أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ظاهر شوكت - المحطة















المزيد.....

المحطة


ظاهر شوكت

الحوار المتمدن-العدد: 1736 - 2006 / 11 / 16 - 09:29
المحور: الادب والفن
    


بدا ابو علاء صامتا،مرت يده على صلعته العريضة التي تناسب اعوامه الخمسين،انه- بالتاكيد- يصوغ عبارات دقيقة،ولكنه تعود منذ زمن على الا يتكلم الا بعد ان يضع النظارة الطبية على عينيه،مد يده الى جيبه،اخرج نظارته،وضعها على عينيه،وانطلق واعظاً بصوته الأجش: ياولدي لقد انطفأ كل شيء في حياتي الحاضرة،لم اعد امتلك ما افتخر به،لقد جعلوك تتصور بل وتعتقد اني ما زلت شجرة وارفة الظلال،(فرك جبينه) لقد كنت يا ولدي،نعم كنت رجلا لا يعرف اليأس، اما اليوم فقد دب القحط في حياتي، وتصحرت روحي،وطارت عنها فراشات الحب الزاهية(تنحنح وكأنه يحاول التخلص من شيء ثقيل في صدره) اليوم يا ولدي اصبحت (توقف لحظة) اصبحت حياتي مبرمجة، لا اقوم بأية حركة غير ضرورية، تصور يا ولدي (ابسم ابتسامة مهزومة) حتى في مخدعي، اجل في مخدعي لا اقوم بحركة فائضة عن الحاجة (قطب) ولم اصل الى هذا المستوى ببساطة، لقد كانت الرياضة صعبة وطويلة (لحظة صمت وعيناه تبحران في الارض ثم انتبه) ولأني متفوق دائما في حياتي ( مد يده الى ربطة عنقه بشعور غامض ) فقد نجحت في برمجة حياة زوجتي واولادي جميعا. البرمجة ضرورة بل انها علامة النهوض في هذا القرن،لقد اقر المؤتمر الاخير هذه الحقيقة،اجل يا ولدي، عفوا اذا ألفيتني ثرثارا ومتحمسا لأنني ادافع عن حقيقة غابت عني عمرا. لقد ضاع العمر سدى، طوبى لمن .............
احس صفاء بدوار شديد،امسك بيده البضة، البريئة جبينه، كاد ان يغمى عليه، لكنه تمالك نفسه واتكأ على الجدار، غلت في نفسه العذراء اسئلة ظالمة كادت تمزق جوفه،اهذا هو الذي دوخ الانجليز؟ ! اهذا هو النهر الذي شرب منه اخي الطيبة والمحبة والتضحية؟! يا للهول! ياللخيبة! واخي ما زال يتغنى بمجد صموده، انه لم ينطق بكلمة واحدة عنه، أمن اجل هذا فقد اخي بصره؟! واخي يريدني ان .........
قطع ابو علاء سلسلة افكار صفاء، وايقظه بصوته الاجش مرة اخرى: وإكراما لاخيك يا ولدي ، فليس امامي الا ان اخذك الى المحطة، في المحطة دوما تتفتح قريحتي وافلت من البرمجة، لا ادري لماذا اشعر باني شاعرا حين اقف على رصيفها، المس جدرانها، استعيد بدقة قصص حب متنوعة قد مارستها على عتبات غرف قطارها الذي ألفناه وألفنا، كان القطار ينفث سحابة طويلة بيضاء تتجمد في الهواء ايام الشتاء، وتعترينا نشوة لا نعرف سببها حين نقول: ان هذا يشبه الجو في اوروبا.
اخذ ابو علاء بيد صفاء وسار مسرعا في الازقة الملفوفة برائحة المطر الربيعي وهو لا يكف عن الحديث، وصفاء لا يكف عن الندم في داخله لهذه الرحلة الخائبة، كانت نظرات صفاء توحي بالبلادة نتيجة عجزه، فتغري ابا علاء بمزيد من الحديث، ربما بالغ في احاديثه او حرفها، وربما دس كذبا كثيرا فيها، من يدري ؟ فصفاء لم يعش على رصيف ذلك الزمان، وصفاء مأخوذ بأبي علاء قبل ان يراه، وهو ماخوذ به الان على نحو اخر، لم يترك ابو علاء شيئاً من الزمان والمكان يسمحان لصفاء ان يقول ولو حرفا، ان يسأل او يتساءل، يصدق او يكذب ، اصبح صفاء على يقين تام من انه لا يصدق ما وجد عليه أبا علاء.
اشار ابو علاء بيده الغليظة: انظر يا صفاء ها هي واجهة المحطة، انظر، انظر الى واجهتها الضخمة فانها ما زالت مرصعة بالتاج الملكي ، بحجمه وبريقه بالرغم من اننا تخلصنا من التاج وصاحبه قبل اعوام مضت ، لقد قبر الملك وتاجه قبل سنوات (مشيرا الى الجهة اليمنى ) انظر يا صفاء ، هذه نقطة حراسة كانت مخصصة لحراسة المحطة ، ما زال الحرس فيها معرضين للتفتيش من قبل رؤسائهم علما بان القطار لم يعد يتوقف في هذه المحطة، لقد قالوا ان التغيير يجب ان يشمل كل شي ، ولإن هذا المحطة كان القطار يتوقف فيها فالتغيير يقتضي الغاءها محطة للتوقف ، لقد قرروا ان يكون التوقف الجديد في المحطة الاخرى خارج المدينة ، انها تبعد عشرة كيلو مترات عن هذه المحطة ليشعر الناس بالتغيير ، ولكني لا اخفيك سرا يا صفاء ان عامة الناس قد تركوا ركوب القطار لان اجر الوصول الى المحطة اغلى بكثير من اجر القطار لابعد نقطة يمر بها ، فقد اعتاد الناس على ان يتدافعوا ، تتمزق ارديتهم ، تنشب معارك بينهم من اجل الحصول على مقعد في الحافلات الكبيرة التي استوردوها ، ولا تنس ان الزحمة مجال جيد لنشاط سراق الجيوب ، لقد اصبح السفر يا صفاء مشروعا ضخما قريبا كان ام بعيدا .(بلغة حزينة) لقد كانت المحطة يا صفاء عروس مدينتنا ، يشارك الجميع في زفافها كل يوم (مستعيدا نشاطه ونبرة صوته الاجش) هذا هو الطريق اليها، انه مرصوف ببلاط صغير جذاب، انظر، لقد استورده الهنود ايام بناء المحطة، لقد نفذوا تصميما واحدا لكل المحطات هنا وفي اوروبا .
صعد صفاء المدرج اخرس اطرش ،سلم يده الى أبي علاء كأي طفل يستسلم مذعورا ،كان الصمت الكالح يلف كل شيء في المحطة ، رائحة الموت تتعالى ، شيء يوحي بمجد ضائع.
قال ابو علاء على نحو مفاجىء : الخوف من المستقبل صفة الانسان المتحضر ، والتساهل في الامور حكمة تقتضيها الحياة المبرمجة ليعيش الفقراء . لم يفهم صفاء ما قاله ابو علاء ، بمعنى اوضح لم يعرف السبب الذي دفع أبا علاء الى هذا القول .
( ابو علاء مواصلا )اجل لقد كانت ايام القطار اعيادا بالنسبة الى مدينتنا ، لاحظ يا صفاء ، هنا كان الباعة المتجولون يقفون منادين ، مغنين لاغراء الزبائن ، هناك كانت العربات تقف ، تنتظر الواصلين على هذا الرصيف . كان ناظر المحطة يذرع الارض جيئة وذهابا والقلق والتوتر باديان عليه ، لا يستقر الا بعد توقف القطار ، لا احد يدري لماذا ؟ كان رجلا يحب عمله لحد الخرافة ، لقد ترك ابنه المريض ذات يوم في المستشفى وقال للطبيب : الان حان وصول القطار فيجب ان اذهب الى المحطة ، وساعود بسرعة ، وقتها كانت هذه الحادثة حكاية لذيذة يمضغها الناس لغايات مختلفة ، والارض يا صفاء كانت بساطاً اخضر تشرئب منها الورود ، هناك مقاعد للمستقبلين ، وغالبا ما كان العشاق يشغلونها ومن غير ان يفسد عليهم احد ، اجل يا ولدي تخيل المحطة ، لم تكن جرداء كاليوم قاحلة تطوف فيها الكلاب ، وتتجمع لقضاء الحاجة ، الكلاب اخذت تقطن المحطة قطعانا ، انظر الى ذلك القطيع
( مشيرا بيده ) هل يمكنك ان تعده ؟ ( ثم بفرح عميق وصوت دافىء ) وهناك يا صفاء كنت اقف متنكرا لاستلم الصحف السرية ، اتعلق باحدى العربات المتفق عليها وادس الصحف بخفة ودقة وخوف بالغ تحت ثوبي ثم اذوب في الارض ، ذات يوم واجهني احد المراقبين بضحكة لم استطع ان احدد مغزاها ولكنها امتصت مني كل شحنات التفوق الذي تعودت عليه........ على كل ........ حكايات ، اجل حكايات ولكنها ( متأوها ) والله يا صفاء انها لذيذة مثل الحب ، مثل الفجر ، مثل اللقاء .
( اخذ نفسا عميقا ) كنا يا صفاء نجلس على القضبان حين يقترب القطار ، نختبر قوة اعصابنا ، من يقوى على الجلوس حتى اقرب نقطة الى القطار ؟ وكنت انا بدون مبالغة ( مبتسما ) اكثرهم عنادا وصبرا .
توقف ابو علاء برهة يلتقط انفاسه ، امسك بوسطه، بدا الزبد واضحا على شفتيه ثم قال بلغة خائبة : الا يوجد ماء ؟ اني عطشان ، عجيب! حتى صنابير الماء التي كنا نشرب منها نلعب باقفالها نتعجب من احجامها وغرابة اشكالها قد رفعوها ؟ لماذا ؟
( على نحو مفاجىء ) قال صفاء : البرمجة يا أبا علاء. احس ابو علاء بهزيمة حقيقية في داخله ولكنه خبير في تغطية هزائمه ، فواصل مرتبكا بعض الشيء : لقد كان العشرات يبيعون الشاي ، العصير ، الحياة كانت تموج ، الاصوات تتداخل ، اللقاءات مستمرة ، التغني بسلامة الوصول ينهض من كل زاوية ، الجميع كانوا يدسون الاحلام والاماني الحلوة في كل حركة.
وعاد صفاء مشدودا من جديد الى الصوت الاجش لأبي علاء ، حركاته المخلصة ، ذكرياته الحارة ، كما عاد ماخوذا بخيبته ، باكتشافه الرهيب قال صفاء في نفسه : أليس ابو علاء مجنونا ؟
مرة اخرى قطع ابو علاء اندهاشات صفاء المرعبة كالموت قائلا : في بعض الاحيان يا صفاء كنا نتسابق مع القطار ، نركض حذاءه هكذا ( بدأ يركض واضعا يديه على جانبي خصره ) وما هي الا خطوات حتى تعالى نباح الكلاب من كل جانب في تلك اللحظة واحاطت بأبي علاء .
تسمر صفاء في مكانه ، تجمدت الكلمات في فمه ، من يدري لعله فقد صوته حاول ان يصرخ ولكنه لم يفلح ، مد يده الى الارض ولكن الكلاب لم تتراجع ، اختلطت صرخات أبي علاء بنباح الكلاب الذي ظل يتردد زمنا ثم خبا بعد حين .





#ظاهر_شوكت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحلاج يزورنا كل يوم
- نظام القوة وقوة النظام
- فن المسخ في بلادي
- الافعوان والشموع
- ذكريات في متنزه الوطن
- نار وحب وأشياء اخرى


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ظاهر شوكت - المحطة