أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ايناس البدران - الجدار - قصة قصيرة














المزيد.....

الجدار - قصة قصيرة


ايناس البدران

الحوار المتمدن-العدد: 1776 - 2006 / 12 / 26 - 10:35
المحور: الادب والفن
    


في السجن يهيم على وجهه وتتساقط منه حبات العمر الى غير رجعة ، لتغيب معها وجوه ألفها لونت ايامه يوما بألوان قوس قزح في رحيل متتابع امتد بظله فوق زوايا العقل وفي حدقات العيون ليصبغها بصبغة الدم و يطفيء بريق القصص الأثيرة وشهي الذكريات .
سنين مضت طويلة بعمر الحزن وهو اسير الصمت المستسلم لفوضى الاشياء وتداخلها مقرفص فوق ارضية عارية باردة ، متكيء على جدار متآكل يواجهه حيثما يمم وجهه .
ثلاث خطوات هي المسموح له بها جيئة وذهابا اعتاد ان يقطعها بحماس في البداية اعتبر ذلك نوعا من ( الإحماء ) الذي يمكنه من اعداد نفسه (للمارثون) الكبير ، كان ذلك قبل ان يدرك ان كل ما يجري ما هو الا استنزاف للطاقة بلا طائل وانه قد قضى العمر سجينا لأوهام مفادها ان المرايا تعكس حقيقة الاشياء وان الحصى يمكن ان يستبدل بحصى .. تنهد بعمق وهو يقرأ احدى خربشات الجدار ..
- اليوم انتظار للغد الذي سوف لن يأتي .
- ثم تذكر كيف بعدها علق حماسه على مسمار الانتظار ، وصمم مع نفسه على الا يتهاوى بل يقتل الوقت بأكتشاف كنه من سبقوه الى هذا المكان الرهيب من فلاسفة ومجانين وشعراء ومصلحين وما جنوا عبر ما خلفوه وراءهم من اشعار وحكم وافكار و شتائم ورسوم لقلوب محطمة وعقول مهشمة وعيون اثقلها الدمع تركوها ليثبتوا انهم مروا يوما من هنا قبل ان يبتلعهم المجهول ، خطوها بمسامير وشظايا زجاج وبما سقط من اسنانهم بعد ان صادروا اظافرهم مع ما صادروا لظن المصادرين المسكونين بالرغب المتحجر ، ان قلع الاظافر خير من تقليمها وان ضرب الرقاب اسهل من عتقها ، وان قطع الالسن ايسر من محاورتها .
اعتاد الجلوس بمواجهة الجدار وتأمله وفي كل مرة كان يكتشف فيه شيئا جديدا يفتح له مغاليق الاسرار المحيطة به ويفك طلاسمها .
حفظ مكان كل شق فيه وكل عبارة واشارة اخدود ، اعتاد رائحة العفن المنبعثة من حوله كأنها رائحة الموت والنظر الى السمنت المصدع والسقف المتقشر ونثاث التراب على رأسه والنزيز الطبشوري المتثلج من تحته .
واليوم لم يبق له غير ذبالة من دمع وحفنة ذكريات تكاد تتلاشى لمجرد استرجاعها . وتقاويم خطها خلسة بمسمار صديء كي لاتضيع منه دورة الافلاك وكلها تمثل رماد ايامه ومحطات احلامه المؤجلة ، ونعي لبذورها التي جفت بأنتظار المطر .
كان ذلك منذ البداية ، منذ ان لفظته امه الى عالم لايحفل بالمواليد ، ويحتفي بالموت .. في صحراء موحشة قاسية تستحيل المشاعر فيها الى سراب محترق والهوى الى هواء جاف يشغل حيزا من فراغ .
رفضت فيها ليلى حب قيس مختارة ، وحارب على اطرافها ( دونكيشوت ) طواحين الهواء بسيف من خشب ، صحراء الوحدة فيها دثاره ، والوحشة انيسة والوحش ضيفه والريبة زواره ، يوم ضاعت الحبيبة مع ما ضاع واصاب القلب العطب ، فلم يعد يشتعل لشيء تلوكه الأيام ويلوك مرها صبرا بين جدران تطبق عليه كقبر ، يحدق فيها بذهول ويعجب من قدرة عقله المجهد على مقاومة الجنون كل هذه المدة .
استكان لوضع لايطاق بفعل الاعتياد وطول المدة صارت الزنزانة وعاءه الذي يحتويه وصدفته التي يضيق بها ويحتمي في آن واحد .. وواسى نفسه مكابرا ومعللا ومفندا ان كل شيء ماهو الا وعاء !
فالعقل وعاء لما يحشون به رؤوسنا والقلب وعاء لأهواء المشاعر والجسد وعاء الروح وغلافها ، والارض وعاء البشر ومستودع آلامهم وآثامهم .
والقصور الشاهقات أوعية للقناطير المقنطرة من الذهب وليرات الفضة والاطماع الأنانية والثزوات الشاذة والأهواء المجنونة . البحر حضن المالح ووعاء سره العميق والشق سرير النهر ومجراه ، الفراغ ملعب الريح التي تحمل بين طياتها الديباجية همسات العشاق المخنوقة وأنات الفقراء وأحلامهم المحتضرة .
في عالم يعج بحاويات القمامة ومستودعات اسلحة الدمار الشامل والجزئي ونفاياته الجهنمية التي تملأ الأرض بفسيفساء كامدة لملايين الشواهد والنعوش المثبتة بمسامير الحزن والخوف والغناء . وتسمرت عيناه على شق شد انتباهه لنتوء غريب .. اتجه اليه غير مصدق .. فرك عينيه براحتيه حتى أدماهما وقال بصوت مسموع متجاهلا دقات قلبه المتسارعة :
- هذا سر من اسرار الوجود ان تنبثق الحياة من رحم الموت .. ولكن لم لاتتشكل الشمعة مما يسيل من دموعها ألا تنهض العنقاء من رماد احتراقها ؟
نظر اليها مليا ليتأكد انها كانت عشبة خضراء غضة شقت لها بصمت بصيصا في قلب الحجر القاسي الأصم ومدت رأسها بفضول جريء وصبر عجيب لتذكره بكنه الحياة .
تسارعت أنفاسه ودب في أوصاله شعور جديد لم يستشعره من قبل كأنه ينهض بعد دهر سكون وسبات ليطوي الخوف الذي التف حوله كحبل مشنقة وليقطع تمددات التردد التي تجذرت في اوصاله العمر كله ، مد ذراعيه تحسس بهما الجدار فألفاه ساكنا متكبرا غير عابئ كصنم .
نزع المسمار وكتب بيد مرتعشة ..
اليوم هو أول يوم من حياتي الباقية .
جمع راحتيه في قبضة واحدة وانهال بها بكل ما أوتى من قوة على بقعة متأكلة وسط الجدار تساقط بعض طبشورها في استسلام ملحوظ تشجع فأعاد الكرة مرات وفي كل مرة يتعالى وجيب قلبه وتتسارع أنفاسه لتمتزج بالغبار المتصاعد ، كان الجدار يهتز وهو غير مصدق لقد تحول كفاه الى مطرقة للغضب جمع فيهما كل آلام السنين وآماله اليائسة ، العرق يتصبب من جسمه وينز من مسامه ليمتزج بالدم السائل من كفيه بالتراب وهو ينفض عنه فطر العفن .
وبضربة قاصمة واحدة فتحت كوة في الجدار فرأى بعيون غائمة بالدمع انبثاق شعاع كشلال ضوء مثقل بالغبار شق صمت العتمة .



#ايناس_البدران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وجه السماء - قصة قصيرة
- -الاكتواء بثلوج كلمنجارو - قصة قصيرة
- -صورة من زيت وماء - قصة قصيرة
- - حين اكلنا التفاحة - قصيدة نثرية
- مقابلة صحفية مع القاصة ايناس البدران
- قصة - هذيان محموم-
- قصة قصيرة بعنوان - الحلزون -
- قصة قصيرة
- كلمة رئيسة منتدى نازك الملائكة الادبي في الاتحاد العام لادبا ...
- الاليات الداعمة لحركة المرأة المبدعة
- قصص قصيرة جدا
- انعكاسات امرأة
- مع أول خيوط الفجر
- مع أول خيوط الفجر
- نقد نظرية السرد / الحداثة ومابعدها في العمل الروائي
- تحت المطر
- تداعيات الاختزال في القصة القصيرة


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ايناس البدران - الجدار - قصة قصيرة