أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - أللوز ..من ذلك ألجبل أ لبعيد















المزيد.....

أللوز ..من ذلك ألجبل أ لبعيد


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 1705 - 2006 / 10 / 16 - 05:04
المحور: الادب والفن
    


إلى الصديق الشاعر خلدون جاويد
العاقول الأخضر في كل مكان ، فوق الرمل ، فوق الأمس وفوق اليوم ، فوق مهجنا ، وفوق اللسان . آه لو تعرف كيف ينبت العاقول الأخضر فوق اللسان .. لو تعرف ! ..
هوى الخيال الساحر بكل جبروته صريعاً على الرمال ، ممدداً بهيبة وجلال ، هوى الخيال صريعاً حالما توهج من غبار الأفق وظلامه وحي بدوي اسمر نحيل ، وصاح بي : اكتب .. فهتفت من لب قلبي متلهفاً : هات القصة ، وبصبر وأناةٍ قال : لسوف تأتيك القصة . جلسنا في الوبر المحبوك برائحة الإبل ، وكان يمتص أنفاساً بدويةً عميقة من التبغ ، ثم رسم بطرف عصاه دائرةً صغيرة في الهواء وقال : هذه هي جغرافية التوحش .. هنا مهروا الصحراء بقذاراتهم ورحلوا .. توقف قليلاً ثم أشار إلى الأرض وتابع : ( قبل ان نتوغل في الصحراء الى مواطن العشب الحقيقية ، اعتدنا ان نضرب منزلنا في هذا المكان اول كل شتاء ، نرعى الدغل الشحيح . وذات شتاءٍ من الشتاءات التي مزقتها الحرب ، كنت جالساً هنا – الله لايكذبني – إلى هناك قليلاً ، هناك بالضبط ، حين تنبهت إلى ثلاث مركبات طوت الرمال وتوقفت قريباً منا . جاءت من بعيد ، وكانت واحدة منها حفارة ، أخذت لفورها بالحفر . كانت تحفر بسرعةٍ وحماس ،عملت بضجيج متواصل ، وظلت ماسورتها تطلق فيضاً من الدخان ساعاتٍ من الصباح . راقبتهم بريبةٍ ، مخمناً إنهم يحفرون خندقاً .. وثمة هاجس اخذ يقرص قلبي موحي
اً لي بان هذه الأرض لم تعد لنا بعد اليوم . جرب ابني استقصاء الأمر عن كثبٍ ، طاف حولهم لكن احدهم أشار إليه بحركةٍ سريعةٍ من كفه باشارة الطرد .. أتموا عملهم بعد ساعات وجلسوا جنب أكوام الرمل . وبزمن موقوتٍ ، سرعان مادوى هدير مركبتين تقدمتا من نفس الاتجاه ، وحينما وصلتا كانتا مركبتان كبيرتين .. نهض الجميعُ وعملت الحفارة مجدداً ، أفرغتا حمولتيهما في الحفرة ، بينما باشرت الحفارة تهيل الرمل وتردمه .. أتموا عملهم بسرعة ورحلوا ! .. لقد جاءوا من بعيد ، ولاأعرف سبباً واحداًُ لمجيئهم ، واغلب الظن إنهم دفنوا أمراً خطيراً ورحلوا ، رحلوا مسرعين كما جاءوا ، ليتركونا نتخبط خبط عشواء في هواجسنا . اختفت المركبات عن أنظارنا ، حاول ابني الاقتراب من الحفرة بحذرٍ ، لم اقوَ على منعه ، كان الفضول يلجم لساني .. اكتفيت بمراقبته فقط وهو يتفحص الحفرة . لم تمض سوى دقائقٍ حتى ندت عنه صيحة فزعٍ ، وهرع نحوي لاهثاً ، ليخبرني انه سمع أنيناً مكتوماً ينطلق منها ! .. اخبرني بذلك وعاد راكضاً نحوها ، ووجدت نفسي اجري خلفه دون أن يعيقني عائق .. لم يكن هناك أي صوت حينما وصلت ، نقبت بعيوني في كل مكانٍ ، أصخت السمع بره
افةٍ ، فقط كان الصمت مطبقاً ، صمت لا يقطعه سوى بعض الثغاء . قلبت طرفي بدقةٍ ، لم يردموا الحفرة بعنايةٍ ، هناك اكداس من الرمل فوقها ، ومكانات اخرى شف فيها الرمل . وفيما كنت ادور حول دثار الرمل تعالى الصوت المخنوق لوهلةٍ ثم انقطع . لم نتمكن من تحديد مصدره بالضبط . انطلق ابني الى الخيمة ، وعاد يحمل مجرفةً . بعد لحظات تصاعد الانين بوضوحٍ ، تسمرت مرتجفاً في مكاني اذ كان الصوت ينبعث من امامي مباشرةً . هويت على موضعه انبش الرمل وازيحه بكلتا يدي ، بهمةٍ ودونما ترددٍ ، وقفز ابني الى جواري وراح يزاحمني بمجرفته . ازحنا قليلاً من الرمل ، فتبين لنا طرف غض ، ابيض ناعم ، وكان ساق طفلٍ ؟ .. ورغم الرعب الذي اصبت به بقيت مندفعاً اكشف عنه الرمل بجنونٍ ، صار جسدي يرتعش باكمله وبعد ان انهيت عملي وجدت ساعدي امرأةٍ تطوقه ، ووجهه الى صدرها ، حررت الطفل من حضن المراة برفقٍ ، تصاعد انينه ، وكان يتنفس بصعوبةٍ .. اسرع به ابني الى الخيمة ، بينما واصلت عملي لانتشال المراة . سحبتها اخيراً وطرحتها فوق الرمل جثة هامدة بلا حراك ، كانت فتاة جميلة بالزي الكردي . تلفت الى مكان دفنها فراعني مشهد ساعدٍ لرجلٍ تمتد
الى الأعلى كمن يريد الخلاص من الغرق ! .. حطمني هذا المنظر بعنفٍ . دنوت وأجهدت نفسي لسحب الرجل من الرمل ، فوجدت نفسي منهوكاً ، خائراً ، انجزت ذلك بصعوبةٍ وطرحت جسده جنب الفتاة ، وكان رجلاً كردياًَ كبير السن بكامل اناقته وقد فارق الحياة . لف رأسي دوار خفيف ، جلست مشدوهاً احدق فيهما بعجز وبؤس ، اخذ الدوار يشتد وتنفسي يتثاقل واحسست بان الارض تميد من تحت قدمي .. كان ابني قد عاد وجلس يحدق بي بارتباكٍ ، حتى اذا ماسكنت حــــالتي قليلاً هــمس في إذني بان الطــفل حي .. )
توقف البدوي عن البوح ، وسحب لفافةً ودخنها بشكل غريب ، كان يدخن كرجلٍ يريد ان يحرق نفسه . استذكر تلك الفاجعة بالمٍ موجعٍ . وكان حين يتكلمُ تنبع من داخله رعشة لتعتري جسده النحيل وتملأ فمهُ . لم يكن موفقاً في اقتناص الالفاظ ، انه مثل نجار مرهق يعمل بمفرده ، يمسك المطرقة بيد والخشب بيد اخرى ، ويطبق على المسامير بكلتا شفتيه ويتناول منهما المسمار تلو المسمار دونما تمييز ..
مسد الرجل لحيته الضاربة الى الصفرة وقال : ( اعدنا دفن الجسدين في ذات الخندق الذي كان مقبرة كردية . توقفنا عن العمل بعد ان ادركنا ان لاسبيل لكشفها تماماً .. الوقت قد فات على ذلك ..
عدنا الى الخيمة منكسرين . انكفأت زوجتي على حضن الطفل واسعافه . تحلقنا حوله طوال ذلك اليوم . كان ابني جالساً قبالته ويداه مسترخيتان في حضنه ، وسحنته تنم عن سخط عارم وبين فترة واخرى يرفع رأسه مكرراً سؤالاً واحداً : هل سيعيش ؟ .. في نهاية الأمر نهرته امه بغرابةٍ حين قالت : انهض .. لايصح ان تحدق هكذا في وجه الطفل عند المساء .. كان الطفل ابيضاً ، بشعر خفيف اشقر ، تغمره فتنة جبلية ، وقد اجزمت زوجتي ان عمره عشرة شهور على وجه الدقة .
توقف البدوي وسألني متنهداً : هل يمكن ان تنسى مثل هذا اليوم الفاجع ؟ .. انا لن انساه ابداً .. احس كانه هذا اليوم وليس قبل ثمانٍ عشرة سنةٍ .. لن انساه وانسى تلك الليلة التي لم نذق فيها النوم ثلاثتنا في خيمة الألم ، شاطر الخوف مضاجعنا .. الخوف منهم ، كنا واثقين انهم سيعودون قريباً الى نفس المكان ، وسوف يعرفون الحقيقة ، لذلك عزمنا على الرحيل ، وعند الغبش حملنا بيتنا ورحلنا بعيداً . اعتاد الطفل حضن زوجتي وحليب الماشية ، وصار انيسنا وعلاج ليالينا الموحشة الطويلة .. ولاأخفيك ان سره ظل مكنوناً في اعماق صدورنا ، وقد خلعنا عليه اسماً تتوقد فيه شمس الصحراء ، اسماً بلون اسمر ، وبطعم العاقول الأخضر .. ليس من المعقول ابداً ، ليس من المعقول ان افضح سريرتي بعد ان دشنت صبري وامتحنته منذ تلك اللحظة ، لكنني بعد ان كبرت ووهنت صممت ان ابرأ ذمتي من ذلك الخطب .. فاستدرجت هذا الصبي الاشقر الذي صار حادي مركبنا اينما نضعن واينما نقيم استدراج استاذ ماهر ، وفرشت الحقيقة عاريةً امامه على الرمل .. ارتج كيانه رجاً مؤلماً ، ودخل الى شق خيمته ولا ادري كيف امضى ليلته تلك ، وعند الصباح فاجئني بصلابةٍ حين
رجاني ان اقوده الى هذه المقبرة ! .. وهكذا عدنا كما كنا الى منزلنا هنا . انفقنا ليالٍ كثيرة في الحفر ، لم نعثر على اسم او دليل مثلما رجونا ، اعدنا دفن الجماجم والعظام بعنايةٍ ، وضعنا فوقها اكواماً من الرمل وعلامات اخرى ، ومنذ ذلك الحين عدنا نقيم مجدداً هنا اول كل شتاءٍ .. انهم يرقدون هنا بسلامٍ ، بعيدون عن ديارهم ، نشعل لهم الشموع ونرفع لهم الدعاء والصلاة ، انهم يحبوننا ونحبهم ) .
حين سكت البدوي الجليل عن الكلام المباح مازال الخيال طريحاً بكل فتنته وابهته امامي . واستأذنني الرجل لينام . كنت في شق الخيمة وحدي ، ممتداً على البساط بكامل طولي ، ساعداي يتكئان على المخدة ، ورأسي مستقر بين راحتي ، وعيوني مسكوبة على اكوام الرمل التي تغطي المقبرة .. وقد سرى خدر البرد في اقدامي العارية ، لذيذاَ وناعماً ومغرياً في النوم . كنت اتأمل تلك القبور ناظراً اليها من الأسفل ، اخذت تتطاول امامي واحس بها جبالاً شاهقة .. وكان القمر يمر من بينها ناثراً شلاله الفضي فوق سفوحها . الليل غزير ويسكن بوحدةٍ قاحلة ، ونفحات الصحراء اخذت تهبُ حاملة معها اصواتاً غريبةً ، بت اسمعها بوضوح .. ثرثرة نساءٍ وكركرات اطفالٍ ، وبين الفينة والاخرى تتعالى اصوات دبكات كردية ، في خضمها يتسنى لي ان اسمع صوت انخاب .. وغشيتني رائحة اللوز .. وغشيتني الدهشة ايضاً – كيف تمتد جذور الجبال الى هنا ، وكيف ينمو منها برعم صغير !..
لم أنم طويلاً . بعد قليلٍ لسعني برد الغبش ، وفتحت عيوني على ضجيج القوم ، وكان اول شيء وقعت عيوني عليه ذلك الفتى الاشقر فوق راحلته ، وهو يصفر ويصيح لماشيته وخلفه تسعى زوجته البدوية . كان يصيح بلسان بدوي مبين ، تتراقص بين شفتيه حروف اللغة كفراشات الصباح . وكان النعاس يغالبني وانا افرك بعيوني ، وأصبحت في شك من امري هل هو فوق سنام بعير ام فوق سنام الجبل ؟ .. وسيان عندي اينما يكون ، فما بين سنام البعير وبين سنام الجبل لسوف تاتيك القصة . واعجبي لدورة الدوائر .. واعجبي لهذا البدوي الاشقر الذي سيملأ الصحراء اكراداً من صلبه .



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - أللوز ..من ذلك ألجبل أ لبعيد