أكثر من مرة كتبت ملاحظاً ومؤيدا في ملاحظتي من قبل أهل الاهتمام والمتابعة والخبرة، أن أحزابنا في لبنان تزداد الحاجة إليها وتزداد حاجتها الى رفع أهليتها او إعادة تأهيل هياكلها ومراتبها وأدوات تحليلها وخطابها ورؤيتها لتجديد وظيفتها التي تزداد تعقيدا، في حين ان هذه الاحزاب لا تستشعر خطرا من الاستمرار في انخفاض مستوى أهليتها، فتقع فريسة لأداء من شأنه إذا ما تفاقم أن يقضي على ما تبقى من إمكانية نهوض، لا يمكن أن تقوم به أحزاب فتية وقوية، او أحزاب تجدد شروط عملها من خلال تخليها عن سياقها او تطوير هذا السياق بناء على إملاءات وإغراءات السلطة من دون اعتبار لتدني الشروط المتوفرة للمشاركة الفعلية في الحكم...
ذلك أن في لبنان درجة من التعدد والتنوع تقتضي أن يكون هناك تعدد حزبي ملائم وإلا وقعنا في اختزال المختلف فيما يختلف معه او عنه، أي المصادرة، وهذا تعطيل آخر للحياة السياسية لا يقل خطرا عن الانضواء في حزب واحد.
ولعل آخر المخاطر وأقوى المخاطر التي يتعرض لها الحزب، أي حزب، او يعرض ذاته لها، هو الانقسام او الانشقاق، أي تكوين حزب فرعي من الأصل، ليصبح الأصل فرعا آخر ويحتدم الصراع بين الفرعين ليطلع من بعد من كل فرع فرع آخر او فروع متصارعة بحيث يصح لنا أن نتهكم بمرارة قائلين إن تجربتنا في هذا المجال، مجال انقسام الحزب الى أحزاب والواحد الى كسور، جعلتنا بحاجة الى حبوب منع حمل او (لوالب) سياسية، حتى لا تصبح الأكياس أكثر عددا من حبات التفاح او الحنظل.
أقول قولي هذا من موقعي كرجل دين معاند للانتظام الحزبي ومتورط في كتابة متكررة عن خيارنا الملزم بين السلبية المطلقة ضد العمل الحزبي، او البحث عن أطر حزبية متلائمة مع بنيتنا الاجتماعية والثقافية والعلائقية، والكف عن بناء أحزابنا على أساس الوصفات المجربة في مجتمعات مختلفة الى الحد الذي يقتضي تنويعا في الأبنية والأساليب وأنظمة الأفكار والقيم وحسن الوظائف الحزبية وهيكليات الأحزاب وطرق إنتاجها لكوادرها ورؤاها وخطاباتها وبرامجها ومسلكيتها.
وإلى أن نحقق هذا المرجو، ليس من المنطقي ان نهدم القائم من أحزابنا على خطأ منهجي، لأن ذلك يوقعنا في العدمية السياسية ويمنعنا من إعادة إنتاج أحزابنا على قياسنا المرجو، إذن فلا بد من التشبث بمقولة التطوير من الداخل، في حين أننا لا نجد أمامنا سوى التأخير من الداخل متأثرا بشكل فاضح بمؤثرات من الخارج.. نعرف بعضها ولا نعرف أكثرها ونفترض وجودها بناء على سوء الظن الذي نملك ألف دليل على أن له ألف مسوّغ.
الى ذلك فإننا قد نوافق على الانشقاق تجنبا لمصادرة حرية الرأي ولكننا نشترط وأحزابنا الأصلية والفرعية ليست معنية كثيرا بحرية الرأي كما هو معروف نشترط ان يكون الفرع تصحيحا حقيقيا للمنزلقات المنهجية في الأصل.. غير أن الذي يحصل هو أن الفرع، بناء على إغراءات الانشقاق والانقسام والتمايز والتسلط، يقع في أمراض الأصل ويزيد عليها أمراضا جديدة، في حين يكون قد تسبب الأصل بسلوكه والفرع بردّ فعله في مفاقمة أسباب المرض والضعف والهوان والخطأ في الأصل.. أي ننتقل من جدل التأمل الى جدل (التفاسد) أي إفساد كل طرف للآخر. أي تبادل الإفساد والفساد.. على مقتضى العصبية الضيقة او الأضيق والتي تبرر الانحراف تأكيدا مشوها للذات وتستدعي من الطرف الآخر انحرافا وتحريفا مماثلا على الموجبات والمقتضيات السلبية القاتلة نفسها.
وإلى ذلك.. فان التجزئة، الخارجة عن حدود الضرورة المبدئية التي يمكن أن تحول الحزب الواحد الى اثنين من دون إضرار بالقاعدة او القضية، هذه التجزئة ذات قدرة هائلة على العدوى، ما يعني أن أي انقسام في حزب ما في بلد ما، من شأنه أن يفتح باب الانشقاق في الأحزاب الأخرى، القريبة او البعيدة، أي أن جرثومة الانشقاق تقوى وتنتشر مع كل حركة انشقاقية جديدة، وهذا تاريخ أحزابنا العربية واللبنانية شاهد على هذا المسار الذي بلغ ذروته الجارحة في وقت صعب ومتحول شائك لا يمكن مواجهته الا بالمراجعة والنقد العميق ووحدة الصف على أساس التصحيح في الرؤية ونظام المعرفة الحزبية والأداء والحوار والسجال الحزبي.
وقد يثير العجب او العتب تصريحي وأنا رجل دين، بأنني كتبت هذا الكلام عنما قرأت أخبارا تشير الى أن الحزب الشيوعي اللبناني زاحف بقوة نحو الانقسام أي نحو النهاية.. ولو كان الاختلاف الايديولوجي هو الذي يتحكم برؤيتي او عواطفي لاستبشرت خيرا من هذا الانقسام وتمنيت او عملت على أن يصل الى نهايته، أي اندثار الحزب وذوبانه.. ولكن رغم أني كنت مغرما بالاختلاف مع الحزب الشيوعي تاريخيا، وكان يزيد غرامي بذلك توتر بعض من في الحزب بسبب النقد واستيعاب الداعين منه للاختلاف، فإني أستشعر خطرا وطنيا من احتمال انقسام الحزب، خاصة بعدما كفت الايديولوجيا الشمولية الضاغطة والقاتلة عن محاصرة الحزب وعقله، أي بعد انكشاف المطلقات النظرية من خلال الأعطاب الكبرى التي أصابت التجربة الشيوعية العالمية. ما يعني ان التحسس الديني من الحزب الشيوعي أصبح من الممكن تخفيفه بماء الوطنية وبعلامات المخاطر التي تحدق بنا جميعا، ما يجعلني شديد الحرص على الوحدة في الحزب القومي والكتائب والكتلة الوطنية والبعث وحركة أمل وحزب الله والجماعة الاسلامية والحزب الشيوعي.. من دون مصادرة الرأي الآخر، بل مع ضرورة توسيع الأطر لاستيعاب التعدد الداخلي الذي هو شرط أساس من شروط استيعاب التعدد الوطني.
من هنا أدعو وبصراحة قاسية وودودة قيادة الحزب الى التخلص مما تبقى في بنيتها وحركتها وأدائها من بقايا ستالينية تجعلها تصر إصرارا كئيبا ومقيتا وداعيا الى اليأس، على عقد المؤتمر العام من دون تحضير وبمن حضر.. لا بد من معالجة هذه المركزية الشديدة والتي انتهى مفعولها ولم يكن لها يوم من الأيام مسوّغ منطقي وترتبت عليها الكثير من المآسي.. لا بد من معالجتها بالديموقراطية وقبول الآخر الشيوعي، حتى نؤمن بأن قبول الآخر غير الشيوعي من قبل الشيوعي أمر ممكن.. وإلا فنحن الى كارثة سوف نحرص على أن لا تصيب إلا الحزب الشيوعي ليسلم الآخرون، إذا ما بقي الحزب مصرا على مسلكيته.
هذا.. علما بأن ستالينية ستالين في عهده على مساوئها الكبرى أنجزت ما أنجزت من إيجابيات على مستوى الدولة السوفياتية ومستوى الصراع مع الامبريالية.. أما الآن، وفي لبنان، فماذا بإمكان الستالينية أن تنجز سوى المركزية المغلقة والمركزة والمهددة بالانفجار والتفجير والتدمير..
أما كوادر الحزب الشيوعي الذين يصرون على التحضير، فإنهم يحولون حقهم الى باطل عندما يهددون وينفذون المقاطعة للمؤتمر إذا لم ينعقد على أساس ما يرونه من حق، لا يلبث أن يتحول الى باطل بالمقاطعة.. وليدلنا هؤلاء الكوادر على سلف لهم في الحزب الشيوعي (اتحاد الشيوعيين مثلا) أو في حزب آخر.. عاندوا من موقع ديموقراطي الاتجاهات المركزية.. وقاطعوا وأفلحوا او صححوا؟ الجميع تحولوا الى هوامش ليعودوا للوقوع في المرض ذاته الذي احتجوا عليه وهربوا منه.
أرجو أن لا يكون كوادر الحزب على أبواب إنتاج فوضوية جديدة بعيدة عن المنهج البرودوني وأقرب الى منهج طلاب فرنسا الذين عادت قياداتهم (روكار وكوشتير) الى مشاركة السلطة من دون تمايز او تميز. في حين ذهب كوهين بنديت مستشارا لدى الأجهزة الفرنسية!
في الختام ربما كان من المقبول إن لم يكن مستحسنا أن كثيرا من العقلاء في لبنان لم يبتهجوا بالانشقاقات التي حدثت في حركة أمل (أمل الاسلامية المقاومة المؤمنة وغيرها ) ولا في حزب الله (حركة الشيخ الطفيلي) ولا في حزب الكتائب من دون أن يكون ذلك الموقف قائما على أساس الموافقة على أداء الأصل او الرفض لملاحظات الفرع المنشق، ومع التأكيد على أن الديموقراطية داخل الأطر الحزبية هو الذي يوفر عليها مخاطر الانشقاق ويوفر على المنشقين مخاطر المغامرة التي لم تنته حتى الآن في أي تجربة انشقاقية الى تصحيح الأصل بل زادت الى أخطائه أخطاء نوعية قاتلة لدى الفرع المنشق وحرمت الأصل من مصدر حيوية ومن مناخ نقدي واعتراضي كان يمكن أن يكون لو بقي على وحدويته ومرونته عامل تطوير حقيقي.
©2003 جريدة السفير