أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ثقافة الحوار والاختلاف - ملف 9-12- 2006 بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن - سعدون محسن ضمد - الاختلاف والدين.. كيف يمكن إجراء مصالحة بين الدين والاختلاف؟















المزيد.....



الاختلاف والدين.. كيف يمكن إجراء مصالحة بين الدين والاختلاف؟


سعدون محسن ضمد

الحوار المتمدن-العدد: 1759 - 2006 / 12 / 9 - 07:41
المحور: ثقافة الحوار والاختلاف - ملف 9-12- 2006 بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن
    


أولا: ما هو الاختلاف؟
«الاختلاف اصطلاحاً هو: الاعتراف بالآخر والقبول بالحوار وبالتعدد، شرط أن لا يكون الاختلاف للاختلاف وحسب، وإنما للنهوض بقضية خلافية لكي تتكامل من كل وجوهها، وهو في كل ذلك يرتكز فضلاً عن العقل والعلم، على شرط أخلاقي يرتقي بالإنسان إلى احترام كيانه وكيان الآخرين من خلال التعزيز للإنساني.
إذن يمكن أن نخلص بحدود من هذا التعريف:
1. الاعتراف بالآخرية، وهذا الاعتراف يحقق الندية وعدم الاحتقار.
2. قبول الحوار، وأن يتسم هذا الحوار بالتكافؤ، أما حين يفرض طرف فرضاً مسبقاً أن رأيه سلطة، وأن رأي الآخر مجرد رأي، فإنه يلغي الحوار من الأساس.
3. التعددية، وفيها يتعين التفاوض مع مختلف عناصر المغايرة، وهذا يفترض الاعتراف بأن لكل قضية خلافية آراء وأوجه لا يمكن أن يكون أي منها مطلقاً، والتعدد يمكن أن نقاربه بنسبية الأشياء، بمعنى أن ما أملكه لا يمكن أن يكون مطلقاً بأي حال من الأحوال.
إن الاختلاف يتجاوز أن يكون ترفاً..»(1)
ثانياً: ما هو الدين؟
إن مفهوم الدين الذي سنعنى به، هو فقط ما يقابل ويساوي (مطلق الإيمان المطلق)، أي أن كل إيمان لا نهائي بقضية ما هو دين. فكل آيديولوجيا أو فلسفة أو أطروحة إصلاحية، يتم التعامل معها فكرياً على أنها تمتلك من الحقيقة رصيداً واقعياً مطلقاً، هي دين. بغض النظر عن كون هذا المستوى من الإيمان بهذه المسميات ينطلق عن مديات غيبية أو ينطوي على ممارسات شعائرية، أو يكون مصحوباً بتقنينات أخلاقية أو سلوكية، أم لا يكون كذلك. على هذا الأساس تكون الشيوعية بالنسبة لـ(ستالين) مثلاً دين، والعنصرية الألمانية بالنسبة لـ(هتلر) دين أيضاً، وعلى نفس هذا الأساس لا يكون الإسلام بالنسبة لبعض معتنقيه ديناً، في حال أن هؤلاء المعتنقين لم يتعاملوا مع الحقائق التي ينطلق منها أو يبشر بها على أنها حقائق مطلقة، خاصة وهم يأخذون بنظر الاعتبار كون هذه الحقائق لا يمكن لها أن تكون أصيلة مئة بالمئة، بعد كل هذا الامتداد التاريخي، وكل ذلك العبث الفكري، المقصود وغير المقصود، وأنها حتماً كانت وما زالت عرضة لشتى أنواع الإسقاطات الذاتية من قبل جملة المتعاطين معها.
إننا إذ نقوم بعملية فرز لهذا المفهوم، ونحن نتعاطى مع موضوعة الاختلاف، إنما نفعل ذلك من أجل تجنب تحميل الأديان ـ بمعناها العام المباشر ـ كل ما هو ليس بديني، أي تخليص الإلهي من كل ما هو إنساني.إذ أن الدين وفق التحديد السالف، يتقاطع مع الحوار، وهو بالتالي يرفض الاختلاف رفضاً تاماً، وإن كان يدعي القبول به. بينما أن الإلهي لا يمكن له أن يفعل ذلك، خاصة وأنه هو خالق الاختلاف وأصله. ويمكن لنا أن نستند في تجنيب الإلهي لقمع الاختلاف على النص القرآني الذي يقول: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصام لها والله سميع عليم) [البقرة 256]. فهذا النص يحمي الاختلاف من جهة أنه يرفض إكراه الآخر على عقيدة ما.. مهما كانت، ورفضه لهذا الشكل من الإكراه معناه احتضان للمختلف وقبول به. وهو فوق ذلك لا يطالب من أجل مقبولية المختلف في المجتمع وحصانته عن القمع والإكراه، بغير الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، والطاغوت بمعناه العام هو الظلم وتجنب جادة العدالة والإنسانية، إذن فالنص القرآني يطالب الجميع بهذين الشرطين، (الكفر بالطاغوت والإيمان بالله) ويجعل من الإنسان المتوافر عليهما مستمسكاً بالعروة الوثقى، وبالتالي حائزاً على حصانة تكفيه مؤونة الإكراه على غيرهما، خاصة بعد تبين الرشد من الغي، والحقيقة أن ورود هذه العلة لعدم الإكراه، يبين أن الإنسان من حقه أن يختار العقيدة التي يريدها ويتبنى الرأي الذي يحب ما دام راشداً، أي قادراً على تلمس طريق النجاة. ويعزز ما نذهب إليه العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان حيث يقول: "الإكراه هو الإجبار والحمل على الفعل من غير رضا، [......] وفي قوله تعالى: لا إكراه في الدين، نفى الدين الإجباري، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا، فقوله: لا إكراه في الدين، أن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين فقد أنتج حكما دينيا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وان كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: قد تبين الرشد من الغي، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها، وهو نهي متكئ على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبين الرشد من الغي، وهو في مقام التعليل فإن الإكراه والإجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور ورداءة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات أخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه وأتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في إتباعه، والغي في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لان يكره أحد أحدا على الدين. وهذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدد من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الإسلام دين السيف واستدلوا عليه: بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين. القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم وبسط الدين بالقوة والإكراه، بل لإحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال، فالإشكال ناشئ عن عدم التدبر"(2). طبعاً لا يخفى أن هناك الكثير من الأحكام الإسلامية التي يظهر منها التقاطع التام مع الاختلاف، وربما كانت كذلك غير أننا لن نتطرق لمناقشتها، لأننا نريد أن نفصل بوضوح ما بين الدين باعتباره معطى غيبي محدد، وبين اعتباره رؤيا يراها هذه المذهب أو ذاك، أو تلك الطائفة أو غيرها، إذ قد تكون الأحكام المتقاطعة مع الحق بالاختلاف ناشئة عن القراءات غير الدقيقة.
إذن فالإشكالية الحقيقية تكمن في تعامل المسلم مع معطيات الإسلام على أنها مطلقة من جهة مطابقتها لواقع نزولها من فم الغيب. إذ أن جميع المذاهب الإسلامية تعتقد ـ كل منها على حدة ـ بأن الإسلام المطابق تماماً لإسلام الرسول(ص) هو ذلك الذي تعتقد به، إن المسلمين كلهم يؤمنون بذلك ولا ينتابهم أي مستوى من الشك مع أنهم يرون واقع الاختلاف بينهم. ونحن معهم نرى هول ذلك الاختلاف، ولو أننا تنـزلنا ولم نقل بتناقض هذه المذاهب مع بعضها، فإننا على كل حال لا نستطيع أن نتجاهل كونها تتعارض فيما بينها، بل التعارض صارخ بين الصوفية، والسلفية، وهو كذلك بين معظم المذاهب الأخرى. إن واقع الاختلاف هذا يملي على أي فكر موضوعي حقيقة مفادها أن ثمة أمرين لا ثالث لهما:
الأول: أن تكون جميع هذه المذاهب مرضيّة عند الله بمستوى واحد، أو بتفاوت بسيط، وهذا ما لا يقول به أيٌّ من هذه المذاهب.
والثاني: أن يكون أحد هذه المذاهب كذلك وجميع ما عداه باطل، وهنا يقفز للذهن سؤال غاية في الأهمية، مفاده؛ كيف تأتى للمذاهب الإسلامية ـ كل منها على حدة ـ أن تقفز على احتمال كونها على الباطل فتتجاهله، مع أن درجة هذا الاحتمال كبيرة جداً، وتؤمن ببساطة بالغة باحتمال كونها على الحق، مع أن درجة هذا الاحتمال ضعيفة جداً؟ إذ أن أي عقل موضوعي يستطيع أن يحسب هذا الأمر ببساطة، فلو كان الإسلام منقسماً لسبعين مذهب، فإن احتمال كون المذهب الجعفري ـ مثلاً ـ هو الحق، هو احتمال واحد من سبعين احتمال، بينما أن احتمال كونه على الباطل هو تسعة وستون احتمالاً من مجموع سبعين(3). ومع أن هذا الموضوع غاية في الأهمية غير أننا لا نجد أن أياً من المذاهب الإسلامية يشك ولو شكاً بسيطاً باحتمال كونه على الحق، وهو لذلك يبلغ الغاية بتقديس أفكاره واحتقار أفكار الآخرين.
ما نريد أن نقوله باختصار، هو أن الاعتقاد بأن الدين ـ أي دين سماوي ـ بوصفه الشريعة التي نزلت من عند الله كما هي في الواقع، هو الموجود عند هذا الفريق أو ذاك، اعتقاد مبالغ فيه، بل هو وهمي، إنما الموجود من الدين هو فقط ما يؤمن به المتدينون فقط وفقط، وهو حتماً مغاير لذلك الذي نزل على أي من الأنبياء، على الأقل بدليل الاختلاف آنف الذكر. ولذلك نستطيع أن نقول أن التقديس الذي نُغرِق به معتقداتنا، لا يشير أبداً لشرعيتها، ومقدار ما بها من صدق، وإلا لكانت جميع الأديان والعقائد كذلك، إذ ليس ثمة من لا يقدس معتقده. إذن فقد وصلنا لبؤرة الإشكالية، إشكالية التقديس، التي تقول بأن الإطلاق بالتقديس الذي يعامل به جميع الناس معتقداتهم لا يشير لغير ذاتيتهم ومقدار ما بهم من قصر نظر وضعف بتحري الدقة. إذ إن هذا التقديس كفعل إدراكي هو ما يحول بيننا وبين الحوار وقبول الآخر، وليس الدين بمعناه المتداول.

ثالثاً: كيف يمكن بناء فكر ديني يقبل الاختلاف؟
إن عملية بناء بيئة مناسبة للاختلاف يستطيع فيها المختلف أن يكون كما يريد من دون خوف أو تردد، لا بد أن تقوم على أقل تقدير وكما أرى على محاور ثلاثة، يمكن من خلالها رفع موانع قبول المختلف فينا، الموانع التي حالت دائماً بيننا وبين التصالح معه، ومن ثم منحه صك الأمان الذي يحميه من نقمتنا في حال أنه أراد أن يكون مختلفاً عنا وينعم بالسلام والاطمئنان بيننا. وفي الحقيقة أن هذه المحاور تحاول أن تمس جذر الاضطهاد الفكري، الذي هو الكيفية التي يبني على وفقها الإنسان فكره العقائدي، فالإنسان بصورة عامة يعتمد عند تلقيه للمعطيات من الواقع الخارجي على آلية يقوم من خلالها بفحص الأفكار فحصاً أولياً يقوم من خلاله بالمقاربة بينها وبين متبنياته وأفكاره الأخرى، من أجل أن يصنفها إلى مقبولة يمكن لها أن تدخل في نظامه المعرفي، وغير مقبولة يتم لفظها بصورة أو بأخرى. وهذه الآلية في حقيقتها توفر للإنسان ولفكره تحديداً الحصانة الضرورية التي تمنعه من أن يكون مجرد ريشة في مهب رياح الأفكار والمعتقدات، بل هي تمنحه الكثير من الطمأنينة والاستقرار على وتيرة محددة من الإيمان. إلا أن المشكلة بهذا الصدد هي أن مقدار الحصانة والدقة اللتان تتمتع بهما هذه الآلية مرهونة بدقة نفس الإنسان وموضوعيته، وبالتالي فإن الأعم الأغلب من الناس لا يحتوون في بنيتهم الإدراكية إلا على مرشحات ضعيفة وغير فعالة بالمستوى المطلوب. هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الأفكار والمدارك الأساسية التي تَصْنَع منها هذه الآلية إطارها المرجعي في التقييم، هي في حقيقة أمرها أفكار مستوردة من الخارج، الذي هو المجتمع، وغالباً ما تكون فترة استيراد هذه الأفكار الأساسية هي فترة الطفولة والصبا، التي يكون فيها الإنسان ضعيفاً ـ فكرياً ـ إزاء الخارج، ما يجعله عرضة لعبث المجتمع الذي يقوم بتحويل بنيته الفكرية إلى مجرد نسخة مكررة عن بنيته هو، وهذا هو السبب الكامن وراء إيمان كل مجتمع بعقيدة معينة وتسالم غالبية أفراده عليها، إذ أنه يقوم بنقلها لأولئك الأفراد، ولا أعتقد أننا يمكن أن نجد مجتمع يؤمن كل فرد من أفراده بعقيدة مختلفة. خلاصة القول أن الفرد يبني بنيته الفكرية وفق آلية غير دقيقة، يكون للآخرين فيها عبث كثير، والمربك بالأمر أن المجتمع لا يستطيع أن يرغم أفراده على تقبل الأفكار والمسلمات التي يؤمن بها، إلا بعد أن يلبسها ثوباً ضبابياً من القدسية، ومن ثم فهو يقوم بتعبئة ذهنيات أفراده بجملة من المقدسات التي لا يمكن المناقشة بها، وهكذا تتكون بنية الفرد الذهنية من جملة مقدسات، ومن طبيعة المقدس أنه لا يقبل بالشريك، أي هو لا يرضى بالمختلف، إذ ليس هناك بَعْدَ المقدسِ إلا المشوه الباطل المؤدي إلى الظلال. ومن هنا تنشأ المشكلة فينا، فنحن لا نستطيع أن نقبل بالمختلف إلا على الصعيد الوهمي، أما على الصعيد الحقيقي فإننا نعتبره ضالاً مضلاً، أو هو مُضَلَّل ومغرَّر به في أحسن التقادير، فما دمنا نقدس محتويات فكرنا، فنحن مرغمين على نفي التقديس والاحترام عن أفكار غيرنا، وبالتالي نفي الاحترام عنهم أيضاً.
إذن فالمحاور الثلاثة التي نريد اعتمادها في عملية بناء شخصية مجتمعية تقبل المختلف، تتلخص بالعمل على هدم وهم التقديس فينا، ومن ثم محاولة الاقتراب من متبنيات ومدارك الآخر من أجل العمل على تفهمها واحترامها، وأخيراً ومن خلال هاتين العمليتين، نخلص إلى تشييد بنية فكرية جديدة واقعية حقيقية ثابتة على إيمانها من دون حاجة للتقديس المزيف الذي يجعلها ترفض عقائد الآخرين. ومن هنا فالمحاور هي: (محور الهدم، محور إعادة التشكيل، محور البناء).

المحور الأول: محور الهدم
(هدم الذات، الأنا المقدس للخروج إلى الآخر)
1. لا بد من الانتقال من ذاتية الوصاية على الآخرين، إلى موضوعية التساوي معهم.
2. حتماً يجب علينا الاستعاضة عن المطلق بالنسبي من الأفكار من أجل أن تكتسب أفكار الغير المشروعية التي تستحقها.
3. حتى نكون قريبين من الجميع يتحتم علينا أن نستبدل ما هو خيالي بما هو واقعي.
الدوران حول الذات من أجل بنائها، هو في حقيقته فعل فكري ضروري من أجل ترسيخ معالم الشخصية الفردية في طريق بناء الكل المجتمعي. ولا يخفى أننا ونحن نمارس عملية بناء ذواتنا، عن طريق تفاعلنا مع المجتمع تفاعلاً سلوكياً فكرياً، فإننا نقوم بترسيخ الكثير من المدركات أو المتبنيات التي تشكل ما يسمى بالإطار المرجعي الفردي، الذي سيشكل في نهاية المطاف المرجعية الكاملة لكل عمليات التعاطي الإنساني، على الصعيدين الفردي والاجتماعي. والمخيف في هذه العملية الضرورية أنها تحول ما هو نسبي من الحقائق إلى مطلق، بل تذهب إلى أبعد من ذلك وهي تنـزع إلى دفن المدركات التي نستقبلها من الواقع الخارجي خلال عملية البناء تلك إلى داخل مستويات اللاشعور، مبعدة إياها عن أي عملية نقد أو إعادة تقييم، ما يجعلنا ننطلق عن بنى ذهنية غير قابلة للنقاش (مطلقة)، وبالتالي وشيئاً فشيئاً يتحول النسبي من الأفكار إلى مطلق، وتكسب الشخصية بعدها المقدس بالنسبة لذاتها، ما يدفعها إما لقمع الآخر أو للوصاية عليه في أحس الأحوال.
نحن في الحقيقة، وما دمنا ندور في دوامة الذات المقدسة، التي تتمتع بحصانة كاملة عن النقد، فإننا لا نستطيع أن نتماس مع الآخر، ولا نطيق الولوج إلى حقيقة ما هو عليه، لأننا ببساطة محاطون بأسوار الذات، الذات التي نؤمن بها، ونبحث في الآخر عن النسخة الثانية منها، وهذا ما يفسر اقتصار الحوار المسالم في مجتمعاتنا على بيئة التشابه من دون بيئة الاختلاف، حيث نذهب إلى أبعد الحدود ونحن نمجد ذواتنا ونسبِّح بحمدها، نعم نحن نتقن مثل هذا الحوار التمجيدي، حتى إذا شاركنا المختلف، وحاول الدخول إلى عالمنا، تحول الحوار إلى سجال ثم إلى قتال. وكيف لا يحدث ذلك ونحن نعتقد بأن ما نحن عليه هو عين الحقيقة، وأن ما لا يتشابه معنا هو عين الانحراف والزيف. حتى إذا كان الغير المختلف، يشترك معنا بنفس هذا المرض، أي أنه يحاورنا من داخل ذاته المقدسة، صار الحوار عبارة عن دوران في حلقات معزولة بعضها عن البعض الآخر. وصار كل من المتحاورين يسمع نفسه ويحدثها فقط.
إذن فنحن بحاجة أولاً لكسر الذات، للخروج عن كل ما هو مقدس فيها، لنكران كل ما تم التسالم عليه في عالمها من دون نقد وفحص دقيقين، طبعاً في سياق عملية يكون الهدف منها إعادة تقييم لهذه القدسية وتلك المسلمات. وتكون عملية الخروج عن الذات ضرورية جداً في هذه المرحلة بالذات لأن عملية الاعتماد عليها في تقييم نفسها لن تكون إلا عملية عودة مملة لنفس دوامة التقديس السابقة. ولو أننا نجحنا بتفعيل هذا المضمون لاستطعنا أن نرى ما نحن عليه بالنسبة للآخر، ولحصلنا على صورتنا الأخرى، بعين النقد التي لا نستطيع أن نتطلع لأنفسنا من خلالها. فإذا فعلنا ذلك تعرفنا لذاتنا أولاً ومن ثم للآخر بشكل أكمل واستطعنا أن نقبل المختلف بصورة أكثر جدية، خاصة إذا اجتهدنا خلال عملية هجر الذات بمحاولة التنقيب بكل تأريخها الطويل، محاولة البحث عن كل ما من شأنه أن يكون مؤثراً من جهة وهو من جهة أخرى يكون خفياً وغير معلن. لأن مدافن اللاشعور تحتفظ لوحدها بكامل الموانع التي تحول بيننا وبين الحوار الموضوعي. ونحن إذا فعلنا ذلك نكون حقاً قد أنجزنا خطوة (من الذات) التي هي شرط أولى في سياق بناء ذات مسالمة قادرة على التفاهم مع الغير. أما بالنسبة لخطوة (إلى الآخر) التي هي شرط متمم للمحور الأول من محاور هذا البناء، فهي تعني وتساوي محاولة التماس مع المختلف، الدخول إلى عامله ومعرفته كما هو، لا كما كانت تصوره لنا ذواتنا المغلقة على نفسها، فقط لأننا نرى الآخرين من خلال مرشحات ذاتية غير موضوعية ولا دقيقة، ولهذا السبب فأن هذا الآخر يشكو دائماً من سوء فهمنا له، بالضبط كما أننا نشكو من سوء فهمه لنا عندما ينظر إلينا من خلال مرشحاته الذاتية. على هذا الأساس فإن تتميم عملية التجرد من قيود الذات التي منها المرشحات .غير الدقيقة لا بد أن تكون بعملية الدخول إلى الآخر ومحاولة التعرف عليه بلا مرشحات ومحاولة التماهي معه والاقتناع بجدواه. وكلما كانت محاولاتنا في الدخول إلى الآخر صادقة وجادة، كان تعرفنا عليه موضوعياً أكثر، ومن ثم صارت فرص قبولنا له أكبر.
إن عملية الرحيل من الذات إلى الآخر من أجل رؤية الواقع بمنظاره الخاص، عملية عسيرة حقاً، وهي أيضاً غير ممكنة إلا لمن يمتلك القدرة على محبة المختلف، أو على الأقل القبول به، غير أنها ضرورية جداً من أجل بناء الإنسان الذي يقبل بالاختلاف. وأول ما يجب فعله بهذا الخصوص، هو البحث عن الملامح الجميلة في الوجه المختلف، من أجل أن تكون عملية الدخول ممكنة، وحتماً ليس هناك وجه يخلو من ملامح جمال. بعد ذلك لا بد من محاولة البحث عن مبررات الاختلاف، لا عن سبل الإئتلاف، لأن البحث عن الإئتلاف لن يصب أبداً في صالح عملية بناء المختلف. على هذا الأساس يجب علينا أن نبرر للمختلف اختلافه، نبحث له عن العذر الذي يجعل من بقائه على المغايرة أمراً ضرورياً بالنسبة لنا ككيان اجتماعي إنساني، فإذا فعلنا ذلك، مكنا المختلف من الندية، وخلصناه من التبعية. ما يجعله أقدر على ممارسة حقه بالاختلاف في إطار الاشتراك في السعي للنضوج الإنساني.

المحور الثاني: محور إعادة التشكيل
(العودة من الآخر إلى الدين)
1. هل يمكن لنا محاورة الآخر بجدية وموضوعية ونحن نؤمن بضلاله وكفره؟
2. هل يمكن لنا أن نمنحه الحق الكامل بالاختيار ونحن نرى أننا أوصياء عليه وبالتالي فيجب علينا أن ننوب عنه في بناء عقله؟
3. هل سيكون للآخر الفسحة الكافية بيننا ونحن نؤمن بأننا شعب الله المختار؟
أعود للتذكير بأن المقصود من مفهوم الدين هنا، هو عملية التصديق المطلقة بالأفكار والآيديولوجيات. فنحن حتماً عندما نعتقد بأن فكرة ما هي مطلقة من جهة صدقها ومطابقتها للواقع، فإننا نقوم بعملية شطب على كل ما عداها من الأفكار المقابلة لها، ومن هنا تكون عملية حوارنا مع أصحاب تلك الأفكار المقابلة عسيرة جداً بل غير ممكنة. كيف ونحن نؤمن سلفاً بعدم جدوى ما يفكرون به، و ما يحاوروننا من أجله. على هذا الأساس فإننا وبعد أن ندخل لفكر الآخر ونتعرف عليه من داخله وليس من داخلنا، ومن ثم نقتنع حتماً بجدوى الكثير من مضامينه، فإننا لا بد سنكون بحاجة للعودة إلى الدين الذي نؤمن به، إلى الفكر الذي أطلقناه من كل قيود النقد والتقويم، من أجل أن نعمل على إعادة بنائه من جديد، بشكل لا يعود فيه هو سيد الحقيقة وفارسها الأوحد، بل بشكل آخر يقبل فيه أن يتشارك ولو جزئياً مع الآخرين حق مطابقة الواقع... حق القدسية. ونحن عندما نفعل ذلك فإننا نكون قد حققنا أمرين ضروريين من اجل نجاح عملية إعادة التقييم، الأول منهما أننا خلصنا من ضغط الذات المقدِسة، الذي يمثل ضغط المجتمع، وإصراره على أوهامه، ومن ثمّ نكون أقدر على تحري الحقيقة بدقة وموضوعية وبلا إسقاطات ذاتية.
والثاني: أننا نكون محملين بتجربة الآخرين المختلفين، ما يزيدنا قدرة على الرؤية الأوضح.
إن العودة من الآخر إلى الدين ستكشف لنا بالضرورة إلى أي مدى كنا متسرعين خلال عمليات حكمنا على الواقع المغاير، وستبين لنا أن الكثير من المعايير التي اتكلنا عليها خلال تقييمنا للآخر كانت في حقيقتها معايير وهمية ذاتية، تشكلت في ذواتنا ومن أجل ذواتنا حصراً، وسنتعرف على دين جديد ورب جديد وذات جديدة، دين لا يحمل الإنسان أكثر مما يطيق، ورب ليس لديه شعب مختار، ولا يحاكم إنساناً بالاستناد إلى رغبات إنسان آخر، وبالرجوع لضيق أفقه، وذات لا تعود ترضى بالدخول لنفس القمقم الضيق الذي يملي عليها أنها لوحدها في الوجود وأن ما عداها هو العدم المحض، ذات لا تحتكر حق الاختيار لها وحدها وتمنع الآخرين من ممارسة ما خلقوا من أجل ممارسته. إن الدين الذي سنحصل عليه بعد الرجوع من الآخر سيعلمنا بأن الله يحاسب الآخر على أساس إخلاصه لما يؤمن به هو، وليس على أساس إخلاصه لما نؤمن به نحن، باعتبار أن ما نؤمن به لا يؤمن به المختلف، وأن الله لا يمكن أن يحاسب ذلك المختلف على التقصير بأشياء لا يؤمن بجدوى ممارستها، فإذا وصلنا إلى هذه الرؤيا التي تجعل الله أكثر عدلاً، من ذي قبل، وجدنا أن الجنة أوسع، من أن تكون محجوزة لنا وحدنا فقط. ومن ثم لا يعود مبرراً الاعتقاد بأن هذا الكم الهائل من البشر وعلى مر التاريخ لم يخلقوا إلا من أجل الخلود بجهنم، ليس لشيء إلا لأنهم نشأوا في بيئات مختلفة، ما جعلهم يتبنون رؤى مختلفة عن هذه التي نتبناها نحن.
إن اعتقاد (المسلم الشيعي أو السني أو المسيحي الكاثوليكي أو اليزيدي أو الهندوسي أو البوذي... الخ) بأنه وطائفته هم شعب الله المختار، وهم وحدهم الأصفياء من أجل نيل السعادة الأبدية، هو في حقيقته اعتقاد خاوي ووهمي إلى أبعد الحدود، وهو يكشف بشكل جلي عن مقدار التقديس الذي يحيط به كل من هؤلاء معتقداته وأفكاره. إن كل من هؤلاء يقصي الآخرين عن الحق بالاختيار، ويمنعهم بصورة غير مباشرة من أن يكونوا بالشكل الذي يريدون، وإن كلاً من هؤلاء بحاجة إلى إعادة بناء لفكره وعقله من أجل أن يكون قادراً على قبول الآخر المختلف، ليس قبولاً ظاهرياً وهمياً، بل قبولاً حقيقياً صادقاً.

المحور الثالث: محور البناء
(من الدين إلى الذات، محاولة في استثمار الدين لبناء ذات جديدة)
1. الإيمان بأن أدواتنا في التلقي عاجزة عن الوقوع على الحقيقة كما هي بالواقع، يبعدنا حتماً عن الإطلاق بالأحكام.
2. إيماننا بكوننا بشر كباقي البشر، يحتم علينا عدم إلغاء حق الآخر بأن يكون مصيباً للحق ما يمكننا من تدارك تكفير الآخر بالتبرير له.
إذا استطعنا أن ننجز المحور الأول والثاني بصورة سليمة، صرنا مهيئين لإعادة تشكيل البنى التحتية لذواتنا، من أجل أن تكون أقدر على رؤية الواقع كما هو، واقع التعدد والمغايرة والتباين، الواقع الذي يقول أن الاختلاف آلية ضرورية من أجل بناء الإنسان وتقويم المجتمع، وأنها المحرك الحقيقي للسيرورة الإنسانية التاريخية الاجتماعية. وبعد عملية إعادة التشكيل هذه سنكون حتماً أكثر إيماناً بذواتنا، لأننا سنكون أكثر إيماناً بغيرنا. إن الدين الجديد الذي نكون قد حصلنا عليه، الدين النسبي، سيكون أقدر على قبول الآخر من جهة، ومن جهة أخرى سيكون واقعياً أكثر منه خيالياً، لأنه يعلم بأن معارف الإنسان مهما كانت دقيقة فإنها لابد أن تستند من جهة مطابقتها للواقع إلى أدواته التي يستخدمها في التلقي، ومدى قابلية هذه الأدوات على إصابة الحقيقة، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن للكثير من العقائد التي نكسبها دائماً مستوى قطعياً من التصديق، هي في حقيقتها جاءت عن طريق أدوات لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تورث التصديق القطعي، فقط لأنها أدوات احتمالية تنتج الظن وليست قطعية تورث اليقين، غير أن عقل الإنسان، وخاصة الإنسان الذي يغلب عليه الطابع الذاتي على الموضوعي في التقييم، ينزع دائماً إلى ملء الفراغ الهائل بين الظن والقطع بعاطفته التي يضغط عليها الفكر الجمعي ويحملها على القبول بخياراته دائماً. إن الذات التي نبشر بها بعد الوصول إلى المحور الثالث، هي ذات تمتلك زمام أمرها بيدها، ولا تعطي للآخر حق النيابة عنها في صياغة رؤيتها للواقع والحياة، إنها ذات لا تعامل الآخر بقدسية، وهي أيضاً لا تعامله باحتقار وفوقية، ذات معتدلة، وما دامت كذلك فهي تسير على الحياد، ما يؤهلها لأن تحتوي على مرشحات معرفية دقيقة وموضوعية، إذ أنها لا تعطي لأي مصدر معرفي مستوى غير واقعي من القدسية، وبالتالي فهي لا تقبل بأفكار دون أخرى، ولا تتسامح مع مصدر معرفي دون آخر، بل هي يقظة دائماً ومع جميع المصادر، ما يجعلها متسامية عن الذاتية، ومترفعة عن الإسقاطات العاطفية المزيفة، فقط لأنها كفَّت عن الانطلاق من إرادة الإطلاق، كفت عن أن تكون مقدسة أو سيدة متسلطة. ذات أقرت بضعفها وحاجتها لعون الآخر ومشاركته إياها في تلمس طريق الخلاص.

مثال على الاختلاف غير الأصيل
(إذا لم نهدم ذاتنا المقدسة فإنها لن تتركنا لنعيش التساوي مع المختلف)
من أجل أن يكون المغزى من وراء المحاور التي تقدمت، أراني مأخوذاً لإيراد نص لعبد الرحمن الكواكبي، كمثال على من يحاول القبول بالاختلاف ونفي التفرد والاستبداد، من دون أن يكون مهيئاً ذاتياً، لمثل هذه العملية، ولذلك نرى كيف أنه يهدم من حيث أنه يريد أن يبني، ويفشل من ذات الجهة التي يحسب أنه ينجح بها. أنا أورد الكواكبي هنا من أجل أن يكون مثالاً للفكر الذي ينظر من خلال ذاته، ويتطلع إلى الآخر من علياء القدسية الوهمية التي موه بها قصوره ونقصه، الكواكبي هنا مثال للذات المغلقة على نفسها، التي تعتقد أنها تريد قبول الآخر، غير أنها في حقيقة أمرها ترفضه وتتمنى أن تتسيد عليه، ولذلك فهي عندما تريد أن تبرر لقبول الآخر وتدعم المشاركة معه في تقرير المصير، تقع في شراك عدم أصالة دعواها تلك، فهي من جهة خفية تسهب في التبرير للإنفراد والتفرد، ورفض المختلف. الكواكبي هنا لم يخرج عن ذاته، لم يحاكمها من الخارج، ولم يستطع بالتالي أن يعرض معتقداته للنقد الموضوعي، وهو لهذا السبب قد يلتفت لخطيئة فيحاول إصلاحها، إلا أن الكثير من الخطايا الأخرى تفوته وتغيب عنه: يقول الكواكبي متحدثاً عن(الاستبداد الاجتماعي المحمي بقلاع الاستبداد السياسي) "فمن ذلك أن البشر المقدر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون نصفهم كَلٌ على النصف الآخر، ويشكل أكثرية هذا النصف نساء. ومَنْ النساء؟ النساء هن النوع الذي عرف مقامه في الطبيعة بأنه هو الحافظ لبقاء الجنس وأنه يكفي للألف منه ملقح واحد وأن باقي الذكور يساقون للمخاطر والمشاق أو يستحقون ما يستحقه ذكر النحل وبهذا النظر اقتسمن النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى وتحكمن بسن قانون عام به جعلن نصيبهن هين الأشغال بدعوى الضعف وجعلن نوعهن مطلوباً عزيزاً بإيهام العفة.
وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن محمدتين في الرجال، وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان. وعلى هذا القانون يربون البنات والبنين ولهذا سماهم بعض الأخلاقيين بالنصف المضر.
وقال أن الضرر [يقصد الذي يقع على الرجال من النساء] يترقى مع الحضارة والمدنية وعلى نسبة الترقي المضاعف، فالبدوية تسلب الرجل نصف ثمرة أعماله والحضرية تسلبه اثنتين من ثلاث، والمدنية تسلب خمس من ست.، وهكذا تترقى بنت العواصم"(4).
ولم أقرأ في حياتي نصاً بلغ هذا المستوى من المصادرة، ولا يمكن أن يشفع له إلا اعتقادي أنه جاء نتيجة الحصار الذي كان يحسه الكتاب العرب المسلمون من دعوى مساواة المرأة بالرجل، الأمر الذي يبرر مثل هذه المصادرة، كفعل بائس لتقرير العكس، هرباً أو عجزاً عن تبرير حالة المرأة المسلمة تبريراً لائقاً بالإسلام والمسلمين.
هذا هو معنى أننا نقدس معتقداتنا تقديساً وهمياً خيالياً بعيداً عن الموضوعية، ما يجعل دفاعنا عنها بائساً جداً ومليئاً باللف والدوران، الكواكبي هنا يريد الدفاع عن ما يعتقد بأنه مقدس، إنه يخلط بين العرف والشرع، فصورة الرجل والمرأة الشرعية عنده اختلطت بالعرفية، نتيجة لضغط المجتمع، ما جعله يقع بالدفاع عن الخطأ والتبرير للانحراف. ولهذا نرى أن المؤلف حاول إخراج الرجل مظلوماً مضطهداً من دعوى المساواة فهو يقول في ذلك(وأن باقي الذكور يساقون للمخاطر والمشاق أو يستحقون ما يستحقه ذكر النحل) وفاته أن الذي يسوق الذكور للموت هم الذكور وليس النساء، وأن المتضرر الأكثر من موت الذكور هن النساء، أمهات وبنات وحليلات.
ثم وبمحاولة أخرى يورد النص التالي(وبهذا النظر اقتسمن النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى وتحكمن بسن قانون عام به جعلن نصيبهن هين الأشغال بدعوى الضعف وجعلن نوعهن مطلوباً عزيزاً بإيهام العفة... إن الضرر يترقى مع الحضارة والمدنية وعلى نسبة الترقي المضاعف، فالبدوية تسلب الرجل نصف ثمرة أعماله والحضرية تسلبه اثنتين من ثلاث، والمدنية تسلب خمس من ست، وهكذا تترقى بنت العواصم). والعجيب في الأمر أن المؤلف يغض النظر عن أن الذي يقنن طبيعة الأعمال النسائية هم الرجال، فكلما كان عمل المرأة يدر ربحاً مادياً أو معنوياً على الرجل سمح لها به، والعكس صحيح، وعليه فالنساء لم يقتسمن مع الرجال العمل بل قبلن مضطرات بما فرض عليهن، ولهذا السبب فإن المرأة الإنكليزية وقبل قيام الثورة الصناعية كان الرجل يلبسها ثوب العفة فكانت حقاً مثالاً للشرف بالنسبة لنساء عموم أوربا، أما بعد قيام الثورة الصناعية، وعندما أخذت المرأة تمثل للرجل الرأسمالي اليد العاملة الرخيصة، راح ينظر لضرورة خروجها من البيت ومزاحمتها الرجل في المعمل، فمن أين تأتى للكواكبي أن يحكم بهذا الحكم، إن لم يكن من الاستبداد بالرأي والمصادرة المتعسفة.
وسأستمر في نقد هذا النص، لا لشيء إلا طلباً لبيان الخفاء الذي يمكن أن يتلبس به الاستبداد إلى الدرجة التي يقفز بها من كتاب يحاول تعليم الناس طرق الخلاص منه، فنعود إلى الفقرة الآتية (وتحكمن بسن قانون عام) والسؤال هو كيف وأين ومتى تم للنساء سن مثل هذا القانون؟ هل في الفترات التي كن يعتبرن في أدبيات الناس سيئة وشر يستحسن الخلاص منه، أم في أمكنة الوأد التي يدفنَّ فيها هرباً من عارهن المحتمل، هل سنَّت النساء مثل هذه القوانين عندما كُنَّ يُسْبَين في الغزوات بخلاف الرجال، أم عندما كان يحرم عليهن الحق بتقرير المصير.
وهل النساء هن اللواتي جعلن نوعهن مطلوباً عزيزاً بإيهام العفة؟
وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن محمدتين في الرجال وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان. وعلى هذا القانون يربون البنات والبنين ولهذا سماهم بعض الأخلاقيين بالنصف المضر؟
وقال الكواكبي أيضاً أن الضرر يترقى مع الحضارة والمدنية وعلى نسبة الترقي المضاعف، فالبدوية تسلب الرجل نصف ثمرة أعماله والحضرية تسلبه اثنتين من ثلاث، والمدنية تسلب خمس من ست، وهكذا تترقى بنت العواصم).
لم يستطع الكواكبي أن لا يكون ذاتياً، لأنه لم يستطع أن يهدم المقدس فيه، لم يخرج ليرى نفسه بعين غيره، وهو بعد هذا وذاك لم يكلف نفسه عناء سماع الآخر المختلف، وقد تكون المرأة عنده غير قادرة على أن تكون ذات لها القدرة على الرؤيا المستقلة، ما جعله يكف نفسه عناء سماعها، والإنصات لخيارها، ودفاعها عن هذا الخيار. إن الذات التي يمثلها الكواكبي هي في حقيقة أمرها ذات لا تقبل الاختلاف إلا على صعيد النظرية، أما بمستوى التطبيق فهي بعيدة كل البعد عنه، إنها بمنأى عن سماع الغير، وهي مشغولة جداً بتلمس محاسنها والتملي بجمالها الفتان، إنها حقاً نرجسية هذه الذات ولم تعد تناسب حاضرنا الذي نعيشه الآن، الحاضر الذي باغتنا من خلاله الآخر بما لا قبل لنا به، الحاضر الذي صفعنا به الآخر على خدنا المقدس، ودار حولنا من أجل أن يكمل ركلنا من الخلف. في هذا الحاضر لم يعد مجدياً لنا أن ندفن رؤوسنا برمال الخيال.

ـــــــــــــــــــ
(1) صالح زامل: البحث عن تأصيل للمختلف، مجلة النبأ، العدد 76، نيسان 2005.
(2) تفسير الميزان السيد الطباطبائي ج 2 ص 341.
(3) حتى لو كان هذا الاحتمال ـ بالنسبة لكل مذهب على حدة ـ معززاً بالأدلة والبراهين، فإن الاحتمال يجب أن لا يقفز لأكثر من الثلث مثلاً، بعد ملاحظة أن جميع المذاهب تعزز احتمال كونها على الحق بالأدلة.
(4) طبائع الاستبداد، عبد الرحمن الكواكبي.



#سعدون_محسن_ضمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم كان الرب أنثى
- حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الثالثة وال ...
- حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الثانية
- حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الأولى
- جريمة أنني أفكر/ أفكر؛ أنني مجرم
- كذبة كبيرة أسمها.... العراق
- وداعاً شهاب الفضلي.. ما دمت هناك وأنا هنا
- الإسقاط الرمزي لشكل الأعضاء التناسلية.. دراسة في عدوانية الذ ...
- ولمية عفاريت
- مدفع الشرق الأوسط الكبير... الدرع الأميركي بمواجهة القذيفة ا ...
- تحضُّر العجرفة... ضريبة أننا لا نريد الاعتراف بالعجز
- تجريم الإسلام.. دعوة للتنقيب بحثاً عن كل جذور العنف في العرا ...
- تهافت المنهج في العلوم الإنسانية
- إفلاس الانثروبولوجيا
- الثابت والمتحكم في جدل الإنسان والدين
- المجد لحضارة المقابر... حيث الموتى وحدهم يتكلمون*
- العقل الخالي... تخبط السياسة الأمريكية بين نموذجي خاتمي ونجا ...


المزيد.....




- في ظل الحرب.. النفايات مصدر طاقة لطهي الطعام بغزة
- احتجاجات طلابية بجامعة أسترالية ضد حرب غزة وحماس تتهم واشنطن ...
- -تعدد المهام-.. مهارة ضرورية أم مجرد خدعة ضارة؟
- لماذا يسعى اللوبي الإسرائيلي لإسقاط رئيس الشرطة البريطانية؟ ...
- بايدن بعد توقيع مساعدات أوكرانيا وإسرائيل: القرار يحفظ أمن أ ...
- حراك طلابي أميركي دعما لغزة.. ما تداعياته؟ ولماذا يثير قلق ن ...
- المتحدث العسكري باسم أنصار الله: نفذنا عملية هجومية بالمسيرا ...
- برسالة لنتنياهو.. حماس تنشر مقطعا مصورا لرهينة في غزة
- عملية رفح.. -كتائب حماس- رهان إسرائيل في المعركة
- بطريقة سرية.. أميركا منحت أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى


المزيد.....



الصفحة الرئيسية - ثقافة الحوار والاختلاف - ملف 9-12- 2006 بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن - سعدون محسن ضمد - الاختلاف والدين.. كيف يمكن إجراء مصالحة بين الدين والاختلاف؟