أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كمال غبريال - العقلية الشفاهية والواقع المأزوم 3















المزيد.....

العقلية الشفاهية والواقع المأزوم 3


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 1715 - 2006 / 10 / 26 - 11:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من بين التعقيبات التي وصلتني على الجزأين الأولين من هذه السلسلة برزت نقطتان تحتاجان لمزيد من الضوء، أولهما تصور أننا نزعم أن الطبيعة الشفاهية هي السبب الأوحد لحالة التردي الحضاري متعددة الجوانب التي نعيشها، وهذا بالقطع غير صحيح، كما أنه من النادر أن يكون لأي ظاهرة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية سبباً واحداً وحيداً، فالأغلب أن تكون هناك أسباب عدة، تتفاوت في حجم التأثير، ونحن هنا نتحدث عما نعتبره فشلاً كاملاً في فهم الواقع المعاصر، وهو ما لا يمكن إرجاعه إلى سبب واحد، وإن كنا نزعم أن طبيعة الثقافة والعقلية الشفاهية تلعب دوراً أساسياً في هذا الفشل.
التعقيب الثاني أن الأمر بدا كما لو كنا نقول أن الشفاهية هي الشر كل الشر، وأن الكتابية هي الخير المطلق، وهو ما لا يمكن أن نعنيه، كما لا يمكن استنتاجه من قولنا أن الثقافة الكتابية مرحلة تالية للثقافة الشفاهية، ومن ثم فهي الأكثر رقياً ونضجاً، والأكثر إطلاقاً لملكات العقل الإبداعية، والشفاهية كما قلنا في الجزء الأول تمثل طفولة الحضارة، فيما تمثل الكتابية مرحلة الفتوة والنضج، ولو كانت الطفولة شراً بكاملها لما وصلنا إلى نضج جدير بالاحترام، ولو كان النضج كاملاً وخيراً مطلقاً لكنا قد وصلنا إلى السوبرمان الذي ينشده نيتشه، وهذا لم يتحقق حتى الآن.
نستكمل ما بدأناه في الجزء الأول والثاني من هذا الاستعراض لطبيعة الخطاب والعقلية الشفاهية، ومن أهم ملامحها أنها تتعامل مع الصوت أو الكلمة المنطوقة كما لو كانت فعلاً مادياً، وهذه النظرة صحيحة إلى حد ما، فالصوت طاقة تؤثر في جزيئيات الهواء فتكسبها حركة ترددية، تمارس فعلها في جهاز الأذن لدى المستقبل، لتتحول بعد ذلك إلى إشارات كهربية يقوم المخ بترجمتها إلى قراءة، على ضوء حصيلة الذكريات اللغوية المختزنة، فالأساس إذن أن الصوت فعل مادي، لكن تأثيره يتلاشى لحظياً فور إنتاجه (يضمحل إلى ما يقترب من الصفر)، ومن الواضح أن هذه الصفة كفعل لا علاقة لها بمضمون المحمول اللغوي، لكن العقلية الشفاهية وقد فتنت بإمكانيات الصوت وبشحنة العاطفة التي يحملها، أو التي يثيرها في المتلقي، والمرتبطة ولا شك بالمضمون وإن بطريقة غير مباشرة، صارت الرسالة بالنسبة للشفاهي فعلاً مكتمل الأركان، فتجعله يطرب له فرحاً أو يستشيط غضباً، ويمكن أن لا يجافي هذا المنطق، بقدر ما تعبر الرسالة الصوتية عن حقائق ملموسة، لكن الانحراف المرضي هو الانحصار داخل عالم الأصوات، والاكتفاء به في حد ذاته، فنبالغ في ارتفاع شدة الصوت وعاطفته، سواء في حواراتنا اليومية، أو حتى في ممارسات العبادة، المفترض أنها موجهة لإله يسمع ما تنبض به القلوب، وتزداد هذه الحالة تفاقماً إذا ما تعذر على الإنسان -أو الجماعة التي ينتمي إليها- ممارسة تأثيره على عالم الوقائع المادية، فيلجأ إلى الهروب إلى عالم الأصوات، لتعويض ما يستشعره من عجز.
هكذا صار الشعر ليس فقط "ديوان العرب"، بل ركناً أساسياً من مقومات حياتهم، استخدموه لخلق واقع بديل، يهربون إليه من عجزهم أمام الصحراء المقفرة، وإذا ما أنهكتهم الحروب الطاحنة فيما بينهم، وصاروا غير قادرين على بذل المزيد من الجهد لتحقيق آمالهم المحبطة، فلا يجدون إلا أن يشعلوا حروباً كلامية، عبر قصائد الهجاء، وينظمون أمجاداً مدعاة بقصائد الفخر والمديح، كما يستشعرون لذة العشق بقصائد الغزل في محبوبات جميلات ككائنات سماوية، هروباً من الستار الحديدي لأعراف وتقاليد البادية، ومن جفاف التربة وأجساد البشر في قفار لا ترحم.
أخطر ما يترتب على هذا النهج هو حدوث انفصال شبه تام بين الخطاب، أو ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزاً الفكر، وبين حقائق الواقع، فهنا ينصرف الفكر عن مهمته التي هي معالجة الواقع وتطويعه، إلى بناء عالمه الشفاهي الخاص، ليغيب في آفاقه السحرية.
نرى هذا في الخطابات الرائجة بالمنطقة، والتي تتحدث عن انتصارات لا وجود لها إلا في النبضات الكهربائية الصادرة عن الميكروفونات التي يمسك بها أشاوس العروبة بجسارة واقتدار، كما شاهدنا أخيراً مهرجاناً عظيماً، احتفالاً بما سمي"النصر الإلهي"، وهو نصر لا علاقة له بما نتج عن صراع حزب الله مع إسرائيل، من دمار للبنان وقتل وجرح وتشريد مئات الآلاف من أبنائه، بالطبع هذا المثال ليس مجرد حالة شاذة واستثنائية، لكنه مجرد حلقة ضمن سلسلة متصلة من الانتصارات الصوتية، تمتد من زمن عنترة بن شداد وسيرة أبي زيد الهلالي، إلى انتصارات جمال عبد الناصر الخالدة على الاستعمار وأعوان الاستعمار، وانتصارات صدام في "قادسية العرب الثانية" و"أم المعارك"، والمسلسل مستمر.
من مظاهر اعتبار الصوت بمثابة فعل أيضاً، استخدامه كتعاويذ تجلب المنفعة أو الضرر، وذلك بمجرد تلاوة نصوص محددة، تكون كلماتها أحياناً غير مفهومة، هنا أيضاً الاعتقاد في السحر، الذي لا يكلف صاحبه أكثر من التلفظ بألفاظ خاصة، تحمل من القوة ما يحيل الإنسان إلى قرد، وقادرة أيضاً على استعادته إلى حالته الأولى، ويلاحظ أن العقلية الشفاهية تستخدم الكتابة بنفس المنطق، فقد تقدس النصوص المكتوبة، وتتعامل معها كأنما الصفحات الورقية هي المقدس ذاته، كما تستخدم وريقات مدون عليها بضع كلمات، أو حتى حروف بلا محمول إشاري، كأحجبة تدرأ شراً أو تجلبه.
وعلى ذات النهج أيضاً تحول الثقافة الشفاهية الأدعية والصلوات إلى صيغة التعاويذ، التي ترضي الإله بمجرد التلفظ بها، بغض النظر عن الحالة الروحية والعقلية لقائلها، فالأقباط الأرثوذكس -على الأقل- يعتقدون أن تلاوة نص القداس الإلهي بواسطة كاهن يؤدي إلى تحويل الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، بغض النظر عن الجدارة الشخصية للكاهن، وهناك أيضاً بالكنيسة الصلوات التي تتلى باللغة القبطية، التي لا يكاد يعرفها أحد، فاللغة هنا تستخدم كفعل كفيل في حد ذاته بإرضاء الإله، ولو بالتمتمة بألفاظ مدغومة متداخلة.
نستطيع أن نرصد هنا أن العالم الشفاهي عالم مسطح تماماً، فتضخم مكانة الصوت بموسيقاه وشحناته العاطفية، علاوة على قولبة المعاني والمفاهيم المعبرة عنها، وتجمدها بحيث يكون من الصعب إضافة مفاهيم جديدة، كل هذا يجعل العمق المتمثل في المعنى أو التحقق الواقعي للخطاب، في حالة غياب شبه تام.
الخطاب والعقلية الشفاهية تتسم بروح الخصام والصدام، ويرجع هذا بالأساس لسيادة العاطفة، التي تجد مرتعها الخصب في الخصام، وسواء كان إلقاء الخطاب الشفاهي في حضور الخصم، أو في حضور جماهير مؤيدة، فإن العاطفة الخصامية تبدأ بدرجة معينة، ولا تلبث أن تتصاعد، بالتأثير المتبادل بين المرسل والمستقبل، حتى تصل في أحيان غير قليلة إلى العنف المادي أو الدموي، وهذا ما نراه كثيراً هذه الأيام في مدننا، لهذا السبب أو ذاك، وقد تحطم الجماهير المستثارة في اندفاعها ما يمت للخصم، وقد لا تجد ما تحطمه إلا مواقع لخدمة هذه الجماهير ذاتها، فالمهم أن يتم التنفيس عن العنف المضمر.
يرجح سيادة الخصام على الخطاب الشفاهي أيضاً أن العقلية الشفاهية غير مدربة على التحليل والنقد، ويترتب على هذا أن المرسل يكون غير مستعد لما يسميه الكتابيون "التغذية المرتدة"، أي يكون مستعداً لسماع الرأي الآخر، ليقوم بتعديل أفكاره في هذا الاتجاه أو ذاك، كما أن المتلقي لا يكون أيضاً مؤهلاً لأي حوار، فهو إما يقبل إذا كان الخطاب على هواه، أو يرفض إذا كان العكس، فهو خطاب أحادي الاتجاه، وأصم غير قابل للاختراق، هو أشبه بحربة موجهة نحو هدف محدد، وهي في توجهها لا تنحني أو تنثني (ما قد يوصفه البعض بالثبات على المبدأ)، ولا يكون رد فعلها الشفاهي أيضاً إلا حربة مماثلة، ولكن في الاتجاه المضاد، وهنالك قول شائع، يراد به التخفيف من تداعيات هذه الحالة، أي من تحول الصدام الكلامي إلى صدام مادي، ومع ذلك فصيغة ذلك القول تفضح سيادة روح الصدام والخصام، إذ يقول: "اقرع الحجة بالحجة"، هي إذن عملية مقارعة، أي تبادل الضربات الكلامية، كما يشيع لدينا تعبير: "حوار الطرشان"، وهو وصف لمحفل يتم فيه تبادل الخطابات المتضادة، والتي لا يأخذ أيها في حسبانه ما جاءت به الخطابات الأخرى، وهذا أمر طبيعي تماماً، فكلها خطابات أحادية صادرة عن عقليات شفاهية، لا تعرف الحوار، وإنما التناطح والمقارعة.
العقلية الشفاهية أيضاً عقلية جمعية، لا تظهر فيها الأفكار الفردية المخالفة والمتميزة، وهي تؤثمها وتجرم صاحبها في حالة ما ظهرت بتأثير عوامل خارجية، قد يوصفها البعض بالغزو الثقافي، أو القيم الدخيلة والغريبة، والمهددة لثقافتنا وهويتنا، فالإنسان الشفاهي يتلقى معارفه سماعاً، إما وسط جماهير، أو بالرواية من شخص لآخر، وفي الحالتين لا يتوفر له الوقت أو الإمكانية العملية لاسترجاع الخطاب والتدبر فيه وحده، وتكوين رأي خاص له، كما هي الحالة في الكتابية، والتي يتاح فيها للمتلقي (القارئ) أن ينفرد بالخطاب يتدبر معانيه، عله يخرج برأي مختلف ومميز، لهذا نعدم التجديد في الثقافات الشفاهية، بل ويعد خروجاً على الجماعة وثوابتها المقدسة في جميع الأحوال.
لن تستطيع هذه العجالة تقديم استعراض واف لموضوع الشفاهية، بتأثيراته السلبية على مصير شعوبنا، وسنكتفي في هذا البحث بمقال تال أخير.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسطينيون وخياراتهم الكارثية
- العقلية الشفاهية والواقع المأزوم - 2
- العقلية الشفاهية والواقع المأزوم - 1
- مصريون ضد الكراهية
- شجيع السيما وجماهيره
- فوضى الهزيمة والانتصار
- عندما تتحدث الرهينة
- رجالات لبنان بين الحكمة والتخاذل
- العرب وأبطالهم الصناديد
- الأقباط والسقوط المدوي
- يحيا العدل والبقية تأتي
- العلمانية وسقوط الأيديولوجيا
- العلمانية المستحيلة
- عزاء واجب لقناة الخنزيرة
- البهائيون في أرض النفاق
- المأساة المصرية وترمومتر لينا الفيشاوي
- طبيعة النظم وإشكالية التغيير
- الأقباط والليبرالية
- الصعود إلى الهاوية برعاية أمريكية
- مصر الخالدة تلفظ أنفاسها


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كمال غبريال - العقلية الشفاهية والواقع المأزوم 3