أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - رعد مطشر - نجاة عبد الله ... قيامة استفهامي مغمسة بالجنون والجنوب















المزيد.....


نجاة عبد الله ... قيامة استفهامي مغمسة بالجنون والجنوب


رعد مطشر

الحوار المتمدن-العدد: 1724 - 2006 / 11 / 4 - 07:03
المحور: مقابلات و حوارات
    


حوار وتقديم : رعد مطشر

ابنة الجنوب التي تفترش دمعة أمـّها لتنام عليها فتسرقها المنافي, ذات غفلة من حبٍّ , بل ذات ( مطرٍ يهجر الأيام ) , لها حماماتٌ وحماقاتٌ ونزوةُ حزنٍ تأخذها إلى فقراء الأرض لتكون لهم أمـّاً , لها طفـولةٌ خجلى وساعاتُ فرحٍ مغمسة برائحة الأمّ , وغربتها ؛ الغربة التي طوّقتها مُنذ فطامها .. وحشـّدت فيها أبجدية الكون حيث تفيـّأتْ جنوب الرصاص مُنذ جنون قلبها , تلك نجاة التي لا تستطيع أن تكبر, فطفولتها فاضحة ترقد فيها مُذ فطامها . غادرت الجنوب مُنذ منتصف الثمانينات ولم تزل واقفة قبالته تبكي بحرقة لطول السنوات التي تفصلها عنه، لتبكي بغداد التي تعشقها حين يقبل الجنوب, وها هي تمتلك سلالاً من الغربة. قالت لي قبل بدء الحوار كلاما يشبه الشعر والهذيان دخل إلى ثنايا مقدمتي, رغما عنها , بحبّ:
- ( كنتُ أشدّ الطلاب كرهاً للمدرسة, فقد زرعتْ فيَّ بذور الغربة.. لم تغادر عيناي وجه أمـّي ومدفئتنا الفقيرة ,عباءة أمـّي التي احتضنتني سنوات طوال .. كنتُ مدلـّلة أهلي كثيرة البكاء وشديدة العزلة، جادة في أقل وأعظم تفاصيل الحياة, الآن فقط وفي هذا العام فقط عرفت أن الحياة تستحق قليلاً من عدم اللامبالاة.. كي تتوازن ..), نجاة عبد الله؛ كتبت الشعر مُنذ كان عمرها اثني عشر عاماً, عشقتْ وقرأت كل ما له علاقة بالأدب ثم عشقت الطب, لم تنله لمرض والدتها, فدخلتْ كلية العلوم قسم الكيمياء؛ (ويا للجمال حين تعرف أن أساس كل الشعر في العالم كيمياء, وما يربط الكيمياء بالطبيعة والعالم هو الشعر)..كتبتْ مجموعة من القصص القصيرة؛ (ومازلتُ محتفظة بها وأحبها وقد رآها الجميع وأعجبوا بها)... تكتب الشعر بهدوء وعزلة , ولأنـّها لم تحيا حياة واقعية ,عاشتها شعراً فوقعت في شِرك الحرف... حتـّى غدا الشعر ملاذها في تلك الحياة المتعبة؛ (وهل أحسنتُ الحياة حين اخترتُ الشعر ), واختارت الحبّ أيضاً؛ ( هل لا أحب وقد غزتْ روائح الجنـّة كلّ أجفاني, هل أحبّ لأنـّي أكتب أم أكتب لأني أحبّ.. لا أعرف, أحبّ أمي جداً وأقتني لها الحلوى كلّ يوم.. وأخشى هذا اليوم المرّ أن أجد روحي بلا أمّ )... تحبّ الأصدقاء رغم أنـّهم؛ ( قلـّة.. وأكثرهم يضحكون, لا أدري ما الصدفة التي جعلت كل أصدقائي يضحكون.. وقد انتقلتْ إليَّ العدوى: وها أنا أضحك ولا أدري لماذا)..مجموعتها الأولى (قيامة استفهام) كانت ثورة على النقائض في الحياة , ومجموعتها الثانية (نعاس الليلك) ؛ ثورة لإنماء الزهور من أجل الحبّ...لأنـّها؛ ( تحس كلّ يوم, بمهارة فائقة, بتلك السماء التي تشبهها وذاك البُراق الذي يحملها إلى الصباح ), ولأنـّها كانت( في السابق أكثر سعادة وطموحاً ) أمـّا الآن فهي تبدو ( مثل قطـّة تحتاج إلى ليالٍ هادئة لغرض النوم)... لتعيش حياة هادئة منظمة تخلو من الضجيج .. أنـّها نجاة عبد الله , الشاعرة الرقيقة الحزينة التي أحاورها في بغداد بعيدا عن جنوبها وجنونها , فكان حوارنا... كالآتي :
• رعد: مابين طفولةٍ خجلى وأنوثةٍ تبحث عن متاهة في ظلمة الشعر، هل المعادلة عادلة؟!
ـ نجاة: ليس ثمة معادلة عادلة في أي تكوين على وجه الخليقة.. الطفولة تخجل من فضح أنوثتها ، والأنوثة طفلة لم تفطم من ثدي الحياة ، الظلام يحلَّ الآن عليه النوم بعد أن يسرف في تدليل اليوم وإضاءته بما يكفي من شمس باردة أو جافة أو رطبة ، لا يهم ، إنها الشمس على أية حال وهو ظلام على أية وجع ؛ هل يلتقيان ، هل يشكر أحدهما الآخر ، هل هما أعداء ، أتقياء ، أخوة ، أصدقاء ، كلٌ يؤدي دوره بأمانة ودقة متناهية لكنهما بعيدان عن بعضهما كُل البعد ، يدوران بصمت ولسوف يسخران من هذهِ القطيعة الكونية في قُبلة ما.
• رعد: البنفسج وأنت تكتبينه هل نسيتِ غربته بين شتاءات الطرق ؟!
ـ نجاة: أي بنفسج ساذج هذا الذي ينسيني بنفسج أكتبه ولا أُفطم من رائحته الخضراء ، أو أنسى غربة أصابعه النحيلة وهي تحث الصيف على الانتهاء كي تزهو بشتاء قصير وحزين يُمسِك قبعة ولا يفرّ بها حتى لو اكتهلتْ ثلوج العالم جميعاً وبكتْ من حرقة الشوق الجاثم على أمطارها الثلاثين .. لماذا يا صديقي , أحلتني إلى عشرة شتاءات حزينة, وطرقت باب القلب بقطع النسيان التي أقفلتها للتو بمزلاج الدموع....
• رعد: ما بين جنوب القلب وجنون الحدَّ أين سترسين إذاً ؟!
ـ نجاة: والله لا أرسو، وإن حدث ووجدت لي مرسىً، فسوف أُجنُّ من جديد.. للقلب زوايا ومنحنيات وليل من الكوابيس الداكنة والفراء السميك ، يسرق عسل الثلج من الانتظار ، والآحاد من الاربعاءات الصاخبة ... أنّى لي أن أشدّ زمام الدموع أمام جـسر الخوف أو قُل جسر المحبة ، وأنقل بضاعتي الكاسدة عبر تلك الطوفانات الرعناء.
• رعد: طفولتك – لابدَّ أن أعودَ إليها – أين هي الآن ؟!
• ـ نجاة : بل لابد أن أعود إليَّ ذات جنوب ، فقد عبثت بي أورام الحضارة وملأت جسدي تقاطيع الزمن المفقود ، لابد أن أمسك الطين الحرّي وأصنع دميتي من جديد ، نتشاجر على تماثيل المقابل .. وقد نُرتـّل أحدنا حين تكتمل اللعبة، نُرتل أنفاسنا التي تحترق شهيقاً لنفحة يوم ماطر.. ربما ستبارك لها الأوجاع ، هذا الهذيان المرّ والفقدان المشكوك بخسارته أو ربـّما بنوبة أثماره الجاحظة ، أقرأ تقاطيع النهر المنسلّ بحتفه وأردد بيني وبين خلوة روحي .. أي كَبر هذا الذي يصادر طفولة سامية ويؤرق أعوامها البتول؟!
• رعد : سلَّةٌ بعد سلّةٌ وسلسلة من الغربة والضياع في الحياة والقصيدة ، هل حملتِ تلك السلال ، وقاسمتِ الريح لترمّمي عطلاً مكرّراً يُدعى؛ حياة ؟!
ـ نجاة : حين صحوت على الحياة .. بكيت كثيراً لأني أفقت على سلالٍ فارغة ، وأعوام ثملة تعضّ أصابع الرنين على قيثارة دم هزيل ، قاربتُ على السهول ، وتلبّستـني فكرة الهضاب ، حين أوتْ ذئاب روحي إلى شهد الطمأنينة ولم تفترس تلك الرؤيا الناضجة التي سرتْ بألوانها الزرق، قاربتُ الجبال ووددتُ لو أني أمسح عليها بكفي لتهبني نغمة الانبساط وتزيح عني شتائم الجنوب, إنـّها عطلٌ مكرّرٌ لا غير، عبثاً نرمم وجهها الشاحب ونزف لها بشرى الهيام إنها حياة لا غير، طويلة وساذجة وسارقة، إنها تكاد أن تسرق كل شيء حتى نفسها, إنها غريبة عني بوشاحها الترابي ونظرتها الحمراء ، كلما خرجتُ إلى الشارع تمد لي يدها الخاوية تصفعني وتهرب كأي مومس غالبتها الشيخوخة .. كفى.. بل كفاكِ أيتها الحياة وأنت تقطفين عناقيد أرواحنا وتكدسين عليها نعاس القلق.
• رعد :البنفسج زهرةٌ قصيرةُ العمر وأنتِ ملأى بذلك البنفسج الذي يتوّزع كالفخاخ بين نصوصك ، وكما تتوّزع بقية الأزهار ، الياسمين .. وصولاً إلى ما يعاكسها في ذلك (كالعاقول) .. هل كانت ترمز إلى نجاة المعبّأة باللاّنجاة ؟!
ـ نجاة : كانت ياسمينة واحدة تلك التي قطعتْ الأزهار على عجل وأرختْ حمائم الموت ، حمامة لك ، حمامة لعيون اللص اللاّتـنام , حمامة لأكياس الطحين الفارغة من حنطة الروح ، حمامة لورق اللعب والطاولات الفارغة من الكؤوس ، أنا أنصب بزهرة واحدة مئات الفخاخ لهذا العسل المنتشر بين أرواحنا المائلة شرق النواح أو في منتصف قبلة حائرة , ثم وبأعجوبة مَنْ يصحو أنسى تلك الروائح الزكية ، وهذا الليل الغارق في دهشة البراري حينما تطأ قدمي عاقولة وقحة, تصحو نجاتي مثل قردة ، تشتم أزهار النارنج ، وتخرج من الأشجار خالية القفز ، ساخنة الأوجاع ، فاقدة ليمام بطولتها وضرورة بقائها, نعم لقد امتلأت حديقة حياتي بالعاقولات الوقحة ، التي لا تبرح توخزني كلما أدنتُ بقائها... الضمير مهذب بين أزهاري الطبيعية وغير الطبيعية!
• رعد: المدرسة، وكرهك لها، ما الذي قادك إلى الحرف؛ والذي يشير إليك أحبّك ؟!
ـ نجاة : إنها أقداح الشاي تلك التي قادتْ الشوارع إلى قمصان ضوئية ، وغرست رائحتها المليئة بعطر الأمهات في ذاكرتي ، كنت كلما دلفتُ باب المدرسة ، شدّني حنين آسر إلى أمي وعباءتها المقمـّطة بالحنين ، ثوبها الأسود ، والمدفأة النفطية الموغلة بالحزن ، دفء بيتنا والقيلولة السمحة قرب أنفاس زمن يسبح في النسيان ، لم تعد ذاكرتي تحفل بالشيء الكثير ، لم تعد تحفل بأواني النعاس أو أسلحة الأرق , يلمـّني صحو يمعن في إغفاءة رعناء ، أنشر أجنحتي لصباح مجنون ، أخفي الصباحات بأغنيتي الطويلة ، يا له من عناء هذا الذي رميت عليه قبعات حنيني وجلستُ في منتصف المدرسة ، نعم في منتصفها ، قلقة من تراب ظلمتها ، وغربان أحرفها التي سوف تحرق هذا العمر القلق فيما بعد , الحروف التي أشير إليها عبئاً تثق بـِهِ مخاوفي وتمازح الزغاريد التي تنطلق وأنا أُجمّل حياة أخرى وأشحذ الطفولة بسلام الفراق.
• رعد: الرحيل، وأنت دائمة الرحيل؛ (هلا فكرت في عذوبة الرحيل إلى هناك/ إلى البلد/ الذي تشبهين ؟!) كما يقول بودلير ؟! أوكما يقول الجنوب الذي يشبهك تماماً ؟!
ـ نجاة : نعم أنا دائخة في الرحيل ولست دائمة الرحيل ، دائخة في هذا العرس الوجداني القاتم بفضاءاته المنفلتة ، دائخة بأيامي الثملة التي يستوقفها الصباح كثيراً وتنعم في شرورها الظهيرة الموجعة، أما المساء الخارق بقواربه المملة والتي لا تحتمل جدران هذا العالم الكئيب لم أبصق في وجهه أية ريح ولم أعاني من سورة شك تُسددُ الرمية ملياً في وجه هذا العالم الفضائحي ، وها أنا ذا أسرف في عذوبة الرحيل إليّ...
• رعد: قيامة استفهام؛ عبارة عن حُلُمٍ متكرّر، وتكسّرٍ دائم للمرايا والقلوب والأشجار والطيور و.... وثمَّة ما ينتظر التكسّر والرحيل، هل هو جواب لتلك القيامة ؟!
ـ نجاة : ثمة ما ينتظر التكسـّر والرحيل ، إنـّها شراهة الأيام القادمة وهي تعوي مثل كلاب ضالة , وتجول في البراري المليئة بالشوك والعاقول ، تكرر قامة الأشجار وتقطف ثمارها الضوئية ، ثمة عقارب الصمت وأجنحة النسيان , ثمة سمك الجنوب المتيم بحراشف نقية ومياه سائبة... سوف أدفع الباب ذات صباح .. بيدٍ عاطلة ، وقلب مفجوع ، لا أُجيب عن شيء ، فقط أكرر حلم العودة إليَّ .. وأناغي الأشجار المعمـّرة وتلك النافذة, العمر، أو نافذة الصلاة.. أخيط قيامة أسئلتي بحبال البقاء ، البقاء .. لمصلحة مَن .. هذا البقاء المتكسر، أنا مَنْ يسأل هذه المرة.. ثم من قال أن (قيامة الاستفهام) في العالم هي حلم متكرر وتكسر دائم لنقل المرايا أو القلوب وأن شئتَ للأشجار أو الطيور ، إنها صحوة وليست حلم ؛ صحوة كبيرة ووقوف أدرد على كل شيء .. ربما على أرواحنا التي تمازج حنان الرغبة وتصلب تيجان الماضي.
• رعد: الزمن بكلّ تفاصيله تكسّرٌ آخر لذلك الحلم الذي يشبه دمعةً تحضن سنواتك البيض والسود, هل رأيتِ أن الوقت كان محايداً ؟ أم أن الجدارَ كان قسيمُ العتمةِ والعتمة ؟؟!
ـ نجاة: لم يكن الوقت محايداً وهو يرسم العقارب النابضة على ساعة الجدار, ويقدّ أفولها بدمعة كبيرة، ذرفتها الملائكة وغفتْ ذات صباح.. كان جداراً وهمياً هذا الذي أحاط ذاكرتي على تلك السنوات ومرّغ صباحاتي المعمّرة بظلام مخيف..كان تقياً ورعاً ومناضلاً كسولاً ، لا يأبه بالجرار الممتلئة بالدموع أو يمرغ القطيعة في ليلٍ حالك الأنين... هذا الوقت اللعين الذي فرَّ من ساعة الجدار السوداء وأخذ ينشر خيباته على دمى الطفولة لحشوها بمصابيح رعناء وأسرّة عاطلة ، وليس غريباً أن الجدار يقسم الضوء إلى عتمة معتمة حين ندير له ظهر الكاميرا ونلتقط صوراً مضيئة للعراء... هل رأيت يا صديقي أن ينابيع الطفولة لا تنضب أبداً , تهبك المواجع البريئة، وصباحات ربما تكون أولا تكون منخذلاً فيها .
• رعد: الأمَّ ذلك الوجه الموّزع بين مقبرة وهمية، وعصافير تهاجر إلى كؤوس مترعة بالجنوب متى تكفّين عن زرع جثث الزهور وتبتسمين ؟!
أنا لا أزرع جثثاً للزهور، بل أزرع زهور سرعان ما تموتْ, الآن الشمس غير الشمس، والأرض غير الأرض والكلام حولها دخان أسود، لا يمتْ للغزل ببلسم أو يمتْ للفراشات بتحليق.. مرة صحوت لأجد مقبرة صغيرة أو لنقل جثة صغيرة طفحتْ من عين أمي وتريثت كثيراً قبل أن ألمسها خشية أن تستيقظ رائحة الدموع فأنحر شاة نفسي فدية هذا الضيم أو لنقل هذا الوقت الذي يحتضن سنوات بيض وسود ، ذاك أنَّ الوقت لم يكن محايداً أبداً..الوقت مجنون وكلب مسعور يشطب نعاسنا من الشوارع ويملأ الأسرّة برؤوس خاوية إن شاء بكى أو بالغ في الصراخ لأنّ خيل الله تعدو خلفه بضراوة وتخفي موتاً سحيقاً بين غدوها وكبرياء صحوتها.
• رعد: التماثيل ثم التماثيل، والدمى تقود إلى الدمى هل هي شبابيك تفتح لدمعتك، وأبوابٌ تغلق على دمية الطفولة ؟! أعني الدمى اللاموجودة ؟!
ـ نجاة : مشكلتي مع الحياة هي أني أرى كل شيء عبارة عن تمثال ، كل الأشياء واقفة لا تتحرك وكأني أعيش في عصر الإنجماد ، ما كان مبهجا منها فهو تمثال من البرونز ، بل حتى الممرات والتقاطعات التي تؤدي إلى التماثيل ذاتها تكاد أن تكون نائمة بانتظار أن تتحول إلى تمثال في يومٍ ما... لم تغلق الأبواب على الطفولة وهذا عزائي في شرنقتي تلك ، أقبل جدران الطفولة وأبكي بكل ما أوتي العالم من نهارات وليالٍ ولعب ومغامرات فقيرة ، وإن كنتُ تعني يا صديقي ؛ الدمى اللاموجودة... مرّة سالتُ حبيبي: قُل لي بحق السماء، أين تذهب الأيام الماضية فقال لي ببلادة عظيمة.. تموت، تنتهي، فإذا بي أنفجر في بكاء مرير هل تعني أن كل أحلامنا، جلساتنا، أفراحنا، انتظاري لك، سروري بك جميعها تذهب في العدم، فلم يغمض لي جفن مُنذ ذلك اليوم, أخشى أن أطبق عيني ويسلبني النعاس متعة رؤية العدم.
• رعد : متى تكون المرايا واضحة فيقوم الأحمق بتحطيم يقظة السواحل ؟!
ـ نجاة: المرايا.. المرايا.. ما أشدّ وضوحها وما أبشع تكوينها إنها زجاجة مني تشبهني تماماً، وأنا أتشـّهى أن تكون بيضاء، بدل تلك الألوان الفسفورية التي تعكسها بخبثٍ كبير.. ثم ما بال الأحمق يغفو كلما أشرتُ إليه أن يكون الأكثر مرحاً والأكثر صحواً ليشد من أزر الحنين ويواسي اكتناز الروح بهذا الألم الغريب الذي لا يشبه حتى قسوة جنكيز خان, هذا الأحمق الذي كلما اكتمل قمر البراءة يصفق لصوت الحطام المتناثر من اصطفاف دموعي القروية ، ويقر بيقظة شاطئ مجهول.. أن العالم أزرق ومليء ببقع ضوئية صامتة ، لا تشرق إلا حين يرقص حمقى الطفولة وينثرون حبات الرمان على أفواه النائمين..ربما الآن ؛ حين لا تكتمل تلك اليقظة ولا يستريح هذا الأفول سوف أصفع جميعها وأحطم بعيني المنجمدتين وضوح المرايا.
• رعد:هل طاردك صهيل الليالي. وأنتِ ترقدين نصف ميتة، نصف محلّقة – دون خيول تقترح الفجيعة ؟!
ـ نجاة : بل كم من خيول الصمت أسرجتها لإثراء لغة الفجيعة ، خشية أن تقترح صهيلاً أدردَ وتلقي بخمار الطفولة في أقرب بركان ضوئي , يالخيول نفسي وهي تعود خلفي ، تمسك سياط نفسها وتروض الاشتهاء , حين أرقد أتصفح مساءات غافلة تغط في سهو عميق ، وهنا وهناك تُقام أعراس للألم ، ومآتم للنسيان ، حقاً لقد نسيتني تماماً لفرط ما أمتد الموت على جسدي وأغطيتي , أراقب نفسي (أضعتُ عمري في تعلم كتابة الشعر) كما تقول الشاعرة الأمريكية املي ديكنسون وليتني أفلحت أو قلتُ ما أود قوله ، الشعر هذا العالم المقدس والله أشعر بالخجل وأنا أدلـّل كلماته كي ترقد بين أصابعي ، أتعبني وأتعبته ، أتعبني صهيل الليالي وأتعبني الشعر، وأتعبتني طفولة أعطتني وهي تسرقها مني وتهبها لدمى الحائط.
• رعد : قلعة سكر ، ما بين القلعة والسكر .. هل سقطت أحلامك المشتهاة التكسير ؟!
ـ نجاة : آه من قلاع السكر تلك ، تُبدّد الأحلام وتـرقد نيئة كأنّها بريئة من حلاوة الأيام ، تجلس مرحة وساذجة لتُقشر جلدها الساخن وتقد الأحلام المفخخة ، تنظر بعيون ذاب من حولها الشمع ، تهز يدها بسخرية ثم ترحل مبتسمة.. أما أحلامي فقد سقطت ودُفنت في واحدة من قرى الله، لا أمضي قربها، وإن حدث أمر كهذا، أسمع أنيناً خفياً وصوت تكسر خافت لكائنات أخرى تخرج على مهل من رؤيا الخديعة تودع الجسد الطافح بالأنين وتعانق أصابعي المتكسرة.
• رعد : صورٌ وجدران وزهور تخطف الرجال , أيُّ (سعلوة) زرعت خوفك في خوفها ؟!
ـ نجاة: أي زهور تلك التي تخطف الرجال.. إنهم كالشياطين المجنـّحة ، يلتقونك طيراً ويودعونك سعلاة.. لابدّ من كرة صلدة تلقيها عليهم بين آونة وأخرى لتذكرهم بأن الزمن من حديد وأن الأحلام من ورق... الرجل كائن أناني وطفل مزعج يحتاج إلى قلب كبير أكبر حتى من جبال الهملايا.... نعم أنا خائفة من سعلاة نفسي ، خائفة من ثورتها الطينية على كتفي ومن عينيها البيضاوين ، وحجرها الخشن ، من رقدتها المملة تلك ، وجفن رعونتها ، أنظر حبيبة سلطانها وهو يجوس على مرأى مني ويجيش جيوش على قارعة قلبي.. ثم ما هذه الكاميرات المتنقلة المسماة مرايا إنها تلتقط لنا صور فوتو قلبية بمختلف الأحجام والألوان ، وتخفي شريطها الأسود خلف الزجاج ، تهمس في أذن الجدار رقماً ما ، وحرفاً ما ثم يخلدان إلى راحة القِدَم ، فتباً لقربة أملؤها بالكلمات لتُمسك وثيقة ضدي وهي تتفاعل سلباً بين القعر ، وفوهة الانطلاق.
• رعد: الحلم يساوي واحد, والواحد يساوي خيانة وتعاويذ، أيُّ قيادة كانت تلك ؟!
ـ نجاة : نعم الحلم يساوي واحد ، إنه حلم واحد هذا الذي أرجوه ، أن لا تكون الأرض كروية وبهذا الحجم المخيف ، أن تكون مثلثة مثلاً لأبعد الملل إلى أقصى زوايا الجنون وأمرغ الخيانة في الثلج .. أن لا نخون بعضنا البعض؛ نحن أشباه نواقيس الصبر، ونغفر خطيئتنا بابتسامة ساذجة كأن حلماً لم يشنق أو جدلية لم تُحل.
• رعد: متى اكتشفت أنَّ الحياة تستحقّ قليلاً من عدم اللامبالاة لتتوازن، أو تتوازني ؟!
ـ نجاة : إن الحياة تستحق كثيراً من اللامبالاة وكثيراً من الرعونة وكثيراً من العبث وإلا كيف ليمكن أن أقضم هذا الحديد المسمى رأسي وهذا النحاس المسمى ضجري ، إنها أضحوكة ، لم أتوقع أن تكون على هذه الشاكلة حين خرجت من جيب أمي , لم أكن أعي حياتي التي عشتها بين صراخ البقـّالين وطماطم الصحون وأقدام الرجل في أفران الخبز وهي تُسرع هلعاً كي لا يحترق الرغيف , في شوارع سود نتقافز عليها وحولها مثل كائنات خرافية ، أراك وتختفي ، أراني وأنام ، أصحو؛ الحمّام ، المنفضة ، أبريق الشاي ، تقاويم النعاس ، صورتي الشمسية على النافذة ، بقايا الحمض ، أرض أرض ، هل هذه أرض ، من حول لعامل البناء أن يطليها بتلك المربعات الملساء ، ويغلقها بهذا السقف الأبيض ، أنى لي أن أتوازن ، وأنا أرى الكون يرحل مقترناً بصفير النوارس وخيبات الأرامل ، أنى لي أن أتوازن وقامتي تُصفر أرقاً على أمومة الجرح وتحلـّق مثل بطة عرجاء فوق بُركة ضيقة..أتوازن ، ما أنا فاعلة بأكداس المواجع التي رفضت حتى أمانة العاصمة أن تُودعها في واحدة من حدائقها غير المثمرة على أقل تقدير.
• رعد : هل القصيدة معادلٌ موضوعي لذلك التوازن ؟!
ـ نجاة : لا قطعاً , بل تكاد أن تكون القصيدة معادلاً موضوعياً لللاّتوازن أنا حينما أكتب لا أهدأ , أزداد قلقاً ، وأجنـّد عقلي الذي بدأ يمارس عليَّ سلطتهُ مؤخراً ، لضجيج ما أكتب ؛ هل أكتب لأُغير وجهي أم أغيـّر وجه العالم , أُمسك بزجاج النافذة وأحلم بتحطيمه أو كثيراً ما تذهب يداي إلى التلفاز لعدم قناعتي الكافية بتصميمه الفج , إنـّه مخيف ينقل لي العالم بطريقة مدهشة وأنقل له الأنين فيسخر.
• رعد: هل حلمت بسماءٍ تضحك وأصدقاءٍ يبكون ويتناثرون كعقد المطر ؟!
ـ نجاة: إنـّهم تناثروا كحبـّات المطر.. ملأوا الوقت بالينابيع .. وفارقتني أكفهم الرطبة لتجف تحت شمس أخرى... لقد رأيت ساعة لم أحلمْ، أن السماء تضحك.. نعم رأيتها ، حين ملأت (البرشوتات) سماء بغداد وضحك الأطفال من القلب حين تم إعفائهم من حُقنة الموت ذات صباح.... رأيت أصدقاء يبكون ويعطرّون أقدامهم ببقايا السكائر ورائحة ألآس اليانع .. رأيتهم وودعتهم على عجل ، أنا المنشغلة بفك أزرار النارنج حتى لا يهجم على بقايا البرتقال .. منشغلة ببكائهم الذي تصلّب على الإشارة الضوئية وأطلق زفيره المرّ على ما تبقى من الجنون.. منشغلة بمولد ربيع قصير.. بشتم الشتاء ويفرَّ إلى الخريف مثل زئبق أحمر.
رعد مطشر
بغداد في يوم من أيام المحنة الأبدية



#رعد_مطشر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كركوك
- غربة داخل النص في اعتقاله :
- غربة داخل النص في اعتقاله
- هناءات ٌ متكرّرةٌ ... إليكِ مرّة ٌ أخرى
- كانت البلاد تنامُ عند ساعديه .. بأمان
- كلكامشُ يسألُ عن بلاد وادي الموتيْن
- وأنا أتقاطرُ مِنْ مِعْصمي
- سلاماً .. أيُّها الفؤادُ السالم بالعراق
- تماسكي بغداد .. فالانفجار قريب
- هنا تماماً.. هنا... حريقُ بغداد
- هل كان ميلادنا .. مقبرة أفراحنا
- أيام الشاهين القتيلة
- رسالة ليست متأخرة ... الى ولدي محمد
- ايام الشاهين القتيلة
- شمس .. إلتقاطات الظهيرة الباردة
- كولالة نوري : الشعر إتزان الجميع
- نحن معا ًفي حبّ هذا العراق العظيم
- اليد تكتشف كرويّة جنونها
- عبد الرحمن الربيعي ... أيّها الغريب رتّق نيازكي
- مساقط الضوء أم مرثية الإنطفاء


المزيد.....




- الرئيس الإماراتي يصدر أوامر بعد الفيضانات
- السيسي يصدر قرارا جمهوريا بفصل موظف في النيابة العامة
- قادة الاتحاد الأوروبي يدعون إلى اعتماد مقترحات استخدام أرباح ...
- خلافا لتصريحات مسؤولين أمريكيين.. البنتاغون يؤكد أن الصين لا ...
- محكمة تونسية تقضي بسجن الصحافي بوغلاب المعروف بانتقاده لرئيس ...
- بايدن ضد ترامب.. الانتخابات الحقيقية بدأت
- يشمل المسيرات والصواريخ.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع عقوبا ...
- بعد هجوم الأحد.. كيف تستعد إيران للرد الإسرائيلي المحتمل؟
- استمرار المساعي لاحتواء التصعيد بين إسرائيل وإيران
- كيف يتم التخلص من الحطام والنفايات الفضائية؟


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - رعد مطشر - نجاة عبد الله ... قيامة استفهامي مغمسة بالجنون والجنوب