أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - مرثية الزوال - أخر ما تبقي من شيء أصيل في الصحراء















المزيد.....


مرثية الزوال - أخر ما تبقي من شيء أصيل في الصحراء


أحمد الفيتوري

الحوار المتمدن-العدد: 1773 - 2006 / 12 / 23 - 09:54
المحور: الادب والفن
    


[ قراءة في رواية ( التبر ) للكاتب إبراهيم الكوني]

مدخل :
لابد من النص للقارئ والناقد ، وإذا تمت إحالات من النص إلى مرجعيته فإن هذه الاحلات اغناء لمخيلة المتلقي ولمنهجية الناقد ، غير ان هذه المرجعية ليست النص إطلاقا .
ان نصوص إبراهيم الكوني تتحول بقدرة قادر هو الناقد – فيما اطلعت عليه من كتابات حول هذه النصوص – إلى مصدر معرفي فيما يخص الصحراء والطوارق ، فالكثير من هذه القراءات تنصب عما يكشف عنه النص من فولكلور الصحراء وانثربولوجيا الطوارق . وهكذا ، هي بحث في المرجعية ، قراءة تتخلى عن النص بأن تفككه وتحيله إلى مرجع .. فهي قراءة لا تضيف ولكنها تنفي النص ، وبالتالي تنفي مصداقيتها كنقد ، لكنها تنطق مسكوتا عنه حول العلاقة بين هذه القراءة وذلك النص .
ثمة كتابة تحدد زاوية القراءة ، أو أنها مكتوبة انطلاقا من هذه الزاوية .
ان الكتابة التي تحاكي مثلا ألف ليلة وليلة في الأدب العربي ، هي في الكثير من الأحيان كتابة لقاري معين ، أو أنها كتابة لصيغة سردية تدهش هذا القارئ ، إنها " أرابيسك " اللوحة التي تشبع عين السائح ، فالسرد " الشهر زادي " الذي يهتك الأسرار بإيلاج الحكاية في الحكاية ، وإخراج الحكاية من الحكاية ، هذا السرد هو نتاج مخيلة قارئ غربي لألف ليلة وليلة ، والانصياع لقراءة مثل هذه هو في المحصلة ابتعاد عن الاستفادة من تقنية الحكى في ألف ليلة وليلة وإغراب أو دخول تحت مظلة القارئ المنتج لهذه القراءة ، وبالتالي اغتراب عن النص بالانضواء تحت نص أخر ، يمكنني ان اسميه حكاية شهرزاد ، لأن شهرزاد في ألف ليلة وليلة غير شهرزاد المعاد إنتاجها عند القارئ الغربي .
هكذا فإن مثل هذه الكتابة تعيد إنتاج قراءة أكثر منها كتابة وإبداعا . ولهذا فمثل هذا النص .. ليس نص الكاتب المبدع بقدر ما هو نص قارئ معين ؛ انه لا يختلف – بصورة مفارقة – عن نصوص الروايات الشعبية التي يكتب الجزء الثاني والثالث من الرائج منها . أي أنها رواية السوق ، رواية الآخر .
الروايات الفلكلورية :
يقول عبد الرحمن منيف : " لقد ظهرت في السنين الأخيرة مجموعة من الروايات الفلكلورية والتي كتبت خصيصا لقطاع معين في الغرب ، القطاع المسيطر على النشر والترجمة والصحافة ومنابر الإعلام ، من اجل انتزاع ثقته وبالتالي اعترافه .. وإذا كانت القاعدة ان نتوجه إلى شعبنا بالدرجة الأولى ، دون ان نخجل من تخلفنا ، وان نخوض في جميع المشاكل المرتبطة بهذا التخلف ، فيجب ان لا نظهر اعتزازنا بالتخلف أو ان نجعله وسيلة لتسلية الآخر ، لسنا غربيين أو عجائبيين ، ولسنا امتدادا ميكانيكيا لألف ليلة وليلة " .
ان عملية الختان .. قد ترد في سياق رواية – كما ان الإشارة إلى اللواط أو السحاق إذا وردت في رواية فلضرورات أساسية . لكن يجب ألا تحجب عنا المشاكل الأكثر أهمية والأجدر بالمعالجة ، فقط من اجل إدهاش الآخر أو استعراض جرأتنا أمامه .. إنها مجرد إشارة استدعتها القراءة إلى كتابة تستهدف متلقيا يكون فيها الكاتب إدارة انعكاس ، مرآة مصقولة تعكس وجه الكاتب كما يتصوره هذا المتلقي ، وبهذا يشيئ الكاتب ذاته ، ينفي ذاته . انه الكاتب المحروم من ذاته الذي يروج تصورات الآخرين وأفكارهم عن هذه الذات .
مراثي الكوني :
يكتب إبراهيم الكون مرثية الزوال ، انه يعيد كتابة تلك الأساطير المضادة للعار ، وبتلك التمائم بالكتابة يواجه الزوال ، ان هذه الروايات يرويها أخر الرواة عن الذين ذهبوا في حربهم ضد ( رياح القبلي ) ولم يعودوا .
انه يكتب عن أخر ما تبقى من شيء أصيل في الصحراء التي لم تبق من هذا الأصيل إلا أساطير موشومة في الذاكرة أو في كهوف جبال تاسيلي .
ان مثل هذه الكتابة تاريخ للزوال ، تاريخ للامحاء ومواجهة لهما ، إنها كتابة على الرمل وبالرمل ؛ كتابة العطب الداخلي تكشف عن أسرار بقيت في السر ، سكنت الصحراء واخبت بجنون هذه الصحراء ، ذهبت في هذا الجنون ، ضائعة بين الكثبان والسراب ، والقبلي يمحو آثارها .
ان محاولة إخفاء هذه الأسرار أصابها الوهن وضربها الزوال ، لهذا أتى الكوني ابنها ابن سلطانها ، لنشر هذه الأسرار في الروح وليكون أخر مقاتل لقبيلة رياح القبلي ؛ يقاتل الموت بالسرد الموصول وبالكتابة لرواية واحدة متعددة الأقنعة : الخسوف الخماسية ، المجوس ، الجزاءان ، التبر ، نزيف الحجر ، وكل رواية منها هي كتابة أخرى لنفس الأساطير ، الأساطير المضادة للعار بل مراثي الزوال .
ان الزوال في رواية الكوني هو الغريب أيا كان هذا الغريب ومن أين ما أتى ، من صحراير في الجنوب أو من بلدة غريان في الشمال ، والزوال هو القبول بهذا الغريب وتداعي الجسد في مواجهته .
ولهذا يبدأ هذا الزوال متى ما انكشفت الأسرار ، ان اكتشاف لوحات تاسيلي هو زوال لتاسيلي لأن هذه اللوحات صارت ملك الحضارة المكتشفة ، لقد فكت رموزها وانكشفت أسرارها ومن لا أسرار له لا قوة لديه ، فكل ما لا يخفي عن أعين الغرباء ، مات .
ولهذا يخفي الكوني أهدافه عن الآخرين لكي يصلها بدأ الكوني بالصلاة ؛ ( الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة ) ، ليواجه الموت بجلال الحزن لا بالندب والعويل وشق الخدود ، إنها صلاة الغائب ، وفي قصة : إلى أين يا أيها البدوي ؟ ، إلى أين صرخة في شكل تقرير يكشف الزوال الكامن في حالة البدوي الذي باع الجمل وترك الصحراء . ثم نمت شخصيات القصص القصيرة تلك لتشكل لحمة الروايات ، ولتبدو شخصيات هذه الروايات كشخصيات سرابية وأصوات زائلة فهي أقنعة لشبح ، مطاردة يتعقبها الموت أو سكن الموت – ردفها وان كانت تقاتل بعناد وفروسية صحراء شرسة إلا ان سلاحها شاهد قبرها .
ان نمو الشخصية هو فناؤها فهي تقاتل لكي تندس في صندوقها ؛ نفسها ، شخصيات تعطي العالم ظهرها ليظهر العطب الداخلي ، لأن المواجهة عند شخصيات الكوني تعني الانسحاب وتحدث بمجرد ان تخرج من صندوق الرمل الصحراء ، وهكذا المفارقة ( الكونية ) ان الجمود هو وسيلة البقاء وان الانسحاب هو وسيلة الدفاع ، وان الصحراء هي المتراس الأول والأخير هي المهد / القبر ، وان كل دخيل على هذه الصحراء هو الوباء هو الاضمحلال والزوال ، انه غريب وكل غريب / عدو .
وعندما تشهر الصحراء الصديق العدو سلاحها الفتاك ، الجفاف ويواجه بطل الكوني الموت فإنه لا يستسلم للصحراء لتطعنه بهذا السلاح الخارق ، انه حين يصل البئر عاريا ولا يملك أية وسيلة للدفاع ، للوصول إلى الماء لمبارزة الصحراء ، فإنه يرفع سلاحه الخاص والأخير / الموت ، فيرمي بجسده في البئر ، انه في مطاردته المستميتة للغزال يمسك بالزغب ، ثمة إحساس عميق باللاجدوى وتاريخي بالعقم .
ويبدو الكوني ممسوسا بالحكي وبأنه راوي القبيلة ، ولهذا لا يعير الزمن أي اهتمام فهو يروي أساطير وخوارق وطبيعة جن ، فيها المكان هو الزمن الداخلي للشخصيات ولهذا فللرواية بداية وعقدة وخاتمة لكن ليس للبداية مكان ، وقد تكون الخاتمة في الوسط وقد تولد الإشارة حدثا من حدث فتولد حكاية وقد يستغرق الحدث لحظة أو عقدا من الزمن ، و هنا الموت لا زمن له ولكن له شكل / مكان هو الصحراء .
ان الكوني يقسم روايته إلى أقاصيص لها مفتاح هو الخلاصة ، هو الحكمة الكامنة في الفصل أو القسم ، هو بيت القصيد وفي هذا عودة إلى أساليب الرواة الشعبين الذين يستخلصون العبرة في الجزء المحكي – كل ليلة – من حكاياهم .
ناقة طرفة أبلق الكوني :
( التبر : بالكسر : الذهب والفضة ، أو فتاتهما قبل ان يصاغا . فإذا صيغا : فهما ذهب وفضة ، والتبر – بالفتح – الكسر والإهلاك . كالتبتير فيهما . والفعل كضرب . والتبار : الهلاك ، والمتبور : الهالك . وتبر – كفر – هلك ) ، الحرف الثالث : حرف الفاء ، مختار القاموس الطاهر احمد الزاوي – الدار العربية للكتاب - طبعة 1978 .
هل سبق لأحدكم ان شاهد مهريا أبلق ؟
لا ، لا ، لا ، اعترفوا أنكم لم تروه ولن تروه .
بهذا المنولوج نلج ( التبر ) وبهذه الإجابة القطعية تروى الرواية ، إننا لم نشاهد هذا المهري الأبلق ولن نراه . فإذا كانت هذه أول رواية – على حد علمي – حول العلاقة بين الحيوان الناطق ( الإنسان ) والحيوان الأبكم ( الجمل ) ، فهل حقا لم نر هذه العلاقة البتة ؟ ، ان الجمل هو الحيوان العربي أو هكذا وسم في تصورات الآخرين ، وإذا لم يكن كذلك فإن الجمل هو حيوان ديوان العرب ، أي أننا سبق – كما في حياتنا – ورأينا الجمل يشكل ويشاكل مخيلتنا . لم نره في صيغة سردية من قبل ، بالتالي لا مثيل لهذا المهري الأبلق ، لكن العرب صاغوا حيوانهم بأشعارهم ، منذ أن وجد العرب في الناقة ملاذ قوة غريبة . يقول ثعلبة بن صعير المازني :
وإذا خليلك لم يدوم لك وصله
فاقطع لبانته بحرف ضامر
ان العلاقة بين الشاعر العربي وناقته ، علاقة القوة في مواجهة الوحدة ، والناقة كما يشير ثعلبة البديل القائم لبقية العلاقات . ان الناقة ليست وسيلة اتصال بل هي عند الشاعر الوصل ذاته ، فالناقة هي حيوان الصحراء وفيلسوفها ، هي رمز القدرة والبقاء ، فهي الحركة والثبات وهي الصبر والغدر . بل ناقة الشعر العربي هي سراب الصحراء ، معادل الشعر ، الشعر الذي هو الوجود من حيث هو قوة فاعلة ، والشعر الذي هو نتاج الجن فهو قوة من خارج الشاعر في نفس الوقت . هكذا يبدو ان :
لخولة أطلال ببرقة تمهد
تلوح كباقي الوشم يف ظاهر اليد
هي حديث طرفه بن العبد عن المرأة الذي لا يحقق فكرة الصلة والاندماج قدر ما يحققه حديث الناقة ، لأن الناقة ارفع عند طرفة من الجنس وأكثر سموا من الإنسان ، فناقة طرفه هي المناعة عن الساخرين .
لكن إذا كان طرفه قد جعل من ناقته القرين فإن القرين كما تقول القواميس هو زوال الوحشة ووضوح القصد والدخول في قلب الآخر وهو المصاحب والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه ، السؤال : لماذا وجد طرفه شبهه في الناقة ؟ ، يقول طرفه في معلقته :
ومازال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وانفاقي طريفي ومتلدي
الى ان تحامتني العشيرة كلها
وافردت افراد البعير المعبد .
ان طرفه افرد عن القوم الذين انفرد عنهم ؛ هو الذي كان يعيش ، في ظاهر الأمر ، معهم غير انه ليس منهم ، ولهذا فتمرد طرفة عن العشيرة ليس هو مقدمة لإفراده كبعير أجرب ، بل هو النتيجة ؛ لأن لطرفة الشاعر ذاتا تجنح للانفصال فلا تقبل إلا ما تريده وما تريده المستحيل ؛ طرفة يعاني مشكل الموت الذي يغفل عنه الآخرون :
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني ابادرها بما ملكت يدي
ان تفرد طرفة جنوح لمواجهة مستحيلة ، فهو يرى الموت ساكنا في السكون في الارتكان والارتهان للثوابت ، والعشيرة ثوابت ساكنة ، بيت بأوتاد تضرب في الأرض ؛ لهذا يمضي طرفة إلى الطرف الأخر إلى الناقة .
واني امضي الهم عند احتضاره
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
ان ناقة طرفة هي القرين الذي يركن إليه دون ان يسكن إليه ، انه في عدو معه في مواجهة عدو يكمن في المكان ، وهي تستوعب البناء والتشييد مثل قنطرة الرومي دون ان تكونه ، انها الملجأ الأمين الذي لا يأمنه من الموت لأنه الموت ذاته :
أمون كألواح الاران نصأتها
على لاحب كأنه ظهر برجد
إن الناقة هي الوقاء والاحتماء مثل الباب المنيف الممرد ، وبيوت الوحش في أصول الشجر :
كقنطرة الرومي اقسم ربها
لتكتنفن حتى تشاد بقرمد
إنها قنطرة وجناحي النسر ، السقف المسند والظهر العالي وهي الكهف الذي ذكر في معرض عظام العينين ، ان طرفة يواجه قدرا متمثلا في ثبوت الآخرين وسكونهم ويواجه هذا القدر بالناقة بيت الوحش ؛ الكهف :
على مثلها امضى اذا قال صاحبي
الا ليتني افديك منها وافتدي
ويخال طرفة نفسه يمسك بزمام الموت وهو يمسك بلجام الناقة ، ويخال انه في تابوت حصين وهو على ظهرها لأنها عنده ملاك الموت الذي يسير به حثيثا إليه . ولهذا فناقة شعر طرفة ليست من ناقة الناس كافة ، إنها كناقة صالح التي في عقرها الريح الصرصر ، غير ان ناقة معلقة طرفة حمالة الموت :
لعمرك ان الموت ما اخطأ الفتى
لكالطول المرخى وثنياه باليد .

التـبر / النفـط الـذي أحـرق أوخيــد :
( التبر ) تقول القراءة الأولى إنها رواية الأبلق ، وان الإنسان بهيمة يقودها القدر الذي يمسك بسوطه التبر ، من هذا ندخل في حوار معها حول هذا القول وحول الكيفية التي تم فيها القول : زعيم قبائل اهجار القبائل العريقة التي تستوطن جنوب شرق الجزائر ، يقدم مهرا صغيرا هو الأبلق ، هدية لأوخيد ابن اشيخ امنغساتن سليل اخنوخن العظيم زعيم أزجر شيخ قبيلة امنغساتن في القرن التاسع عشر ، الذي لعب دورا رئيسيا في صد الغزوات الفرنسية ، التي كانت تستهدف التوغل في الصحراء الكبرى .
الهدية مهر أبلق ، رشيق ، ممشوق القوام ، نبيل ، شجاع ، وفي جمال متعال ، فناؤه كامن فيه لأنه متفرد وليس كمثله شيء ، وهكذا يتم توصيفه بكل الأسماء الحسنى ، يسمى في صيغة المفردة المكتفية بذاتها في صيغة الوصف لا صيغة الأخبار .
الهدية – الأبلق رسول – مثل الودان في رواية نزيف الحجر – وهو نصف الإلهي الذي انقرضت فصيلته منذ مائة عام . الأبلق المنقذ والروح التي بعثها الله ، رسول النجاة ، سفينة الحرية . أبلق التبر الخلاص المستحيل الذي يزول بالتبر .. هذا الأبلق هو المعشوق الأول .. ثم الأخير لاوخيد ، انه السر الذي يجب إخفاؤه عن أعين الغرباء : " رأي صدقتهما في الزمن الأول ، قبل ان يولد ، قبل ان يكونا نطفتين في رحم الأمهات ، قبل ان يكونا خاطرا ، عاطفة في قلوب الاباء " .
انه السر في الرواية ؛ حيث الراوي هو الأبلق وضمير الغائب هو اوخيد ، والسرد يبدأ بجملة إخبارية مقتضبة حول هدية زعيم اهجار ، ليدخل في منولوج لاوخيد حول الأبلق ( في صورة السائل والمجيب ) ، لينتهي بالرواية لوصف دموي عنيف لمقتل اوخيد ، في لغة تستعمل المفردات الصوفية لتضيف غموضا شفافا حول هذه العلاقة : ( حياة العاشقين فيها الموت ) . وإذا تابعنا الرواية كبناء فنلاحظ إنها دائرة مغلقة فيها النهاية تكمن في البداية ، وان كان السرد يأخذ مسارا تصاعديا للحدث رغم الانكسارات المقصودة في وتيرة هذا التصعيد ، ورسم الدائرة كالتالي :
البداية : هدية / عشق / انفصال .
الأبلق : عشق / مرض / إخصاء . نذر / شفاء / رهن .
اوخيد : عشق / تمرد / جوع . رهن / انفصال / هدية .
الخاتمة : هدية / موت .
ان الأبلق يكشف لاوخيد عن ذاته فيحدث هذا العشق الذي يصير انفصالا .
البشر وحوش والأبلق الملاذ :
ماذا سأفعل في النجع الموحش مع هؤلاء الوحوش بدون الأبلق ؟ ، لقد اكتفى اوخيد بنفسه ، اكتفى بالابلق ، ونلاحظ ان الأطراف الأخرى أشباح الرواية ، وان لا وجود لها حيث صار الأبلق هو الوجود ، انه هدية اوخيد . انه الجمال الذي لا يعادله أي جمال حتى ولو كان جمال الآلهة تانيت .
وإذا كان عشق اوخيد لهذا الجمال يؤدي الى الانفصال ؛ فإن عشق الأبلق يؤدي الى المرض الذي ينتهي بالاخصاء ، انه سلالة قدرها الانقراض . غير ان شفاءه من هذا المرض يتم فقط بزهرة الجن ؛ نبات ( اسيار ) ، أو السلفيوم كما يشير الكاتب في الهامش ، السلفيوم : نبات يشفي من كل الأمراض كما تشير كتب التاريخ ، وانقرض في ليبيا منذ عصر الإغريق الليبيين في القرن الخامس ق م ، وكان المحصول الذي عرفت به البلاد آنذاك ، أي انه نفط ذلك العصر .
زهرة الجن !
وقد أشار إلى علاج الأبلق من الجرب بنبات اسيار ، الفقيه المتصوف موسى الذي قدم من المغرب الأقصى واحد أتباع الطريقة القادرية ، ويتم التخلص من آثار هذا النبات ( زهرة الجن ) ، أي الجنون ، عن طريق النذر للإله الصحراوي القديم الذي فك شفرته في أبجدية التيفناغ ، أحد السحرة الأفارقة .
وهكذا فإن العلاقة بين اله التيفناغ والساحر الإفريقي واسيار ( السلفيوم ) والمتصوف موسى والنذر ، هي التي كانت وراء الشفاء ، لكن الثمن الأول لهذا الشفاء تيه اوخيد في الصحراء حتى يصل حافة البئر وحافة الموت ليتم إنقاذه .
لكن الأبلق الذي تم شفاؤه يقدم كرهن لفك أسر امرأة وابن اوخيد من جوع الصحراء ، وإذا كان عشق الأبلق للناقة نتاجه الجرب فإن عشق اوخيد لحسناء اير ؛ بلاد السحر والسحرة الصحراء الواقعة بين مالي والنيجر ونيجيريا ، يؤدي إلى تمرده على أبيه فيؤدي إلى لعنة الأب ، وفي اللعنة أيضا يكمن السر ؛ اللعنة تدفع إلى المنفى والنجاة في المنفى ، وهذه اللعنة هي التي تستخدم سكين الصحراء ؛ الجوع .
إن اوخيد يعطي بظهره لعالمه ؛ في الوقت الذي يقتل فيه أبوه على أيدي الغزاة الإيطاليين يدخل الواحة ؛ الواحة التي جميع سكانها عبيد لأنهم الفلاحون الذين الله وحده يعلم ماذا يجول في رؤوسهم .
ان الصحراء تطبق حصارها بجيوش الجوع على الواحة مستخدمة أدوات فعالة :
• الوهق : الزوجة المقدسة / الملاذ .
• الدمية : الذرية / الخلف : " الأبناء حجاب الاباء ، الأبناء فناء الاباء " .
• الوهم الكاذب : العار / أساطير الأولين .
وليس من فكاك من هذا الحصار إلا بالرهن ؛ الأبلق رهينة ابن أير : دودو ، التاجر صاحب التبر وابن عم الوهق : الزوجة المقدسة .. ابن اير يريد استرداد ابنة عمه ، محبوبته بالحيلة ؛ ومن أين للبدوي اوخيد أن يعرف الحيلة : الأبلق أو الوهق والدمية وأساطير الأولين : هذا عار لم تسمع بمثله الصحراء من قبل ؛ حتى أكثر العبيد عبودية لم يبع زوجته مقابل حفنة من التبر .
التاجر عدو اوخيد الأبدي !
إن التاجر دودو ينهي أسطورة البدوي اوخيد بهدية ؛ حفنة تبر ، التاجر الايري يدفع ثمن افتكاك ابنة عمه ، لاشيء بدون مقابل ؛ التاجر يتاجر بجوع ابنة عمه وابنتها التي جاءت من أير مع أقاربها هربا من الجدب الذي حاق بتلك الصحراء في السنوات الخمس الأخيرة .
" الذهب هدف كل إنسان منذ ان يولد إلى ان يموت ، باستثناء الفاشلين والدراويش ، ولكن يقال انه ملعون ويجلب الشؤم " : ما كان ينبغي ان ترهن مثل هذا المهرى لدى غريب ، فمثله يخفي عن أعين الغرباء ولكن ما فات مات .
الموت كامن في الهدية : تلقى الأبلق هدية ، تلقى التبر هدية بعد ان فك رهن الأبلق ، التبر عار والهدية عار ؛ العار الوهم الكاذب ، أساطير الأولين : قيم الصحراء النبل والفروسية والصبر ؛ العار ألم القلب : " ليس في الدنيا مخلوق أضعف من الجمل في تحمل ألم القلب ".
لم يستخدم الكاتب تكنيك الحلم إلا حينما واجه اوخيد الموت ؛ حيث اتاح هذا التكنيك للكاتب ان يكشف العلاقة بين اوخيد والفضاء الذي يتصل بالأبدية ، بالآخرة .
الحلم / الموت :
ان ثالوث الحلم / الموت : الظلمة ، السقف المهدد بالانهيار ، الكائن الخفي ، يكثف ويكشف عن ثالوث اوخيد : العراء ، الأفق ، الفضاء ، وثالوث عقل اوخيد : الإسلام الصوفي ( القادرية ) ، الوثنية ( تانيت ) ، قيم وتراث الصحراء : " في النهار رأى رسوم الأولين ، كان الجدار العمودي للشقين مزينا بالصور الملونة " .
ان اوخيد يهرب للحلم أو الحلم يأخذه إليه حين مواجهة الموت ، حين كاد اوخيد ان يغرق وهو حي : " رأى في الحلم جمرات الموقد تسبح فوق ماء وفير دون ان تنطفيء ، ثم وجد نفسه يسبح بجوار الجمرات المنطفئة ، فاختلط الحلم بالحقيقة لما صحا من نومه " ، وكذلك حين ذهب اوخيد إلى نصب المجوس من اجل إنقاذ الأبلق من الجرب ، في الليل ، توسد الحجر ونعس ، رأى الأبلق يغرق في الوادي كما يتوسد الليبيون منذ القدم – وحتى الآن – قبور آبائهم لأجل الرؤيا والشفاء من المرض .
اذا كان التبر يجلب الشؤم فإنه يجلب العار أيضا وهنا يكون لابد من القتل ، ان اوخيد يقتل دودو لكي يقتل اوخيد ، وموت اوخيد ليس كمثله شيء لأنه موت الكشف أي الختمة التي هي رسم البداية ، هدية زعيم اهجاره الأبلق الذي انقرضت فصيلته منذ مائة عام والذي تم اخصاءه .
ان الموت يحاصر اوخيد في شكل رجال يبكون من اجل الحصول علي الغنيمة ؛ اذا بكى رجل في الصحراء طلبا لشيء فلا بد ان يناله يوما . وفي الجبل أخر ملاذ للخلاص ، وفي كهف يرى فيه رسوم الأولين ؛ رسوم تسيلي حيث يطارد الصيادون الودان ، في هذا الكهف نام جالسا وحبيبته الى صدره ، نام نومة الجنين في رحم أمه .
اوخيد المحاصر السجين :
هكذا كشف له الموت انه عاش محاصرا ، سجينا مخنوقا ، لأنه مقطوع والويل للمقطوع ، ان الحمادة الآن مطوقة بالغزاة الطليان ينتهكونها من الشمال وقبائل أير تنتهكها من الجنوب . وكشف له الموت انه لم يحيا ؛ لأن الإنسان قادر ان يحول حتى صحراء الله الواسعة الى سجن أبشع من سجن القائمقام التركي الذي رأى أطلاله في اور ، وكشف له الموت ان الأبلق هو الخلاص المستحيل ، فأثار الأبلق هي التي تهدي الأعداء إلى مقر اوخيد ؛ كشف له الموت انه اخطأ حين : " أودع قلبه لدى صديق ، لدى الأبلق ، لتلحقه اليد الآثمة ، يد الإنسان " .
إن الخاتمة هي الحلم الذي عذب اوخيد منذ طفولته : عرفه قبل ان يرى بيتا مبنيا ، قبل ان يزور الواحة " ، وثالوث الحلم هو الظلمة ، السقف المهدد بالانهيار ، الكائن المجهول .
ان الموت يكشف لاوخيد ان الظلمة هي حياته ، وان السقف المهدد بالانهيار هو الأبلق ، أما الكائن الخفي فإنه ينكشف ولكن بعد فوات الأوان لأن اوخيد مات ؛ مات اوخيد مقسوما بين جملين قويين فيما اخذ ورثة دودو رأسه الذي لن يستطيع الآن أبدا ان يحدث أحدا بما رأى ، لكنه الرأس الكافي لأجل ان يحصل ورثة دودو علي التبر .
الأبلق آخر أساطير سلالة انقرضت :
إن اوخيد آخر الأساطير لأن اوخيد اتخذ من الأبلق ملاذه ، والأبلق سلالة انقرضت . لقد خيل لأوخيد ان الجمال والحرية في الأبلق ؛ لم ينتبه إلى ان الأبلق قبل ان يخصى هو آخر سلالة المهاري التي من يملكها : " لن يشكو من نقص القيم النبيلة " ، لكن من يملكها ميت لا محالة ومنقرض مثلها .
ان اوخيد لم يعط بظهره للعالم ، لم يهرب من مواجهة الغزاة ، لم ينفك عن مهام القبيلة حين جعل الأبلق الأجمل والأنبل ، بل فعل العكس ، لأنه بهذا الانضواء كتب ملحمة الزوال .
لأن الصحراء لم تعد هي الصحراء ولا القبيلة هي القبيلة ، لقد مادت الأرض تحت أقدام اوخيد ، ولم يكن يمكن لأقدام الأبلق ان توقف هذا الزلزال .
رواية التفاصيل :
إننا أمام عمل روائي يتميز ببنية الحكى التي تهتم بتفاصيل الحدث ،التي تستبعد وصف جمالية المكان لصالح جمالية النفس . والحكاية كبنية تتناسل كما عرفناها في ألف ليلة وليلة ، ومن هذا التناسل يتم نسج حوار داخلي مستمر ، يكشف من خلاله الراوي شخصية اوخيد فيما بطل الرواية هو الأبلق ، هو حوار اوخيد ، لان الأبلق هو الراوي المسكوت عنه ، فالكتابة في رواية ( التبر ) تدور حول حيوان وهي تنطق هذا الحيوان ، الجمل الحيوان الكتوم . الأبلق في الرواية ليس البطل وحسب بل الراوية الفعلي ، ولا هو الراوي وحسب بل ان الكاتب إبراهيم الكوني يجعل منه أسلوب نسج خاص للرواية ؛ حيث نلاحظ ان الرواية تخفي أسرارها عنا ، ولا تنكشف هذه الأسرار إلا في حالة تدفق فجائي يأتي به السرد كالسيل العرم ، أو غضب الجمل الذي يفصح عن مكنوناته .
انه عمل يتميز بالكشف عن العلاقة بين الصحراء الكائن المسكوت عنه في الحدث ، وبين الجمل ككائن يسيطر على جسم العمل الروائي ، وبين اوخيد المفعول بالكائنين .
هكذا يبدو ان الثالوث هو سمة لعمل الكوني ؛ المأخوذ بمثلث تانيت ، المأخوذ بإعادة كتابة الأساطير التي تحيكها مخيلة جموحه ولكنها معقلنة بزمانها ، زمن الأسطورة . ان هذا العمل يحدد العلاقة بين الإنسان والطبيعة ، الطبيعة التي أعطيناها ظهرنا مقابل حفنة التبر .
تبقي ملاحظة ان اوخيد عاشق الأبلق يعيد أسطورة امرؤ القيس عاشق الخمر الذي قتل أباه وهو يعاقرها ؛ فيما جاء الغزو الإيطالي للصحراء ومقتل أبي اوخيد على أيديهم ليكشف ان اوخيد اللا منتمي للصحراء هو طرفة العصر .



#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القفص الزجاجي
- الزعيم نصر الله ورقة وحيدة وأخيرة بيده لا بيد عمر
- المحروق المنسي في جوف الطين
- غرابة الزمان التي لا ريب فيها
- من قتل ناجي العلي ؟
- تجربة المتشائل إبداع تحت الشمس
- كم شجرة تكون غابة ؟
- دروس الأكاديمية:لا تقول بغ ، ممنوع التصوير ، الكتابة ، الكلا ...
- قصيدة حب متأبية بطريقة خ ، خ
- تعيش جامعة العرب
- زلة عرجون اليأس
- فرج الترهوني : ترجمان كثبان النمل
- ..وكذا حبيبتي في الشعر.
- ذئبة من بعيد ترنو ، ذئبة تندس في غابة عينيه
- بغداد أفق مسفوح في بحر اللامتناهي
- شارع الإذاعة : سر من رآه ، سر من لم يره
- بورتريه الثعلب
- بورتريه العنيزي
- بورتريه البوري
- بورتريه الفلاح


المزيد.....




- الموسيقى الحزينة قد تفيد صحتك.. ألبوم تايلور سويفت الجديد مث ...
- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- صدور ديوان الغُرنوقُ الدَّنِف للشاعر الراحل عبداللطيف خطاب
- صدر حديثاً رواية - هذا أوان الحبّ- للأديبة الفلسطينية: إسرا ...
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - مرثية الزوال - أخر ما تبقي من شيء أصيل في الصحراء