|
المسلسلات المصرية
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1706 - 2006 / 10 / 17 - 10:04
المحور:
الادب والفن
أشاهد لقطات من المسلسلات المصرية وأنا في الطريق من حجرتي إلي المطبخ لأعد فنجان قهوة ، أو أثناء رجوعي بالفنجان . مرة واحدة أو اثنتين جلست ربع الساعة أمام أحد المسلسلات ، ولم يسعفني الصبر والجلد وقوة التحمل على أكثر من ذلك . ذلك أن الفكرة الرئيسية في كل فن هي التكثيف والتركيز ، ولهذا فإن قصة قصيرة من عدة صفحات قد تضع بين يديك حياة كاملة ، بل ومغزى تلك الحياة ، كما أن رواية غير طويلة قد تجعلك تتابع مولد وتطور وزوال وموت وإخفاق ونجاح عشرات الشخصيات الإنسانية . الفن تركيز وتكثيف ، بينما يعمل التلفزيون بمبدأ آخر ، مضاد للفن ، أي بالاعتماد على التمطيط والإطالة وفرشحة الأحداث والتفاصيل ليستكمل بها المؤلف ثلاثين حلقة متصلة ، يتجاوز حجم صفحاتها المكتوبة حجم رواية الحرب والسلام لتولستوي ، ويتخلف معناها وأثرها عن موضوع إنشائي لطالب ثانوية غرم أهله مصاريف تعليمه دون أمل . وكما أن في وكالة البلح مكانا خاصا لقطع غيار السيارات ، وآخر لمواتير الثلاجات القديمة ، فإن في الثقافة المصرية مكانا مخصصا لمؤلفي التلفزيون، عليك أن تقصده إذا أردت الحصول على مسلسل جديد ، أو مستخدم ، أو معدل . وعادة فإن مؤلفي المسلسلات يتمتعون بصحة جيدة تساعدهم في الجلوس فترات طويلة لاستحضار كل المشاهد التي مرت من قبل في جميع الأفلام والمسلسلات السابقة ، وكل العقد الفنية ، وحلولها ، والمصادفات ، وأطراف الحبكة ، وما شابه ، ولا فرق لدي المؤلف بين مسلسل و فيلم أجنبي ، أو آخر مصري . ولهذا فإن أغلب أفلامنا ملطوشة ، ويعاد لطشها ، كما أن تسعين بالمئة من الألحان الآن التي نسمعها مسروقة من ألحان هندية وتركية . الشرط الأول في المؤلف التلفزيوني هو التمتع بصحة وذاكرة جيدة وليس الموهبة والثقافة ، والشرط الأول في التأليف هو التمطيط والإطالة وليس التركيز والتكثيف، هناك أيضا اعتبارات أخرى تساعد على نجاح للمسلسلات في استدعاء التثاؤب والنوم بعمق . منها أن التلفزيون صناعة ، وكل صناعة تحتاج إلي عمال لانتاج السلعة ، عمال وليس فنانين ، ومن ثم خرج علينا جيش من الممثلين الذين يتسمون بالجرأة والتحدي والإصرار على التمثيل بالمشاهدين ! والسبب الأساسي في ظهور هذا الجيش العرمرم هو أجور المسلسلات المرتفعة المغرية مع غياب أية شروط فنية من أي نوع . وإذا علمنا أن بعض النجوم يتقاضى أكثر من مليون جنيه عن المسلسل ، وأن الذي يؤدي الأدوار الثانوية يتقاضى فوق المائة ألف ، لأدركنا السبب في اندفاع الشباب النهم إلي الفن ! وهكذا أصبح الفن غناء وتمثيلا حرفة سهلة ، مربحة ، ومرموقة اجتماعيا ، لا تحتاج على الأغلب إلا لقص شعر الرأس بطريقة مميزة ، أو إطالته ، وارتداء القمصان المفتوحة ، وتسبيل العيون ، وأرجحة الرأس بشكل عاطفي ! كأن الولد نجم لكنه يذوب تواضعا وحساسية ! وقد لاحظت مؤخرا كيف تفشى داء الفن مثل انفلونزا الطيور بين أغلب من صادفتهم من الشباب أقربائي ومعارفي . الأولاد يريدون أن يصبحوا عمر دياب ، والبنات يردن أن يصبحن منى زكي . وقد رأيت بنفسي شابة من أقاربي عادية جدا ، لم ير أحد على وجهها حتى الثانوية العامة سوى الغباء المقيم والنوم والأكل بشراهة . وفجأة ارتدت جونلة قصيرة ، وقصت شعرها ، ولفت مؤخرتها الضخمة في سروال جينز وأمسكت بسيجارة وقالت لي : " أنا مش متخيلة حياتي خارج الفن " ! وأصبح الفن عندها هي أن تلازم المقاهي الملاصقة للمسارح طيلة الليل مع شبان فنانين مثلها ، ينقلون الوهم لبعضهم البعض ، ويدخنون ، ويتسائلون : ح نعمل إيه في المسرحية الجاية ؟ مع أنهم لم يشاركوا في مسرحية من قبل . لكن حياة الفن لذيذة ، ومغرية ، طالما لاحت في نهاية الطريق تلك الأجور الخيالية . هناك شاب آخر من أقاربي ، أمسك جيتارا ، وأطال شعره ، وأصر أنه مؤلف موسيقى . أمه تقول له : يا ابني التفت لدراستك أنت عندك ثانوية . فيرد عليها : " مش قادر يا ماما .. أنا ح أموت لو ما كتبتش موسيقى " . وبعد أن كان شابا عاديا جدا ، أصبح يدخل إلينا الشقة صائحا ملوحا بكفه من بعيد بمرح : هاي . وتبدلت طريقته في الكلام فلم نعد نسمعه بوضوح لأنه صار يغمغم كالبلبل ، ثم أصبح يصغي إلينا إذا تكلمنا بانتباه وتواضع يفرضهما عليه وضعه كنجم كبير ! جيوش من الممثلين والمطربين غمرت سطح حياتنا الفنية ، لأن الفن في حقل التلفزيون يختلط بالصناعة ، أي بتأجير الكاميرات والاستديو والميزانية وتسويق المسلسل والإعلانات وغير ذلك . والصناعة مثل محل البقالة لابد أن تعرض سلعة ، وأن تبيع ، وأن تربح . وحينما يكون الربح وبيع السلعة هو وحده المحرك الأول ، فإننا لن نرى لا ثقافة ، ولا فنون ، ولكن المزيد من كتاب المسلسلات الذين أكرمهم الله بصحة وعافية تكفي لذلك اللتأليف، والمزيد من الممثلين الذين لا يتخيلون حياتهم " خارج الفن " على إيقاعات مئات المطربين إياهم ، في مسلسلات تلفزيونية تمتاز بقدرة طبية على تسليك الأنف بفضل الشخير المنبعث من النائمين عند مشاهدتها .
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزة تفطر على مدافع الاحتلال
-
قوات الديمقراطية الأمريكية والصحافة العراقية
-
إسرائيل عدو الثقافة الأول
-
نجيب محفوظ لحظة وداع
-
حجر وورد .. وجوه لبنانية
-
تحرير الانتصار اللبناني من الكذب القادم
-
المقاومة اللبنانية وتفكيك الشخصية الصهيونية
-
لن نغفر ولن ننسى
-
المقاومة اللبنانية وفلاسفة الهزيمة
-
الليل طويل والطيارات مش نايمة
-
لم يبق في غزة سوى الهواء
-
نبيل الهلالي . سحابة العدل
-
انطفاء أحمد عبد الله .. قمر على جيل السبعينات
-
جينا لندن ترصد أدق الرغبات
-
ساندوا الشاعرة الفلسطينية سارة رشاد
-
سولجينتسين يواجه الحصار الأمريكي
-
شلنات وبرايز
-
لا للتمييز ضد البهائيين المصريين .. نعم لحرية الاعتقاد
-
البهائية والنزعة السحرية
-
ما الذي يريده الشعب المصري ؟
المزيد.....
-
كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
-
التهافت على الضلال
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
-
الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في
...
-
جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا
...
-
مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين
...
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
-
شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ
...
-
عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا
...
-
رواية -خاتم سليمى- لريما بالي.. فصول متقلبة عن الحب وحلب
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|