أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - فيصل القاسم - فضائيات أكثر ومشاهدة أقل















المزيد.....

فضائيات أكثر ومشاهدة أقل


فيصل القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 1761 - 2006 / 12 / 11 - 07:08
المحور: الصحافة والاعلام
    


ما أسهل أن تشتري ربطة عنق من بوتيك صغير، فعدد الربطات المعروضة للبيع محدود، وبإمكانك أن تختار المناسب لك بيسر وسهولة، دون وجع رأس، أو تعب بال، أو لف أو دوران، أو حيرة وتيه ! لكن ما أصعب أن يكون المعروض أمامك هائلاً جداً، بحيث تحار، وتدوخ، وتعيى، قبل أن تختار ربطة عنق، هذا إذا لم تخرج من المحل خالي الوفاض، لاعناً الساعة التي ولجت فيها ذلك المخزن مترامي الأطراف، ومتعدد المعروضات.

وقد حصل لي ذلك عدة مرات في المحلات العالمية الكبيرة، فعندما تهمّ بدخول المحل تكون في سعادة غامرة لأنك ستجد أمامك من ربطات العنق "ما لذ وطاب". لكن ما أن تبدأ تعاين الربطات المعروضة أمامك بطريقة تسحر الأبصار، وتشده النواظر، حتى تنسى أنك قادم لشراء ربطات عنق، فتأخذك الألوان والموديلات إلى عالم آخر. وبعد أن تستعيد وعيك الشرائي، وتهمّ بالاختيار، تبدأ المعضلة الحقيقية، وتدخل في متاهة لها أول، وليس لها آخر. ثم تجد نفسك تنتقل من "بسطة" عرض إلى أخرى، وأنت في حيرة من أمرك.

وإذا كان حظك طيباً، ولم تكن من مواليد برج الجوزاء المعروفين بترددهم المفرط، وحيرتهم الشديدة، فيمكن عندئذ أن تشتري ربطة واحدة، وتحسب ذلك نصراً مبيناً، على اعتبار أنك استطعت أن تستجمع قواك الذوقية، وتختار كرافات جميلة، ومناسبة، من بين ألوف الكرافتات الباهرة بألوانها، وحريرها الإيطالي، والفرنسي، شديد النعومة والملمس. أما إذا كنت من برج الجوزاء، كحالي البائس، فلا شك أنك ستخسر المعركة مع ربطات العنق ذات الألوان الغريبة والعجيبة، وتخرج من المحل بخـُفـّي حنين، لتستقل أقرب قطار أنفاق إلى حيثما جئت، على أمل أن تهدأ قليلاً، وتستجمع قواك، وتحسم موقفك من هذه الربطة أو تلك، لعلك تخرج من المحل في المرة القادمة حاملاً مُرادك.

وكما كان شراء الملابس والحاجيات سهلاً وميسراً في الماضي، نظراً لمحدودية المعروض، كذلك كانت مشاهدة التلفزيون، فما كان أمام المشاهدين العرب سوى قنواتهم المحلية. وإذا كانوا محظوظين جداً، ربما استطاعوا التقاط التلفزيون المحلي للدولة المجاورة، إذا كانت المنطقة التي يعيشون فيها محاذية للحدود معها، كما كان يحصل عندنا في مدينة السويداء السورية، حيث كان باستطاعتنا أيضاً التقاط بث التلفزيون الأردني، لنستمتع بمسلسلاته البدوية وبرامج مسابقاته.

لقد كانت أيام زمان غنية فعلاً بمشاهدة التلفزيون، وحتى أخبار التلفزيونات العربية كانت تحظى بقسط كبير من المشاهدة، رغم أنها كانت عبارة عن سرد ممل لقائمة الذين استقبلهم سيادته، أو جلالته، أو سعادته البارحة، وودعهم في المطار في اليوم التالي. لقد كانت أخبار "استقبل وودع" مشاهدة على نطاق واسع رغم خوائها من أي قيمة خبرية.

وحدث ولا حرج عن المسلسلات التي كنا نتابعها على أحر من الجمر، لنعرف ماذا سيكون مصير "دليلة والزيبق"، أو "راس غليص"، أو فيما إذا كانت "جواهر بنت الحميدي" ستتزوج محبوبها. ولا أعتقد أننا كنا نضيّع حلقة من أي مسلسل. لقد كنا نلتهم المواد التلفزيونية ونهضمها جيداً، كما لو كانت وجبات شرقية عامرة. أما اليوم فإننا نستهلك المادة التلفزيونية كما نستهلك الوجبات السريعة "الفاست فود" دون الاستمتاع بها، أو حتى هضمها جيداً.

إنه لمن سخرية القدر أن تجعلنا العولمة الإعلامية والسماوات المفتوحة أقل مشاهدة للتلفزيون، وأقل تركيزاً، وهضماً، واستفادة، واستيعاباً للمعروض التلفزيوني، رغم أنها تزعم أنها جاءت لإشباعنا إعلامياًً. فهذا الريموت كونترول نقمة، بقدر ما هو نعمة، فبسببه لا يستطيع المرء أن يستقر على قناة واحدة لأكثر من بضعة دقائق، هذا إذا لم يستطلع عشرين قناة خلال ثوان معدودة، فيضيع بين "حانا ومانا"، كما كنت أضيع أنا وأتوه بين ربطات عنق (هارودز) الألفية دون أن اشتري واحدة، إلا بعد شق النفس. وكأن المطلوب من المشاهدين في عصر الفضائيات الجنوني أن يتوهوا ويضيعوا بين قناة وأخرى، ويخرجوا من المولد بلا حمص.

إننا نعيش في عصر اللامشاهدة أو التشتيت والتمييع الإعلامي الرهيب فعلاً، بسبب هذا الكم الهائل من الفضائيات العربية والأجنبية، لهذا أصبحت البرامج التلفزيونية تــُقدم على طريقة الوجبات السريعة، فقلما تجد برنامجاً في التلفزيونات الغربية يزيد على نصف ساعة موزعة على عدة فقرات لا تزيد الواحدة منها على بضع دقائق، على اعتبار أن معدل المشاهدة لفقرة تلفزيونية بعينها غدا قليلاً جداً. وكم ضحكت قبل أيام عندما شاهدت مذيعاً بريطانياً كبيراً يستضيف مفكراً إسلامياً كبيراً وعلمانية ملحدة وحاخامة بريطانية ووزيرة لمناقشة دور الدين في الحياة. وكنت أعتقد أن النقاش سيستمر لساعات نظراً لدسامة الموضوع وثقل الضيوف وكثرتهم، وإذا بالمذيع يشكر ضيوفه بعد أربع دقائق فقط لينفضّ السامر. ويجب أن نحسد أنفسنا في التلفزيونات العربية لأن أقل برنامج عندنا يستغرق ساعة، ومع ذلك نتذمر من ضيق الوقت ومداهمته لنا.

لقد جعلت العولمة من هذا الجهاز الرهيب المسمى بالتلفزيون وسيلة لتضييع الوقت والتشتيت والتوهان المبرمج، بدلاً من أن يكون وسيلة للتنوير والتثقيف والارتقاء بالمجتمعات. لهذا فإن بعض المثقفين والمفكرين لا يشاهد التلفزيون،إلا قليلاً، لأنه، برأيهم، مضيعة للوقت. وقد أخبرني بعض الأصدقاء الكبار بأنهم لا يمتلكون صحوناً لاقطة (ستالايت) في منازلهم، وهم يفضلون قضاء وقتهم في القراءة والمطالعة على مشاهدة التلفزيون.

هذا ويزداد الطين بلة في شهر رمضان المبارك، حيث تغرقنا الفضائيات العربية بعشرات المسلسلات والبرامج الترفيهية، كما لو كان هذا الشهر للهو والمتعة. ومن كثرة المعروض ربما لا يستطيع الكثيرون التركيز على مسلسل أو برنامج واحد، إلا ما ندر. لهذا يتردد البعض أحياناً في طرح مسلسلاته الجديدة في شهر رمضان بسبب الفائض في المعروض، وقلة التركيز في المشاهدة.

وتذكرّني مشاهدة التلفزيون المقطعة الأوصال، التي لا تروي، ولا تشبع، في زماننا المتعولم، تذكرّني بمأدبة عشاء هائلة أقامها لي مسؤول كبير ذات مرة. وأذكر أنني جلست حول طاولة تمتد لأمتار وأمتار متعرجة، بحيث لا يمكنك رؤية الجالسين على أطرافها لبعدهم عنك. وقد كانت المائدة عامرة بمئات الأنواع من الأطعمة الباردة والساخنة، بحيث لا تعرف بماذا تبدأ وبماذا تتحلى. إلا أن النادل خفف علي المهمة، وراح يسكب لي مزيجاً متنوعاً من الطعام. لكن المشكلة أنه كان يسحب الصحن من أمامي بعد أن أتناول منه ملعقة يتيمة، ليأتي لي بطبق جديد مليء بأصناف جديدة من الطعام. وأتذكر أنه غيّر لي الصحن أكثر من عشر مرات. وكانت النتيجة أنني خرجت من المأدبة جائعاً، لأن ابن الحلال لم يدعني أتناول أكثر من ملعقة من كل صحن، هذا إذا لم يسحب الصحن من أمامي قبل أن تصله ملعقتي، على اعتبار أن الطبق يجب أن يتغير أمام الضيف بعد لحظات لعله لم يستسغ الطعام. وهكذا أمر مشاهدة التلفزيون في هذا الزمن، فقد تشاهد مائة قناة، وكأنك لم تشاهد شيئاً، لتخرج خاوياً.

إن مشاهدتنا للتلفزة في عصر العولمة قد تكون أيضاً أشبه بتبضعنا في السوبرماركات الحديثة، فكم دخلنا السوبرماركت لشراء قارورة حليب، وخرجنا بسلة مملوءة بعشرين نوعاً من المشتريات، كما كان قد حذرنا الروائي البريطاني الكبير جورج أورويل في إحدى رواياته قبل أكثر من سبعين عاماً. وكم كنا نهمّ بمشاهدة برنامج معين ثم انتهينا نشاهد،بلا تركيز، عشرين برنامجاً أخرى لم نكن نفكر بمشاهدتها، لكن المعروض اضطرنا أو أغرانا بمتابعتها عشوائياً، ولا شعورياً، كما أغرتنا معروضات السوبرماركت، واشتريناها بلا وعي، رغم عدم حاجتنا لها.

سقى الله أيام "النوفتيه" التي كنا نستمتع بشراء الملابس منها، رغم قلتها، ونستمتع بلبسها أيما استمتاع، وسقى الله أيام دكان "عمي حامد و حمود" الذي كان يبيعنا ما نريد، لا ما يريد هو، كما تفعل سوبرماركات هذه الأيام الخبيثة، وسقى الله محلات الفلافل التي كانت تريحنا من دوخة اختيار الطعام. صحيح أن موائدنا هذه الأيام تعج بالطيبات، لكننا نلتهمها بسرعة جنونية كواجب يومي إجباري أكثر منها كمتعة. آه كم كنا نستمتع بسندويشات فلافل (شروف) وكأس لبن العيران. لقد كانت ألذ من ألذ كافيار. وسقى الله أيام التلفزيون الأسود والأبيض، الذي كان يمتعنا أكثر من كل هذه الامبراطوريات التلفزيونية المتكاثرة كالفئران.




#فيصل_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما أحوج لبنان والعراق إلى ديكتاتور
- خُرافة الحياد الإعلامي
- -التحالف الإيراني – الأمريكي-
- الإصلاح هو الاسم الكوديّ للتخريب والتفتيت
- غَورَبة الطفل العربي
- لماذا فشل الإعلام الأمريكي الموجه للعرب؟
- لماذا عادت أمريكا للاستثمار في الاستبداد والإرهاب؟
- الوصفة الإسرائيلية لإبادة البشرية
- هل رفيق الحريري أهم من لبنان؟
- كيف تنصرون دينكم إذا لم تنصروا أنفسكم؟
- اللهم نجّنا من نار الديمقراطية
- لا تلوموا بابا الفاتيكان
- الإرهاب الإعلامي
- اطلبوا الكرامة ولو في فنزويلا
- هل سندعو يوماً لليهود بالنصر على المذاهب الإسلامية الأخرى؟
- ثقافة الهزيمة إلى مزبلة التاريخ
- عندما يتآمر الثور الأحمر على نفسه!
- هل نحن أولاد شوارع؟
- طوبى للغوغائيين والمغامرين
- وهم إسرائيل المتبدد


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - فيصل القاسم - فضائيات أكثر ومشاهدة أقل