الفعلي بالتاريخ القومي والعالمي.
فالتاريخ العالمي هو حلقات في التطور الثقافي، المادي والمعنوي، الاجتماعي والسياسي، العلمي والتكنولوجي، العقلي والروحي، العقلاني والإنساني. وهو تطور معقد وشائك، لكنه مرتبط أساسا بكيفية حل إشكالية السلطة والمجتمع. والفكرة العامة التي يمكن استنباطها حالما يجري استقراء التاريخ وأحداثه السياسية، تقوم في إبراز فكرة الحرية الفردية والاجتماعية والنظام الشرعي، بوصفها أهم القيم الملازمة والمحددة للرقي الإنساني والعمران المدني. وهي عملية تتصف بقدر كبير من الدرامية والمأساوية، كما نراها على أمثلة المسار العام والأحداث المتنوعة للتاريخ العالمي. لكنه مسار يبرهن في الوقت نفسه على أنها عملية متصاعدة، وعقدها الكبرى كانت تقوم في كيفية تذليل عقباتها. وعقباتها كانت في الأغلب تتمحور حول صراع الجديد مع القديم. وفي ميدان الحياة السياسية عادة ما تنحصر مظاهر الصراع الأولى في كيفية القضاء على الخصوم. وهي الحالة المميزة لكل التاريخ البشري قبل أن ترتقي المجتمعات من أولوية ارتباط السياسة بالسلطة إلى أولوية ارتباطها بالمجتمع، الذي استعاض عن فكرة انتقال السلطة إلى فكرة تداولها. وتداولها هو استظهارها لفكرة الدولة وتراكمها. وهي المرة الأولى التي يصبح التداول دولة، والدولة تداولا، أي تراكما.
إن ارتقاء فكرة الدولة إلى فكرة المنظومة المتراكمة عبر تداول السلطة، هي الطريقة الطبيعية والمثلى لتراكم القوى الإنسانية وتحقيق فكرة الحرية والنظام. وشأن كل فكرة متسامية، أي مرجعية كبرى، لا يمكن تحقيقها دون المرور بتجارب الارتقاء الطبيعي، أي بدون خوض الصراع بالطريقة التي تجعل من خصوم الأمس قوة مشاركة في العمران المدني عبر الرجوع إلى المجتمع. وهي عملية صراع بحد ذاتها، لأنها تفترض ارتقاء الجميع إلى مصاف الفكرة العقلانية والاجتماعية. بمعنى بلوغ الجميع عبر المساومات التاريخية الكبرى المبنية على أولوية وجوهرية الحرية والنظام المدني الشرعي الدنيوي، فكرة المرجعيات الوطنية والاجتماعية والسياسية الكبرى، مثل الفكرة الوطنية الحرة وعقدها الاجتماعي، والنظام الديمقراطي والتعددية، وحاكمية الدستور والقانون وحقوق الإنسان وأمثالها. وهي ثمرة عقلانية للمساومات التاريخية بوصفها تذليلا اجتماعيا سياسيا ثقافيا لبقايا ما قبل الدولة الحديثة من استبداد وتفرد وتسلط وانتهاك للشرعية والقانون. وهي مرحلة أو مجموعة مراحل لابد من المرور بها قبل بلوغ هذه الغاية. بعبارة أخرى، أنها مرحلة أو مراحل صراع منظومي، تختلف حيويته ودمويته باختلاف التقاليد السياسية والثقافية ومستوى تطور القوى الاجتماعية والنخب بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وعادة ما يكون ممرها الأول القضاء على رموز الماضي الشخصية منها والثقافية، بمعنى القضاء على "رموز" الأنظمة السابقة ونظمها في الموقف من الدولة والسلطة والمجتمع والثقافة. ففي بريطانيا حدثت من خلال حروب دموية طاحنة، لكنها مرت من خلال إعدام الملك تشارلز الأول عام 1641 بقيادة كرومويل. وهي عملية جرت بمساعدة ومساندة الجيش والبرلمان. لقد رفض الملك تشارلز الأول، كما هو السائد، التنازل عن العرش، انطلاقا من اعتقاده بان الله هو الذي اختاره ليصبح ملكاً، وليس مستعداً للتنازل عما اختاره الله له! وعندما جرى إعدامه كان كرومويل يقف خلفه. وحالما تطاير رأس الملك عن جسده، أخذ يلطخ يديه بدماء الملك ويرفعها أمام الجمهور قائلا: انظروا إن دمه شأن دماءنا، احمر لا أزرق كما كان يعتقد الناس!
وفي فرنسا نرى نفس الظاهرة التاريخية الكبرى. فقد اعدم لويس السادس عشر عام 1793، أي بعد سنوات من بدأ الثورة في الرابع عشر من تموز عام 1789. وهو إعدام لم يكن معزولا عن "تمرد" القوى القديمة. وهو ترابط يمكن تتبعه خيوطه على خلفية المحاكمات التي أخذت الجماهير تقوم بها لحالها عام 1792، التي انتهت بما يسمى بمذابح أيلول، أي قبيل إعدام الملك بأشهر. فقد أخذت الجماهير المنتفضة الاستيلاء على السجون وتدميرها وحرق المباني. وهي أفعال كانت اقرب إلى الشعائر الدينية! وبالأخص ما كان يتعلق منها بمحاكمات أيلول عام 1792. فقد بدأ الهجوم على السجون، تحت هاجس كونها مكان حبك المؤامرات التي كانت تدبر فيها للإطاحة بالثورة. وأنشأت الجماهير محاكمها الخاصة. وانتخبت من بينها محكمين وقضاة ومحلفين. وكان السجناء يقدمون للمحاكمة واحدا بعد الآخر فتوجه إليهم التهم ويحكم لهم أو عليهم. وهي محاكمات لم تخلو من التعسف والخطأ، لكنها بدون خطيئة! بمعنى أنها كانت تحتوي في بعض إجراءاتها على ثقل الماضي وعنفوان الوجدان. بحيث كان الجمهور يحكم على المتهمين أحيانا ليس تبعًا للأدلة والشواهد، وإنما تبعا لمظهرهم العام وسلوكهم وشخصيتهم بل وحتى بنيتهم الجسدية. بحيث جعلوا أحيانا من ردود فعل الجسد والملامح دليلا للإدانة ومن ثم ثبوت التهمة فيحكم عليه بالإعدام. وكان الذي يتولى المحاكمة وإصدار الحكم أشخاص لا علاقة لهم بالقانون. وعادة ما كان الحكم النهائي مصدر الإثارة العنيفة للتصفيق والهتاف من الجمهور المتجمع من الأماكن المجاورة والقريبة من السجون. والشخص الذي يسعفه الحظ بالحصول على براءة، عادة ما يصبح موضع الفرح والتهليل، بحيث تتلقفه الجماهير بأياديها وتطوف به في الشوارع، يتناقلون جسده على أذرعهم، بحيث لا ترى عينيه غير السماء، ولا تسمع أذنيه غير التهنئة، ولا تتحسس ووجنتيه غير القبل! أما الذي يحكم عليه بالإدانة، فانه يحصل على الوجه الآخر من الابتهاج والعنفوان الوجداني، بدء بطعن الخناجر وضرب السيوف وانتهاء بهبوط الهراوات الثقيلة ورمي جثته الهامدة المدمية بعد نزع ملابسها، فوق كومة الأجساد "النتنة" بوصفها زبالة الماضي "النبيلة"!
وفي روسيا بلغت الصورة ذروتها من خلال توحيد التجربة الانجليزية والفرنسية. غير أنها كانت فعلا أكثر إحكاما واشد عنفا. إنها بدأت بتصفية الحساب مع مجمل المنظومة السياسية الاجتماعية والثقافية للقيصرية لتنتهي بإعدام القيصر وعائلته، تخوفا من إمكان رجوعه، بعض تعرض السلطة السوفيتية لمحاصرة قوى "الثورة المضادة" الداخلية والخارجية. رغم أن القيصر قد سبق وان تنازل عن العرش قبل ذلك بسنوات (بعد ثورة شباط 1917 وليس ثورة أكتوبر البلشفية). وهو الأمر الذي أعطى لكل هذه التصفية التامة مع "الماضي" طابعها الدرامي والدموي في الوقت نفسه.
والحصيلة تقول، بان تجارب الثورات الكبرى وانقلاباتها الحادة لا تخلو من درامية ودموية. لكنها تبقى في نهاية المطاف التضحية الضرورية التي تشبه لحد ما فرح المسلمين في تقديم الأضاحي للابتهال أمام الله بالتخلص من ذنوب الماضي. والأمم عادة ما تقدم رؤوس ملوكها وجبابرتها المفسدين (على خلاف الكباش والخراف والماعز) أمام محراب التنقية الذاتية من آثام الماضي. فالعنف الجماهيري هو الصيغة الوجدانية الفائرة والثائرة على زمن اللاعقلانية المتراكمة في ممارسات وامتيازات السلطة وحشمها وخدمها ومرتزقتها والفئات الاجتماعية الساندة لها. من هنا إمكانية رؤية تكرر الأحداث وصورها، ونماذج الاعتراض واختلاقها. وقد تكون التجربة العراقية من بين أكثرها نموذجية. بمعنى أنها تتمتع بامتياز الجمع المثير لكل نماذج الثورات السابقة.
فعندما ننظر إلى أحداثه المثيرة على امتداد نصف قرن من زمن الثورات والانقلابات والتغيرات العاصفة (من قتل الملك فيصل الثاني في منتصف عام 1958 إلى إعدام صدام في نهاية 2006)، فإننا نرى فيه نماذج الثورة الانجليزية والفرنسية والروسية مجتمعة على شكل مسخ غريب. فالعراق يحتوي من حيث مظاهر "تذليل الماضي" و"العهد المباد" على ما قامت به انجلترا وفرنسا وروسيا!! لقد طبقوا تجربة الثورة البلشفية بإعدامهم العائلة المالكة كلها، والفرنسية والانجليزية فيما يتعلق بتصفية الحساب مع "العهد المباد" عبر سحل وحرق رموزه البائدة مثل نوري السعيد أو اقتطاع الأعضاء التناسلية لرجال الملكية لكي يبرهنوا للملأ على انه لا رجولة فيهم بعد اليوم!! ولاحقا استعاد وطبق كل تاريخ القمع والثورات المضادة في انجلترا وفرنسا وروسيا، بحيث تحول إلى استعادة فجة للملكية على هيئة جمهورية حاشيتها من الهامشية والحثالة الاجتماعية، وإلى نابليونية المغامرات الصغيرة ولكن بدون فتوحات وبطولات، وتوتاليتارية ستالينية في القمع والتنكيل ولكن بدون تصنيع وانتصار. أما النتيجة فهي وقوف "القائد الضرورة" أمام ضرورة اندثاره من مسرح الدمى، لكي يعود العراق إلى إدراك حالته الطبيعية ومستوى الخراب والانحطاط وطبيعة التحديات الفعلية التي ينبغي تذليلها من اجل أن يبدأ بمسار التاريخ الفعلي.
لقد سحبت الأحداث المتتالية وراء سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية إلى نفس معالم الثأر والتدمير والانتقام، كما جرت في فرنسا وروسيا من خلال تحطيم وحرق المباني والمؤسسات والانتقام من بقايا السلطة. غير أن طابعها الجزئي كان بفعل ضعف المجتمع وخور قواه بعد التنكيل الرهيب للمجتمع وتدمير قواه الحية التام بعد الانتفاضة الشعبانية. أما الاحتلال الأمريكي فانه أنقذ السلطة الصدامية وحاشيتها وقواها المؤيدة من الهجوم الكاسح لكمية الحقد والضغينة والرغبة بالثأر وهموم الانتقام المتراكمة في النفس العراقية. وبغض النظر عن كل ما يقال بهذا الصدد، فان بضعة سنوات من الحبس والمحاكمة العلنية والإعدام الأخير تبدو شبيهة بالأحداث الفرنسية والروسية من إعدام الملك والقيصر. بمعنى أن ازدياد الهجوم الدموي والعنف والإرهاب المنظم لقوى الماضي قد دفعت السلطة الجديدة لقطع "رأس الأفعى". وكشفت عن شكيمة متجددة لإدراكها بان أسلوب العنف "القانوني" هو الطريق الأمثل لدفع جريان السيل الهائل للتطرف والغلو ضمن المسار الطبيعي.
فتاريخ العراق الحديث هو زمن الراديكالية والتطرف والغلو. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى محاكمة صدام وإعدامه على أنها الطريقة المثالية في تصفية الخلاف مع "العهد المباد". وإذا كان بالإمكان الحديث عن نقص كبير فيما قامت به، فهو بسبب بؤسها وضعفها وعدم كفاءتها الجدية بالارتقاء إلى مستوى المحاسبة التاريخية الشاملة للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وبالتالي، فان حكمها القانوني وتنفيذه هو الخطوة الفعلية الأولى لإرساء أسس الدولة الشرعية. بمعنى انه للمرة الأولى في تاريخه الحديث، وبعد مرحلة دموية لا مثيل لها فيما مضى، يواجه الحاكم الظالم حكما قانونيا.
طبعا أن "نهاية صدام" ليست بداية العهد الجديد، أو الطور الأرقى في بناء الدولة الشرعية. لكنها تحتوي على مؤشر له قيمته المادية والمعنوية، القانونية والأخلاقية بالنسبة لمصير الدولة اللاحق. فقد كانت الدولة العراقية على امتداد نشوئها الحديث، أي على امتداد قرن من الزمن، تعاني من ضعف ونقص فكرة الدولة. وهي فكرة لا يمكن حسمها ما لم يجري تأسيس الصيغة المعقولة والمقبولة للأغلبية في عقد اجتماعي متين. وهو عقد يستحيل تحقيقه دون إدراك وتجسيد المساومة التاريخية الكبرى ومرجعيتها في وحدة الحرية والنظام، بوصفها أسلوب بناء الدولة العصرية. فقد كان التاريخ العراقي الحديث زمنا، بمعنى انعدام التاريخ الفعلي للدولة بوصفه تراكما. والسبب يقوم في تحول السلطة، بوصفها الأداة الجوهرية للدولة، إلى حجر عثرة أمام تكامل بنية الدولة نفسها والمجتمع، وذلك لعدم تداولها السلمي. وهي حالة سوف تبقى تثير وتستثير وتنتج نفسية الانتقام والمواجهة ما لم يجري تداول السلطة بطريقة تجعل من مهمة السلطة عين مهمة الدولة، أي تكاملها في مؤسسات شرعية مدنية دنيوية.
وهي مهمة تتراكم، عندما ننظر إليها بعيون الاستقراء الفعلي والعميق لتجارب الأمم الحية، من خلال إراقة الدماء وتطهير النفس. وهي مهمة لا يمكنها التكامل دون المرور بطريق الآلام. وهو طريق عمره مائة عام بالنسبة للعراق. لكنها المرة الأولى التي يقف فيها وجها لوجه أمام ذاته محاولا حل عقدة السلطة بطريقة تبعدها على الأقل عن أن تكون حجر عثرة أمام تكامل الدولة والمجتمع. وهي عملية شاقة في ظروف العراق الحالية، لكنها طبيعية بما في ذلك في أشكالها المثيرة والمريعة بالنسبة للذوق العربي "المهذب"، وبالأخص في قنواته الفضائية وصحافته الغنية والفقيرة! وفيما لو أجملنا اغلب ما كتب بهذا الصدد، فإننا نقف أمام نماذج دعائية صرف، منطلقها التسطيح ونهايتها الانغماس فيه. وهي حالة مزرية ليست إلا الوجه الدعائي لطبيعة وواقع العالم العربي الذي أدت إليه تجاربه السياسية الفاشلة في مجرى قرن من الزمن.
وبالتالي ليست الدعاية العنيفة المغلفة بغشاء "القومية" المتهرئ، و"الحقوقي" الزائف و"المقاومة" الأكثر زيفا، سوى الصيغة المعبرة عن طبيعة الأنظمة السياسية العربية والوعي الجماهيري المسطح وخواء النخب الاجتماعية والسياسية. بحيث نراها نهمك في جدل ودعاية متهورة وهائلة حول أمور لا يرتقي أي منها إلى سلوك المرأة التي استطاعت أن تنقذ زوجها من حكم الإعدام الذي اصدره كرومويل بسبب خيانته. فعندما قال لها كرومويل بان حكم الإعدام بالرصاص سيكون بعد انتهاء دقات الناقوس، فإنها لم تجد حلا غير أن تسللت إلى الناقوس ووضعت يديها بين لسانه وجدرانه بحيث تهشمت كفوفها وأصابعها ومنعت الرنين من الوصول إلى مسامع كرومويل. عندها نزلت مسرعة والدماء تنزف من يديها لتقدمها أمام ناظره وهي تقول "ألا تسامح زوجي لأجل هاتين اليدين؟! عندها لم يجد غير إطلاق سراحه بعد أن قال لها: إن حبك كبير أيتها المرأة! اذهبي معه بسلام!! وهي التضحية التي يصعب تصورها من إعلام تعود على ذرف دموع التماسيح أمام الرذيلة وهو يمارسها بأقصى ما يستطيع على مستوى النية والفعل. وليس مصادفة أن يذرف الدمع على الكلمات التي قالها من قالها عندما واجه صدام الموت: "إلى جهنم يا طاغية"! وهو ادني ما يمكن أن يقوله عراقي مخلص، وأصدق ما يمكن أن يتفوه به لسان مع البقاء ضمن اللياقة الأدبية وحسن النية الأخلاقية. إذ لا يمكن للمرء أن يتوقع في ظل المعاناة الهائلة للمجتمع العراقي بمختلف مكوناته وفئاته والحالة التي أوصلها للعراق بما في ذلك حضيض الاحتلال، أن يقول له "إلى جنة النعيم أيها الملعون"! فلا اللغة تطيق هذه التركيبة ولا المعنى يتسق مع الحدث. لكنها عبارة تكشف، رغم كل ما قيل ويقال عنها في وسائل الإعلام العربية بسبب الجهل التاريخي والمأزق السياسي والتسطيح الإيديولوجي، عن قوتها وتأثيرها في تمزيق أوتار الخداع والمكر والرذيلة المربوطة بعقدة الارتزاق والتملق.
ففي زمن الانقلابات الحادة و"تصفية" الحساب من اجل البحث عن مساومة تاريخية كبرى من اجل بناء الدولة والأمة، لا يعني البحث في الأحداث الصغيرة عن مثالب كبرى سوى الانهماك في تفعيل الرذيلة والانغماس فيها. إن الأحداث الصغيرة يمكنها أن تكون مادة للبحث التاريخي اللاحق، أي عندما تصبح صغائر الأمور وأحداثها الجسام جزء من إعادة تركيب الصورة لكي تتكامل قيمتها بالنسبة لوعي الذات القومي، وليس بالنسبة لإعادة النظر في قيمتها التاريخية كما هي. أما الانهماك في صغائر الأمور، كما نراه بصورة جلية في ذلك الانفعال المزيف عن الصيغة التي اعدم فيها صدام (كما لو أن إنزال القصاص العادل بالمستبدين والطغاة يحتاج إلى صيغة جمالية لكي تكتمل الصورة!!)، فهو الوجه الآخر لانعدام العقلانية والنزعة الإنسانية.
إن ازدياد اللاعقلانية هو الوجه الآخر لنقص العقل الثقافي والنزعة الإنسانية، أي العقل المتراكم بمعايير التجربة الذاتية. وهي تجربة تفترض البناء والمساهمة الفعالة في تعمير الوجود والإبداع الإنساني في مختلف جوانبه. وبما أن العالم العربي يقترب من حالة الصفر، من هنا كثرة التصفير في الأقوال والأعمال. والصحافة هي نموذجها الأرقى. فهو الميدان الذي يمكن للوعي المسطح والدعاية المبتذلة والجهل أن يصنع إمبراطورياته! وليس مصادفة أن نرى هذه المفارقة العجيبة ألا وهي، كلما تكون الدولة قزما كلما تكون دعايتها "حول العالم" بحيث أصبح احد مميزات العالم العربي هو وجود "إمبراطوريات دعائية" لدول أقزام! وهي حالة لا يمكنها أن تصنع غير وعي هائج وصاخب بلا دراية، واستعداد للاتهام لا يضاهيها شيء، واستعجال في كل شيء باستثناء العلم والمعرفة! وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان ما يكتب حول صدام هو مادة حية للدراسة الانتروبولوجية ونمطية الوعي أكثر مما هي مادة للتحليل السياسي أو مواضيع ذات قيمة سياسية بحد ذاتها. ففي حصيلتها هي إما ابتذال متحذلق لفكرة المؤامرة، وإما تتويج للجهل بالواقع العراقي، أو تلذذ بزمن العبودية وأباطرتها المزيفين، بحيث نسمع بتأليف (أغنية الغضب لشهيد العرب). و"الشهيد" هو صدام حسين!!
إن البحث في صدام عن "شهادة" و"بطولة" هو عين السقوط في وحل العبودية. كما أن البحث عن "مؤامرة" في كل ما يجري ليس إلا الوجه الإيديولوجي للذهنية العبودية، أي ذهنية الكسل والبحث عن مخرج لا علاقة له بالنفس والإرادة الشخصية. فالمؤامرة هي النتاج الطبيعي لنفسية وذهنية الصغار والمهزومين، بينما الإرادة ومستحقاتها هي صفة العقلاء والأقوياء. ومن ثم لا يعني البحث عن "مؤامرة" تجاه العالم العربي، وبالأخص فيما يتعلق بإعدام صدام، سوى الصيغة الظاهرية لنفسية وذهنية الهزيمة والهوان. إننا نعثر فيها على مؤشر نموذجي لطبيعة الانحطاط والتخلف العام، وعلى انفصام الشخصية السياسية والمعنوية. فالدفاع عن طاغية ومستبد لا مثيل له في التاريخ العربي مثل صدام، مهما كان شكله ومستواه، هو دليل على تشوه الوعي والأخلاق. وهو تشوه وخلل بنيوي ليست الصحافة والإعلام العربيين الحاليين سوى احد مظاهره الفاقعة. طبعا أن الإعلام العربي "الرسمي" والمنهمك في "الدفاع عن شهيد العرب" لا علاقة له بالفكر (السياسي) والثقافة العامة. انه أداة السلطات وحاشيتها. من هنا امتلائه بالرياء والزيف والتزييف. وهي صورة جلية حالما يجري جمع وعرض وتحليل مواقفه من صدام نفسه في غضون العشرين سنة الأخيرة (من تأييده في قتل وتشريد القوى الاجتماعية الحية، وتحريم وتجريم أية معارضة، ودعمه وتأييده في الحرب ضد إيران، ثم التكاتف مع "العالم" في حرب "عاصفة الصحراء"، والاشتراك المحموم في الحصار على العراق، وابتزازه في الأرض والديون والتعويضات، وتحويل أراضيها إلى قواعد عسكرية لاحتلاله، والآن الانهماك في حمية الدفاع عن "شهيد العرب"!)
إن الصورة المرسومة أعلاه تعكس مستوى الانحطاط الروحي والأخلاقي والقومي والسياسي للدولة والمجتمع والنخب. وهو سر الارتياح والمساهمة المنفعلة فيما أسميته بامتلاء وسائل الإعلام بالرياء والزيف والتزييف. وهو مؤشر واقعي على مستوى الاغتراب الفعلي عن قيم الحق والحقيقة. وهي حالة ليست مستغربة. ومن الممكن تفعيل الذاكرة لبضعة شهور خلت في مجرى الحرب التي خاضتها المقاومة اللبنانية ضد الهجوم الهمجي للقوات الصهيونية. فقد كان صوتها يتعالى للدفاع عن السلام والهدوء والحفاظ على الممتلكات والعقلانية وما شابه ذلك. بل وتأييدها الأولي للهجوم ثم انكسارها اللاحق بعد أن عجزت دعايتها عن كسر شوكة المقاومة العربية الفعلية الوحيدة ضد الاحتلال والغزو. وهي حالة نموذجية للخيانة التاريخية وسقوط الدولة العربية إلى الحضيض. كما انه السقوط الذي كشف عن مستوى الابتذال الفعلي "لليسار" المزيف و"الليبرالية" الحمقاء. مع أن فكرة الدولة واليسار والليبرالية تقوم في دعم النفس وتقوية مكوناتها المادية والمعنوية. وضمن هذا السياق يمكن فهم سر "التهذيب" المفرط للأنظمة العربية الحالية وألسنتها الدعائية في الحفاظ على "الحرمة" و"الأدب" و"العزة القومية" في مواجهة إعدام صدام. فهي الحالة الأولى والواقعية لرؤية النفس وهي تتأرجح في قبو الرذيلة وليس ممتلكات الأمة المصادرة بقوة العنف والإكراه والدعاية المأجورة والارتزاق من كل شاكلة وطراز. وضمن مقاييس هذه المقارنة يمكن النظر إلى الدفاع عن صدام على انه الوجه الآخر للهجوم على حزب الله والمقاومة اللبنانية. وفي كلتا الحالتين سقوط في الحضيض، مرة باسم عقلانية مزيفة لا عقل فيها ولا إخلاص، ومرة باسم إسلام لا إيمان فيه ولا إحسان، ومرة باسم قومية دونية ومنافقة، ومرة باسم آداب لا يعرفون قواعدها.
فإذا كانت العقلانية تفترض البحث عن أفضل السبل وأكثرها إستراتيجية في بناء الدولة، فان ذلك يفترض بدوره البحث عن مساومة تاريخية كبرى مبنية على أساس وحدة الحرية والنظام، أي على وحدة القانون وسيادة الشعب المطلقة وليس استبداد الفرد أو الحزب أو الجماعة. وهي رؤية تستلزم تذليل كل الأشكال والممارسات التي تتعارض مع هذه الغاية. فالمساومة التاريخية من اجل بناء الدولة الشرعية والمجتمع المدني والنظام الديمقراطي والهوية الوطنية العراقية تفترض سيادة العقل المدني والحقوق المدنية والدنيوية المقيدة بالدستور والانتخاب الحر وتداول السلطة السلمي، والإخلاص لهذه القيم والمبادئ. بمعنى ضرورة العمل من اجل التذليل الشامل لنموذج الصدامية وبقاياها.
وقد يكون الدفاع عن صدام تحت مؤثرات "إسلامية" هو عين الرياء المطلق. فإسلام وصدام؟ لتلك فضيحة يا أم عمرو!! وفي واقع الأمر، لا يعني البحث فيما يتعارض مع "الإسلام" في إعدام صدام سوى الصيغة الأكثر فجاجة للاغتراب عن الحق والحقيقة. والقضية هنا ليست فقط في أن صدام كان هداما فعليا للقيم والتقاليد الإنسانية المتراكمة في تقاليد الإسلام الثقافي والإنساني كما عرفها العراق، بل وأكثر من حارب الحركات الإسلامية السياسية بحيث اعتبرها الخطر الجوهري على سلطته المطلقة. وهي فرضية إيديولوجية تتصف بقبح النية وانعدام البصيرة، لكنها إحدى مكونات الزمن السياسي للدكتاتورية الصدامية. كما انه أكثر من استغل الدين قبيل انهياره لإخماد كل حركة معارضة وتقوية الاضطهاد الشامل عبر وسيلة التدين المفتعل. ذلك يعني أن النموذج الصدامي هو احد أرذل النماذج في استعمال الدين (الإسلامي) على كافة المستويات، بما في ذلك دعمه المباشر وغير المباشر في زمن "الصحوة الإيمانية" للحركات الأصولية والتكفيرية والمذهبية الضيقة والطائفية. إضافة لذلك، أن المحكمة العراقية هي محكمة مدنية. وليس لأحكامها علاقة بالدين. وتنفيذ الحكم هو إجراء قانوني بحت. والزمن هو مصادفة لا غير، رغم انه لا يخلو من رمزية سياسية. وهو الشيء الذي عادة ما يرافق الانقلابات الكبرى. بمعنى بحث الجماعات والقوى المتصارعة عن أبعاد رمزية في كل ما تقوم به، بسبب ضعف تقاليد المجتمع المدني والديمقراطية السياسية. ولا تخلو أكمل الديمقراطيات عن تأثير هذا المكون الوجداني في أفعال الأحزاب والسلطة ومواقفهما زمن "التحديات". أما أن يكون قد حدث في "الأيام الحرام" أو "الأشهر الحرام" فان التاريخ الإسلامي مليء بالأحداث الجسمية والدموية في "الأشهر والأيام الحرام". فقد قتل المنتفضون المسلمون عثمان بن عفان في شهر ذي الحجة. ليس هذا فحسب، بل ومنعوا دفنه، بحيث جرى إخراجه ودفنه سرا وبسرعة بحيث كان رأسه يطقطق على الخشبة المحمول عليها! كما قتل لاحقا مروان بن محمد بن مروان بن الحكم في ذي الحجة. وقبلها كان الحجاج الثقفي في محاصرته لمكة يضرب بالمنجنيق الكعبة في أيام الحج، بحيث لم يستطع الناس إقامة شعائر الطواف!! وعندما طلبوا منهم الكف ولو قليلا لكي يؤدون الشعيرة استجاب لهم، وحالما انتهوا منها استمر في ضرب الكعبة بالمنجنيق!! وعندما اعدم الحجاج الثقفي عبد الله بن الزبير "خليفة المسلمين" المنتخب، فانه صلبه وسلخ جلده في الحرم المكي! ليس ذلك فحسب، بل ووضع إلى جانبه جثث حيوانات ميتة لكي يقضي على رائحة المسك التي كان يتعطر به عبد الله بن الزبير. واستكمل ذلك بإرسال رأسه إلى خليفته الأموي عبد الملك! ومن الممكن الإتيان بعشرات بل مئات الشواهد الدامغة على ما كان يحدث في تلك الأشهر والأيام بما في ذلك في الأعياد من جانب الخلفاء والأمراء "المؤمنين" تجاه "الرعية" وأتباعهم وخدمهم وحشمهم!! واغرب ما في الأمر أنها أفعال لا تعاب من جانب "أهل السنة والجماعة"! لان الجوهري بالنسبة لها هو مظاهر الشريعة وظاهر الإسلام، أي عندما يصبح الطواف وراء حجرة أثمن من فكرة الإخلاص للحق. من هنا القبول والاستجابة بحرارة الدعوة لتمرير الجسد الفردي والطواف به حول حجارة صماء، والبرودة القاتلة في رؤية "بيت الله" يضرب بالمنجنيق!! وهي صيغة "أدبية" للتمسك بالظاهر، بحيث يصبح "الإسلام" فيها وعاء خال من الإيمان والإحسان. والسبب مفهوم. وهو أن كل إسلام لا يهدم السلطان فهو إيمان، وكل إيمان مليء بالإحسان إلى الأمة ومستقبلها الفعلي فهو خروج على الإسلام. وهو "أدب" قديم قدم "أهل السنة والجماعة" وفكرتها عن الخضوع للسلطان وتحريم الخروج عليه!! وهو السبب الذي جعل الحجاج يكف قليلا لكي يبقى الجمهور محكوما برغبة الدوران وراء حجرة، ومتحررا من الالتزام الأخلاقي والسياسي تجاه الروح التي تعبث بها حجارة المنجنيق الأموي! وليس مصادفة أيضا أن نعثر على ما يقابل ذلك من اتهام مرير "للغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة" وأمثالها من العبارات التي أطلقها بني أمية على المنتفضين المسلمين، كما نرى ونسمع أمثالها اليوم من أبواق "الإسلام والسلطان" تجاه ما يجري في العراق من أوصاف غريبة ومغتربة عن حقيقته مثل "الغوغاء" و"الروافض" و"الصفوية" وأمثالها.
إن تقاليد وصف العراقيين بغير أوصافهم، هي تقاليد الأموية. وذلك لرغيتها في جعل العراق مصدرا للخراج ومعينا للقضاء على كل من يخرج عليها. وبالتالي ليس الاتهامات الفارغة لأهل العراق بالغربة عنه، سوى الوجه الفعلي للاغتراب الثقافي عنه. وهو سر وحدة الخروج على الحق والحقيقة كما نراها في هذا النمط الفج في محاولات الدفاع عن صدام والصدامية باسم قومية دونية ومنافقة. وهي "قومية" لا علاقة لها بالعروبة وتراثها الثقافي. إنها قومية الطائفية السياسية. وهي طائفية اغرب ما فيها اعتبارها الدعائي بالأدب والتهّذب تجاه تقاليد "العرب" و"الإسلام" في الموقف من إعدام صدام!!
غير أن اغرب ما في أدلة ونماذج الدعاية المعارضة لإعدام صدام هو تقديمها باسم آداب لا يعرفون هم ابسط قواعدها. وهي أيضا تقاليد أموية، بدء من الاحتجاج بقميص عثمان، وانتهاء بهدم الكعبة إذا تطلب الأمر!
مما سبق نستطيع التوصل إلى أن الإعلام العربي "المهّذب" أشبه ما يكون بربابة بدوية، العزف عليها لا يتعب اليدين، والأصوات فيها متكررة شان الحركة المتموجة للسراب. أما راع ورعية من خراف وماعز وجمال، وأما تيه وعذاب. ولكل منهما جماله الخاص، بسبب تمازج الوجد والوجود فيهما، أي العذوبة والعذاب. لكنهما يبقيان في نهاية المطاف لحظة في سراب الخديعة. وقد يكون هذا هو السر الذي ظهر فيما مضى على هيئة لسان ناري لموسى يكلمه في صحراء سيناء. فهو لسان العطش الكبير والناطق بالرغبة الرهيبة لإرواء ظمأ البحث عن مخرج من التيه في سراب الوجود التعيس. وهو وجود عادة ما يصنع وجد المعاناة المزيفة عن مركزيته في الوجود. بحيث تتحول الوساوس والهواجس إلى مصدر الإلهام الوحيد وتنتقل كل حركات العالم الظاهرية والبسيطة إلى لسان النار المتحركة، دون أن تدرك بان ارتعاشها لا يصنع نورا في ظهيرة الصحراء! غير أن للهذيان منطقه في اللسان. وحالما يصبح أسلوب الرؤية عندها لا فرق بين الأصوات، لأنها جميعا تصبح الحان الوجود وأشجانه الأبدية!
أما بالنسبة للعراق، ووعي الذات العراقي والعربي، فان الصوت الوحيد القادر على إثارة حسه وعقله وحدسه، قلبه ووجدانه، ذاكرته وذكراه فهو صوت ضميره المعذب وليس المشّرب بعبودية السلطة وهمجيتها الشاملة. إن الصوت الحقيقي القادرة على الهام الوجدان والعقل وتوحيدهما هو صوت الاقتراب من فكرة الحق والحقيقة في تاريخه، أي في الاقتراب من مكوناته الثقافية الحقيقة، وليس بالاغتراب عنها كما فعل صدام والصدامية. من هنا إثارته لأصوات الربابة الرتيبة للأطراف والهامشية كما نسمعها في زعيق الارتزاق ونهيق والبلادة. وكلاهما لا شيء مثل صدام. وكما كانت البصرة والكوفة معقل العراق وأساس العربية في اللغة والفكر، كذلك تبقيان حاملتين شكوكه ويقينه، أحلامه وأوهامه، انتصاراته وهزائمه، إيمانه وكفره، يقظته ومنامه، إرادته ومساعيها الأبدية في البحث عن عراق حي، صادق مخلص لذاته في مواجهة وتذليل زمن الاستبداد والدكتاتورية.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعزية صدام - طائفية أزلام وأعراف قبائل
- العراق ومهمة البحث عن دولة -عباسية- معاصرة
- العراق - شبح التاريخ وزيف المعاصرة
- أدب السيرة السياسية في العراق – أدب الصورة المصطنعة
- أدب السيرة السياسية الكبرى – أدب الأرواح
- أموية أقزام
- عبرة الدجيل! لكي لا يظهر دجال أصغر من صدام
- قبر صدام أو القبور الجماعية للحق والحقيقة؟ من يرعب من؟
- صراخ السلطة ولغة العقل الوطني
- السيدة بيل + السيد بريمر= قدر التاريخ التعيس وقدرة التأويل ا ...
- المثقف المؤقت وظاهرة -الارتزاق الثقافي-!3-3
- المثقف المؤقت وظاهرة -الارتزاق الثقافي-! 2-3
- المثقف المؤقت و-الارتزاق الثقافي-! 1-3
- الدكتور كاظم حبيب السيدة بيل
- الميليشيا والدولة في عراق -الديمقراطية- والاحتلال
- البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 6
- البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية 5
- البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 4
- البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية-3
- المقاومة اللبنانية – نموذج المقاومة العربية الكبرى


المزيد.....




- إسبانيا: رئيس الوزراء بيدرو سانشيز يفكر في الاستقالة بعد تحق ...
- السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟
- كأس الاتحاد الأفريقي: كاف يقرر هزم اتحاد الجزائر 3-صفر بعد - ...
- كتائب القسام تعلن إيقاع قوتين إسرائيليتين في كمينيْن بالمغرا ...
- خبير عسكري: عودة العمليات في النصيرات تهدف لتأمين ممر نتساري ...
- شاهد.. قناص قسامي يصيب ضابطا إسرائيليا ويفر رفاقه هاربين
- أبرز تطورات اليوم الـ201 من الحرب الإسرائيلية على غزة
- أساتذة قانون تونسيون يطالبون بإطلاق سراح موقوفين
- الإفراج عن 18 موقوفا إثر وقفة تضامنية بالقاهرة مع غزة والسود ...
- الى الأمام العدد 206


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - صرخة الضمير المعّذب وحشرجة الإعلام المهّذب