أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس منعثر - التكلم بصوت البير كامو














المزيد.....

التكلم بصوت البير كامو


عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)


الحوار المتمدن-العدد: 1774 - 2006 / 12 / 24 - 09:58
المحور: الادب والفن
    


ثمة كاتبٌ يصدمُك. تحطُّ رجليكَ على عَتَبةِ الاطمئنانِ، سارحاً في الأفقِ المحمّرِ، وإذا بيدٍ تدفعكَ مخيفةً إياكَ من الوقوع. أنتَ هشٌّ تقولُ لك، تظنُّ القوةَ في نفسكَ، أو تتوهمُ الإرادة. في الوقت نفسهِ الذي تدفعكَ اليدُ القاهرةُ إلى هزهزةِ الثقة، تقودكَ إلى الامتلاءِ بعدمِ الاكتمال. ها هو التأرجحُ الحقيقيُّ في أتونِ المعرفة: ذاتٌ تتضخمُ ادراكياً لتكتشفَ خواءَها، وذاتٌ تتصاغرُ فتكبرُ بمعرفتِها.

ففي إطارِ الدهشةِ، تلك التي صنعتْ معرفةَ الإنسانِ الأوّلِ وأغرتْهُ لاكتشافِ المزيدِ، ُيصبحُ الاندهاشُ فعلاً غيرَ حدسيٍّ ودليلاً على جهلٍ لأنّ (أيَّ دهشةٍ ُيمكنُ أن تكونَ متوقعة**). مِنْ قِبَلِ مَنْ؟ ومتى يُصبِّحُ التوقعُ ناجزاً، بعدَ انكشافِ المدهشِ أو كاستحضارٍ للمستقبلْ؟ ذلك ما يدفعُ الذاتَ المتورمةَ التي تعلمُ جهلَها إلى كبحِ اندهاشِها بعبارةِ (كنتُ اعرفُ) توقياً من الجهلِ الملتصقِ بالاندهاشِ أو هرباً منه. و التوقعُ، سواءٌ صادقتْ عليهِ الوقائعُ أم لا، يندرجُ ضمنَ التخمينِ من جهةٍ، ويتحددُ بسعةِ الأفقِ الإنساني الفردي وتطويقهِ للوجود من جهةٍ ثانية. في عينِ الرؤيةِ الحتميةِ للتاريخ، لا توقعٌ؛ بل حدثٌ ملتصقٌ بآخرَ بطريقةٍ آليةٍ لازمةِ الحضورِ، ُيخرجُ فيها المخلصُ، أو تتحققُ النبوءةُ الأيدلوجيةُ الماديةُ، سواء.

وفي إطارِ الحكمِ والاتهام، يبدو الإنسانُ ماكنةَ تفريخٍ تجاهَ الآخر. وإذ تمكنتْ التقنيةُ الحديثةُ من حسابِ عددِ الاتهاماتِ التي ُتكالُ يومياً لحصلنا على رقمٍ مهولٍ، قد يصلُ إلى ملايين الاتهاماتِ في جزءٍ من الثانية. والغرضُ من اتهامِ الآخر إيجادُ منطقة فصلٍ بينكَ وبينهُ، بين فضاء الحق المغلق والمكتمل وفضاءِ الباطلِ المفتوحِ والناقص، بين الخيرِ الذي أنتَ هوَ والشرِّ الذي هو المتهم. فيه تفوقٌ قيمي، وسعةٌ ادراكيةٌ وحصافةٌ موجودةٌ عندَ طرفٍ ومعدومةٌ عند آخر. بالانواجدِ في قاعةِ محكمةِ الحياة فإننا نعيشُ في كلّ لحظةٍ يومَ الحسابِ الأخير. أي تلك الصورةُ المُثلى الرهيبةُ المخيفة: مشهدٌ أسطوريّ تجتمعُ فيه الكائناتُ لتستمعَ إلى تُهمٍ كونيةٍ من الهٍ عظيم. إنسانياً، يقولُ كامو ( في الناسِ ميلٌ لا ُيقاومُ لإصدارِ الأحكام)، وبالطبع على شكلِ تهمٍ ناجزةٍ قررت فيها محكمةُ الذاتِ نوعَ الحكم. فما السببُ في الحكمِ على الآخرين الذي هو شكلٌ من أشكالِ التهمة : (الناس يُسرعون في الحكمِ على الناس لكي لا يُحكمَ عليهم أنفسُهم). أي فعل دفاعي منظم، يسحب الأرض من تحت الفعل المضاد. في المقدور مراقبة حركة الشك اليومية، في المقدور العثور على مكمن الاتهام، أسبابه دوافعه أغراضه. يتم إعلان الشك على وضح الآخرين، و بطريقة استعراضية ينجز الحكم عليهم سلباً، والاتهام بفعل ما؛ لكن إن ثبت خطا الحكم أو الاتهام ، تصمت الحنجرة وتجد بديلاً آخر لاتهامٍ جديد (إننا لا نستطيع إعلان براءة احد على الإطلاق، في حين إننا نستطيع أن نبين بالتأكيد أن الجميع مذنبون). الاتهام عادة ما يقال بصوت عال وفي حضور اكبر قدر من الآذان التي تقوم بدورها بإشاعته ونقله عبر الأثير. غير أن التبرئة، إن حصلت واعترف بها، تقال بصوت خافت، أو لا تقال على الإطلاق.

على مستوى آخر قد نتهم، لكن لا الآخرين، بل أنفسنا. هي حيلة أخرى اعتادها الإنسان المتمرس في الحيل مذ وطئت قدماه ظهر الكوكب. احتال لكي يتزاوج، احتال لكي يحب، احتال ليصيد، احتال ليكتشف النار، احتال في علاقته بالآلهة نفعيا، احتال في اختراع الخيال، احتال في اكتشاف اكبر احتيال في الكون: الكتابة. وها هي صيغة معقدة تنبثق. أنا اتهم نفسي أمامك، بطريقة مرطبة أو حتى قاسية، فما الذي يبقى لتقوله أنت الذي تنوي اتهامي. ابدي عيوبي فلا ابقي لاكتشافك هذه العيوب أي قوة أو فضل أو اثر. هل يؤثر قولك لخائن يا خائن وقد اعترف ذاتيا انه خان؟ ثم إنني اذا اتهمت نفسي أعطي لها الحق في مطاردة الكون كله بالاتهام، مستريح الضمير. يقول كامو كاشفا ذلك (لا يكفي اتهامك لنفسك لتبرئة ضميرك) فسيبقى مثقلا بعبء لعبة الاحتيال واعيا بها.

كانَ قد قالَ شكسبير على لسانِ بولونيوس في مسرحيةِ هملت: كُنْ صادقاً مع نفسِكَ بعدها لن تكونَ كاذباً مع احد. يقلبُ كامو التصورَ الفنتازي عن قدرةِ الوحدةِ أو التأملِ على احاطةِ وجودِ الكائنِ بالحمايةِ من هجومِ الخارج. تنقسمُ ذاتُ المرءِ إلى اثنين دائماً وأبداً، فيكونُ التظاهرُ بالوقوعِ في مرمى رؤيةِ هذه الذات، أو تخيلُ الآخرينَ وهم يحيطونَها بنظرِهم. هكذا لا يعودُ الإنسانُ وحيداً حينما يكونُ وحيداً، على عكسِ الفكرةِ التقليديةِ من وحدةِ الإنسانِ حتى في وسطِ الآخرين. فأنتَ، وان تكُنْ مُنقطعاً لذاتِكَ في تأملٍ خاصٍ، مراقبٌ من قِبَلِ تصورِكَ عن ذاتِكَ ومحاطٌ باعتقادِكَ وتوقعاتِكَ بماهيةِ تصوراتِ الآخرين. هكذا يُصبحُ التمثيلُ الحقيقةَ الوحيدةَ اللصيقةَ بالإنسان (كلّ منّا يحاولُ أن يتظاهرَ بالأمورِ حتى حينَ نكونُ وحيدين).

** الاقتباسات من كتاب البير كامو : السقطة.



#عباس_منعثر (هاشتاغ)       Abbas_Amnathar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في أروقة الفضائيات: الثقافة بصفتها مهنةً
- الكتابة عن الكتابة
- ميزان الذهب : تبادل الامكنة بين المثقف والاخر
- المثقف راهنا
- مرآة ثلاثية الابعاد


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس منعثر - التكلم بصوت البير كامو