أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدون محسن ضمد - حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الأولى















المزيد.....

حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الأولى


سعدون محسن ضمد

الحوار المتمدن-العدد: 1723 - 2006 / 11 / 3 - 07:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


(في التأسيس لفهم جديد للعصمة والوحي)
مقدمة
يتعاطى الإنسان مع الواقع الخارجي ـ وحتى الداخلي خلال عمليات الاستبطان ـ من خلال منظومة (فحص، تلق، إدراك(1)) يعمل عن طريقها على تصنيف المثير الخارجي وتقييمه ثم الإعداد للتفاعل معه. وتعتمد هذه المنظومة على جملة من الآليات التي تستخدمها خلال عملياتها المختلفة. وسنتعرض في هذه الأوراق لعلمية تحليل نريد من خلالها استكشاف منظومة الإدراك الإنسانية، للوقوف على مدى أهليتها للتعاطي الموضوعي مع المدركات، وبصورة خاصة المدركات فوق الطبيعية، أو بالأحرى فوق الحسية، في سياق تقييم لأداء هذه المنظومة مع المدرك الغيبي.
مع أن المقصود بالخطاب (المقدس) يمكن أن يشمل عموم النصوص (الإلهية)، إلا أننا سنؤكد على الخطاب الإسلامي، الذي هو المخطوط القرآني باعتباره نص جاء به الرسول محمد(ص) ونحاول أن نشخص ونؤشر الأبعاد الذاتية(2) والموضوعية في هذا الخطاب.
مبدئيا سنصنف عملية تلقي هذا الخطاب على أنها اتصال تمت بين الله والإنسان، وعليه سندخل من خلال تأشير الجهات الثلاث (المُخاطِب، الخِطاب، المُخاطَب) التي تتكون منها جميع عمليات الاتصال، بضمنها الوحي، الذي تتكون عملية الاتصال فيه من: المُخاطِب الذي هو بالمفروض الله سبحانه وتعالى والخطاب، بما يتضمنه من ترجمة للوحي يقوم بها الرسول(ص)، والمُخاطَب ألذي هو المتلقي (الإنسان بصورة عامة).
ويأتي سؤال الذاتية في الخطاب من كونه يمر عبر هذه المراتب الثلاث، وبالتالي يمر عبر وساطة الإنسان (الرسول) واسطة نقل الخطاب وتحويله من خطاب الهي إلى خطاب أنساني.
الرسول محمد(ص) هو الذي نقل لنا الخطاب، بعنوان أنه خطاب إلهي مرتبطة بالله سبحانه وتعالى، وهكذا يصبح طرف الإنسان في المعادلة الخاصة بموضوعية الخطاب هو نقطة الضعف فيها. بمعنى آخر أننا سنخرج في معالجتنا هذه من دائرة التساؤل حول مدى إلهية الخطاب، إلى دائرة أخرى تشتمل على التساؤل حول بقاء الإلهية في الخطاب، خلال رحلة انتقاله من المطلق إلى المقيد، منتقلين بذلك من السؤال الذي يقول:
هل الخطاب القرآني خطاب إلهي؟
إلى سؤال آخر يقول:
هل بقيت القيمة الإلهية (ما فوق الإنسانية) المتضمنة في الخطاب على حالها، أثناء عملية نقله إلى المستوى البشري؟
بعد أن نتطرق لجهات الاتصال الثلاثة، سنحاول الكشف عن الكيفية التي يتم من خلالها ممارسة الاسقاطات الذاتية، ثم بعد ذلك ننتقل لإيضاح العلاقة بين الوحي ومنظومة الإدراك الإنسانية، في محاولة لصياغة وجهة نظر نقدية تؤسس لتعاط آخر مع المفاهيم التالية: (الوحي، العصمة، النص المقدس). بعد ذلك سنحاول تطبيق وجهة النظر على واحد من أهم المفاهيم التي عالجها النص المقدس، وهو مفهوم التوحيد لنختبر المعطيات التي سنخرج بها حول ذاتية وموضوعية تعاطينا مع المدرك الغيبي، من خلال هذا المفهوم.

مثلث الاتصال:
إن الجذر الذي تتأسس عليه التساؤلات المتعلقة بمدى أهلية منظومة الإدراك الإنسانية للتعاطي مع المُدرك الغيبي، هو أن عملية الانتقال بالخطاب من كونه إلهي، إلى كونه إنساني تتضمن الكثير من الفعاليات، أهونها عملية ترجمة الخطاب، من المستوى فوق اللغوي، إلى المستوى اللغوي، الأمر الذي يعني أن هذا الخطاب خضع لمنظومة الإدراك الإنسانية، ومن ثم لعملية ترجمة، وخلال مروره بهاتين الفعاليتين، فإنه ولا بد قد خضع لعملية ضغط تتناسب وحجم المفردة اللغوية، من جهة، وتقابل المفهوم الإنساني من جهة أخرى.
من وجهة النظر التي تنطلق منها هذه الأوراق تكون المشكلة التي تهدد القيمة الموضوعية للخطاب، مندرجة في إطار التشويه الذي يلحق بالمفاهيم أثناء عملية نقلها من المستوى المطلق إلى المستوى المقيد أو المحدود.
كما قلنا سابقاً فإن مثلث الاتصال يتكون من مكونات أو أركان ثلاثة هي:

أولاً: المُخاطِب (الله):
الذي هو فوق طبيعي، لا يمكن تصوره، أو جعله موضوعاً مباشراً للإدراك الإنساني (البدائي) خاصةً وأنه كموضوع، يقع خارج نطاق تجربة الإنسان الإدراكية، والإنسان خلال تعاطيه مع مواضيع إدراكه لا يستطيع أن يخرج عن حدود تجربته، وكما سنحاول توضيحه لاحقاً. لكن لا بد لنا من الإشارة إلى أننا لا نستطيع أن ننجز حكماً يقينياً بالمضمون المنقول إلينا عبر النص المقدس، إلا بالاعتماد على العبارات والألفاظ التي استخدمت كآلة تم من خلالها شحن ذلك المضمون خلال مسافة رحلته من المطلق إلى المقيد. وهذه العبارات أو الألفاظ وكما هو واضح، منتجات إنسانية، ابتكرها الإنسان انطلاقاً من تجربته (التاريخية/ الحضارية)، وبالنتيجة يكون المضمون المطلق (الإلهي) مشحون أو منقول إلينا بعبارات المقيد (البشري)، ومن ثم يمكن لنا أن نتخيل (تسامحاً) أن تجربة المطلق الأزلية الخارجة عن كل نطاق زماني ومكاني، اضطُرَّت للاندراج بقيود ومحددات تجربة المقيد الحديثة زماناً والضيقة مكاناً. ومع أن فاصل الخبرة بين البالغ والطفل ليس كبيراً نسبياً، إلا أن البالغ يواجه مشكلة كبيرة في عملية التواصل مع الطفل، أو نقل المعلومات إليه، والسبب في ذلك يكمن بأن منظومة الطفل قليلة التجربة، وهي من ثم غير مؤهلة للتواصل مع منظومة البالغ. هذا حال الطفل مع البالغ مع أن فاصل الخبرة بينهما قليل، فكيف يمكن أن يكون حال التواصل الذي يحصل بين الإلهي والبشري؟.

ثانياً: الخطاب (الرسول/ تلقي الرسالة):
ونقصد بالخطاب العملية التي تم خلالها انتقال (الوارد أو المراد أو المضمون) الإلهي، إلى الرسول وتحوله بالتالي من مراد إلهي فوق طبيعي، إلى مدرك إنساني طبيعي، ونقصد بعملية التحول من ما فوق الطبيعي إلى الطبيعي، اندراج المضمون الإلهي بالقوالب (المفاهيمية/ اللغوية) الإنسانية، أو مرور المعطى الغيبي خلال منظومة الرسول الإدراكية، وتحوله لمدرك أو معلوم أو معروف.
ومع أن الرسول(ص) يصدق عليه أنه مُخاطَب، الأمر الذي يحتم علينا أن نصنفه ضمن الركن الثالث من أركان عملية الاتصال، لكننا في هذا العنوان سنركز على عملية التواصل قبل اكتمالها وتحولها لخطاب مميز موجه للرسول كمُخاطَب، ونترك معالجته كمُخاطَب للعنوان التالي، إلا أننا نريد أن نستثمر اتضاح ازدواجية دور الرسول(ص) بوصفه خطاب ومخاطب في نفس الآن، لنشير بإيجاز إلى انشطار العصمة لهذا السبب، وتحولها إلى عصمتين هما:
1. عصمة الخطاب حتى لحظة اندراجه في منظومة الرسول الإدراكية، وتحوله لمدرك إنساني.
2. عصمة الخطاب خلال انتقاله من الرسول إلى الناس.

ثالثاً: المُخاطَب (الإنسان، الحضارة، التاريخ):
الخطاب المقدس في هذه المرحلة يكون موجه للإنسان، للتجربة البشرية، بكل ضعفها وقلة خبرتها، وعدم أهليتها للتعاطي مع الماوراء، تعاطياً مجرداً عن الاسقاطات الذاتية، وهنا ينكشف لنا بعداً آخراً من أبعاد الإسقاط الذاتي الذي يمارس على النص المقدس، فحتى مع التسليم بأن منظومة التلقي عند الرسول فوق بشرية، لا يمكننا أن نقول بأن منظومته في الإلقاء أو التواصل مع الآخرين خارقة أيضاً، لأن عملية التواصل في هذه المرحلة لا يقوم بها الرسول (المعصوم) فقط بل يشترك معه بها الناس، وهم غير معصومين.
بهذه الحدود نكون قد مهدنا للمدخل الذي سنعالج من خلاله الأثر الذي يمارس على النص المقدس من خلال منظومة الوعي الإنسانية، فخلال هذه المراتب الثلاثة انتقل الوحي، وتحول من مضمون لمضمون مغاير، والمغايرة هنا إن لم تكن مفهومية، فهي لغوية حتماً، إذ الشكل اللغوي (العربي) الذي لبسه الخطاب الإلهي، يعدُّ نوعاً من أنواع المغايرة، بسبب أن الخطاب بمرتبته الإلهية فوق مستوى جميع اللغات.

الأبعاد الذاتية والموضوعية في الخطاب الأول
بمثابة توضيح
من الواضح أن ملكة الإدراك الإنساني محدودة بحدود تجربته التاريخية، فهو حين يجعل من الواقع الخارجي موضوعاً لإدراكه ونقل هذا الإدراك للآخرين، إنما يعتمد على منظومة من (لغة، مفاهيم، معايير، قيم) يستعملها في التعاطي مع هذا الموضوع من أجل تكوين صورة ذهنية تجعله ـ الموضوع ـ قابلاً للتصنيف والتحديد والتسمية ومن ثم الاندراج في نفس مفردات منظومة الإدراك ليكون منطلقاً أو مساعداً في إدراك المواضيع الأخرى.
ومن هنا تنطلق إشكالية الذاتية في الوعي الإنساني، وتختلف من ثم وجهات النظر بخصوص الموضوع الواحد، حيث يستعمل كل فرد، ومن ثم كل مجتمع أو مجموعة بشرية، إرثه وثقافته وجملة بنيته المعرفية كإطار مرجعي في عملية التعاطي مع الموضوع، وهكذا يتعرض المثير الواحد لعملية معالجة من أطر مرجعية مختلفة، ويصبح من الأكيد أن تختلف وجهات النظر وتتباين. وفي الحقيقة أن هذا الأمر لا يملك الإنسان بإزائه حيله، فهو بأي حال لا يستطيع أن يستعير أدوات الآخرين الإدراكية في تعاطيه مع الواقع، خاصة وأن عملية الحكم والتقييم على الموضوعات، تكون في الأعم الأغلب عملية ذاتية، إذ التصديق أو عدم التصديق بالحكم أمر ذاتي وليس موضوعي. وهكذا تكون آلية الإدراك بكل ما تحتوي عليه من (لغة ومفاهيم ومعايير وقيم) حاكمة ومتحكمة في صنع الصورة الذهنية للموضوع المُدْرَك. وسنحاول التطرق بصورة مبسطة أولية لتأثير كل مفردة من هذه المفردات:
أولاً: اللغة
لا يخفى بأن مفردات اللغة الخاصة بأي ثقافة محدودة بحدود تجربتها التاريخية، وهي بالتالي صنيعة من صنائع هذه التجربة، وأن أي لغة عرضة لعملية تغير وتبدل وتطور، بحكم التطور الذي يمر به الإنسان، مستخدم هذه اللغة، وعلى هذا الأساس يقفز للذهن السؤال الذي يقول: إلى أي مدى يمكن للغة محدودة المفردات خاضعة لتجربة ثقافية محدودة في أن تنجح بعملية نقل موضوع يفوق قدرتها الاستيعابية من جميع الجهات. بعبارة أخرى كيف تستطيع اللغة العربية أن توفر كمّاً من المفردات يكافئ كم المعاني المراد نقله من منطقة الغيب، وهي اللُّغة التي يمكن القول بأنها كانت ولا تزال بمعرض التَشَكُّل.
بحسب الفرض الإسلامي فإن لكل واقعة حكم، فكيف يمكن للُّغَةِ العربية أن تنقل الحكم المتعلق بموضوع لا تمتلك مقابله اللغوي، في خزين مفرداتها؟
ونستطيع أن نأخذ مثالاً يقرب الإشكالية بصورة أكثر، فعندما كان النص المقدس بمعرض وصف النور الإلهي في سورة النور، جاء الوصف بالشكل التالي: ((الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نو على نور يهدي الله لنوره من يشاء))(3). ونلاحظ أن المفردات (مشكاة، مصباح، زجاجة، كوكب درّي، شجرة مباركة، زيت، ضوء، نار، نور) مفردات إنسانية خاضعة وكما قلنا للتجربة الإنسانية، وهي لا تناسب المعنى المراد إيصاله، المعنى الذي يتعلق بالذات المطلقة، الذات التي تقع خارج الحس والخيال والتجربة الإنسانية. المدرك هنا غريب على التعاطي البشري، ولذلك بدت المفردات مثقلة بصورة ومعنى يفوقان القابلية المودعة فيها، نعم في النهاية كانت وصف النص المقدس للنور الإلهي ساحر لكن ساحريته محددة بتجربتنا، أي أننا أسقطنا ومن خلال لغتنا محدودية واضحة خلال عملية وصف القدرة الإلهية غير المحدودة، ومن ثم وبسبب ذلك بقيت القدرة أو المنزلة، أو ما لا أعرف تسميته الحقيقية بقيت مرهونة بالصورة الذهنية، للضوء والنار والنور. ويبدوا الأمر واضحاً أكثر بالنسبة للآيات التي تم خلالها وصف التواصل الإلهي باستخدام المفاهيم المتعلقة بأدواة التواصل الجسدية البشرية (اليد) مثلاً، ((يد الله فوق أيديهم))، فالجدل الذي أثاره هذا الاستخدام والمتعلق بتجسم الله تعالى منشأة الإسقاط الذي يمارسه المفهوم المحدود على المعنى المطلق، عليه فالإنسان لا يستطيع أن يتعامل مع غير المفهوم الأرضي، ولا يمكنه التواصل مع المقابل المعنوي (الإلهي) المراد نقله من خلال المفهوم الأرضي، لأن هذا التواصل خارج حدود التجربة، ليست الفردية بل والنوعية أيضاً.

ثانياً: المفاهيم
نفس الأمر يقال عن المفاهيم، ذلك أن المفاهيم الإنسانية، وفي أي ثقافة تكون محدودة بتجربة تلك الثقافة التاريخية ومرهونة بها، والسبب في ذلك أن المفاهيم لا تتكون من فراغ، فهي حصيلة مباشرة للتجربة، حتى وإن كانت خيالية، وبدون التجربة لا يتكون المفهوم، ولا الصورة الذهنية الخاصة بموضوعه، تقول لندا.ل دافيدوف: »تؤثر الخبرات في ثقافة معينة على طريقة التعامل مع المعلومات فتصور مثلاً أقزام البامبوطي (Pygmies BaMbuti) الذي يعيشون في الغابات الاستوائية الكثيفة في الكونجو حيث يندر وجود المناظر البعيدة 100 قدم من أعلى شجرة إلى الأرض. ولكن أحد هؤلاء الأقزام ويدعى كنجي Kenge قام برحلة مع أحد علماء الانثروبولوجيا ويسمى كولن تيرنبول Colin Turnbuill إلى سهل منبسط حيث رأى لأول مرة في حياته مسافة تمتد أميالاً وإليك ما كتبه تيرنبول عن هذا الحديث. نظر كنجي عبر السهول إلى مكان يوجد فيه قطيع من مائة ثور ينظرون إليه من على بعد أميال. فسألني ما نوع هذه الحشرات فأخبرته أنها ثيران وأنها في ضعف حجم ثيران الغابة المعروفة له. فضحك بصوت عال وأخبرني ألا أحكي مثل هذه الحكاية السخيفة وسألني مرة أخرى عن نوع هذه الحشرات. ثم أخذ في التحدث إلى نفسه وكأنه يبحث عن رفيق أكثر ذكاء وحاول أن يجد رابطه بين الثيران وأنواع الخنافس والنمل المألوفة لديه. وظل على هذه الحال حتى ركبنا في السيارة إلى حيث يوجد قطيع الثيران. وأخذ يراقب القطيع والثيران تبدوا أكبر فأكبر ورغم شجاعته، مثله مثل كل الأقزام، إلا أنه تحرك وجلس بجانبي ودمدم قائلاً بأن هذا سحر. وأخيراً عندما تحقق من أنها ثيران حقيقية. كف عن الخوف. ولكن ما كان يحيره هو السبب في أنها كانت تبدوا صغيرة جداً وإذا ما كانت فعلاً صغيرة وكبرت فجأة. أو أن هناك خدعة في الأمر«(4) هكذا نرى أن أقزام البامبوطي لم يكوّنوا مفهوماً ما يقابل العلاقة الطردية بين حجم الشيء وبعده عن العين، وبالتالي بقي كنجي لا يستطيع أن يفهم كيف يكون موضوع الإدراك (ثيراناً) وأنها في نفس الوقت صغيرة الحجم، والسبب في ذلك هو نفس خبرة ليس كنجي فقط وإنما ثقافة مجموعته التي كانت تعيش في بيئة كثيفة الأشجار الأمر الذي لا يوفر مدى بعيد للرؤية، وهكذا بقي مفهوم (بعيد) ـ الذي لا بد وأن (كنجي) يعرفه ـ لا يرتبط بصغر حجم الشيء البعيد، ومن ثم أثرت التجربة الثقافية في أن يكون المفهوم غير تام. وهناك مثال آخر، فمفهوم الأنوثة مرتكز ومتأسس على مفهم المرأة. مفهوم الأنوثة مشتق من مفهوم المرأة ومفهوم المرأة أيضا مرتكز ومتأسس على المرأة الخارجية، بمعنى أن للصورة الخارجية اثر فعال على تشكيل المفهوم.
عندما يقال أنثى يتصور المتلقي إمرأة بثديين بارزين وشعر طويل. بالتالي فالإنسان في مرحلة صياغة مفهوم الأنوثة استعار الكثير من مفردات المرآة ومفردات مفهوم المرآة شكل منها مفهوم الأنوثة ولذلك عندما يكتشف الإنسان البسيط أن كثافة الشعر بالنسبة للأسود معكوسة وأن ذكر الأسود كث الشعر والأنثى بلا شعر يشعر بالاندهاش لأنه يفترض بأن الأنثى بصورة عامة بشعر كثيف على الرأس.
هكذا نعتقد بأن التجربة المفاهيمية تبقى محدودة بحدود الخبرة الخاصة بالجماعة وتاريخها وغنى تجربتها. ومن هنا نجد بأن الكثير من الآيات القرآنية كانت عرضة للجدل الذي هدد الكثير من المضمون القرآني للهدم، خاصة ـ وكما أشرنا سابقاً ـ تلك الآيات المتعلقة بالتجسيم والتجسيد، حيث أنها حاولت أن تتعرض لنقل مضامين عن الغيب أو القدرة المطلقة، لا تشبه أياً من المضامين المتعلقة بتجربة الإنسان المتلقي، فكان لا بد لها من استعارة المفاهيم الأكثر قرباً من الموضوع المراد نقله.
إن مفهوم اليد في القرآن (يد الله فوق أيديهم) ومفهوم الاستواء (استوى على العرش) ومفهوم القول (وإذ قال ربك للملائكة)... الخ كلها مفاهيم مستعارة من تجربة المتلقي، وأنها لا تناسب الحقيقة المنقولة، فنحن نعتقد بأن هناك مفارقة تطرحها هذه الآيات، إذ أن هناك معنى يناسب جهة الغيب الجهة الإلهية كان بمعرض النقل لجهة الشهادة الجهة البشرية، وأن هذا المعنى خرج من خلال مفهوم اليد، أو مفهوم الاستواء، ثم بعد ذلك أثار هذا المفهوم جدلاً واسعاً في بيئة التلقي، فقد أدركت هذه البيئة بأن مفهوم اليد لا يمكن أن يكون مطابقاً تاماً للمفهوم المراد نقله أساساً، ثم بمرحلة متقدمة أنكرت هذه البيئة المطابقة وانتهت إلى أن المطابق الحقيقي لهذه المفاهيم غير معروف، كما يقول الشافعي مثلاً (الاستواء معلوم والكيفية مجهولة) وهكذا عجزت عملية النقل عن أداء دورها التام في نهاية المطاف، فقط لأنها مرهونة بتجربة الإنسان.
نفس الأمر يقال عن المفاهيم (الملائكة، الوحي، الشياطين، الجنة النار... الخ) فكلها مفاهيم قيّدت بتجربة الإنسان ومن ثم بقيت مثيرة للجدل والأخذ والرد وبالتالي الاختلاف والتعارض والتشتت.

ثالثاً: المعايير والقيم
للمعايير والقيم أثر مهم في عملية الإدراك الإنساني، ومن ثم في عملية نقل المعلومة، إذ أن دقة المعيار المستخدم في آلية الإدراك بالنسبة لمعرفة وزن المعلومة المعرفي أو المعنوي أو المادي، ومعنى القيمة في تلك الآلية، هما اللذان يحددان في نهاية المطاف الشكل الخارجي والمحتوى الضمني للمعلومة، سواء كانت منقولة أم مُسْتَقبلة من الخارج.


الهوامش
(1) الإدراك: تمثيل حقيقة الشيء وحده من غير حكم عليه بنفي أو اثبات سمّي تصوراً ومع الحكم بأحدهما يسمّى تصديقاً. [الجرجاني، علي بن محمد، كتاب التعريفات، بيروت، مكتبة لبنان، 1985، ص13].
(2) كلما سيرد في هذه الأوراق عن الذاتية، يقصد به الذاتية ببعدها الاجتماعي الحضاري، فالاسقاطات التي يمكن أن تمارس من قبل المتلقي لا تمارس بالعنوان الشخصي (الفردي)، بل بل (الاجتماعي/ الحضاري)، المتضمن لتأثير ثقافة المجموعة أو المجتمع في صياغة المفاهيم التي يتعامل من خلالها الفرد في تعاطيه مع مدركاته. فمن الواضح أن هناك فرقاً واضحاً بين مفاهيم وألفاظ ومعايير الثقافات المختلفة.
(3) سورة النور الآية (35).
(4) لندا. ل، دافيدوف، مدخل علم النفس، ترجمة، د. سيد الطواب، وآخرين، الدار الدولية للنشروالتوزيع، ط4، 1983، ص280-281.



#سعدون_محسن_ضمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جريمة أنني أفكر/ أفكر؛ أنني مجرم
- كذبة كبيرة أسمها.... العراق
- وداعاً شهاب الفضلي.. ما دمت هناك وأنا هنا
- الإسقاط الرمزي لشكل الأعضاء التناسلية.. دراسة في عدوانية الذ ...
- ولمية عفاريت
- مدفع الشرق الأوسط الكبير... الدرع الأميركي بمواجهة القذيفة ا ...
- تحضُّر العجرفة... ضريبة أننا لا نريد الاعتراف بالعجز
- تجريم الإسلام.. دعوة للتنقيب بحثاً عن كل جذور العنف في العرا ...
- تهافت المنهج في العلوم الإنسانية
- إفلاس الانثروبولوجيا
- الثابت والمتحكم في جدل الإنسان والدين
- المجد لحضارة المقابر... حيث الموتى وحدهم يتكلمون*
- العقل الخالي... تخبط السياسة الأمريكية بين نموذجي خاتمي ونجا ...


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدون محسن ضمد - حدود الإدراك في منظومة التلقي الإنساني... الحلقة الأولى