أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - محمد حسن عبد الحافظ - الجامعة المفتوحة على طريق الجنوب : نقش على جذوع شجر الزيتون















المزيد.....


الجامعة المفتوحة على طريق الجنوب : نقش على جذوع شجر الزيتون


محمد حسن عبد الحافظ

الحوار المتمدن-العدد: 1718 - 2006 / 10 / 29 - 11:09
المحور: المجتمع المدني
    


قبل زُهاء سبع سنوات (في نوفمبر/تشرين الأول 1999) عدت إلى مصر قادمًا من المغرب حاملاً جوهرة مقدسة منقوش عليها حكمة البسطاء ومعارفهم التي لجات إليها فارًا من ضغوط الجامعة المسيجة بأسياخ حديدية مدبدة. معلمتي الجليلة المتواضعة "كورين كومار" ألقت بالجوهرة الهندية في قلبي عن طيب خاطر. همست لنفسي: ستنسى ما ألهمتني به، وستنساني؛ ذلك لأنني سأرحل وسأغيب دون رسائل الكترونية، ودون اتصالات هاتفية، ودون الالتزام بكتابة تقرير. اخترت طريقًا آخر، مثل إنسان يخرج من حكايات ألف ليلة وليلة والحواديت الشعبية والملاحم، تأخذه الرحلة دون حساب لسنينها، ثم يعود فجأة ليحكي لمعلمته ولرفاقه القدامى ولأصدقائه الجدد ما عاينه وعاناه في البلاد والعباد. لم أكن أعرف بالطبع متى سيحدث ذلك وكيف، لكني هاجسًا قويًا داخلي يتوسم حدوثه ما دامت حيًا أُرزق بالمعارف الخبيئة التي ساعدتني الجوهرة الهندية على اكتشافها.

منذ أنصتُ لحديث كورين في افتتاحها لدورة العولمة وتحدياتها التي انعقدت قبل سنوات سبع، وصوتها يسبح في فضاء خيالي، كريح تهب من جنوب روحي كلما ارتحلت، كنت أراها تهب من تلقاء نفسها كلما رمتني المقادير في حضرة الثقافة النخبوية العالمة الغريبة، وحيث واجهت أشباح التعليم الجامعي بمعاولهم وسكاكينهم، وحيث فُرضت النظريات "العلمية" التي لم تنتج علمًا أو معرفة، وحيث أعاين شعوبنًا الغلبانة تتزود بغذاء اقتصادي وسياسي ومعرفي وإعلامي خارج حدود وعيها وثقافتها وفنونها ومعارفها ومطالبها واحتياجاتها، وخارج أطرها وتشكيلاتها الاجتماعية.

لاأزال حافظًا لـ "شفرة كورين" - التي نقشتها بطريقتي - عن ظهر قلب:

آن الأوان للتنصل من النظريات الفخمة، ومن طرح الأسئلة القديمة، ومن استخدام المقولات القديمة، ومن التعويل على الأطر القديمة. فلن يكون ذلك سوى قطع الطريق على إمكانية استبصار مسالك جديدة، وفتح سبل جديدة.

آن الأوان لكي نتجاسر على طرح الأسئلة التي لا تعد أسئلة تُطرح، وتحلل ما لا يُعتبر من باب البيانات والمعلومات، المعممة والمكرسة كونيًا، وما يصنف في خانة
الأسطوري، غير المعقول وغير العلمي، بالمعنى الذي طرحته المركزية الأوروبية حول العقل والعلم.

ينبغي لنا أن نبدأ بالبحث خارج الخطاب السائد، في مجال يقع دون المستوى المطلوب من العلمية، وما وراء مقاييس المعرفة القائمة، لنكتشف معارف شعبية وطرائق أصيلة، لنكتشف التجارب الخاصة لمجموعات المهمشين، والمنبوذين، والفقراء، والنساء، والفلاحين، والأرزقية، والحكماء المحليين، والرواة الشعبيين، والحكَّائين، وأصحاب الخيال البسطاء، وأصحاب المعارف التي لا تعرفها النخب، لتبين ما في مأثوراتهم، ومعارفهم، ومقولاتهم، من رؤى أخرى للعالم، وطرائق تصدّ للضغوط.

يتعين علينا مفارقة تقاليد الخطاب المهيمن، فنجد أنفسنا في ذلك المجال الذي احتقره هذا الخطاب؛ أي مجال الجماعات الشعبية، والثقافة الشعبية، لنكتشف ما يكتنز به من معارف مطموسة، خبيئة. لنصغي إلى صوت الحكمة يتصاعد من المعارف الشعبية العامية المحلية. لعلنا ننتقل- حينئذ – إلى مرحلة استنباط رؤى سياسية وتنموية جديدة، فيها مزيد من الأصالة، مؤهلة لمجابهة ما في الواقع من تعقد مستمر، رؤى فيها مزيج عضوي من الروح النقدية والإبداع؛ المنطقي والأسطوري؛ السياسي والشعري؛ العلمي والجمالي.

تدور السنوات دورتها الدائرة، لأتعرف إلى "سفر"، ويتحقق حدسي: سألتقي معلمتي الملهمة كورين كومار بعد مرور سبع سنوات، تلك السنوات التي حاولت خلالها تعلم المشي في طريق الغابة، وهممت بالبحث عن طريق النيل، وعقدت العزم على اقتفاء الأثر الثقافي والتاريخي لطريق الهلالية، تلك الطريق العريضة المتشغبة التي بدأت من البحرين وحتى الأطلسي. كثير من الحكايات والتجارب أبدعتها الجماعات التي صنعت التاريخ دون أن يذكرها التاريخ، وعلمت ذاتها دون أن تمتد لها يد التعليم الرسمي، وظلت قوية ومتماسكة رغم ضغوط تهميشها وإقصائها، تمنيت لو حكيت بعضًا من هذه الحكايات إلى أصدقائي الذين سألتقيهم في فضاء الدورة الخامسة للجامعة المفتوحة (11 : 17 سبتمبر/أيلول 2006).

أول ما شد انتباهي ذلك الاسم الرمزي الذي أُطلق على فعاليات هذه الدورة: "شجرة الزيتون"؛ إنها الشاعرية التي تتصف بها ثقافتنا تجاه الإنسان والطبيعة والكون، تعبير شاعري يقاوم هدر مشاعرنا باسم المنطق والتفكير العلمي، وهدر حياتنا التاريخية التي لم تدخل مؤسساتنا أضابيرها لتستلهم من منجزها وخيالها الكثير والكثير، وهدر القيم الرمزية التي لم تكن في حسبان "الخبراء" في الجامعات والمنظمات، كان جميلاً أن يستدعيها فريق ألتايير سواء في اسم الدورة، أو في اختياره لمكان إقامتنا بمضيفة الشباب الكائنة في نهج السيدة عجولة بالحي العربي القديم (مسؤولا المضيفة منير وعاطف كانا صديقين حقيقيين للشباب)، والمجاور للسوق القديمة وورش الحرفيين وصناع النتاجات التقليدية، هو نفسه الحي الذي يأنس بجامع الزيتونة وزاوية الكلاعي وسيدي أحمد بن عروس والزاوية الصغيرة التي درس فيها العلامة عبد الرحمن بن خلدون الواقعة في "نهج تربة الباي"، لقد أتاحت لي هذه الفرصة الاقتراب من الثقافة التونسية التقليدية خاصة الجانب المتعلق بالحرف والصناعات الشعبية، فقمت بتوثيق صناعة الشاشية التونسية الشهيرة (الطربوش)، وصناعة البرنوس والجبة، والصناعات الخزفية والخشبية، وصباغة القماش... إلخ. كذلك الأمر ينسحب على ما أضفته ألتايير من أجواء حيوية مفتوحة، خارج الحوائط والأسقف الأسمنتية، اتسق ذلك مع ما تعلمته من البسطاء العارفين بأن المعرفة لا تُستقى في الغرف المغلقة والقاعات المقبضة.

في الحديقة الجميلة لمقر ألتايير، أقيم حفل الافتتاح، ثم استهل الأستاذ عزام محجوب فعاليات الدورة في الحديقة نفسها، أنصتنا له وهو جالس تحت شجرة برتقال مثمرة يشخص لنا الأوضاع العالمية الراهنة من وجهة اقتصادية، والآليات التي تعمل بموجبها العولمة بخطابها الناعم وسلوكها المتوحش. وفي الحديقة كنا نتناول طعامنا ونستمع إلى الشعر والأغنية الملتزمة التي أُنشدت لفلسطين والعراق وحقوق شعوبنا وأطفالنا. وفي الحديقة كنا نعمق تواصلنا يومًا بعد يوم، ونتبادل الرأي ووجهات
النظر حول الفعاليات والنقاش الدائر طوال اليوم، وفيها أيضًا اختتمنا أعمال الجامعة المفتوحة.

استقبلنا فريق ألتايير الدؤوب: انتصار وفليب وجودة ومنير وماما زهرة وسعيد وأمينة. تأملت نموذجًا فريدًا وملهمًا من المؤسسات، يجعل النافرين من المأسسة والممأسسين – أمثالي - يجددون الأمل في وجود مثل هذا الفريق؛ مجموعة تعمل بطرائق نوعية فيها مزيج من المهارات التقنية والحب والتواضع والإخلاص والتواصل الحميم والشفافية ونقد الذات، تحافظ على الفكرة التي نشأت من أجلها المؤسسة ولا تفارقها.

في مطار القاهرة سردت لسماح وأماني وشادي توقعاتي للرحلة، وكنت قد اعتدت الارتحال بتفاؤل الواثق وسؤال الباحث عن أفق جديد ومعرفة جديدة، ثم دار بيني وإياهم أحاديث جانبية في الأيام الأخيرة، فأدركت أنها لم تكن توقعات فحسب؛ إنما كانت إرادة جماعية فاقت التوقعات. كنت أتأمل جميع زملائي كل يوم لأقرأ في عيونهم ما قرأت، فأشعر أنني في طقس جماعي بدت حميميته منذ اللحظة الأولى، وظلت تسري في أوصالنا ونحن نتعاطى الحديث والاستماع والنقاش والمشاهدة والفن وفق برنامج الدورة الذي نُسج بعناية فائقة.

بالطبع، كنت مهتمًا بتوثيق فعاليات الدورة كما تعودت، فالتوثيق يمثل ركنًا رئيسًا من مبادرتي التي أخدمها منذ خمسة عشر عامًا (المأثورات الشعبية، الفنون والحرف التقليدية، التاريخ الشفهي للجماعات الهامشية والقرى المهمشة، حكمة البسطاء وخيالهم وآدابهم). فقمت بتسجيل كل الفعاليات مرئيًا وصوتيًا وفوتوغرافيًا، وأعددت تقارير يومية موجزة للمحاضرات وورش العمل والأفلام السينمائية والتسجيلية وعروض زملائي لمبادراتهم وأنشطتهم، وكذلك الفقرات الفنية المتميزة من موسيقى وغناء وشعر، وطقس الختام المتميز في الحديقة، حيث تحلقنا حول النار ممسكين بالشموع، لنسجل كلمات الوداع ونغني ونسمع الموسيقى ونتهامس بالبقاء على عهدنا الإنساني الذي قطعناه بحب حقيقي.

دُعيت في اليوم الأخير إلى المشاركة بمداخلة حول مبادرتي التي أطلقت عليها "طريق الهلالية" (الاسم مستلهم من "طريق الحرير") وألقيت فيها الضوء على السير الشعبية العربية، منتخبًا سيرة بني هلال بوصفها السيرة الوحيدة التي لا تزال تُروى شفهيًا على لسان الرواة والشعراء سواء المحترفين منهم بآلات موسيقية شعبية (ومعظمهم من فناني جماعات الغجر) أو غير المحترفين الذين يرون هذه السيرة إرثًا تاريخيًا لا يمكن التفريط فيه. وحددت على الخارطة مسار هذه الرحلة وأبعادها: جغرافيًا وتاريخيًا وسياسيًا وثقافيًا ولغويًا وأدبيًا. ثم طرحت مفهومي للتاريخ المدون (السائد والمفدس) وللتاريخ الشفهي (المهمش والمستبعد)، وأشرت إلى ضرورة الاهتمام بالحقل المعرفي الثاني باعتبار أن الجانب الأعظم من التعبير في مجتمعاتنا، إنما هو الذي يشغله التعبير الثقافي الشفوي الشعبي. وحين لا يكون في إمكاننا أن نكتب تاريـخ قسم هائل من التعبـير الثقافي لمجتمع أو لشعب ما، فنـحن بذلك نفتقد القـدرة على - والحق في - بناء وعي تاريخي بتراكمه الرمزي. وقد أثار العرض تفاعلاً ونقاشًا بين المشاركين لمدة ساعتين. وعلى إثر هذا التفاعل، تحمس عدد من المشاركين وضيوف ألتايير من الباحثين والصحافيين إلى مشاطرة الفكرة، وأسعدني حماس فريق ألتايير لدعم رحلة ميدانية إلى ولاية نابل بالوطن القبلي، للبحث عن رواة لتاريخ بني هلال، فكانت التجربة الميدانية التي تمنيت العيش في غمارها، لأعود بمعرفة جديدة حقًا.

انطلقنا في تمام الساعة التاسعة صباحًا من يوم الثلاثاء الموافق 19-9-2006. كان معي الأستاذ جلول عزونة (تونس) وصديقي عبدالخالق الأزرق (تونس). طوال الرحلة من تونس العاصمة حتى وصولنا لمنزل تميم، كان الأستاذ جلول يقدم لنا معلومات عن كل قرية نمر بها، وعن تاريخ بعضها، وعن طبيعة سكان بعضها الآخر، وعن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طالت عددًا منها. من أطرف الملاحظات، مرورنا على قرية "النخيلة"، وهو اسم لقرية في صعيد مصر، تتبع مركز أبوتيج محافظة أسيوط، وتتميز النخيلة المصرية بلهجة بدوية مختلفة عن لهجات القرى المجاورة لها، وهي لهجة أقرب إلى نطق المنطقة التي قمنا بزيارتها في "منزل تميم"، كما تتمتع النخيلة المصرية بوجود عدد من الرواة والشعراء الشعبيين الذين يروون سيرة بني هلال. وهو ما وجدناه أيضًا في البقعة التونسية. وكان عليَّ أن أدون ملاحظة شديدة الأهمية: لقد مرت هذه الجماعات والقبائل على مصر باتجاه الغرب، ثم ردَّ قطاع منها إلى مصر بأسماء البلاد وباللهجات وبالوقائع التاريخية التي حدثت في بلاد المغارب. وهو أثر حي وقائم حتى هذه اللحظة على نحو ما كشفته رحلتنا.

وصلنا منزل تميم في تمام الساعة الحادية عشر، قمنا بالتجول في السوق الأسبوعية في منزل تميم (الخضر والفاكهة والماشية والسلع الغذائية والاستهلاكية). التقينا مصطفى عبيد (خالي عْزَيِّزْ، 80 سنة) أثناء عمله في السوق واتفقنا على أن نلتقي في داره في الساعة الواحدة. جلسنا على مقهى في النادي الثقافي والتقينا بعدد من الشعراء والمثقفين بالمدينة وهم أصدقاء الدكتور جلول ودار حوار حول الثقافة الشعبية الخاصة بالمكان. قام الدكتور جلول بتوصية أحد الشباب من عائلته بتجهيز طعام الغداء لكي نذهب به إلى "خالي عزيز" وقمنا بشراء الفاكهة من السوق. وذهبنا في الموعد. كان "خالي عْزَيِّزْ" ينتظرنا وزوجته خارج الدار. وقد بدأ فعليًّا في الاطلاع على كتاب "سيرة بني هلال؛ روايات من صعيد مصر" الذي أهديته له، وهو آخر ما صدر لي في مصر. وقد سبق أن أوضح الأستاذ جلول أن خالي عْزَيِّزْ قارئ نهم. وأنه حتى بلوغه سن الثالثة والثلاثين لم يكن قد تعلم القراءة والكتابة، لكنه استطاع أن يتعلم.

تناولنا طعام الغداء، ثم استمعنا إلى ما يحفظه ويعرفه خالي عْزَيِّزْ من أقاصيص بني هلال ومآثرهم. حيث روى لنا قصة من قصص الجازية الهلالية التي تمثل نموذجًا لحكمة المرأة العربية وجمالها في آن معًا. والقصة تحكي وقائع رحيل الجازية عن زوجها الشريف بن هاشم (أو الشريف الهاشمي) وعودتها إلى قبيلتها. والملاحظ أن هذه القصة كان الهلاليون أنفسهم قد رووها للمؤرخ عبد الرحمن بن خلدون وأوردها في تاريخه الموسوم بالعبر، وهي نفسها القصة التي يرويها رواة سيرة بني هلال في مصر، لكن الرواية المصرية تتميز بالأداء الفني.

كما قص علينا خالي عْزَيِّزْ عادات بني هلال وتقاليدهم. وأكد أن هذه القبائل تركت أخلاق كريمة ومآثر حسنة، ولم يكونوا شرًّا كما يدعي البعض. وقدم لنا خالي عِزَيِّز تفسيرًا لبعض المسائل مثل سبب تسمية مدينة غدامس بهذا الاسم (تقع مدينة غدامس التراثية في الجهة الغربية من ليبيا على حدودها مع تونس والجزائر). حيث يذكر أن الهلاليين حطوا في هذه البقعة، وأنهم تناولوا طعام الغداء في "قصعة" كبيرة، وأنهم نسوا هذه القصعة عندما تركوها. وعندما سأل أحدهم عن القصعة، رد آخر: القصعة تكون حيث "غدا أمس"، فعُرِفت بـ"غدامس".

يعد "خالي عزيز" راويًّا متميزًا لهذه السيرة التاريخية الشعبية، وقد لفت انتباهنا وجود قصائد شعبية قديمة أنشدها أثناء أدائه. وعندما سأله محمد حافظ عن مصدره لحفظ هذه القصص. قال أنه ظل يستمع لها من أشخاص كثيرين طيلة سبعين عامًا، ومعظمهم من النساء.

بعد أن اطلعنا على محتويات المتحف العجيب الذي يقتنيه خالي عزيز، والذي يحتوي على أدوات تقليدية مصنوعة من مختلف الخامات، جلسنا على مقهى، وأثناء الجلسة انتبه بعضهم إلى مجال اهتمام محمد حافظ بسيرة بني هلال. فأبدوا معرفتهم ببعض القصص. كما دار جدل بينهم على أصل الجازية الهلالية، حيث أصر أحدهم (محمد، 82 سنة) على أن أصلها من إفريقيا. وأنها زوجة الشريف الهاشمي الذي كان يقطن "صفاقس"، وأنها عادت إلى موطنها في إفريقيا. بعد أن رحلت عن زوجها وابنيها بحيلة دبرتها هي وأخوها "بوزيد". وأدركنا أن لدى القاعدة العريضة (المهمشة؛ غير النخبوية) من الشعوب حكمة يمكن أن يتلوها على العالم الراهن، لديهم معارف خاصة عن حياتهم التاريخية وأسااليب عيشهم وتعلمهم، كل ذلك مطرود من التاريخ المدون ومن وعي النخب ومشروعاتها في النهوض والإصلاح.

جعلتني هذه الرحلة الميدانية السريعة أطمئن إلى وجود روايات شفهية متميزة لسيرة بني هلال في تونس، بالإضافة إلى وجود آثار بشرية لرحلة الهلاليين إلى تونس، تتمثل في بقايا منازلهم (قبائلهم، عائلاتهم) في مختلف أنحاء تونس، كما توجد آثار مادية ذُكر بعضها في روايات الرواة المصريين، لكن لم يتم الحفاظ عليها للأسف الشديد، مثال سور تونس وأبوابها. ولاتزال بقايا هذا الأثر موجودة حتى هذه اللحظة داخل مدينة تونس. وسوف نقوم بتوثيقه لاحقًا. ومن ضمن هذه الأبواب باب "الفلَّة"، والفلَّة هو شق في الجدار. حيث يُحكى أن أبا زيد الهلاليَّ أحدث هذا الشق عندما قفز بجواده فوق السور المجاور لباب الفلة. كما يوجد "قصر هلال" وهي مدينة تابعة لولاية المنستير، سميت باسم القصر الذي بناه أحد الهلاليين. وتذكر الشواهد الميدانية أن ثمة حكايات كثيرة حول هذا الأثر وعلاقة الهلاليين به. وهناك أثر مرتبط بحكاية للجازية الهلالية، عندما طلبها أحد اليهود للزواج. فاشترطت عليه أن يأتي لها بالماء في الهواء، بمعنى أن يوصل لها الماء عبر أنابيب مرتكزة على أقواس من زغوان إلى تونس، وتعرف هذه الأقواس باسم "الحنايا"، والحنايا هو اسم هذه الأقواس، ويمكن مشاهدتها في طريق زغوان، أو في باردو وسط تونس العاصمة. ومن المعروف حتى هذه اللحظة أن ماء زغوان من أكثر المياة عذوبة في تونس. كما توجد قرابة لهجية لغوية فريدة بين بقعة الصعيد في مصر وبعض بقاع الأرض التونسية، حسب ما تؤكده هذه الرحلة.

اتصلت بمصادر ميدانية أكدت أن ثمة ثراء ثقافي شفهي في منطقة الجنوب الغربي للجمهورية التونسية، حيث "توزر"، و"قبلِّي"، و"دوز". ويقام في "دوز" مهرجان سنوي يسمى المهرجان الدولي للصحراء يحتشد بعدد كبير من رواة الشعر الشعبي الذين لهم صلة أكيدة برواية سيرة بني هلال، ورواية تاريخهم والأحداث التي عاشوها، ومنازلهم التي لاتزال باقية حتى اللحظة الراهنة.

من الملاحظ أن الرواة في تونس هم من كبار السن، مما يعني أهمية اللحاق بما يحفظون من آثار شفهية لهذه السيرة الشعبية المهمة، قبل ضياع ذاكرتهم بالموت أو بالنسيان.

كان وجودي في معية الباحث الكبير جلول كبير الأثر في نجاح هذه الرحلة الميدانية بوصفه عضوًا ينتمي إلى هذه البقعة وإلى أهلها. فضلاً عن معارفه الميدانية
المتميزة واهتمامه الخاص بفكرة اقتفاء "طريق الهلالية" عبر الرواة المجهولين، لاكتشاف الأثر الثقافي والتاريخي واللغوي والمادي لهذه الرحلة الهلالية الطويلة التي لم تحظ بما تستحقه من عناية، بحثًا وتوثيقًا. أما عبدالخالق الأرزق، فقد كان خير رفيق لهذا الدرب الذي انطلق من الجامعة المفتوحة، سعى معي بإخلاص إلى الكشف عن أسرار جديدة، وعقدنا الراهن على أنفسنا للمضي في هذا المسلك الميداني الحيوي للتعلم مهما كانت وعورة الطريق.

كانت شجرة الزيتون تكبر كل لحظة في عيوننا، والذي لم أتوقعه تلك الدموع الحارة التي رطبت وجهي وأنا أمارس فعل التذكر بعد نهاية مطاف هذه الرحلة الممتعة والمكتنزة. الذاكرة لن تنسى الرحلة ومن صحبتهم فيها، كنت حريصًا على تسجيل هذه الذاكرة في الطائرة العائدة، فكتبت:

حقًا
كانت عيونكم المفتوحة أملاً في طريق لم يُعَبَّد.
وقلوبكم المفتوحة تاجًا لحلم يسافر في عروقنا.
وكانت الجامعة المفتوحة فضاء للعطاء الذي لا حد لفضائه.
لطريق الغابة والنيل والجبال والصحارى والوديان.
للنساء الحكيمات الخالقات لحياة بلا حروب وبلا إبادة وبلا استبداد.
للرجال العرَّافين العارفين المنصفين الخادمين للحياة.
كانت جامعة الريح التي تهب من الجنوب.
والروح التي تهب من عيون كورين.
وشعر كورين.
وخيال كورين.
وصمت كورين.
انتصار وهبتنا نصًا بديعًا لقلب كورين.
وتجاوزت أمانة المترجمين لتمنحنا نور صمتها وكلامها.
هل تتذكرون القبلات التي وزعتها علينا بصبر أيوب؟
مثلما أتذكر آخر وردة حملتها قبل السفر!
منير كان أول ضوء في رحلتنا.
هل تعرفون أن الضوء كان يشع من قلبه الذي أرهقناه؟
وكان أيضًا آخر ضوء، مثلما كنت آخر من بكى.
جودة خلف الشجرة كانت تصنع لكم دمية من ابتساماتها.
بينما تخبيء عن عيونكم حزنها البعيد.
فليب (سيدي بو فليب) آية إفريقيا اليافعة الساحرة ودليلنا للأدغال والبحيرات والقبائل.
حشمت التي علمتنا جمال الحشمة وخجل التوت وصمت الإخلاص.
ماما زهرة تعرف كنه الداخلين إلى مملكة المطبخ تقرأ شعاع عيون العباد وهي جالسة كعرَّافة سافرت كثيرًا في بلاد العباد.
"سعيدة" زوجة منير.
وطبيعي أن يكون "منيرًا" زوج سعيدة.
هل تعلمتم أن تشكروا من لم تعرفوه؟
فاشكروا أمينة.
ألتايير تجربة كاملة الأوصاف، يطالها حسد من لم يعرف الحسد.
أماني وشادي اثنان من شباب مصر معتقان برائحة أجدادي الأقباط.
يعمدان الجامعة بالتوحيد والتخميس ويختمانها بثلاثة أفلام.
هل ودعهما العشرات من أصدقائهما التونسيين في المطار؟
إنهما أمراء الأعداد حقًا.
لكن جميلاً "واحدًا" وواحدًا فقط أتذكره لهما غير أدائهما الطيب والابتسامات الصادقة وخفة الدم المصرية التي نبتت في المنيا: آية تونس الخضراء.
هل تذكرون معي نجلاء وإلهام وإشراق؛ مثلث الحب التونسي الذي داهم قلوبنا.
أتمنى أن يدرك عادل معنى أن يكون أجدادي من الأقباط المسيحيين حتى لو كنت قبطيًا مسلمًا.
إنها تجربة مصرية إنسانية ملهمة؛ قبس من تجارب النيل العظيم.
عادل سيظن بحساسيته المفرطة المتسقة مع عمر تجربته أني أنتقده.
فلا مناص من إعلان حق اللجوء إلى "الملك" فيصل كي يصنع الوصل بيننا؛ فهو حكيم جمعنا وفيلسوفنا النابه.
عماد المتفجر بالطاقات والمواهب... ملك الشهادات وبطل فيلم البطّال... كنت أتمنى أن يحصل على شهادة تخرجه من الجامعة المفتوحة كي يحملها إلى أمه الرؤوم.
تُرى هل كان سيضعها وشمًا على صدره مثلما تمنيت؟
هاجر ومضة في القاهرة، شعاع دقيق في تونس، مشروع شعلة عظيمة.
محمد بو جلطي يجلس بعيدًا في أقصى القاعة أرى شفتيه تهمسان ليحرمنا من رؤية وجهين لفتاتين تونسيتين أدمنتا النظر للخلف.
بينما يجلس محمد لونيسي أقصى القاعة أيضًا يرسم وجهي شافيز وأحمدي نجاد على خارطة الولايات المتحدة الأمريكية.
ريم قمر السودان المضيء؛ أنهت النزاع على حلايب ووزعتها على الجميع بالتساوي.
عبد الخالق يحبو - كما حبوت - في طريق الغابة كطفل ينتظر الجميع أن تعلم المشي... أول من أحاطني ببعض الظن الإنساني... وآخر من توَّجني بالإحسان والمحبة.
أمل... رائحة العراق... شجرة من غابات الموصل... هامة مرفوعة... وأنف أشم ... ونظرة تبحث عن لؤلؤة المستحيل.
سماح المصرية الشهمة بنت البلد... لم أزل أنتظر سماع همسها الذي لا يخرج من قاع روحها.
نعيمة زروق ومحمد بوطالب ... أشتاق لعشاء منزلي جنوبي معكما... فقد سئمت أكل المطاعم في تونس والقاهرة.
وليد؛ لا تصمت قبل تمام جملتك الحكيمة أيها الفلسطيني الذي فينا.
سعد أيضًا لم يستكمل – بعد - نظريته في الفرق بين الشر الطيب والشر الشرير.
حسنًا، لم أزل أنتظركما في غرفة أخرى بعد غناء اليوم. وليتكم تصطحبون نجمة فلسطينية تضيء الطريق.
اشتقت لكم أيها الأصدقاء.
صرتم جزءًا عزيزًا... من مكونات النفس... وجزءًا غاليًا من تاريخها... وجزءًا راسخًا من بنيتها.
شكرًا لألتايير ولسفر وللباحثين المتميزين الذين أثروا الجامعة المفتوحة.



#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيرة بني هلال ودرس الاختلاف
- الفولكلور والتنمية(مهاد نظري)
- أفق المرأة المصرية
- محتوى الشكل في الرواية المصرية، علاء الديب نموذجًا
- الشعر مدينة خربانة؛ السيرة الشعبية وقضايا النوع الأدبي
- طــريـق الــهـلالـيـة
- الثقافة الشعبية والمجتمع المدني؛ نحو مدخل فولكلوري للتنمية
- حرية الشفاهي ؛ حرية المكتوب


المزيد.....




- -خطر شديد ومباشر-.. الأمم المتحدة تحذر من خطر ظهور -جبهة جدي ...
- إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب ...
- إسرائيل: 276 شاحنة محملة بإمدادات الإغاثة وصلت إلى قطاع غزة ...
- مفوضية اللاجئين تطالب قبرص بالالتزام بالقانون في تعاملها مع ...
- لإغاثة السكان.. الإمارات أول دولة تنجح في الوصول لخان يونس
- سفارة روسيا لدى برلين تكشف سبب عدم دعوتها لحضور ذكرى تحرير م ...
- حادثة اصفهان بين خيبة الأمل الاسرائيلية وتضخيم الاعلام الغرب ...
- ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ...
- اليونيسف تعلن استشهاد أكثر من 14 ألف طفل فلسطيني في العدوان ...
- اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - محمد حسن عبد الحافظ - الجامعة المفتوحة على طريق الجنوب : نقش على جذوع شجر الزيتون