أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - مروية عنوانها: إدوارد سعيد















المزيد.....


مروية عنوانها: إدوارد سعيد


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1729 - 2006 / 11 / 9 - 11:36
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هنا، لا نستطيع أن نفصل الفكر عن مفكره، عن سيرة مفكره، عن إطار المروية التي تتشعب على خلفية معضلة سياسية تاريخية، فهو فكر لا ينفع في التعامل معه تحليلاً وتفكيكاً وإعادة صياغة قطعه عن سياق نشوئه وتطوره في عقل ووجدان مبدعه "إدوارد سعيد"* بشخصيته المثيرة للجدل، في الوسط الثقافي العالمي، وحتى العربي أحياناً.. فهو في سيرته جزء حيوي من تاريخ أكبر، من شبكة علاقات أكثر تعقيداً ومدى.. وهو بالتعاشق مع فكره تجسيد لثلاثة سياقات/ تجاذبات، تتوازى تارة، وتتقاطع أو تتحد تارة أخرى. السياق الأول يعرض مسرد المنفي الفلسطيني "المثقف الفلسطيني تحديداً" في الشتات. والسياق الثاني يمتد إلى إشكالية العلاقة مع الآخر/ الغرب، مع ثقافته بمناهجها وتصوراتها ومع ممارسته بأفقها الحضاري من جهة والإمبريالي من جهة ثانية، أما السياق الثالث فيخص المثقف الكوني، حضوراً ووظيفة ودوراً وإنتاجاً معرفياً، الذي يعد إدوارد سعيد، في عصرنا، واحداً من ممثليه اللامعين.
أرشيف إدوارد سعيد:
ترك إدوارد سعيد أرشيفاً ضخماً، إرثاً يدّعي كثر من الناس امتلاكه، وهو مبذول من حق أي أحد أن يحقق هذا الامتلاك وأن يستثمره، إنه ملكنا، ملك مريديه وملك خصومه في الآن معاً، فخريطة الفكر قبل إدوارد سعيد ليس هي ذاتها بعده، فكما أن مفكرين مثل أرسطو وابن خلدون وابن رشد وكانط وهيجل وماركس وغرامشي ولوكاش وعشرات ومئات غيرهم بدلوا في شكل تلك الخريطة ومحتواها فإن إدوارد سعيد قد فعل شيئاً من هذا القبيل، بهذا القدر أو ذاك، في النقد الأدبي وهو يترصد العلاقة بين النص والعالم والناقد من منظور مختلف ليغدو كتابه بهذا الشأن، باعتراف أكاديمي رصين واحداً من أهم ما كتب في هذا الحقل في القرن العشرين. وفي الدراسات الاستشراقية حيث طرأ ت تغيرات ملموسة لا تنكر على تقويم المؤسسة الاستشراقية ونتاجاتها بعد صدور كتابه "الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء" حتى داخل تلك المؤسسة ومن قبل عتاة رجالها على الرغم من التحاملات والتهجمات ومحاولات بعضهم، مثل برنارد لويس، الحط من قيمة الكتاب.
أرشيف إدوارد سعيد "كتب، بحوث أكاديمية، مقالات، أعمدة صحافية، مقابلات في الصحافة والإعلام، تعقيبات وتعليقات، الخ" فضلاً عما كُتب عنه "معه أو ضده" بتعاطف أو ببرود أو بكراهية، وما كُتب عنه، في لغات البشر الحية، يفوق ما كتبه هو نفسه. كما أن هناك معاركه التي خاضها في الميدان الأكاديمي، وعبر وسائل الإعلام في شؤون كثيرة "منهجية وفكرية وسياسية" وهي تحوي على شذرات والتماعات فكرية لا يمكن الاستهانة بها، وأخيراً تبقى مذكراته وسرده لذكرياته "ولادته في القدس، اقتلاعه من وطنه، يفاعته وشطر من شبابه في القاهرة، هجرته إلى أميركا، وإحساس المنفي الذي عاشه على الرغم من حصوله على الجنسية الأميركية، نجاحه في الحقل الأكاديمي وإبداعه الخصب، إصابته بمرض اللوكيميا اللمفاوي المزمن، وموته جراء ذلك" ونحن نعرف كم أثارت كتابته لسيرته حفيظة الدوائر الصهيونية واللوبي اليهودي في أميركا لما فيها من عرض ذكي لحقائق أُريد لها أن تبقى طي النسيان وإلى الأبد.
السرد المضاد:
عكف سعيد على صياغة سردية مختلفة عمّا هو متعارف عليه في المحافل الفكرية والثقافية الغربية في اتجاهين؛ اتجاه يتعلق بوظيفة الاستشراق العلمية والسياسية، وآخر يخص قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
سيرة سعيد تتداخل بشكل دراماتيكي مع التاريخ المعاصر لبلده الأم "فلسطين". ولمّا كان قد انتقل إلى أميركا وحصل على الجنسية الأميركية وأصبح أستاذاً لكرسي الأدب المقارن في جامعة كولومبيا فقد اطّلع عن كثب وبصورة دقيقة ومنهجية على المسرد الغربي والصهيوني الرائج في الغرب ولا سيما في أميركا عن الصراع العربي الإسرائيلي، والآليات التي يقدم ذلك الخطاب على وفقها. وكان عليه كما يقتضي واجبه الأخلاقي أن يسخّر أدواته العلمية والمنهجية لتفكيك ذلك المسرد ويُظهر ما فيها من ثغرات وتناقضات ونقاط ضعف ومخاتلة وخداع ومناطق مسكوت عنها في مقابل طرح سردية مختلفة مضادة، وبذكائه الحاد لم يكتف بالتحليل السياسي والتاريخي لملابسات تلك القضية بل كتب سيرة عائلته وطفولته في القدس قبل وبعد حرب 1948 وحكاية خروجه مع عائلته إلى القاهرة ومن ثم حياة المنفى التي خاض غمارها بعدِّها على وفق رؤيته أكثر الأقدار مدعاة للكآبة، على الرغم من أنه وهو يتحدث عن أدورنو أشار إلى ما أسماه بمسرات المنفى "تلك التكيفات المختلفة للعيش، وما يتيحه ( المنفى ) أحياناً من جوانب مدهشة، مما يفعم وظيفة المثقف بالحيوية". هذه السيرة التي أطلق عليها عنواناً موحياً ذا دلالة لا تخفى "خارج المكان" ليدحض بمكر منهجي من خلالها جوانب من السردية الغربية والصهيونية، مساهماً أيضاً في إغناء الدراسات ما بعد الكولونيالية المقترحة لسرد مختلف عن السرد الغربي للحقبة الكولونيالية وما بعدها، تلك التي يمكن تسميتها بسرد الضحية.
هناك من حاول تفنيد ما سرده إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" بدعم مؤسساتي صهيوني، ففي يوم 21 آب 1999 نشرت "الديلي تلغراف" وهي صحيفة بريطانية يمينية على صفحتها الأولى مقالة لكاتب يهودي اسمه "جستس رايد فاينر" يشكك فيها بالانتماء الفلسطيني لإدوارد سعيد مدّعياً أن سعيداً لم يولد في القدس ولم يعش فيها ولم يلتحق بمدرسة سان جورج المقدسية. وقد رد سعيد بعد خمسة أيام على مقالة فاينر بمقالة نشرتها صحيفة الأهرام الأسبوعية المصرية وصف فيها فاينر بـ "المدّعي الذي يريد أن يشتهر على حساب شخص مشهور".
يعترف سعيد أنه احتفظ بصلة عضوية مع مكان نشأته بعد عبوره الخط الفاصل بين الشرق والغرب " وكانت هذه عملية عبور أكثر منها عملية للإبقاء على الحواجز" على حد تعبيره. فهو في الأحوال كلها بقي متأرجحاً بين "هنا" و "هناك"، متجذراً ومقتلعاً في الآن معاً، ماكثاً وراحلاً في الآن معاً، وها هو يقول لصديقه دانيال بارنبوام حسب ما يورده تودوروف في مقال له عن سعيد: "مع الزمن توصلت إلى الاعتقاد بأن فكرة ( البيت ) هي فكرة مبالغ في تقديرها إلى أبعد حد.. وفكرة ( الوطن ) هذه قلما أهتم بها، فالترحال هو ما أفضله حقاً". ويعلق تودوروف على ما يقوله سعيد متسائلاً: "وكان أيضاً، وعن اختيار، مستأجراً وليس مالكاً لمسكنه. فهل وجد نفسه في صورة اليهودي التائه؟".
أعتقد أن سعيداً ارتأى أن يخلق، في حقيقة الأمر، صورة الفلسطيني التائه، الفلسطيني في الشتات، الفلسطيني الذي تعرض لكارثة الاقتلاع والنفي. وبالمقابل أن يسترد تلك المصطلحات التي احتكرتها الصهيونية في نشاطاتها الإيديولوجية والدعائية.. تقول البروفسورة إيله شوحاط وهي يهودية من أصل عراقي في مقال بعنـــوان ( إدوارد سعيد وتفكيك الأسطورة اليهودية إلى مصطلحات غربية: كسر احتكار الضحية واحتكار المنفى )؛ " أدى تأسيس منظمات صهيونية في الولايات المتحدة إلى ترسيم التفسيرات للمصطلحات من قبيل > و > و <<عودة إلى الوطن>> باعتبارها سردية يهودية متفردة. وقد أفلحت هذه المؤسسة، منذ الكارثة ( تقصد إبادة اليهود من قبل النازية خلال الحرب العالمية الثانية ) في وضع اليهود في مركز النقاش في كل مرة يُذكر فيها اسم إسرائيل، وأن تحيل إلى الهامش غير الشرعي كل نقد للصهيونية وإسرائيل.
بهذا المعنى فإن إدخال لمصطلحات <<منفى>> و <<شتات>> و <<عودة إلى الوطن>> من زاوية الخطاب الفلسطيني إلى أعماق الوعي الغربي يشكل خطراً على مركز اليهود الراسخ كممثلي الفضيلة الحصريين في هوامش الغرب المحترمة".
وتحدد شوحاط في معرض إجابتها عن السؤال؛ "ما هو الشيء الموجود في شخص سعيد ويشكل تهديداً من وجهة النظر الصهيونية؟" محاولة سعيد في استعارة المصطلحات ذاتها التي تتشبث بها الصهيونية تقويضاً لخطاب هذه الأخيرة، فضلاً عن أن "فكرة إنه بالإمكان رواية تاريخ ضحايا آخرين، بل وأن جزءاً منهم هم ضحايا القومية الوطنية اليهودية، تؤدي إلى معارضة عنيفة، وفي حالة الليبراليين تؤدي إلى عمى أبستمولوجي وإلى بلبلة فكرية. يتكشف الخطاب الصهيوني عن أعراض عدم راحة من مجرد فكرة أن اليهود أنفسهم أنتجوا ضحايا".
كان الفراغ من كتابة كتاب "خارج المكان" تتويجاً لمسعى سعيد في استعادة المكان المفقود ( المكان الأصل الذي أُجتث منه قسراً ) على مستوى التخيل، والغوص في مسألة الهوية الشائكة، الهوية التي لم تكن من وجهة نظره، في أي يوم، جوهراً ثابتاً ونهائياً ونقياً تماماً، بل كانت على الدوام بناءً مستمراً لا ينتهي وقابلاً أبداً للتغير والتطور. وفي مسعاه أماط اللثام عن مسرد الضحية الأخرى، الحقيقية، فحكى بطريقة شائقة وشجية ومؤلمة، وأيضاً من غير انفعالات هوجاء، قصة الكارثة الفلسطينية، والشتات الفلسطيني.. هنا كسر إدوار سعيد حق تمثيل الغرب للشرق وتقويله، ففي "خارج المكان" مثّل سعيد نفسه وقضيته باقتدار وحنكة، وسيفعل الشيء ذاته في كتابه "الاستشراق"، وسيكشف عن الآليات والموجهات الخفية، وكذلك للكيفية التي تقوم بها أجهزة إعلام الغرب في تغطيته لأحداث العالم الإسلامي في كتابه "تغطية الإسلام".
تخضع عملية التمثيل لحقائق القوة، حيث صارت المعرفة هي القوة، تمهِّد لها، وتشتبك معها، وتسوّغها، أي تسوّغ فعلها في الواقع. وفي العلاقة مع الآخر جرى جعل هذا الآخر موضوع سيطرة تحت طائلة المعرفة، بذريعة المعرفة، أنت لا تعرف نفسك، أنا أعرفك، إذن من حقي أن أستحوذ عليك، أن أمثّلك أنت العاجز عن تمثيل نفسك، وفي سياق هذه المعادلة جرى تقويل الآخر وتغطيته إعلامياً بالشكل الذي يتساوق مع الأهواء والمصالح والتحيزات المتحكمة بالعقل الغربي الرأسمالي. وكان إدوارد سعيد قد ألّف كتاب "تغطية الإسلام" استناداً لتجربته مع الإعلام الغربي وقراءته له، وقد صدر هذا الكتاب بعد كتاب الاستشراق لكننا سنتناوله لأسباب إجرائية قبله.
يومئ سعيد إلى إشكالية أولى في الرؤية الاستشراقية وهي نظرتها إلى الإسلام وكأنه كتلة واحدة صلدة لا تمايز أو تعدد فيها، وما يستتبع ذلك من شعور بالعداء والخوف، إذ يكمن وراء هذا الموقف كثير من الدواعي الدينية والنفسية والسياسية. يقول سعيد؛ "لم أستطع أبداً أن أكتشف أية حقبة في التاريخ الأوروبي أو الأمريكي منذ العصور الوسطى، تم أبّانها بحث الإسلام أو التفكير فيه، بصورة عامة، خارج إطار ابتدعته العواطف والأهواء والانحياز والمصالح السياسية".
ولم يخفت الاهتمام الغربي ( بحثاً وإنشاءً ) بالشرق والإسلام يوماً، حتى من قبل دول كبريطانية وفرنسة بعد انحلال الإمبراطوريات الاستعمارية، لكن، وعلى حد تعبير سعيد "فالإسلام، إن كان < الإسلام > هو موضوع الدراسة لا يكون محاوراً، بل يكون سلعة". ويضيف سعيد "إن تغطية الإسلام ليست تفسيراً بالمعنى الأصيل للتفسير، بل إنه توكيد للقوة".

الاستشراق:
يميز سعيد بين ميادين متقاطعة في الاستشراق، "أولها العلاقة الثقافية والتاريخية بين أوربا وآسيا، وهي علاقة تمتد في 4000 سنة من التاريخ؛ وثانيها النظام التدريسي العلمي في الغرب والذي أتاح في مطلع القرن التاسع عشر إمكانية التخصص في دراسة مختلف الثقافات والتراثات الشرقية؛ وثالثها الافتراضات الإيديولوجية، والصور، والأخيلة الفانتازية عن منطقة من العالم اسمها "الشرق" مهمة بصورة راهنة وملحة بالمعنى السياسي". ويرى أن القاسم المشترك بين الميادين الثلاثة هذه هو الخط الفاصل بين الشرق والغرب الذي هو حقيقة من صنع البشر ( يسميها الجغرافيا المتخيلة ) أكثر من كونه، أي ذلك الخط الفاصل، حقيقة طبيعية.
أحدث صدور كتابه عن الاستشراق زوبعة لم تهدأ حتى يومنا هذا، ففيه تقصى عن الموجهات ذات الصبغة الإمبريالية التي تختفي وراء القناع المعرفي لكثر من الدراسات الاستشراقية "البريطانية والفرنسية" تحديداً من وقت مبكر، ولا سيما منذ نهايات القرن الثامن عشر. فبحسب سعيد ولد الاستشراق، حقلاً معرفياً موضوعه "الشرق"، ولادة طبيعية من رحم الغرب الاستعماري، أي من سلطته المكتسبة الجديدة بعد خروجه من ظلمات القرون الوسطى، خالقاً "شرقه – آخره المختلف". فـ "معرفة الشرق، لأنها وليدة القوة، تخلق، بمعنى من المعاني، الشرق، والشرقي وعالمه".
وبدءاً يحلل خِطابين لأثنين من عتاة سياسيي بريطانيا الاستعمارية هما كرومر وبلفور، فيجد أن الشرقي في لغتهما يُقدّم في صورة شيء يحاكمه المرء ( كما في محكمة العدل )، شيء يدرسه المرء و يصوّره ( كما في خطة دراسية )، شيء يؤدبه المرء ( كما في مدرسة أو سجن )، وشيء يوضحه المرء و يمثل عليه ( كما في دليل وجيز في علم الحيوان ).
سعى خطاب الاستشراق إلى خلق وتأكيد وتأصيل "صورة للشرق" تدعم استراتيجية تحاول تطويع حقائق الجغرافيا لمقتضيات السياسة، و تفرض أمراً واقعاً على الآخر "الشرقي" أن يتقبله، و يرضى بصورته، هكذا، حقيقة ثابتة، لا فكاك منها، وهذه الصورة شوهت إلى حد بعيد رؤية حتى بعض من المثقفين في الشرق إلى ذواتهم وتاريخهم.
من هنا ، تغدو المؤسسة الاستشراقية سلطة متفرعة عن السلطة الأصل "الغرب الاستعماري" تنتج معرفة تتأطر بخطوط متعينة وتتمثل بـ "خطاب الاستشراق" الذي يخدم في النهاية غايات السلطة الأصل إذ يتوافق مع جوهر التطلع الكولونيالي الغربي.. يقول سعيد؛ " بذلك يكون الاستشراق في نظري، بنية أقيمت في زحمة تنافس إمبريالي كثيف مثلت تلك البنية جناحه المهيمن فانبثقت، لا كمهنة بحثية، بل كإيديولوجيا متحزبة".
وجهت لسعيد اتهامات شتى، وتعرض عمله لنقد منهجي منظم وآخر عشوائي ومتحامل يفتقر إلى الموضوعية، وكان من أول وأهم تلك الانتقادات هو أن سعيد أهمل أرشيفاً ضخماً من الدراسات عن الشرق لا يخضع لدوافع ومصالح سياسية مثل التي كتبت من قبل مستشرقين ألمان أو روس، لكن سعيداً يرد بأن ما يدرسه هو "الاستشراق مأخوذاً ليس من وجهة نظر كل ما كتب عن الشرق، بل فقط من وجهة نظر القوى التي كانت لها مصالح استعمارية في الشرق الأوسط".
وعربياً، يأخذ صادق جلال العظم في كتابه "ذهنية التحريم" على إدوارد سعيد وقوعه في مأزق العودة من الباب الخلفي إلى ما أراد بدءاً دحضه وتدميره.. أي أن إدوارد سعيد وهو يحاول تفكيك وفضح "ميتافيزيقيا الاستشراق" المستندة إلى أسطورة الطبائع الثابتة "للشرقيين والغربيين" قد رسم العقل الغربي ذا طبيعة ثابتة – لا تاريخية – في نظرته إلى الشرق، فيبدو العقل الأوربي الغربي على وفق هذه الأطروحة "من الشاعر هو ميروس إلى المستشرق هاملتون جيب مروراً بكارل ماركس وكأنه يتصف بنزعة متأصلة لا يحيد عنها لتشويه الآخر ( الشرق ) وتزييف واقعه وتحقير وجوده، كل ذلك في سبيل تمجيد ذاته والإعلاء من شأنها وتأكيد تفوقها" .
إن إدوارد سعيد الذي استهدف "القضاء نهائياً على مقولتي (الشرق) و (الغرب) بالمعنى الميتافيزيقي للعبارة" لم يكرس هذه الميتافيزيقيا في استخدامه لمصطلحي "الشرق و الغرب" بل عمل على تخليصهما من الإطار الموهوم اللاتاريخي الذي حاول الاستشراق عبر تاريخه أن يؤكده، وقد استخدم إدوارد هذين المصطلحين لأسباب إجرائية (منهجية) في بعدهما التاريخي النسبي لأن تفكيك "شرق وغرب" الاستشراق سيطرح شرقاً وغرباً آخرين، لن تخضع حقائق الجغرافيا، بموجبهما، كما سعت إلى ذلك مؤسسات الغرب الرأسمالي الإمبريالي ، لإستراتيجيات السياسة.
وعلى المسار ذاته تعرض إدوارد سعيد أيضاً إلى الثقافة الغربية في انشباكها مع النزوع الإمبريالي في كتابه "الثقافة والإمبريالية" وباختيارات دقيقة لأعمال ونصوص فنية وأدبية منها "أوبرا عايدة" ورواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، ورواية "روضة مانسفيلد" لجين أوستن عرّى سعيد الميكانزمات الخفية المتحكمة برؤى مبدعي هذه الأعمال التي تسوّغ الفوقية والهيمنة على المستعمرات، وكان كتاب سعيد هذا محاولة زحزحة لثقافة الغرب المتمركز على الذات وللأسطورة الغربية حول العلاقة مع الآخر ( "المستعمر" بفتح الميم/ الأصلاني الكسول )، عبر فضح موجهاتها وبناها الخفية وطرح تساؤلات جدية ومحرجة عليها. وكان سعيد قد اشتغل على مفهوم ثقافة ما بعد الكولونيالية ليرسخ من خلالها فكرة الهجنة وإمكانية وضع سرديات بديلة من قبل ذلك الأصلاني المهاجر الذي بات يستخدم لغة الدولة المتروبولية ويثريها أيضاً بكلمات جديدة دخيلة على تلك اللغة وصياغات مبتكرة.
المثقف الكوني:
ومثلما جرى الانتقاص من قيمة الإنتاج الفكري والمعرفي لإدوارد سعيد من قبل أكاديمين ومفكرين وإعلاميين غربيين أولاً، وعرب أحياناً فقد غالى بعض المفكرين العرب في الكلام عن منجز إدوارد سعيد وكأنه الحقيقة والصواب إطلاقاً، وكأنه بلا ثغرات منهجية أو معرفية، تلك التي لا تخلو منها دراسة أو مقال أو نص من تأليف بشر خطّائين. ولنختر مثلاً واحداً هو مقطع من مقال للدكتورعبد الإله بلقزيز الذي يقول فيه عن سعيد؛ "إن مساهمته نجحت في تقديم أرقى مخاطبة فكرية عربية معاصرة للثقافة الغربية من الداخل: من داخل هذه الثقافة وفي عقر دارها، أخرجت خطاب المثقف العربي حول الغرب من المساجلة الإيديولوجية، إلى المناظرة العلمية، ومن العصابية الدونية إلى ثقة بالنفس ندية ومن الدفاعية الفوبيائية إلى الإقدام المسلح باستراتيجيات المعرفة، وبعد أن رفعنا عقيرتنا طويلا منددين بالاختراق الثقافي الغربي لنسيجنا الثقافي، ها هو عربي منا يخترق القلاع الحصينة المحروسة لثقافة «الرجل الأبيض» فيثير فيها زوبعة فكرية هزت يقينها واطمئنانها إلى النفس، وطرحت عليها أسئلة حرجة ستستهلك عقوداً قادمة قبل أن تجيب عنها وتتحرر من ثقلها". ومثل هذه الأطروحة تثير تساؤلات عديدة منها؛ هل حقاً أن إدوارد سعيد مفكر عربي كما نطلق هذه الصفة على محمد عبدة وطه حسين وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري وعلي الوردي وحسين مروة وعبد الله العروي؟. وهل ما كتبه يعد خطاباً عربياً لمجرد أنه من أصل عرقي عربي ومولود في مدينة عربية ويتناول في خطابه بعض أهم قضايا العرب والشرق؟. وكيف لنا أن نجزم بأنه "العربي" الذي أعاد لنا الاعتبار، نحن الذين نشكو دوماً الاختراق الغربي لنسيجنا الثقافي، باختراقه القلاع الحصينة المحروسة لثقافة الرجل الأبيض؟. ويمكن المضي مع أسئلة لا تحصى من هذا القبيل ونحن نتفحص هذا المقطع للدكتور بلقزيز ومقاطع أخرى لغيره.
عمل إدوارد سعيد في إطار التقاليد الفكرية الغربية، فمرجعياته غربية سواء كان ماركس هو ملهمه أو غرامشي أو ميشيل فوكو أو أدورنو، ومقصده هو القارئ/ المتلقي الغربي أولاً وإن كان يتمنى أن تجد فتوحاته في مجالات النقد الأدبي، أو معالجاته النقدية للاستشراق، أو لأي من الظواهر الثقافية والاجتماعية لعالمنا المعاصر أصداءها في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي والعالمثالثي، وأن يصار إلى استخدام المناهج الفكرية الحديثة في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية لقراءة الواقع العربي والإسلامي والعالمثالثي من قبل المفكرين والباحثين في هذه الأجزاء من الكرة الأرضية.. ويبقى سعيد من نمط المثقفين الكوزموبوليتيين، العابرين للقارات، همهم الفكري يغطي الحياة البشرية برمتها، وإرثهم الفكري والمعرفي والإبداعي ملك للبشر في كل مكان، إلى جانب آخرين منهم هيجل وماركس وغرامشي وفوكو وألان تورين وتشومسكي ومحمد أرغون وعشرات ومئات الأسماء الأُخر. وقد حصل سعيد على اعتراف الدوائر الأكاديمية والفكرية والإعلامية في الغرب على الرغم من أنه لم يكن موضع ارتياح وقبول دائماً في هذه الدوائر لأسباب أكثرها إيديولوجية سياسية، وبعضها منهجية ومعرفية.
في كتابه "صور ( تمثيلات ) المثقف" بدا وكأنه يتحدث عن تجربته مفكراً نقدياً في هذا العالم حتى في إشاراته إلى الآخرين "غرامشي وادورنو وجوليان بندا" كما لو أنه يرسم بورتريهاً فكرياً ـ تجريدياً نوعاً ما ـ لنفسه.. سيرة ذاتية فكرية، مخاتلة قليلاً، صادمة قليلاً، هادئة، عميقة، ومقنعة. ولو امتد العمر بغرامشي لربما وجد في إدوارد سعيد نموذجه للمثقف العضوي، ولو عاش جوليان بندا حتى نهاية القرن الماضي لربما أشار إلى إدوارد سعيد واحداً من تلك النخبة من الفلاسفة الملوك الذين يستحقون هذه التسمية في نظره "مثقف".. كان مؤمناً بالوظيفة المؤثرة المغيرة للمثقف، بسلطة المثقف، بواجبه في أن يقول الحق بوجه السلطة، كل سلطة، حتى وإن أدى ذلك إلى تعكير الصفو العام. وكان يدرك ضغط العبء الأخلاقي، والذي لا بد من حمله، هو المثقف الناقد بامتياز، ذو الشخصية الكاريزمية، والبعد الكاريزمي في شخصه عززه لا مركزه الأكاديمي المرموق وما أنتج من مؤلفات وحسب، وإنما، أيضاً، صورته اللافتة التي قدمها في وسائل الإعلام.
نحن نفتقده الآن وسنبقى، فغيابه لا يعوّض، وموقعه الذي أخلاه ليس باليسر إشغاله، فهو لم يقل كل ما عنده، لم يستنفد طاقته كلها، وربما لم يستثمر حتى نصفها.. نستطيع القول أنه كان سفيراً فوق العادة لنا، لا لثقافتنا وحسب، لا لقضايانا وحسب، وإنما لصورتنا كذلك.. كان يمتلك طبيعياً تلك الموهبة والقدرة على تمثيل نفسه وتمثيلنا.. أن يفكك صورتنا التي رسمها الغربي "المفكر والمستشرق والأديب والإعلامي" لنا. وأن يشكك الغربيَّ بحقيقية تلك الصورة، بدقتها، بموضوعيتها، بأخلاقيتها، وأن يعيد الاعتبار للشرقي، لصورة الشرق، وأن يثبت أن الشرق المرسوم المتصور في الخطاب الغربي صنعة إمبريالية، أو متخيل لا يُركن إليه، ومن الإجحاف الاعتماد عليه. والمشروع الذي أخذه على عاتقه كان ضخماً واسعاً ينوء بثقله مؤسسة بكاملها فكيف بشخص في هشاشته الجسدية ( إذ أصيب بالسرطان وهو في قمة عطائه )، ووجوده في عرين الآخر ( في وضع المنفى المزدوج كما يسميه كاريث كريفتس ) محارباً ومحاصراً من بعضهم ومهددا طوال الوقت، ناهيك عن ظرفه الشخصي والعائلي ( حيث تلقى تهديدات بالقتل هو وأفراد أسرته، وأُحرق مكتبه في جامعة كولومبيا )، ومسيرته الأكاديمية والإعلامية الساطعة والمحاطة بالافتراءات في الوقت عينه.
بعد كل ما قلناه، من هو إدوارد سعيد؟. سأختار مقطعاً لتزفيتيان تودوروف، صديق سعيد الشخصي، والذي يشترك معه في وضعه منفياً، وما يستتبع ذلك من اهتمامات وانشغالات ثقافية متقاربة بينهما، ورؤى وحالة نفسية تكاد تكون متشابهة.. يقول تودوروف عن إدوارد سعيد بعد وفاته وكأنه يختزله في تعريف جامع: " هو فلسطيني منفي، وهو نيويوركي مرح، وأستاذ أدب، ومحلل سياسي، ورجل جرّب الحب والغضب. لقد استسلم إلى مرضه أيضاً بما فيه من تحولات فرضها عليه بل وحتى الانعطافات التي أمّنها لعمله المتعلق بسيرته الذاتية: فليس هو من كان يقرر متى وكيف يستطيع أن يكتب وإنما هو المرض من كان يقرر متى وكيف يستطيع أن يكتب، ( وهنا ) تمكن سعيد من الذهاب أبعد من أناه السابقة، للبلوغ والإفصاح عن حقيقة كينونته، ونحت وجوده. لقد صار شخصاً عالمياً، وكياناً خاصاً حيث مصيره، وكان أن فسره بنفسه وكأنه يستجوب شخصاً آخر... وقد منح العالم معنى جميلاً وأكثر غنى ولهذا فإن إدوارد سعيد يستحق منا الاعتراف بجميله".
• ولد إدوارد سعيد في حي الطالبية بالقدس الغربية في تشرين الثاني من العام 1935 وتوفي في الولايات المتحدة في 25 أيلول 2006 بعد معاناة مع مرض اللوكيميا حيث اكتشف أنه مصاب به في العام 1991.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثقافتنا: رهانات مغامرتها الخاصة
- مروية عنوانها: نجيب محفوظ
- إعادة ترتيب: شخصيات مأزومة وعالم قاس
- وعود وحكي جرائد
- رواية-هالة النور- لمحمد العشري: سؤال التجنيس الأدبي
- الطريق إلى نينوى؛ حكاية مغامرات وأعاجيب وسرقات
- هذا العالم السريع
- الكتابة بلغة الصحراء: إبراهيم الكوني وآخرون
- تحرش بالسياسة
- القاهرة في ذكراها
- صور قديمة
- إدوارد سعيد: داخل الزمان.. خارج المكان
- النخب العراقية في حاضنة المقاهي
- حول المونديال
- نخب سياسية.. نخب ثقافية: مدخل
- حبور الكتابة: هيرمان هيسه وباشلار
- قصة قصيرة: في أقصى الفردوس
- حوار مع القاص سعد محمد رحيم
- تحقيق: بعقوبة ابتكارالبساتين
- قصتان قصيرتان


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - مروية عنوانها: إدوارد سعيد