أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - نوستالجيا















المزيد.....

نوستالجيا


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 1697 - 2006 / 10 / 8 - 04:12
المحور: الادب والفن
    


كانت الأخبار والقرارات التي تبثها الإذاعة في أيام سياد بري تكتنفها الغرابة، ليست الغرابة الإيجابية التي تزيد من حب ورضا المواطنين عن الحكومة ، بل الغرابة التي تجعل الناس تشعر بالتوجس والامتعاض العميق الذي تشوبه الكآبة لما يواكب تلك القرارات من العسف والكثير من الفواجع والمآسي ... أذاع الراديو القرار العجيب " ان الدولة تزمع علي تأميم الجمال !!!" نعم تؤمم الجمال كجزء من السياسات الاشتراكية المشوهة التي تعاني منها دول العالم الثالث ... في ذلك اليوم المشهود جلس عبد الله الشيخ وهو من كبار قبيلة كاميلوا وهي تعني تقريبا ً الناس الذين يحبون الجمال ، تلك الحيوانات النبيلة، ذات العيون الدامعة الجميلة والأهداب السوداء الطويلة.
جلس عبد الله بين أفراد قبيلته في الأصيل ذو الشفق الدامي وأشعة الشمس الذهبية المشوبة بالحمرة تغمر الوادي الممتد أمامه ترتع فيه الجمال في وداعة وسلام وجهاز الراديو الذي لا يفارقه أبداً يقبع علي الرمال بجواره وأبنه عثمان وأبنته أرويلا وزوجته حليمة يجلس نعلي الرمال مع أفراد القبيلة وقد أدهشهم الخبر العجيب ، ينظرون بأعينهم المتسائلة الي وجه عبد الله الأسمر الصارم وعينيه الخمريتين تحدقان في الأفق البعيد ، الأفق الذي يأتي دائما بالكوارث والسيارات المحملة بالجنود، لأول وهلة يبدو أنه، أي عبد الله قد انفصل عن الوجوه الطيبة المنثورة حوله وسبح بعيداً في بحر الذكريات ، كان الوحيد أو علي الادق من القلائل الذين زاروا أوربا .. أختفي من القرية وهو في السادس عشر من عمره في الزمن الغابر ثم عاد لهم في العقد الرابع من عمره محمل بتجارب السنين من أوروبا من ظلمة المدن المسورة بالهواجس والضياع .. طافت ابتسامة حزينة علي شفتيه المذمومتين بإصرار وهو بتداعي في الذكريات الي الحادثة الغريبة التي جاءت به مرة أخرى الي الصومال ، لا يزال يذكر عندما هرب الي مقديشو العاصمة في ذلك الزمن الغابر وتمكن من الإبحار علي ظهر سفينة إيطالية إلى ميلانو ، هناك عمل في مطعم يملكه إيطالي طيب . ظل يعمل ويدرس أيضا حتى تمكن من الحصول علي شهادة في الهندسة المعمارية ، تزوج من أبنت صاحب المطعم الإيطالي وانجب منها ثلاثة أطفال ولدين وبنت ، فتح مكتب هندسي في المدينة وتحول إلى رجل ثري من أعلام المدينة للنماذج المعمارية التي لا تخلو من السحر الأفريقي الذي يعرضها مكتبه ، واصبح يحمل الجنسية الإيطالية بكل فخر ... طيلة حياته الناعمة والممتعة والفاحشة الثراء كان يحس أن هناك شئ ما يبكي بداخله أنها نوستلجيا أفريقيا التي تكمن في أبنائها كمون النار في الحطب وتظل تنادي أبنائها ذلك النداء الغامض الخفي أينما ذهبوا ... هذا الحنين الجارف إلى ماما أفريكا يحتاج فقط الي باعث يعمل كمثير شرطي حتى يفجر داخل الإنسان، أذن تلك الحادثة الغريبة التي جاءت به الي الصومال لم تكن وليدة الصدفة .. في ذلك اليوم وحده بطاقة دعوة في مكتبه تدعوه لزيارة معرض ميلانو الدولي .. أخذ زوجته وأطفاله لزيارة المعرض .. عندما دخل المعرض كانت هناك فترينة من الزجاج المصقول ، بداخلها نموذج مذهل لجمل بالحجم الطبيعي دعاية لشركة طيران لدولة عربية ، صنعتها أنامل فنان موهوب .. الجسم مصنوع من القطيفة الذهبية عليه وبر من الحرير ، العينان باللروعة دامعتان تلمعان كأن بهما حياة ، من الياقوت الفاخر والأهداب من الدانتيلا السوداء الموشاة بالألياف الصناعية .. تسمر عبد الله أمام هذه القطعة كالمصعوق ، ثم اقترب من الزجاج المصقول، لم يستطع الفكاك من السحر والغموض الذي يشع من تلك القطعة الفنية .." قطعة من كاميلوا في إيطاليا ، سبحان الله !!" اختفت كل المحسوسات حوله وأسرته الصغيرة التي تقف بجواره في دهشة وزوار المعرض والرنين المعدني للأقدام في البلاط اللامع .. فقط بقي الجمل والصحراء التي حلت بالمكان وأنين رياحها الوفية الممزوجة بنداءات أفراد قبيلة كاميلوا لقد عاد به الزمن بسرعة كأنه في زورق يمضي علي الصحراء عبر سراب ..آلي الطفولة البعيدة ، أندفع عبد الله بسرعة نحو الجمل بصورة مفاجئة فتهشمت الواجهة الزجاجية الرقيقة .. صعقت المفاجئة الجميع، تحلقوا حول الرجل الذي أندفع يحضن الجمل ويبكي بحرقة ، كانت حادثة غريبة استنكرتها زوجته الإيطالية في ذلك الحين ولكن عندما غادروا الي البيت من مخفر الشرطة وبعد دفع الغرامة كان كل شئ قد انتهي ، قرر ترك أوربا والعودة آلي الصومال ...طلق زوجته وترك لها كل ثروته ولم يأسف علي ذلك قط ركب الطائرة العائدة آلي بلاده .. عندما وطأت أقدامه أرض المطار اندفعت الدموع الغزيرة تبلل كل شئ كأنما كانت تشارك الأمطار الغزيرة التي كانت تهطل بكثافة، ترحب بالعائد الي أرض الوطن ..ركب سيارة متهالكة الي حيث تقيم قبيلته وهناك تخلص من الملابسة الغربية الفاخرة وارتدي ملابس أهله الرعاة التي تفوح منها رائحة الجمال .
عاد أبنهم عبد الله .. ابن شيخ القبيلة ، فرحوا به وزوجوه حليمة الجميلة التي انجب منها ولديه عثمان وأرويلا، لم يسألوه قط اين كان ولماذا عاد ؟؟
اليوم وبعد عشرة أعوام في الصومال يجلس بين أفراد أسرته وقبيلته يسمع القرار الغريب ويحدق في الأفق البعيد حيث يندفع الغبار آلي عنان السماء تحت وطأة السيارة العسكرية المحملة بالجنود التي كانت تلوح هناك وتقترب من الوادي رويدا رويداً .. توقفت السيارة عن كثب في قلب الوادي وسط الجمال المفزوعة ونزل منها ضابط مخمور يتهدد ويتوعد ويرغي ويزبد بتسلي بإطلاق النار علي الجمال .. كلن بارعاً في التصويب طلقة واحدة من بين العينين يستدير هذا المخلوق التعيس وينطوي علي نفسه ويسقط علي الأرض مثيراً زوبعة من الغبار .. ويندفع الدم ممزوجاً بالدموع من العينين الجميلتين ذات الأهداب الطويلة ويرفس برجله قليلا ثم يهمد، مع كل جمل يخر صريعاً كانت تسقط قلوب أفراد القبيلة وتتقطع آلما وهم ينظرون الي ابن الشيخ .. ألتفت عبد الله الي ابنه عثمان وردد من خلال أسنانه المصكوكة :
ـ " أذهب يا بني الي ذلك الضابط المأفون وأخبره أن تأميم الجمال هو أن تأخذها الدولة وليس تقتلها " .
تعض عثمان الشجاع وهرول نحو الوادي وأقترب من الضابط وردد بصوت عال :
ـ " يقول لك أبي خذ الجمال فقط ولا تقتلها ".
التفت الضابط في امتعاض وأطلق النار علي أذن الصبي، طار صوابه من الذهول والألم وأخذ يركض ويصرخ والدم يندفع من أذنه وهرب بعيداً ..نهضت آلام المكلومة حليمة وانحدرت نحو الوادي خلف أبنها الذي اختل عقله .. واستمرت سيمفونية الرعب والرصاص تردده جنبات الوادي الممزوج بنواح الجمال المذعورة . التفت عبد الله إلى أبنته أرويلا:
أرويلا أذهبي الي الخيمة واحضري البندقية من الصندوق ، نهضت الفتاة ودخلت إلى الكوخ وجاءت تنوء بحملها الثقيل الي أبيها ، أخرج عبد الله البندقية اللامعة من جرابها كان ينظفها دائما لمثل هذا اليوم المشؤوم ، عبث بإصبعه في الجراب الملحق بها وأخرج طلقتين و وضعهما داخل الخزانة ثم نهض واستدار بجسده نحو الوادي حيث يجلس الضابط وحوله الجنود يحشون المسدسات ، أحصت عينا عبد الله الفاحصتين الجمال النافقة بدقة.
ـ " سبع وتسعون ...ثمان وتسعون .. تسع وتسعون "
ودوت طلقتان ناريتان سقط الجمل رقم مائة وسقط معه الضابط والدم يندفع بين عينيه فقد كان عبد الله يجيد التصويب أيضاً، ظل الضابط يرفس برجليه ثم همد جسده في نفس الوقت مع الجمل رقم مائة ...
ألقي عبد الله البندقية جانبا وردد في تشفي :
ـ" هذه بتلك مائة جمل تساوي روح هذا التعس "
لم يمهل عبد الله الجنود الذين تجمعوا حول ضابطهم في دهشة وذهول ، أمتطي أحد الجمال القريبة منه، أندفع عبر الصحراء حتي غاب في الافق حيث قرص الشمس الغارب ، أنه لن يخاف أبداً ..فهو يعرف طريقه الي العالم الحر....*

************

كاتب من السودان مقيم في اليمن*
من مجموعة "كل الوان الظلام"صدرت فى اليمن من مركز عبادى للدراسات والنشر 1999



#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانسان اولا
- .........الطاووس
- العراق وسباق المسافات الطويلة
- موت شاعر
- الرأسمالية ليست نهاية التاريخ
- قصة قصيرة:.........الكلب........
- الاصولية المزعومة والعلمانية المفترى عليها
- العراق والسودان في مخيلة النخبة العربية
- الدولة الدينية والدولة المدنية-الحلقة الاولى


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - نوستالجيا