أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ظاهر شوكت - الاسطورة السياسية ومخاطرها















المزيد.....


الاسطورة السياسية ومخاطرها


ظاهر شوكت

الحوار المتمدن-العدد: 1739 - 2006 / 11 / 19 - 10:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في هذا العنوان شيء من التجاوز أو عدم الدقة . فليست هناك أساطير سياسية قديمة ، وإنما المقصود هو : كيف استطاعت السياسة في العصر الحديث إستثمار الاساطير القديمة ، وصناعة أساطير زائفة لتخدم ايديولوجيتها ومصالحها ، مستغلة المشاعر الانفعالية والنزعة اللاعقلانية المتجذرة في سيكولوجية الفرد والجماعة ، وبخاصة في الظروف الحرجة ، حين يواجه الانسان مواقف خطيرة ، والا فالاساطير السياسية لا جديد فيها على الاطلاق .
ومن باب التساهل ، يمكن أن يفهم البعض بأن الصراع بين الالهات المتعددة ، عند الاغريق والرومان ، على بسط النفوذ أو الاستيلاء على صلاحيات الالهات الاخر - كما إعتقد البشر حينذاك - شكلاً من أشكال الصراع السياسي في مجتمع الالهات .
وينبغي علينا أن نتذكر ما أشار اليه إفلاطون من أن الاساطير كانت ترمز الى اخضاع الفرد لمشيئة الدولة ، ولم يستبعد أرسطو أن يكون هذا هو غرض الاساطير .(1) لتكون على علم بتاريخ الاسطورة ، وعلاقتها بالسياسة على هذا النحو لا غير .
أما الاسطورة السياسية في العصر الحديث ، فهي أخطر شأناً ، وأعظم أثراً وتأثيراً ، حيث أصبح وقودها ملايين البشر ، وثمارها الدمار الشامل .
في القرن العشرين - وفجأة - إتخذت الصدارة مشكلات لم تكن معروفة لدى المفكرين السياسيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر . ولعل أهم مظاهر هذا التغيير الذي حدث في الفكر السياسي الحديث ، وأكثرها إثارة للفزع هو ظهور قوة جديدة ، هي قوة الفكر الاسطوري . ولقد أصبحت غلبة الفكر الاسطوري على الفكر العقلاني واضحة في بعض المذاهب السياسية . بل من الناحية العملية ، صار الفكر العقلاني ، يستحث على الرجوع الى المراحل الاولية للحضارة الانسانية . هنا إعترف الفكر العقلاني والعلمي بصراحة بهزيمته ، واستسلامه لأخطر عدو له .(2) وقد حدث ذلك على أيدي صناع مهرة (( قاموا بحل مشكلة تتشابه في جملة نواحي مع مشكلة إثبات أن المربع دائرة .)) إن هذا الربط الغريب بين المعقول واللامعقول ، من أهم الملامح المثيرة للدهشة في أساطيرنا السياسية الحديثة .(3)
وقبل الولوج في شرح ذلك ، علينا أن نطلع على الظرف الموضوعي الذي أوجد الحاجة أو الضرورة الى مثل ذلك .
فقد واجهت الشعوب التي إشتركت في الحرب العالمية الاولى نفس الصعاب الاساسية . وبدأت تدرك أن الحرب لم تستطع أن تجيء بأي حل حقيقي في أي ميدان ، حتى بالنسبة للامم المنتصرة . وظهرت مشكلات جديدة في كل جانب . فازدادت شدة التوتر في كل الانحاء ، وإن كان قد بقي في انجلترا وفرنسا وامريكا الشمالية بوادر من الامل في حل هذه الصراعات إعتماداً على السبل العادية المألوفة .
أما في المانيا فالامر يختلف . فلقد إزدادت المشكلة حدة وتعقداً يوماً بعد آخر ، وباءت كل الجهود بالفشل . فلقد تعرض نظام المانيا الاقتصادي والسياسي في فترات التضخم والبطالة للانهيار التام . وبدت الموارد الطبيعية وكأنها قد أستنفذت . هذه هي التربة الطبيعية التي تساعد على نمو الاساطير السياسية.(4) وقد أتاحت هذه التربة كذلك الى رواج نوع من الثقافات والمعارف المتأثرة بالفكر الاسطوري فاذكت النزعة اللعقلانية عند الكثير ، وربما كان المثقفون أسرع إستجابة أو استسلاماً - بتعبير أصح - أمامها كما سنرى .
لقد شاعت في ذلك الزمن أفكار ميكافيلي وأقواله المشهورة ، ومنها (( إن الناس يصنعون التاريخ بصنعهم الاساطير أولاً )).(5) وكذلك دعوته الى الاعتماد على (( البخت والتنجيم )) فهو يقول : إننا ندرك عدة أمثلة في التاريخ القديم والحديث أن المنجمين وقراء الطالع ، قد استطاعوا التنبؤ بأية كارثة كبيرة تعرضت لها أية دولة قبل حدوثها . وربما استطاعوا معرفة ذلك من بعض علامات تظهر في السماء . واعترف ميكافيلي بعدم قدرته على تفسير هذه الحقيقة ولكنه لم ينكر الحقيقة ذاتها .(6) إنه بهذه الطريقة ترك بصمات واضحة على نفوس وعقول الكثير .
وتوهجت - ثانية - محاضرات كارلايل ، التي القاها في 22 مايو 1840 عن الابطال والبطولة في التاريخ . فقد ساوى بين التاريخ في جملته وبين سيرة الرجل العظيم ، فبغير العظماء لن يوجد التاريخ - حسب رأيه - ولن يظهر غير الركود ، والركود يعني الموت ، والتاريخ لا يتألف من سلسلة من الاحداث ، ولكنه يتألف من أفعال وأعمال . وليس هناك أي أفعال بغير فاعل ، وبغير دوافع شخصية مباشرة . وإن العظيم كان منقذاً في كل العصور . فهو أشبه بالشرارة . وبغيره ما كان الوقود ليتقد وهذا البطل يحتاج الى عالم يتناسب معه ، يعني عالم لغير الخدم والعبيد . إن من يصلح لحكم عالم الخدم هم أبطال من الافاقين . فلقد خلقوا له ، وخلق العالم لهم . وليس البطل الا احد القديسين الدينيين الذين تحولوا الى صورة قديس دنيوي . واعتقد كارلايل بأن أفضل ما يستطيع أن يوصي به لتثبيت النظام الاجتماعي والسياسي هو الحث على عبادة الابطال . ولم يكن كارلايل يقصد الدعوة الى رسالة أنجيلكية سياسية جديدة ، ولم يدر أنه سيكون من الذين شاركوا بأعظم نصيب في صنع المستقبل أو الاعداد للزحف الفاشيستي لاحقاً - وبعد مائتي سنة . ولم يخطر بباله أنه سيأتي جريرسون ليؤلف كتاباً تحت عنوان : كارلايل وهتلر .(7)
وراجت أفكار جوبينو الذي تحدث عن تفاوت أجناس البشر ، وجوبينو كذلك لم يهدف في بحوثه الى رسالة سياسية ، وإنما كان يهدف الى تأليف بحث فلسفي . ولم يدر في خلده على الاطلاق أن مبادئه ستستخدم في إنشاء نظام سياسي وإجتماعي أو في إحداث ثورة في هاتين الناحيتين .

وجوهر أفكاره يتضمن إعتقاده الراسخ بأن الجنس الابيض هو الجنس الوحيد الذي توفرت له الارادة والقدرة على إنشاء حياة متحضرة . وإعتقد جوبينو بحرمان الجنس الاصفر ، والجنس الاسود من التمتع بأية حياة أو إرادة أو قدرة . إنهما لا يزيدان عن مادة ميتة في يد أسيادهما أو هما يمثلان كتلاً صماء لا تتحرك الا بأمر الاجناس الراقية . فأينما وحيثما صادفنا تاريخاً وحضارة ، فعلينا أن نفتش عن الرجل الابيض ويقيناً سنجده . كما وضع يولاتفييه في القرن الثامن عشر نظرية مضمونها إنكار وجود وحدة متجانسة في فرنسا . وقسم الشعب الى جنسين ، لا وجود لأي جانب مشترك ، ويتحدث هذان الجنسان لغة واحدة ، وإن كانا لا يتمتعان بحقوق واحدة أو ينتميان لأصل واحد . فلقد إنحدر أشراف فرنسا من الفرنجة أو من الغزاة الجرمانيين . أما سواد الشعب فينتمي الى الخاضعين المغلوبين على أمرهم ، أي العبيد الذين لا يحق لهم المطالبة بأية حياة مستقلة .(8)
وليفي برول Levy Bruhl المؤمن من موقع المستعمر بتفوق أوربا - وريثة العقل اليوناني - والمهيمنة على العالم آنذاك ، المعتدة بقوتها يؤمن بوجود قطيعة فكرية ذهنية بين الاوربيين ، وما يسميهم الهمج . وأن من العبث البحث عن مقياس مشترك بين العقلية البدائية وعقلية الاوربي ، لأن المجتمعات البدائية عنده تتميز بنظام ذهني ذي طبيعة أسطورية وبفكر غبي أو سابق للمنطق . كل هذا طبعاً إنطلاقاً من القول بمعقولية واحدة ، هي المعقولية الاوربية .(9) وفي هذا السياق إنتبه الدكتور محمد عجينة الى ما أسماها ب ( أسطورة أوربية زائفة ) تكرس على أساس عرقي فكرة تفوق الآريين على الساميين في مرحلة تاريخية معينة ، هي مرحلة الهيمنة الاستعمارية الاوربية ، فزعم بعضهم أن العرب يفتقرون الى الخيال الابداعي الذي من شأنه توليد الاساطير .(10)
والشيء بالشيء يذكر كما قالوا . فان الامانة تقتضي أن نتذكر وعلى نحو استطرادي رأي تايلور الذي يعتقد بعدم وجود إختلاف أساسي بين عقلية البدائي والمتحضر ، وبأن العقل الانساني يتصف بالسلامة حتى لدى الانسان البدائي رغم افتقاره الى الخبرة والتجربة ، ولذلك عد تايلور الاسطورة ظاهرة مرضية ناشئة عن زيف الكلمات .(11)
فبالاضافة الى أفكار كارلايل في الحث على الفردية المتميزة وعبادة الابطال وافكار جوبينو وبرول العرقية ، ظهرت - وهذا أمر حتمي - شخصيات في هذا المناخ تشد الآخرين من عيونهم ، وتثير دهشتهم - في البداية - كالبرق يستفز العيون ، ويوخز غرائز التوجس ، لقد كانت لتلك الشخصيات تأثيراتها الاسطورية في حياة الجماهير ، لانها كانت تتكلم اليهم بلغة الشعور والانفعال وتدفعهم الى العيش لحظات من المطلق الصوفي ، وتدغدغ النزعة اللاعقلانية المتجذرة في سيكولوجيتها حتى ترى الجماهير في إحدى تلك الشخصيات ، صفة الزعامة وقوتها ، ترى فيه أنه يمثل رغبتها الجماعية ويجسدها ، (( وتصبح الروابط الاجتماعية كالقانون والعدالة والدساتير بلا قيمة . إنما الذي يستحق البقاء فقط هو التأثير الاسطوري للزعيم وسلطانه . وتصبح إرادة الزعيم هي القانون الاسمى )) (13) فلذا تظهر صفة القديس ، بل إن الزعيم نفسه يبدأ بالاعتقاد (( بأنه مقدس ، وأنه لا يخطيء في أحكامه أبداً )) (14)وهذا ما حدث لهتلر . وقد حدث قبله لنابليون . فقد طلب نابليون أن تلغى كلمة ( مستحيل ) من كتب اللغة ، وحين أخبروه أن جبال الالب الشاهقة تمنعه من التقدم ، قال يجب أن تلغى من الارض .
ولكنه لم يستطع أن يمنع قطرات المطر من الهطول في ساحة ( واترلو ) ، وقد تأخر لذلك نقل مدافعه نصف ساعة عن موعده المقرر فكانت في ذلك هزيمته النكراء .(15)
وتجسيم الرغبة الجماعية لا يمكن أن يتحقق عند أي شعب متحضر كبير على نفس الصورة التي يتحقق فيها عند القبائل الهمجية . ويخضع المتحضر بطبيعة الحال لمشاعر عنيفة . وعندما تبلغ هذه المشاعر ذروتها فانه يزداد قابلية للاستسلام لأكثر الدوافع لا معقولية . على أنه حتى في هذه الحالة ، فانه لا يستطيع أن ينسى نسياناً كاملاً أو ينكر مطالب العقل ، فلكي يعتقد ، ينبغي أن يهتدي الى أسباب يرتكن اليها في اعتقاده ، أي يضع نظرية تبرر معتقداته . ولن تظهر هذه النظرية في صورة بدائية ، ولكنها تظهر على عكس ذلك ، في صورة معقدة للغاية .(16) فلذا يشكل النزوع الاسطوري باعتبار طبيعته غير العقلانية في بعض الاحيان تهديداً حقيقياً للمجتمعات الحديثة في العديد من المجالات . ففي فترات المحن والشدائد التي يمر بها مجتمع ما ، تطفو الاسطورة على سطح الوعي ، وتنبعث النبوءات القديمة من مرقدها لتفسير حقيقة ما يجري ، ويأخذ السياسيون وحتى العلماء بالتحدث بما يشبه الاسطورة . في هذا الجو غير العقلاني الذي يجتاح الجماهير ، قد يجد أكثر أصحاب العقول رجاحة صعوبة في مقاومة التوجه الى مكان ظهر فيه طيف السيدة العذراء أو الانضمام الى الالاف المؤلفة من المتدافعين للحصول على البركة أوالشفاء من تمثال قيل إنه يذرف الدموع . وقد تنبعث في أعماق اللاشعور الجمعي رموز ميثولوجية قديمة تجد تجسيداً لها في ظواهر يسبغ عليها الهوس الجمعي طابعاً إعجازياً ما ورائياً . من ذلك على سبيل المثال ، ما حدث منذ بضع سنوات في بلدة سورية نائية ، قيل إنه قد ظهر فيها تيس من الماعز يحلب اللبن ، وإن لبنه يصنع المعجزات ، ويشفي الامراض عن طريق الشرب أو الدهن . وهكذا تم بعث إله الخصب تموز من مرقده ، وراح أحد رموزه التقليدية يسرح بين أهل القرن العشرين ويوزع بركاته على الناس ، وصار المكان مزاراً مقدساً يتقاطر اليه عشرات الالاف .(17)
إن الغاية من هذه الامثلة هي التدليل على إيقاظ النزوع الاسطوري عند الافراد والجماعات في زمن المحن ، وتكوين قناعات حتى عند المثقفين أو بعبارة أدق : إن المثقفين لا يستطيعون مقاومة الهوس الجماعي وإنما يجدون أنفسهم في وسطه وهم لا يشعرون .
إن كلمة الرجل (( العظيم )) أشبه بالبلسم الذي يساعد على الشفاء والذي يؤمن به الجميع . والعالم الفرنسي دوتيه ، وقبل خمس وثلاثين سنة من وقوع الحرب العالمية الثانية قال : إن الاسطورة هي صورة مشخصة للرغبة الجماعية . ولم يعرف هذا العالم مشكلاتنا ( ويقصد مشكلات الالمان ) السياسة الحالية ( زمن الحرب ) ولم يكن يقصدها .(18)
إن تفاعل هذه العوامل جميعاً ، أدى الى ضرورة التفكير بوسيلة جديدة لحل المشكلات والصعوبات الناشئة ، فلذلك قال فيشر : (ليس من قبيل المصادفة أن تعود أوربا الغربية - وقد تخلت عن النزعات الانسانية وأقامت مؤسسات مختلفة تنسب اليها قوى غيبية خارقة - أن تعود الى عصر ما قبل التاريخ وما عرفه من خوارق ، وأن تلجأ الى تأليف الاساطير الزائفة ، حتى تخفي وراءها مشكلاتها الواقعية .) (19)
إن الوسيلة الجديدة ، إحتاجت الى صناع مهرة والى أدوات مؤثرة ، فماذا فعل السياسيون في فن الاساطير السياسية الحديثة التي لا تحتوي على أي جديد على الاطلاق - كما قال كاسيرر - ؟ فكل العناصر كانت معروفة بالفعل 00 نظرية كارلايل ، نظرية جوبينو 00الخ .
لقد تطلبت الحاجة الىتحويل هذه البحوث الاكاديمية الى أسلحة سياسية ، قوية ، فعالة ، وكان من الضروري جعل هذه المسائل تتكيف مع عقلية جمهور مختلف عن هؤلاء الاكاديميين ، ومن ثم أصبح المطلوب هو خلق أداة جديدة لتحقيق هذه الغاية ، أداة تقوم بدور معين في الحياة العملية الى جانب الاداة الخاصة بعالم الفكر . وتطلب ذلك ابتكار فن تقني جديد سيساعد على زيادة ردود الفعل ، وعلى تحقيق أعظم قدر من الفاعلية .(20)
وأول خطوة إقتضت الضرورة القيام بها ، هي احداث تغيير في اللغة ، فالكلمة لها مهمة دلالية ولها مهمة سحرية ، والمهمة الدلالية للكلمة موجودة فيما يدعى باللغات البدائية . فبغيرها لن يتحقق أي كلام انساني . أما المهمة السحرية [ تأثير ظلال الكلمة على نفوس المتلقين أو التأثير السحري لها ] فتحتل الصدارة في المجتمعات البدائية . فهي لا تصف الاشياء ولا العلاقات بين الاشياء ، بل تحاول إحداث أثر وتغيير إتجاه الطبيعة . ولا يمكن تحقيق ذلك بغير اعتماد على فن سحري محكم ، والساحر وحده هم الذي يستطيع التحكم في الكلمة السحرية ، ولكنها في يده تصبح سلاحاً شديد البأس ، فلا شيء يستطيع مقاومة أثرها . ولقد قالت الساحرة ميديا في قصائد أوفيد : يمكن جر القمر نفسه من السماء بتأثير التعاويذ السحرية . لقد تغلب المفهوم السحري على المفهوم الدلالي ، وأصبحت الكلمات القديمة تستخدم للدلالة على معان جديدة ، كما حدث تغيير في معناها . ويرجع هذا التغيير الى أن هذه الكلمات بعد أن كانت تستعمل في أغراض دلالية ووصفية ومنطقية ، قد أصبح الان لها دور سحري قصد به إحداث آثار معينة لتحريك إنفعالات معينة . إن فحوىكلماتنا العادية هي المعاني. أما هذه الكلمات التي أعيدت صياغتها ، فمشحونة بمشاعر وأهواء عنيفة .
ان هذا المفهوم السحري يتحقق في الخطابات الملتهبة التي تستثير الحماس في جوانب اللاشعور ، وتذكي النزعة اللاعقلانية حين تخاطب النزوع الاسطوري في نفوس الجماهير .
لقد بلغ الامر حداً دفع بكاسيرر الى القول إنه : لن يستطيع أن يفهم ما كتب في السنوات العشر الاخيرة ، في مجال الابحاث النظرية ، لا في مجال السياسة ولا من الكتب التي تتناول الكلام عن مشكلات الفلسفة والتاريخ والاقتصاد . ويقول ما نصه (( إنني لم أعد قادراً على فهم اللغة الالمانية . وهذا أمر مذهل . وقد نشر منذ أمد ليس ببعيد كتيب صغير للغاية ، هو مرشد لاستعمال اللغة الالمانية الحديثة ، اشترك في تأليفه مجموعة ، وتم في هذا الكتاب ، تصنيف كل المصطلحات الجديدة التي ابتكرت في ظل النظام النازي ، في حرص وعناية وبالهول ما احتوته هذه القائمة ! إذ يبدو أن كلمات قليلة من اللغة الالمانية فحسب ، قد استطاعت النجاة من هذه الكارثة الشاملة .)) (21)
إن الاسطورة السياسية ،كما يقول أحد مفكري النازية فيلهم ستايل ، لا تلجأ الى أسلوب الاقناع لان النازية ذات أيديولوجية بسيطة ، تقوم على أفكار أولية ، لا تحتاج الى اللجوء الى الاقناع .
وقد أكد هتلر نفسه ، وفي أكثر من مقطع من كتابه المشهور (( كفاحي )) على ضرورة تفادي الاقناع في التوجه الى الجماهير ، والتركيز على مخاطبة العواطف والانفعالات . وتميزت أفكاره الساذجة التي طرحها في هذا الكتاب ، وفي جميع خطبه المشهورة ، بعدم قابليتها للبرهان على أي صعيد ، وابتعادها عن أبسط الوقائع العلمية . فهو يرى أن الجنس الآري هو الذي صنع الحضارة ، والجنس الاسيوي من أمثال اليابانيين والصينيين الذين استمدوا الحضارة من الآريين ، وهم قد حافظوا على الحضارة وساندوها . أما الجنس الثالث فهم اليهود الذين يهدمون منجزات الحضارة الانسانية .(22)
وهكذا تتقنع الاسطورة في الخطاب الاشهاري الذي ينشيء قيماً وهمية أو قيماً زائفة على مجرد الخداع لاحالتها الى غير مرجع بعينه ، وإنما الى صداه أو صورته أو صورة عنه بعيدة كل البعد عن حقيقته . وقد تتقنع الايديولوجيا ( بمعنى نظام التصورات ) القائم على الوعي الزائف .(23)
إن الاسطورة السياسية ، بما تصوره من خوارق ، تخلق نوعاً من ارادة القوة التي ما إن تجد ميداناً لتحقيقها ، حتى تظهر في أسوأ أنواع الاستعمار والاستبداد والاضطهاد الممكنة ، ومثال ذلك أسطورة العنصرية النازية ، ثم وليدتها الصهيونية السياسية .(24)
إن الاسطورة السياسية لا تبدأ بالمطالبة بتحريم أفعال معينة . إنها تهدف الى تغيير الناس ، حتى تستطيع تنظيم أفعالهم والتحكم بها .
إن أثر الاساطير السياسية لشبيهة بالحية التي تحاول شل فريستها قبل أن تفترسها ، والناس يقعون في أسرها بغير أن يظهروا أية مقاومة جادة لها . فهم يتعرضون للهزيمة والخضوع قبل أن يدركوا ماذا حدث . فمحاولة القضاء على الاساطير السياسية أمر يفوق قدرة الفلسفة . فالاسطورة بمعنى ما معصومة ومنيعة أمام البراهين العقلية ، ولا يمكن دحضها بواسطة القياسات المنطقية .(25)
لقد بدأ العالم السياسي يشعر منذ سنة 1933 بالقلق الى حد ما من إعادة تسليح المانيا ومن إحتمال إنفجارها دولياً . والواقع إن إعادة تسليح المانيا ، قد بدأ قبل ذلك بعدة سنوات ، وإن لم يكن قد لحظه أحد فيما يعتقد . إن إعادة التسليح الحقيقية قد حدثت عندما أعيد إحياء الاساطير ، وعندما إستطاعت أن تزدهر . ولم يكن إعادة التسليح العسكري الا عاملاً مساعداً .(26)
لذلك تقتضي مصالح الفئات الحاكمة - بالضرورة - إيجاد صيغة متقدمة دائماً للاستفادة من هذا الفكر الاسطوري للاضطهاد وتبرير الحالات الاجتماعية العديدة ، والتي تخص الفرد . إن أساس الفكر الاسطوري وتبلوره وانتشاره مع محاولة الاجهاز على أية محاولة يقوم بها المفكرون للرد عليه . والتشبث بالاسطورة لدى الفئات الحاكمة ، كان متنفساً كبيراً للبقاء على وجودها ، ودعمه وزيادة الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بواسطة خلق ووضع الحلول الاسطورية اللازمة التي تؤكد وتدعم ما وجد وما يوجد .(27)
وهكذا أقتيد الملايين من الالمان الى المحرقة مخدوعين بتفوق العنصر الآري وضرورة ذلك التفوق . إنهم لم يدركوا فعلاً المنطق العملي للحياة وواقعيتها . وما الفائدة اذا تخيلنا أن نابليون يأمر باعادة لفظة ( مستحيل ) مرة ثانية الى القواميس ؟ وما فائدة تبريره لو قال كما تخيل الدكتور الوردي : (( يابني أن كل شيء مهما كان هيناً ، يمكن أن يكون مستحيلاً ، إذا ساءت الظروف )) (28) لا فائدة من هذا القول بالنسبة الى من ذهبوا ، ولكن فائدتها عظيمة للبشرية حين تتعظ . إنها حكمة ذهبية في الحاضر والمستقبل فقد تسهم في عدم تكرار المعادلة القابلة للتكرار في أزمان كثيرة وأماكن كثيرة من هذه الارض .


الهوامش والمراجع
(1) الاسطورة ، راثفين ، ص19 .
(2) الدولة والاسطورة ، كاسيرر ، ص17 .
(3) نفس المصدر ، ص372 .
(4) نفس المصدر ، ص366-367 .
(5) الاسطورة ، راثفين ، ص19 .
(6) الدولة والاسطورة ، كاسيرر ، ص215 .
(7) نفس المصدر ، الفصل الخاص باسطورة القرن العشرين ، الجزء الثالث من الكتاب ، ص253-258 .
(8) نفس المصدر ، ص303-307 .
(9) موسوعة أساطير العرب 000 ، د. محمد عجينة ، ص41 .
(10) نفس المصدر ، ص77 .
(11) نفس المصدر ، ص41 .
(12) خوارق اللأسطورة ، د. علي الوردي ، ص 114- 115.
(13) الدولة والاسطورة ، كاسيرر ص- 370.
(14) خوارق اللاشعور ، د. علي الوردي ، ص57.
(15) نفس المصدر ، ص114-115.
(16) الدولة الاسطورة ، كاسيرر ، ص 370-371.
(17) الاسطورة والمعنى /السواح ، ص 31 .
(18) الدولة والاسطورة ، كاسيرر ، 370.
(19) ضرورة الفن ، فبشر ، ص 15.
(20) الدولة والاسطورة ، كاسيرر ، ص366.
(21) نفس المصدر ، ص 373-374.
(22) الاسطورة والمعنى ، السواح ، ص34.
(23) موسوعة أساطير العرب ……. د . محمد عجينة ، ص 38.
(24) مضمون الاسطورة في الفكر العربي ، د. خليل احمد خليل ، ص53 /
نقلت الفقره من مجلة التراث الشعبي ، العدد الرابع ، 1975 ، بغداد ،
عوض منير ياسين .
(25) الدولة ةالاسطورة ، كاسيرر ، ص 378 -390 .
(26) نفس المصدر ، ص372-373 .
(27) مجلةالتراث الشعبي ، العدد الرابع ، 1975 ،ص177 . استعرض منير
ياسين لكتاب د. خليل احمد خليل الموسوم بـ مضمون الاسطورة في
الفكر العربي .
(28) خوارق اللاشعور ، د. علي الوردي ، ص 115.



#ظاهر_شوكت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضوء في نهاية نفق مظلم
- المحطة
- الحلاج يزورنا كل يوم
- نظام القوة وقوة النظام
- فن المسخ في بلادي
- الافعوان والشموع
- ذكريات في متنزه الوطن
- نار وحب وأشياء اخرى


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ظاهر شوكت - الاسطورة السياسية ومخاطرها