أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمد أيوب - التاسع والعشرون من أكتوبر والذكريات المؤلمة















المزيد.....

التاسع والعشرون من أكتوبر والذكريات المؤلمة


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1720 - 2006 / 10 / 31 - 10:50
المحور: القضية الفلسطينية
    


نصف قرن مضى على مجزرة كفر قاسم التي تصادف ذكرى وقوعها اليوم ، ففي صباح يوم الاثنين التاسع والعشرين من أكتوبر سنة 1956 م ، كنا نجلس على مقاعد الدراسة في مدرسة خان يونس الثانوية ، كنت يومها في الصف الأول الثانوي " الثالث الإعدادي أو التاسع في هذه الأيام " فقد كانت المرحلة الابتدائية أربع سنوات والمرحلة الإعدادية أربع سنوات ، كنا في حصة اللغة الإنجليزية عندما صفعت أسماعنا أصوات طائرات المستير فرنسية الصنع ، طلب منا المدرس عبد الكريم ريان أن نختبئ تحت مقاعد الدراسة ، ابتسمت تعبيرا عن عدم قناعتي ولكني لم أجد بدا من تنفيذ أوامر المعلم حتى ولو انهار السقف علينا جميعا ، ولكن الطائرات كانت تسعى إلى هدف أكبر منا . خرجنا من المدرسة وكلنا أمل أن نعود في اليوم التالي إلى مقاعد الدراسة ، انتشرت أخبار مذبحة كفر قاسم التي ارتكبها الجيش والشرطة الإسرائيلية ضد عمال مدينة كفر قاسم العائدين من أعمالهم ، حيث تم فرض نظام حظر التجول قبل انتهاء يوم العمل ، تربص الجيش للعمال العائدين إلى منازلهم وأطلق عليهم النيران بحجة أنهم خرقوا نظام حظر التجوال الذي لم يكونوا يعلمون بوجوده أصلا ، قتلوا العشرات من العمال ليرهبوا العرب الذي بقوا في ديارهم داخل إسرائيل ولم يغادروها .
هبت الحرب واشتد القتال وحلقت الطائرات فوقنا تطلق علينا رصاصها لتسقط علينا الرصاصات الفارغة فيحولها السمكري إلى قداحات تستخدم في إشعال مواقد الكيروسين والسجائر ، كانت صنابير المياه وكذلك دورات المياه في الشوارع وقتها ، طلبت مني والدتي في يوم الثلاثاء أن أملأ جرتنا بالماء ، وقبل أن يصلني الدور جاءت أربع طائرات مستير وبدأت تطلق الرصاص علينا ، انقذفنا جميعا في خندق مجاور ، الرجل والنساء الذين تناسوا الفروق الجنسية بينهم وانقذف جسدي فوق الجميع إلى أن ذهبت الطائرات فملأت جرتي حتى نجد ما نشربه لو اشتدت الأمور . كانت المعارك العنيفة تدور في سيناء ، تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في معركة الممرات وخصوصا في الكونتيلا ، ومن سوء حظنا أن يكون نصيب مدينتنا ومخيمنا مع هذه الكتيبة التي عادت مهزومة من الكونتيلا بعد أن فقدت كثيرا من أفرادها ، بدأ الجنود باقتحام المنازل ، كنا قد غادرنا بيتنا إلى بيت عمي وجدتي حرصا على أن نموت معا أو أن نحيا معا ، دخل الجنود بيتنا فلم يجدوا أحدا فيه فانتقلوا إلى بيت جيراننا ، طلبوا من ابنهم الوحيد وهو ما زال طفلا أن يدير وجهه نحو الحائط في غرفة نومه ، بكت أمه ورجاهم والده الضرير أن يرحموا شيبته وأن يبقوا له ابنه الوحيد ، ولكنهم أطلقوا عليه الرصاص وتركوه يموت دون أن يساعده أحد .
كنت في بيت عمي لا أعلم بما يجري في الخارج ، أسمع فقط صوت إطلاق النيران المكتوم ، لم أكن أعلم أنهم قتلوا حسينا أعز أصدقائي مع أخيه العريس حسن ، كان حسن قد تزوج حديثا ، كانت زوجته رائعة الجمال ، كان اسمها حياة ، وقد أحبتني كثيرا ، فقد كنت مبهورا بجمالها ، أطلقت علي لقب " سكر " ولكنها لم تهنأ بحياتها فقد اختطف الموت زوجها وهي حامل لتولد ابنتها محرومة من الأب ولتغادر بيت الزوجية إلى بيت أهلها في العريش ، ذهبت حياة وذهب معها طعم الحياة الجميلة على الرغم من البؤس وشظف العيش ، كما قتل صديقي نمر أبو مسلم وإخوته داوود وصبحي وعدد ممن يختبئون عندهم ونجا شقيقه خضر من الموت بأعجوبة وما زال حيا حتى الآن ، فقد تظاهر بعد إصابته بالموت حتى لا يطلقوا الرصاص عليه من جديد إذا اكتشفوا أنه حي .
دخلوا بيت جارنا إبراهيم المقنن ، طلبوا من أخيه عادل الذي ترك بيته المجاور لبيت عمي أن يقف عند الجدار وأطلقوا عليه النار فاخترق الرصاص كتفه الأيمن وصار يتلوى والدم يتدفق منه بغزارة وقد شل ذراعه بعد ذلك ، طلب إبراهيم من الجندي أن يطلق الرصاص على رأسه مباشرة حتى لا يتعذب مثل أخيه ، وقد استجاب الجندي لرغبته ، وقبل أن ينطلق الرصاص كان إبراهيم قد مد يده نحو ماسورة البندقية ، لم يلحظ الجندي أنه لم يصب بينما وقع هو مغشيا عليه ، وبعد فترة فتح عينية فرأى شباك الغرفة مفتوحا ، اعتقد أن الميت يمكن أن يرى ما حوله ، ولكي يتأكد مد يده نحو رأسه فوجد أنه لم يصب ، أصابه الرعب فبدأ يبحث عن مخبأ له فلم يجد سوى قن الدجاج " عشة الفراخ " فاختبأ هناك إلى أن انتهت المجزرة ، توجهوا إلى بيت يوسف نصر وأطلقوا عليه وعلى عديله النار ، وبعد أن خرجوا تحسس عديله جسده فوجد أنه لم يصب فاعتقد أن الرصاص الذي يطلقونه يصدر صوتا فقط ، نادى على عديله أن انهض فلم يرد عليه ، مد يده نحوه فتبللت بدمه الحار ، أصيب بالرعب واختبأ في قن الدجاج أيضا .
دق جار عمي على شباك الغرفة التي كنت أختبئ فيها وطلب منا أن نرفع راية بيضاء وأن نخرج لتسليم أنفسنا ، وقبل أن نقتنع بذلك نظرت من على عتبة البيت فرأيت مجموعة من الناس يرفعون أيديهم ويرتجفون ، قلت لعمي : هل نذهب لنسلم أنفسنا لهم ؟ وقبل أن يرد علي انطلقت زخات الرصاص وبدءوا يتساقطون واحدا بعد الآخر ، وقد عرفنا فيما بعد أنهم كانوا ثمانية عشر شخصا .
ضاقت علي الدنيا بما رحبت وصرت أتنقل من مكان إلى آخر داخل الغرفة وفي كل مكان أنتقل إليه كنت لا أشعر بالأمان ، إلى أن توقفت عمليات القتل بعد عصر يوم السبت الثالث من نوفمبر تشرين الثاني ، أرسلنا أختي الصغيرة لتجلب لنا الدقيق من بيتنا وتتفحص الأمر ، أوصيناها ألا تتفوه بكلمة إن سألها الجنود أي سؤال ، كانت جريئة لم تخف ، ولم يخش أبي عليها من القتل ، عادت لتخبرنا بأن القتلى في الشوارع وأن اليهود يحاصرون الناس رجالا ونساء في قهوة أبو مسلم ويصوبون نحوهم الرشاشات .
بعد يومين رفعوا حظر التجول ، خرجت من البيت للتبول في المرحاض المجاور ، ولكني فضلت أن أتبول خارج المرحاض حذرا من المفاجئات ، جاء من خلفي جنديان فتوقف تدفق البول ، ولكنهما لم يكلماني بل ألصقا على جدار دورة المياه منشورا موقعا من قائد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في قطاع غزة " سيغان ألوف حاييم غاءون " يطالب فيه السكان بتسليم أسلحتهم والتزام الهدوء ويهدد بمعاقبة المخالفين .
كان يوما عصيبا ، كان أطول من أطول يوم في التاريخ ، ترى فيه الموت بالألوان وكانت الأيام التالية أياما بالغة السوء ، فقد بدأ الناس في جمع موتاهم الذين انبعثت منهم روائح كريهة تزكم الأنوف ، نقلوهم على العربات التي تجرها الحمير وقد أخذ كل من في الشارع يغلقون أنوفهم حتى لا يشموا رائحة من كانوا أحباءهم بالأمس القريب ، وقد بلغ عدد من قتلوا حوالي ثمانمائة شهيد في ذلك اليوم ، وقد أصر والدي أن يحلق لي شعري على الصفر حتى أبدو أصغر من سني بعد أن عرف أنهم قتلوا صديقي العزيز وابن صفي .
كنت قبل العدوان آخذ طلبات التطوع التي تنشرها جريدة الجمهورية وأعبئ بياناتها وأضعه في صندوق البريد وأنتظر أن تصلني رسالة يبلغونني فيها بأنهم قبلوني متطوعا للدفاع عن قناة السويس ، كنت أرى أن تحرير القناة من سيطرة الاحتكارات الغربية تشكل خطوة على طريق تحرير فلسطين ، ولكن الطريق طالت وما زال الدرب طويلا والمؤامرات كثيرة ، تحاك ضدنا من الداخل ومن الخارج ، فهل نصل ذات يوم ، آمل أن يحدث ذلك وأنا على قيد الحياة لأفرح ولو لساعة واحدة أموت بعدها وأنا مطمئن النفس هادئ البال .



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طفالنا والعيد - خاطرة
- نداء عاجل موجه إلى السيد مدير عمليات الوكالة بغزة
- توأمان سياميان - خاطرة
- أفين شكاكي والبوح المستمر - قراءة نقدية
- التسلط بين الفرد والدولة
- أبو الكلب - قصة قصيرة ، بقلم : موشي سميلانسكي - ترجمة : د . ...
- الموت الفجائي - قصة قصيرة - موشي سميلانسكي
- الكف تناطح المخرز - رواية
- الإضراب والرواتب وأشياء أخرى - بقلم : د . محمد أيوب
- يوم عادي في حياة غير عادية
- الهم السياسي في آخر قصائد مظفر للنواب - قراءة نقدية
- الكف تناطح المخرز / 11 ، 12
- قرار مجلس الأمن 1701 والحرب القادمة
- قراءة في البيان السياسي للمؤتمر الناصري العام
- حساب المثلثات في الشرق الوسط والعالم
- أحلام بسبسة والشرق الأوسط الجديد
- الكف تناطح المخرز - رواية / 7
- ثورة يوليو شكلت ضمير الأمة
- إسرائيل والهداف غير المعلنة في لبنان والمنطقة
- الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د. محمد أيوب / 6


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمد أيوب - التاسع والعشرون من أكتوبر والذكريات المؤلمة