أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حسقيل قوجمان - تعريف اليسار عموما واليسار العراقي خصوصا 4















المزيد.....



تعريف اليسار عموما واليسار العراقي خصوصا 4


حسقيل قوجمان

الحوار المتمدن-العدد: 1768 - 2006 / 12 / 18 - 09:52
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


كان الحديث في الفقرات السابقة عن فترة كانت الحركة الشيوعية العالمية فيها في اوج انتصاراتها. خرج الاتحاد السوفييتي في هذه الفترة منتصرا على النازية وانقذ العالم من العبودية الهتلرية. وفي هذه الفترة نجح الاتحاد السوفييتي في اعادة اعمار ما دمرته الحرب بسرعة اذهلت العالم كله بسبب مثابرة شعوب الاتحاد السوفييتي المتآخية في اعادة الاعمار وليس الانهماك في الحروب القومية الانفصالية والانشقاقية. نجحت شعوب اوروبا الشرقية بقيادة طبقتها العاملة في تولي السلطة والسير في التحول الى تحقيق الثورة الاشتراكية من الاعلى من قبل السلطة ومن الادنى من قبل الطبقات الكادحة بالتضامن من اجل القضاء على الطبقات المستغلة السابقة وخصوصا الطبقات التي تعاونت مع المحتل النازي اثناء الحرب. وكانت الثورات الشعبية ضد الامبريالية محتدمة في جميع بلدان اسيا تقريبا ونجحت اكبر واعظم ثورة برجوازية بقيادة الطبقة العاملة في تاريخ البشرية، الثورة الصينية، وتحققت فيها حكومة العمال والفلاحين الثورية. وفي مثل هذه الظروف الثورية السائدة في ارجاء العالم كان من الممكن بقيادة ماركسية حكيمة اعادة الحياة للحزب الشيوعي العراقي، اي اعادة اندماجه بصفوف الطبقة العاملة والفلاحين وسائر الكادحين.
وفي ۱٩٥۳ حلت الكارثة الكبرى بالنسبة لليسار العالمي كله على الاطلاق وخصوصا بالنسبة للحركة الشيوعية العالمية. فبعد وفاة ستالين استولت فئة تحريفية انتهازية على قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي وعلى الدولة السوفييتية. فمن حزب الطبقة العاملة تحول الحزب الشيوعي السوفييتي الى حزب معاد للطبقة العاملة والكادحين. من حزب يقود شعوب الاتحاد السوفييتي في السير بالمجتمع الاشتراكي السوفييتي حثيثا الى تحقيق المجتمع الشيوعي الى حزب يقود الشعوب السوفييتية الى استعادة النظام الراسمالي والى استعباد الشعوب السوفييتية مجددا وطمس وتدمير كل الانجازات التي حققتها خلال حكم دكتاتورية البروليتاريا. وكان لتحول النظام السوفييتي من نظام ثوري حقيقي للطبقة العاملة والكادحين الى نظام حكم راسمالي امبريالي مقنع بعبارات ثورية وماركسية وشيوعية زائفة ضربة كبرى على الحركة اليسارية العالمية كلها ظهرت باوضح اشكالها في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي سنة ۱٩٥٦ . ادت نتائج هذا المؤتمر بعد التحولات التي جرت قبله في سائر الاحزاب الاوروبية على الاقل الى تمزيق الحركة الشيوعية العالمية شر ممزق وهو ما لم يزل تأثيره عميقا في ارجاء العالم حتى يومنا هذا.
كان للتحولات في الاتحاد السوفييتي في هذه الفترة تأثيرها المباشر وغير المباشر على الحركة اليسارية العراقية وخصوصا منها على اقصى اليسار اي حركة الطبقة العاملة. فبدلا من العمل على اعادة الحياة للحزب الشيوعي العراقي اي اعادة اندماجه في النضالات العمالية اليومية وتوجيهها ورفع مستواها ازداد انفصال الحزب عن حركة الطبقة العاملة العراقية واصبح نضاله مجرد حديث او كتابة عن الحركة وليس ممارستها والاندماج فيها. حدثت في تلك الفترة عملية ازاحة حميد عثمان عن قيادة الحزب بحجة تطرفه اليساري. لم اطلع على ادبيات الحزب وعلى كتابات حميد عثمان التي اعتبرت انذاك تطرفا يساريا. ولا استبعد ان يتحول حميد عثمان الى التطرف اليساري نظرا الى انه كان جاهلا للماركسية جهلا تاما. ولكن المعروف ان السياسات الماركسية الصحيحة كانت في تلك الفترة وما زالت حتى اليوم تعتبر تطرفا "يساريا". ولكن لنفترض حقا ان حميد عثمان اصبح متطرفا "يساريا" فهل هذا يبرر الطريقة البوليسية التي ازيح بها عن القيادة وعن الحزب؟ انها لم تكن طريقة شيوعية او ماركسية بتاتا. ألم يكن بالامكان مناقشة حميد عثمان واقناعه بان سياسته متطرفة؟ الم يكن بالامكان حتى ازاحته عن قيادة الحزب وابقاؤه قريبا من القيادة اعترافا بتاريخه النضالي؟ ان طريقة ازاحته لم تكن اقل تطرفا من تطرف حميد عثمان حتى لو ان حميد عثمان كان متطرفا حقا.
في تلك الفترة، فترة تحول النظام السوفييتي تحت قيادة خروشوف التحريفية، وقع الحزب الشيوعي العراقي كما اغلب الاحزاب الشيوعية العالمية تحت تأثير هذا التحول مما ادى الى تحول هذه الاحزاب الى احزاب تحريفية هي الاخرى وابتعادها عن النضال الثوري الحقيقي للطبقة العاملة واصبحت عبارة عن كتل سياسية مستقلة منفصلة عن الطبقة العاملة والكادحين ترى في نفسها قوة ذات اهمية بحد ذاتها وكل نشاطها يقتصر على تقوية الحزب وزيادة امكانياته المالية. وقد ساعدت على ذلك سياسة القيادة الخروشوفية التي عملت على برجزة الاحزاب الموالية لها بتخصيص المبالغ الطائلة لها ومنح قياداتها الامتيازات وظروف الحياة المرفهة في الاتحاد السوفييتي وفي دول ما سمي جزافا المنظومة الاشتراكية بدلا من المفهوم السابق، المعسكر الاشتراكي.
وما يهمنا في هذا البحث هو نموذجنا، الحزب الشيوعي العراقي. تهمنا التحولات التي طرأت على الحزب الشيوعي العراقي وعلى سياساته نتيجة لهذا التأثير المباشر وغير المباشر.
ان من اهم صفات الحزب اللينيني، وحزب فهد كان حزبا لينينيا بكل معنى الكلمة، تطهير الحزب من الانتهازيين والمتخاذلين والكسلة. ولكن سياسة الحزب الشيوعي العراقي في هذه الفترة كانت في الظاهر القضاء على الانتهازية. ولكنها في الحقيقة كانت سياسة احتواء الانتهازية، سياسة ادخال الانتهازية الى الحزب والى قيادة الحزب، بدلا من تطهير الحزب من الانتهازية. وقد تمثلت هذه السياسة بضم المنظمات الانتهازية المعروفة التي يعترف الحزب بانتهازيتها الى صفوف الحزب تحت شعار توحيد الحركة الشيوعية. فقد ضمت راية الشغيلة الى الحزب. وراية الشغيلة كانت في الواقع جزءا من الحزب وانشقت عليه واعتبرت منظمة انتهازية وقد يكون في ادخالها الى الحزب بعض المنطق تحت شعار توحيد الحركة الشيوعية، ولو ان ذلك مردود نهائيا من الناحية المبدئية، وفي حالة اعتراف المنظمة بانتهازيتها وحل نفسها يمكن انضمام بعض اعضائها كل على انفراد ووضعهم تحت فترة مراقبة لسلوكهم، اي فترة ترشيح، قبل قبولهم اعضاء في الحزب وليس ادخال قياداتهم الى المنظمات القيادية للحزب مباشرة كما حصل.
وكانت المنظمة الثانية التي ضمت الى الحزب، منظمة عزيز شريف التي كانت تسمى على ما اتذكر وحدة النضال او ما شابه ذلك، ولا اهمية في هذا لاسمها. في الاصل كانت هذه المنظمة حزبا برجوازيا او بتي برجوازيا هو حزب الشعب الذي كان يقوده عزيز شريف. وبعد حل الحزب ومنعه من قبل السلطات تحول الى منظمة سرية. كانت هذه المنظمة منذ يوم تأسيسها منظمة معادية للحزب وللرفيق فهد بالذات، ومعادية لسياسة الحزب الشيوعي العراقي معاداة تامة. وكان ادخالها للحزب الشيوعي تحت شعار توحيد الحركة الشيوعية ادعاء باطلا من الناحية المبدئية ومن الناحية التاريخية. فلم تكن لهذه المنظمة اية علاقة مبدئية او سياسية او فكرية او نظرية بالحركة الشيوعية. ان ما سمي في هذه السنوات "القضاء على الانتهازية" او "توحيد الحركة الشيوعية" لم يكن في الواقع سوى تحويل الحزب الى حزب انتهازي كليا بدلا من اعادته الى طريق النضال الثوري العمالي الحقيقي. وقد دل على ذلك الغاء اسم جريدة الحزب واتخاذ اسم اخر "اتحاد الشعب او طريق الشعب او غير ذلك من الاسماء.
لدى انفصال الحزب الشيوعي عن كيانه، عن كونه جزءا واعيا من الطبقة العاملة، عن كونه طليعة الطبقة العاملة في نضالها اليومي لتحقيق اهدافها الانية وطليعتها في النضال المثابر في طريق تحقيق اهدافها البعيدة، اصبح صفرا الى اليسار في الحركة اليسارية. اصبح منظمة منفصلة مستقلة لا حول لها ولا قوة في النضال الحقيقي للطبقة العاملة. ولهذا احتاج الحزب الشيوعي الى الاستعانة بقوى سياسية اخرى غير الطبقة العاملة من اجل بقائه. ومنذ تلك السنوات اصبح شعار الجبهة الوطنية الشعار السياسي الرئيسي في حياة ونضال الحزب الشيوعي العراقي. والجبهة الوطنية كما نعلم هي تحالف مع طبقات غير الطبقة العاملة وخصوصا الطبقة البرجوازية واحزابها. لم يعد شعار الجبهة الوطنية وسيلة لتقوية الحركة الثورية ورفع مستواها النضالي وانما اصبح شعارا مصيريا بالنسبة للحزب الشيوعي. اصبحت الجبهة الوطنية في هذه الحال عاملا يساعد الحزب على البقاء حيا. واستمرار الحزب على التبجح بالرفيق فهد وبامجاد الحزب في فترة قيادة الرفيق فهد اصبح عبارة عن سلعة يراد بها خدع الطبقة العاملة وسائر الكادحين. ان حزب الرفيق فهد يعني فهم سياسته القريبة والبعيدة، يعني استيعاب افكاره النظرية والفكرية، يعني التمسك بالاهداف القريبة والبعيدة التي كان الرفيق فهد والحزب تحت قيادته يتمسك بها، يعني الاندماج الفعلي في نضال الطبقة العاملة والكادحين اليومي والبعيد المدى. وخلاف ذلك لا يعني تمجيد الحزب وتسمية الحزب بحزب فهد سوى ذر الرماد في عيون الطبقة العاملة وسائر الكادحين.
في هذه الفترة اصبح شعار الجبهة الوطنية، بدلا من كونه شعارا يساند الحركة العمالية الاساسية بصورة مؤقتة، الى شعار بديل عن الحركة الثورية الحقيقية للطبقة العاملة. فكانت المفاوضات جارية بين الحزب وبين الاحزاب القائمة انذاك وعلى رأسها الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي. وكان هذا الحزب حزبا برجوازيا بكل معنى الكلمة وكان قائده، كامل الجادرجي، حكيم البرجوازية الوطنية العراقية. كانت المفاوضات مع كامل الجادرجي في عهد الرفيق فهد مفاوضات صعبة لان الجادرجي كان يصر على اقناع الحزب الشيوعي بالتخلي عن سياسته الشيوعية الحقيقية، سياسة قيادة وتثقيف وتنظيم الطبقة العاملة في نضالها المباشر، مما عجز الجادرجي عن تحقيقه مع الرفيق فهد. وكانت المفاوضات في هذه السنوات على ما يبدو تجري من قبل عامر عبدالله كممثل للحزب. فكانت مطاليب كامل الجادرجي المعروفة والمبينة في العديد من الوثائق التاريخية. التخلي عن موضوع القيادة، التخلي عن موضوع المراحل التاريخية، الموافقة على ادخال حزب الاستقلال اليميني في الجبهة كمقابل لقبول الحزب الشيوعي فيها وغير ذلك. كانت هذه الشروط تعني ابعاد الحزب الشيوعي عن كل ما تبقى من ثوريته وتمثيله لحركة الطبقة العاملة.
وانعقد الكونفرنس الثاني للحزب سنة ۱٩٥٦، وقد اعتبر الحزب قبل الكونفرنس او خلاله ان الميثاق الوطني الاول، ميثاق فهد، والميثاق الوطني الثاني، ميثاق باسم، اصبحا غير ملائمين كبرنامج للحزب واصبحت قرارات الكونفرنس البرنامج المعترف به للحزب. وقد كتب عامر عبدالله في مؤلفاته عن انه هو الذي كتب برنامج الحزب للكونفرنس سواء اكان ذلك حقيقة ام من قبيل التبجح. واعترف انه كتب البرنامج استنادا الى مقررات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. في هذا البرنامج نفذ الحزب جميع مطالب كامل الجادرجي. فلم يعد في البرنامج وجود لقيادة الطبقة العاملة وحلفائها للحركة الثورية في العراق، ولم يعد هناك ذكر لمرحلتي الثورة، المرحلة الاولى، مرحلة الثورة البرجوازية، والمرحلة الثانية، مرحلة الثورة الاشتراكية. ولم يعد هناك ذكر للاهداف البعيدة للطبقة العاملة. وزد على ذلك كله تخلى الحزب حتى عن مفهوم النضال الثوري وضرورة الثورة واعلن ان الطابع الغالب للحركة في ظل نظام الحكم الملكي القائم اصبح طابعا سلميا. ولو ان عبارة "طابع سلمي" استبدلت فيما بعد العدوان الاسرائيلي وانتفاضة الحي الى عبارة "طابع ثوري" وكان البرنامج كله يمكن ان يتغير بتغيير هذه العبارة. واعلن الحزب انه يريد حكومة وطنية "تسمح" للطبقة العاملة بحرية السير قدما نحو الاشتراكية وانه سيساند اية حكومة وطنية حقيقية حتى بدون الاشتراك فيها. وغير ذلك الكثير. كان هذا البرنامج جواز السفر للحزب الى الجبهة الوطنية.
ان قوة حزب الطبقة العاملة هي كونه جزءا منها ومناضلا في صفوفها ومنظما لها ويضم الطليعة الواعية منها. وكلما ابتعد الحزب عن الطبقة العاملة وانفصل عن النضال الفعلي اليومي في صفوفها وعن توجيه نضالاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية تهاوت قوته وتضاءل تأثيره الى ان يصبح صفرا الى اليسار من حيث النضال الثوري للطبقة العاملة. وهذا يدفع الحزب حتما الى التسلق الى اعلى، الى الاستعانة بالطبقات العليا غير الطبقة العاملة. فكان هذا الاتجاه في هذه الفترة من تاريخ الحزب هو التنازل عن مبادئ ومصالح الطبقة العاملة من اجل الدخول في الجبهة المنتظرة. وتحقق له ما اراد.
تكونت الجبهة الوطنية سنة ۱٩٥٧، وكان الحزب عضوا فيها وادخل حزب الاستقلال كما اراد كامل الجادرجي لتوازن اليسار واليمين كما اشترط في حينه على مندوب الحزب. ولكن الحزب دخل هذه الجبهة لا لان البرجوازية لا تستطيع ان تنجز المهام المقررة للجبهة بدون جماهير الطبقة العاملة والكادحين التي يقودها الحزب الشيوعي بل لان الاحزاب البرجوازية والبتي برجوازية تفضلت وتكرمت وتنازلت فقبلت الحزب الشيوعي في الجبهة رغم انه حزب غير شرعي حسب ادعائها. وشمر الحزب عن ساعديه ووضع كل نشاطه وكل ادبياته في خدمة الجبهة وفي خدمة الجبهة وحدها ولم يكن اي شيء يذكر انذاك باهداف ونضالات الحزب خارج نطاق الجبهة وخصوصا في اي نضال تشنه الطبقة العاملة ضد الطبقة البرجوازية او ضد المشاريع الاجنبية او ضد اي حزب من احزاب الجبهة للحصول على بعض مطالبها الاقتصادية كزيادة الاجور مثلا او تقليص يوم العمل او عدم استخدام الاطفال او الترفيه عن المرأة العاملة او غير ذلك. ومع ذلك كان لهذه الجبهة ما يبررها نظرا الى ان الاحزاب المكونة لها كانت لها مصالح في تغيير النظام القائم ولو تغييرا جزئيا مما يخدم مصالح البرجوازية. ففي مرحلة الثورة البرجوازية توجد للبرجوازية صفة اليسارية. وما زلنا الى اليوم نسمع عن عظم هذه الجبهة وعن الانجازات الهائلة التي حققتها ومنها تحقيق ثورة تموز او التأثير عليها. وقد تكون هناك حقا صلة ما بين الجبهة وبين الضباط الاحرار الذين نفذوا الانقلاب العسكري في ثورة تموز.



تعريف اليسار عموما واليسار العراقي خصوصا 5
وجاءت ثورة تموز. حدثت الثورة في ليلة نادرة. فمن المعروف ان من النادر ان كان يجتمع عمالقة الحكم الثلاثة، الملك ونوري السعيد وعبد الاله سوية في بغداد بل كان من المألوف او المقرر ان يكون واحد منهم على الاقل خارج العراق للطوارئ. ففي الصباح كان من المفروض ان يسافر الملك ونوري السعيد لحضور مؤتمر حلف بغداد في انقرة ويبقى عبد الاله مشرفا على امور الدولة. لست مؤرخا وليس لي اطلاع واسع على حركة الضباط الاحرار وعلى نشاطهم وكيفية ادارة امورهم ولكن ما حدث في الثورة يدل على انها نظمت تنظيما دقيقا لم يمنح السلطة فرصة الهجوم المضاد الواسع النطاق من اجل احباط الثورة. والمهم ان الثورة نجحت نجاحا منقطع النظير وربما انجزت ما يتعدى الاهداف التي حددها الضباط الاحرار مقدما بعد قتل الملك. اذ ربما لم يكن بين اهداف الضباط الاحرار الغاء الملكية وتحقيق الجمهورية وكان موت الملك حافزا لتحقيق ذلك. واول منجزات الثورة بالنسبة للحزب الشيوعي كان نبذه من حكومة الثورة. فقد ضمت حكومة الثورة عناصر من جميع الاحزاب المؤلفة للجبهة عدا الحزب الشيوعي العراقي. وكان ذلك برهانا على ان وجود الحزب الشيوعي في الجبهة لم يكن سوى وجود شكلي تفضلت عليه به الاحزاب البرجوازية مكافأة له على تخليه عن مبادئ قاعدته ومصدر قوته وقلبه النابض، الطبقة العاملة.
وجد الحزب الشيوعي في ثورة تموز نفسه امام مشكلة عويصة. كيف يمكن او يعقل ان تقوم ثورة عظيمة كثورة تموز بدون ان يقودها او يشترك هذا الحزب ذو الامجاد التاريخية على الاقل في قيادتها؟ كان لابد من ايجاد وسيلة للبرهنة على ان الحزب ساهم في قيادة الثورة ان لم يكن قائدها الاساسي. ونشطت ادمغة المنظرين والمثقفين في العمل على ايجاد الوسائل التي تؤدي الى ذلك. في سبيل ذلك شوهوا نظرية القيادة عموما، شوهوا مبادئ القيادة، شوهوا مفهوم القيادة، شوهوا متطلبات القيادة، شوهوا كل ما يتعلق بالقيادة لكي يتوصلوا الى ان الحزب ساهم في قيادة ثورة تموز. لابد هنا من الاشارة الى بعض المفاهيم والاحداث التي ارادوا البرهنة بواسطتها على مساهمة الحزب في قيادة ثورة تموز. المثل الاول هو قضية "جندي الثورة المجهول". فقد وجد بعض المنظرين ان ضابطا منحوه القاب البطولة قد زار مقر الحزب في ۱۲ تموز اي حوالى ست وثلاثين ساعة قبل الثورة واخبر قادة الحزب او نوه لهم عن احتمالات الثورة او ربما حتى تحديد موعدها ولو اني اشك في ذلك. لا اريد هنا ان اناقش التفاصيل التي ادلى بها هذا الضابط لقيادة الحزب اولا لاني لا اعرفها وثانيا لانها لا تشكل اهمية بالنسبة لموضوعنا. فقد اتخذ بعض منظري الحزب زيارة هذا الضابط برهانا على مساهمة الحزب في قيادة ثورة تموز. فاذا عرف قادة الحزب شيئا عن احتمال الثورة او عن موعدها او عن اي من تفاصيلها وحتى ان قام قادة الحزب بتوجيه النصائح او الارشادات الى هذا الضابط فان ذلك في عرف منظري الحزب برهان على ان الحزب ساهم في قيادة الثورة. والمثل الثاني هو البيان التحذيري الذي حررته قيادة الحزب لجماهير الحزب بعد ذهاب الضابط المذكور. وقد ورد نص هذا البيان او النداء او سمه ما شئت في ادبيات كثيرة وحتى في عدة اجتماعات هنا في لندن في السنوات الاخيرة قبل احتلال العراق. فقد كان بعض قادة الحزب اثناء الاحتفالات بذكرى الثورة او بذكرى ثورات تموز المجيدة يوردون هذا البيان من اجل البرهنة على ان الحزب ساهم في قيادة الثورة. ولكن تحرير البيان وطبعه قبل اقل من يومين من الثورة لا يمنح الحزب فرصة توزيعه على اعضاء الحزب في ارجاء العراق خلال اربع وعشرين ساعة في تلك الظروف السرية السائدة قبل الثورة. وحتى لو فرضنا ان الحزب استطاع بقدرة قادر ان يوزع هذا البيان في ارجاء العراق خلال يوم واحد فان محتويات هذا البيان لم يكن فيها ما يفيد الثورة او يفيد اعضاء الحزب في القيام بدور في هذه الثورة. وقد حذر البيان من التطرف "اليساري" في حالة قيام الحركة (اذ لم يطلق عليها اسم الثورة في البيان) ومن جملة مطاليب البيان الاساسية تحويل الاتحاد الهاشمي الى اتحاد وطني حقيقي. ولذلك فان الثورة قامت بالذات بما حذر البيان منه اذ الغت الاتحاد الهاشمي والملكية واقامت الجمهورية. ولذلك لو ان الحزب وزع البيان على الجماهير يوم الثورة لقابلته بالاستهجان. لذا لم يتجرأ الحزب على نشر البيان بعد الثورة. ولكن مع ذلك اعتبر منظرو الحزب هذا البيان بالذات برهانا على مساهمة الحزب في قيادة الثورة. والمثل الثالث هو وجود بعض اعضاء الحزب بين الضباط الاحرار. وقد يكون في ذلك شيء من مساهمة الحزب في قيادة الثورة بمقدار دور هؤلاء الاعضاء الشيوعيين من الضباط الاحرار في قيادة الثورة او الاعداد لها. واعتبر بغضهم ان خروج الجماهير الشعبية بعد اعلان بيان الثورة وقيادة الحزب الشيوعي لها برهانا اخر على مساهمة الحزب في قيادة الثورة. وكل الامر في الواقع هو ان الحزب عاجز عن قول الحقيقة وهي ان الثورة كانت ثورة برجوازية وبقيادة برجوازية ولم يكسب الحزب الشيوعي منها ولو باشراك وزير واحد من الحزب في حكومة الثورة اعترافا بوجوده في الجبهة الوطنية. ان قيام الثورة بقيادة البرجوازية ليس اهانة للحزب الشيوعي او للطبقة العاملة. فليس من المعيب ان لا تستطيع الطبقة العاملة قيادة الثورة وتوجيهها نحو تحقيق حكومة العمال والفلاحين الثورية. فهذه مهمة صعبة للغاية ويتطلب تحقيقها نضالا سلميا ومسلحا وثورة مسلحة جماهيرية تقودها الطبقة العاملة كما حدث في الصين وفييتنام مثلا. وقد فشلت ثورات اخرى في اسيا في تحقيق مثل هذه الثورة كما حدث في بورما وسيام وغيرها. انما تقاعس الحزب في تنظيم الطبقة العاملة والكادحين في اتجاه قيادة الثورة البرجوازية بقيادة الطبقة العاملة هو ما عجز عنه الحزب او لم يعمل الحزب في اتجاهه اصلا قبل الثورة.
وعلى اي حال قامت الثورة واعترف الشعب كله بكل طبقاته ومراتبه وبكل طوائفه ومذاهبه وقومياته بان هذا الانقلاب العسكري كان ثورة بخلاف الانقلابات العسكرية التي سبقته. وعبر الشعب بعماله وفلاحيه ومثقفيه وكل فئاته عن ذلك بخروج الملايين الى الشارع فور سماعهم بيان حكومة الثورة الاول. ولم يبدأ النقاش عما اذا كان هذا الانقلاب العسكري مجرد انقلاب عسكري ام ثورة الا بعد سنوات حين بدأ المؤرخون يكتبون ويحللون الثورة على ضوء ما حدث بعدها وعلى نتائجها. فبعد البيان الاول للثورة وتشكيل حكومتها خرج الشعب العراقي عن بكرة ابيه في المدن والارياف وبصورة عفوية غير منظمة احتفاء بهذا الحدث العظيم. وخرج معها بنفس العفوية قادة واعضاء الحزب الشيوعي واندمجوا بالجماهير الهادرة كامواج البحر الهائج. ولم يكن الحزب على استعداد او فهم مسبق لكيفية التصرف في ظروف كهذه لان الثورة فاجأته كما فاجأت هذه الجماهير. اخذ الشيوعيون قادة واعضاء في مشاركة الجماهير في مظاهراتهم وفي استنباط الشعارات التي تعبر عن حماسهم وانفعالاتهم وانبهارهم ولكنها ليست شعارات مدروسة وفقا لمتطلبات الوضع الذي نشأ في الشارع وفي الريف نتيجة للثورة. ليس في هذا المقال مجال لبحث هذه الامور بالتفصيل وقد بحثتها ببعض التفصيل في كتابي عن ثورة تموز.
اضافة الى الجماهير البسيطة وبينها جماهير الحزب ادركت جميع مكونات الجبهة هي الاخرى حقيقة الثورة ونتائجها السياسية الواسعة عدا الحزب الشيوعي وخصوصا قيادته. فرغم اعتراف الحزب الشيوعي بانها كانت ثورة الا انه عاملها من الناحية النظرية والتطبيقية وكأنها مجرد انقلاب عسكري. فقد اصابه الاسى لان عناصر الجبهة تنكرت للجبهة ولم تعد تلتزم بها ودعاها الى مواصلة الجبهة التي انجزت المعجزات. فالحزب لم يفهم عند قيام الجبهة انها تحالف من اجل تحقيق هدف معين تنتهي الجبهة عند بتحقيقه. بل اعتبر الجبهة امرا ابديا كان يجب ان يستمر بعد تحقيق هدفها بتحقيق الثورة واعتبر اطراف الجبهة الاخرين مقصرين في تخليهم عن الجبهة. ورغم ان محمد حديد قائد البرجوازية الابرز في حكومة الثورة اعلن صراحة ان الجبهة قد حققت اهدافها وانتهت، لم يفهم قادة الحزب ذلك وظلوا يجترون شعارات الجبهة. واهم ما دل على جهل الحزب بمعنى الثورة هو انه لم يدرك التحول في التركيب الطبقي للمجتمع العراقي نتيجة للثورة. لم يدرك الحزب ان البرجوازية من طبقة واقعة تحت الاستغلال تحولت الى طبقة حاكمة هي التي تمارس استغلال الطبقة العاملة والكادحين. لم يدرك ان الطبقة البرجوازية التي كانت تشكل جزءا من اليسار العراقي اصبحت هي اليمين الذي لا مصلحة له في تغير النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم. لم يدرك ان تغيير النظام الان اصبح يتطلب الاطاحة بهذه الطبقة التي كانت قبل الثورة طبقة واقعة تحت الاستغلال. لم يفهم الحزب الفرق بين الانقلاب العسكري الذي لا يغير النظام بل يغير اوجهه او ممثليه وبين الثورة التي تغير النظام الذي كان قائما قبل الثورة الى نظام اصبح قائما بعد الثورة. وطبيعي كان على الحزب الشيوعي الحقيقي ان يكون اول من يدرك كل هذا وان يحدد شعاره الاستراتيجي وسياساته التكتيكية طبقا لذلك لان من المفروض انه هو الذي يحتوي برنامجه على وجود المرحلتين والتحول من المرحلة الاولى الى المرحلة الثانية. ولم يكن هذا شيئا غريبا او غير معروف في سياسة الرفيق فهد وفي الميثاق الذي اقر في مؤتمر حزبي. ولم يكن ذلك غريبا خصوصا على القادة الذين كانوا في السجن لان التثقيف السجني كان يؤكد على موضوع المرحلتين وطبيعة الثورة البرجوازية وموضوع التحول الى المرحلة الثانية بعد الثورة. ولكن الحزب الشيوعي القائم، لانه ليس الحزب الشيوعي الحقيقي، لانه لم يعد حزب الطبقة العاملة، لانه لم يعد حزب فهد، لم يدرك ولم يفهم هذا التحول الجوهري، لم يفهم هذا الفرق بين الانقلاب العسكري وبين الثورة وبذلك وأد ثورة تموز صباح ثورة تموز وما زال هذا الحزب الذي يحلو للبعض ان يسميه حزب فهد على جهله لهذا التحول حتى يومنا هذا.
لم يلاحظ الحزب تغيرا في الثورة اكبر من تحول الملكية الى جمهورية فرفع شعار صيانة الجمهورية وكأنه الشعار الاستراتيجي له في فترة ما بعد الثورة. وشعار صيانة الجمهورية ليس له اية علاقة بالشعار الاستراتيجي وان شعار صيانة الجمهورية يجب ان يجيب على السؤال الاساسي: لمن تصان الجمهورية؟ وقد برهن التاريخ ان الجمهورية ليست علاجا اجتماعيا وسياسيا اساسيا اذ ما زالت الجمهورية قائمة حتى اليوم وقد بقيت الجمهورية لم تتحول الى ملكية لا في عهد عبد الكريم قاسم ولا في عهد حكومات العارفين ولا في عهد صدام. فطبيعة النظام تتحدد بالفئة او الطبقة الحاكمة التي تسيطر عليه وتديره وليس بشكل الحكم الذي تتخذه. واننا نجد ان انظمة الحكم الجمهورية في التاريخ ليست اقل امبريالية من انظمة الحكم الملكية. فحتى نظام هتلر وموسوليني وقرانكو لم تكن ملكية بل كانت جمهورية. ونرى اليوم افظع اشكال الانظمة الفاشية في التاريخ، نظام الولايات المتحدة الاميركية التي تشن حربا عالمية هدفها الاستيلاء على العالم كله اقتصاديا وسياسيا وعسكريا هي الاخرى نظام جمهوري وليس نظاما ملكيا. كان هذا الجهل لطبيعة ثورة تموز وما يزال السبب الاساسي في تخبط الحزب الشيوعي وعدم توصله الى الاهداف الحقيقية التي كان يجب رفعها والسير بموجبها بعد ثورة تموز وحتى يومنا هذا.
ابتدع منظرو الحزب الشيوعي بعد الثورة مفهوما جديدا للقيادة. فابتكروا نوعين من القيادة اسمياها قيادة الدولة وقيادة الشارع ومنحوا الحزب الشيوعي مهمة قيادة الشارع. وقيادة الشارع تعني في الحقيقة قيادة اليسار، قيادة جماهير الطبقة العاملة واحلافها من اجل تغيير النظام القائم ولا معنى لقيادة الشارع غير ذلك. ولكن الحزب الشيوعي في الواقع قاد الجماهير المنفعلة المتحمسة نتيجة للثورة لمساندة النظام القائم لا لتغييره. فقد كان الشعار هو صيانة الجمهورية، جمهورية الطبقة الراسمالية، والهتافات باسم الزعيم الاوحد عبد الكريم قاسم وما رافق ذلك من شعارات كان الحزب يضعها صباح كل يوم حسب الظروف بالضبط كما يخرج التاجر والكاسب والحرفي على باب الله لكسب رزق ذلك اليوم.
من المعروف ان اهم مهام الثورة البرجوازية هو الاصلاح الزراعي. ونعرف وفقا لما علمنا معلما الطبقة العاملة لينين وستالين ان الطبقات البرجوازية في المستعمرات واشباه المستعمرات لم تعد قادرة على تحقيق مهام الثورة البرجوازية تحقيقا جذريا في عصر الامبريالية ومنها الاصلاح الزراعي. ولم يدرك الحزب ان عليه ان يدفع الجماهير الفلاحية المستعدة للنضال بعد الثورة الى الضغط على حكومة الثورة من الاسفل من اجل تحقيق الاصلاح الزراعي لمصلحة الفلاحين الحقيقية اذا لم تستطع تحقيق الاصلاح الزراعي من الاسفل من قبل الفلاحين انفسهم وانما اكتفى بالتحمس لقانون الاصلاح الزراعي الذي وضعته الطبقة الراسمالية الحاكمة الجديدة وفقا لمصالحها ووفقا لما تتطلبه مصالحها من تثبيت البرجوازية الريفية وابقاء شيء من الاقطاع وعدم انهائه واسناده والاستعانة به لابقاء النظام. وقام الحزب بتوجيه جميع اعضائه في الريف للعمل بدلا من الحكومة على تنفيذ الاصلاح الزراعي اي حول اعضاءه الى موظفين متطوعين لدى الحكومة بدلا من ان يقف الى جانب الفلاحين في المطالبة بتحقيق الاصلاح الزراعي بصورة افضل وصورة اسرع وقيادة جماهير الفلاحين بتوسيع وتعجيل تطبيق الاصلاح الزراعي ومنح المزيد من الاراضي للفلاحين. كان من نتيجة انشغال اعضاء الحزب في الريف في تطبيق الاصلاح الزراعي وجمع الاقساط التي كان على الفلاح ان يدفعها للدولة لقاء الارض التي منحت له ان اخذ الفلاح ينظر الى اعضاء الحزب وكأنهم ممثلو الحكومة وليسوا اعضاء الحزب الذي من المفروض ان يقف الى جانبهم في نضالاتهم القادمة. سكتت الحكومة عن سلوك الحزب بهذه الطريقة لفترة ما ثم هجمت على هؤلاء الذين قاموا بخدمتها طيلة تلك الفترة واتهمتهم بالتصرف باموال الحكومة وقد التقيت بعدد من هؤلاء في سجن العمارة اعتقلتهم الحكومة بتهمة سرقة اموال الدولة.
اهتم الحزب قبل كل شيء بالمظاهر التي تدل على انه يقوم بقيادة الشارع. وقد تجلى ذلك في جميع المجالات. في الجمعيات الفلاحية والنقابات العمالية والمقاومة الشعبية وفي نفوذ الحزب في الجيش. وقد افسحت الحكومة الجديدة في البداية للحزب مجالا واسعا في مجال المناصب الحكومية وخصوصا الاعلام، اي الاذاعة والتلفيزيون. لانها كانت بحاجة الى خدمات الحزب ولم تكن تخشاه لان الحزب لم يعلن عن شعارات تشكل خطرا او ازعاجا للنظام القائم. فكان شعار الحزب انه يجب ان لا يسلم القيادة، اي قيادة الشارع، وكأن القيادة هي ملكية ورثها عن اجداده وعليه ان يحافظ عليها كما يحافظ الاغنياء على الثروات التي يرثونها من ابائهم. فتولى قيادة الجمعيات الفلاحية. وعين كاظم فرهود رئيسا لهذه الجمعيات وعين عضوا من اعضائه رئيسا لكل جمعية فلاحية. لم يكن كاظم فرهود فلاحا بل كان قبل سجنه مضمدا في مستشفى الديوانية. وكان في السجن حتى ثورة تموز حيث اطلق سراحه نتيجة للثورة. وكان من المظاهر الهامة للحزب ان يظهر كاظم فرهود بمظهر متميز لانه رئيس الجمعيات الفلاحية فالبسوه افخر زي اقطاعي. لماذا يجب ان يلبس رئيس الفلاحين الكادحين الزي الاقطاعي؟ لا شك ان هذا الزي كان عبئا ثقيلا على كاظم فرهود نفسه. فالجمعيات الفلاحية نشأت من الاعلى وليس من صفوف الفلاحين كما ينبغي ان تنشأ. وعين كاظم فرهود رئيسا للجمعيات الفلاحية لا لان الفلاحين عرفوه واعتبروه جزءا منهم وقائدا لهم بل لان الحزب عينه رئيسا للجمعيات الفلاحية وفتح له مقرا في بغداد لا علاقة حقيقية له بالفلاحين وفي نضالهم ونشاطهم اليومي.
وكان على الحزب ان لا يسلم قيادة النقابات فقام بتعيين عضو من اعضائه رئيسا لكل نقابة بحيث اصبحت النقابات واتحادها كلها شكليا ومن حيث المظهر بقيادة الحزب الشيوعي. وهذا جعل المناضل العمالي ارا خاجادور الذي احبه واحترمه خصوصا لموقفه الحالي من الاحتلال يتفاخر في احدى مقالاته بانه هو الذي اسس نقابة عمال النفط. فلماذا يقوم ارا خاجادور، الذي لم يكن عاملا في النقابة بتأسيس نقابة عمال النفط؟ هل تؤسس النقابات من قبل العمال ام من قبل شخص ينصبه الحزب رئيسا للنقابة؟ وما معنى ان يقوم ارا خاجادور بتأسيس نقابة عمال النفط؟ يعني انه يؤجر مكتبا ويضع عليه لافتة يكتب عليها نقابة عمال النفط. ولكن عمال النفط في العراق يبلغون عشرات الالوف ومنتشرون في جميع انحاء العراق فكيف يستطيع ارا ان يؤسس لهم نقابة في بغداد؟ هل تتأسس النقابات من الاعلى ام من الاسفل؟ هل يقوم العمال بتأسيس نقاباتهم والنضال في سبيل تطويرها وتوسيعها لتشمل عمليا كل عمال النفط وانتخاب قياداتهم من بين اعضائهم النشطين والمخلصين الذين يثبتون تفانيهم وتضحياتهم في سبيل النقابة ام يقوم الحزب بتعيين شخص لا علاقة له بالعمال ولا بمشاكلهم ومصالحهم وقضاياهم ليكون رئيسا للنقابة؟ وهل تتحقق القيادة عن طريق النضال المثابر ام عن طريق التعيين من الاعلى؟ ان تعيين اتحاد النقابات من قبل الحزب بحجة عدم تسليم القيادة جعل النقابات نقابات حزبية وليست نقابات عمالية حقيقية. فالنقابة التي يقوم شخص مثل ارا خاجادور بتأسيسها لا تكون سوى نقابة واقفة على راسها. فآرا يستطيع ان يفتح مكتبا في بغداد ويكتب عليه لافتة "نقابة عمال النفط". ولكن هذه النقابة لا تكون نقابة حقيقية لعمال النفط. فالنقابة هي نقابة عمال يقوم العمال بانشائها والعمل فيها وتطويرها واختيار قياداتها. فمن هو ارا بالنسبة لالاف عمال النفط المنتشرين في ارجاء العراق؟ وقد تجلى ذلك باوضح اشكاله حين نال الحزب السبعة او الثمانية والتسعين بالمائة من اصوات العمال في الاتخابات التي جرت بنفس طريقة انتخابات صدام ومبارك والقذافي والاسد ولكن بعد بضعة ايام حلت الحكومة اتحاد النقابات وصادرت ممتلكاته والقت القبض على جميع اعضائه فلم يحرك العمال ساكنا من اجل الاحتجاج على حل الاتحاد والنضال من اجل اعادته واطلاق سراح القادة الذين انتخبوهم بهذا الاجماع. ان النقابات التي يقوم بتأسيسها شخص مهما كانت قدراته النضالية وتاريخه العمالي لا تكون الا نقابة مكتوبة على الورق وليست نقابة عمال حقيقية.
وشوه مفهوم المقاومة الشعبية. فالمقاومة الشعبية هي شعبية وليست حكومية. ولكن المقاومة التي سميت مقاومة شعبية كانت تدريبا حكوميا يقوم نائب عريف من الجيش العراقي بتدريبهم بعد ان تسلم لهم بنادق لهذا الغرض يعيدونها الى المشاجب الحكومية بعد انتهاء التدريب. وانتهت هذه المقاومة الشعبية بمجرد رفض الحكومة مواصلة تدريبها. واذا استطعنا ان نسمي هذا التنظيم مقاومة شعبية فان تدريب الفتوة الذي كان سائدا في المدارس الثانوية قبل حركة رشيد عالي هو ايضا مقاومة شعبية.
وشوه مفهوم نفوذ الحزب في الجيش. فقد اقتصر هذا النفوذ على وجود ضباط شيوعيين او قريبين من الحزب في الجيش وليس خلق النفوذ بين الجنود البسطاء الذين يكونون الجيش واغلبهم من الفلاحين الفقراء. وقد برهن على ذلك ما سمي اسبوع الجيش في حينه حين كان اعضاء من الحزب الشيوعي يلقون المحاضرات على قطعات من الجيش تحت انظار ضباطه ليعلموا الجيش ويثقفوه بواجب صيانة الجمهورية وتمجيد الزعيم الاوحد.
باختصار فان انعزال الحزب الشيوعي عن ارضه الحقيقية، عن الطبقة العاملة والفلاحين، كان لابد ان يدفعه الى الاعلى. وكان لهذا الاندفاع الى الاعلى ما يبرره كما ذكرنا في جبهة ما قبل تموز. ولكن هذا الاندفاع الى الاعلى لم يعد له ما يبرره فيما بعد ثورة تموز لان هذا الاندفاع اصبح تعاونا مع الطبقة الحاكمة، تعاونا مع البرجوازية التي اصبحت تمثل اليمين وليست جزءا من اليسار كما كانت قبل الثورة. اصبح هم الحزب كسب ود الزعيم عبد الكريم ونظام الحكم الجديد والاعتماد على مساعدته عن طريق مساندته بدون قيد او شرط. اصبح خدع وتضليل الطبقة العاملة وحرفها عن نضالها الحقيقي، النضال اليساري، النضال من اجل تغيير النظام القائم، اي النضال من اجل الشعار الاستراتيجي الجديد الذي حتمه انتصار ثورة تموز، شعار الثورة الاشتراكية والاطاحة بنظام الحكم البرجوازي. لم يكن هذا الاندفاع الى الاعلى واضحا وجليا في فترة حكم عبد الكريم قاسم لان هذه الحكومة انجزت العديد من المهام التي تتطلبها مصلحتها في تثبيت حكمها الجديد وهي مهام لها صفات وطنية وبعضها مناهض للامبريالية ولسيطرتها. ولكنها كانت اكثر وضوحا في الفترات التالية لحكومة عبد الكريم قاسم.
هنا لابد من الاشارة الى ما سمي بالمد الاحمر خصوصا في منتصف سنة ۱٩٥٩ بعد القضاء على انقلاب الشواف. يكتب الكثير من المعلقين عن هذه الفترة بان الحزب الشيوعي كان قادرا على الاستيلاء على السلطة وينتقدونه لانه لم يفعل. فهل كان حقا قادرا على الاستيلاء على السلطة في هذه الفترة؟ لا يستطيع اي حزب ان يستولي على السلطة عن طريق اسقاطها وحده او بقواه الخاصة. ان القوى التي تستطيع الاستيلاء على السلطة في اي مجتمع راسمالي كالمجتمع العراقي في هذه الفترة هي قوى اليسار وخصوصا منها اقصى قوى اليسار الطبقة العاملة وحلفاؤها. ولكي يستولي حزب على السلطة عليه ان ينظم ويقود ويدفع هذه القوى في طريق الاستيلاء على السلطة ولم يكن للحزب اي اتجاه من هذا القبيل لا في برنامجه ولا في سياسته. ولكي تستولي طبقة على السلطة يتحتم ان تكون هذه السلطة في اسوأ اوضاعها السياسية اذ لا يمكن اسقاط سلطة لها تأييد جماهيري واسع مثل حكومة عبد الكريم قاسم في تلك الفترة. ويبني اكثر المعلقين والمؤرخين رأيهم على اساس الشعار الذي انتشر ليلة اول ايار في ذلك المهرجان المليوني الذي دام من المساء الى الصباح. فقد انتشر شعار "عاش زعيمي، عبد الكريمي، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي". وهذا الشعار نفسه ينفي كون الحزب يريد ان يستولي على السلطة. فالشعار يطالب بالاشتراك في الحكم مع الزعيم عبد الكريم وليس بدونه. ان الشعار يستجدي من الزعيم عبد الكريم اشراك الحزب الشيوعي معه في السلطة. وللتاريخ اذكر قصة وقعت لي تلك الليلة. كنت طبعا من المتفرجين على هذا المهرجان الكبير على الرصيف وكان معي صديق شاب لا علاقة له بالشيوعية ولكنه يعطف على الحركة وهو اليوم تاجر كبير هنا في لندن. التقيت في هذه الاثناء مع احد رفاقنا في السجن وهو قريب جدا من القيادة فصافحني منتشيا بهذا المهرجان الكبير. وسألني ما رأيك في هذا الشعار؟ اننا سنجبره على الاستجابة لنا والا سنسقطه. فقلت له "سلملي على الجماعة وقل لهم الينطح راسه بصخرة غرونة تطير". فغضب طبعا وهرب وقد اندهش صديقي من هذا القول ومن الجرأة على قوله. ان الحديث عن الاستيلاء على السلطة بدون السيطرة على قيادة اليسار وخصوصا اقصى اليسار، الطبقة العاملة وحلفائها، وهم وحديث لا معنى له. وسنتحدث ادناه عن فكرة الاستيلاء على السلطة التي كانت اكثر بروزا في السنوات التالية. ولكن من الجدير بالذكر هنا ان الاحزاب الشيوعية او الماركسية التي تهدف حقا الى الاستيلاء على السلطة لا ترفع شعار استيلاء الحزب على السلطة وانما ترفع شعار استيلاء الطبقة العاملة وحلفائها على السلطة. اذ ان الطبقة العاملة هي التي تستولي على السلطة وهي التي تختار الحزب الذي يقودها في هذا الاستيلاء ممثلا لها في هذه السلطة.



#حسقيل_قوجمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعريف اليسار عموما واليسار العراقي خصوصا 3
- تعريف اليسار عموما واليسار العراقي خصوصا 2
- تعريف اليسار عموما واليسار العراقي خصوصا 1
- علاقة المقاومة اللبنانية بالماركسية
- الحزب الماركسي الحقيقي هو حزب الطبقة العاملة
- هل مهمة حزب العمال ان يدافع عن مصالح الطبقة العاملة؟
- التعددية ليست شعارا عماليا
- حول بداية ونهاية الثورة البرجوازية
- عودة الى موضوع كيف يصبح الانسان ماركسيا
- حول مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي للمؤتمر الثامن
- مشاركة في الحوار حول نداء الماركسيين والاحزاب الماركسية
- أتعزيز لليونيفيل ام مسمار جحا؟
- التمييز ضد الطائفة اليهودية في العراق
- الاخ العزيز ابو نبراس العراقي
- ماذا وراء تعزيز اليونيفيل
- مبروك اولمرت – نجحت بامتياز
- من تدمير اسرائيلي الى احتلال اميركي
- هل اسرائيل تحارب الفلسطينيين وتدمر لبنان ام الولايات المتحدة ...
- التعايش السلمي بين الشعوب
- مصالحة مع صيادي الخنازير البرية


المزيد.....




- قُتل في طريقه للمنزل.. الشرطة الأمريكية تبحث عن مشتبه به في ...
- جدل بعد حديث أكاديمي إماراتي عن -انهيار بالخدمات- بسبب -منخف ...
- غالانت: نصف قادة حزب الله الميدانيين تمت تصفيتهم والفترة الق ...
- الدفاع الروسية في حصاد اليوم: تدمير قاذفة HIMARS وتحييد أكثر ...
- الكونغرس يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا بقيمة 95 مليار ...
- روغوف: كييف قد تستخدم قوات العمليات الخاصة للاستيلاء على محط ...
- لوكاشينكو ينتقد كل رؤساء أوكرانيا التي باتت ساحة يتم فيها تح ...
- ممثل حماس يلتقى السفير الروسي في لبنان: الاحتلال لم يحقق أيا ...
- هجوم حاد من وزير دفاع إسرائيلي سابق ضد مصر
- لماذا غاب المغرب وموريتانيا عن القمة المغاربية الثلاثية في ت ...


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حسقيل قوجمان - تعريف اليسار عموما واليسار العراقي خصوصا 4