حول الظاهرة الفاشية :
1- حكم البعث فاشية من طراز خاص ، نعم ولكن !
يمكنني الاتفاق سريعا مع خلاصة التعقيب الذي نشره الزميل الكاتب سلام عبد الله والتي تضمنها العنوان ، والتي تقول ما معناه ، إن سلطة وحكم حزب البعث في العراق منذ الانقلاب العسكري الذي أوصله إلى الحكم في 8 شباط 1963 هي فاشية من طراز خاص . وهكذا ، نتفق ونجنب القارئ تجشم مشقة المتابعة والتدقيق على اعتبار أن القول بخصوصية الظاهرة الفاشية في حالة حكم البعث في العراق أي كونها " خاصة " هو اعتراف بأنها ليست هي نفسها الظاهرة الفاشية التي تحدثت عنها الأدبيات الماركسية الكلاسيكية في أوروبا الغربية ، والتي تجلت في نظامي حكم موسيليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا ، وإنما هي نمط خاص من الحكم الشمولي ذي السمات الفاشية وهذا هو أحد الوجوه وليس جميعها الذي قصدته بنفيي الذاهب إلى أن الفاشية لا وجود لها ماركسيا - أي بالمعنى الماركسي الدقيق - في العراق . غير أن البداية والمعلومات المقرونة بالأسماء والأحداث - وليت سلام وثقها بالطريقة البحثية المتعارف عليها زيادة في الفائدة - تلك المعلومات والأفكار التي وردت في التعقيب ، شجعتني على اغتنام هذه المناسبة وتطوير النقاش في التفاصيل لعل في ذلك إفادة للقارئ ولهذا أكرر الشكر للمعقب وأتقدم بالملاحظات التطويرية التالية ، وسأبدأ بالتذكير ببعض الملاحظات التمهيدية حول الحالة " البعثية " في العراق :
- لا يمكننا أن نتغافل عن الواقع البائس والهجين للخطاب التنظيري السياسي العراقي والعربي عموما مع استثناءات نادرة ولكنها تأسيسية ومهمة جدا وبغض النظر عن المدرسة أو التيار الفكر الذي يعبر عنه ذلك الخطاب التبسيطي الانطباعي فلا فرق على المستوى " التقني "هنا تحديدا بين كتابات القوميين والإسلاميين واليساريين واللبراليين . لسنا في وراد التطرق للأسباب وهي مهمة كبيرة وشائكة ولكننا نلمح فقط إلى جزء من بؤس الواقع العام ولعل من أكثر مظاهر أمراض الخطاب واللغة السياسية التنظيرية هو سيادة نوع من الكتابات " الانطباعية " حيث يحل تسجيل الملاحظات والانطباعات الذاتية والوجدانية الميل محل التفكير النقدي والعلمي بشروطه الصارمة ومعاييره القياسية المحددة . ومن نتائج الاتجاه الانطباعي في الخطاب السياسي النظري العراقي وبصدد موضوع طبيعة السلطة الحاكمة بلوغ الخلط بين العقل المفكر والوجدان المكتئب أو المتحمس أقصاه وغالبا ما ينتصر الثاني على الأول . لنتفحص هذا المظهر في ضوء موضوعنا حول الظاهرة الفاشية . فالبعض يعتبر وصف النظام بأنه شمولي هو وصف حيادي وأقل ثورية وعلمية وربما أكثر " جبنا " من وصفه بكلمات من قبيل المجرم الدموي اللعين . والحال ، فالصفات الثلاث الأخيرة لا علاقة لها بالعلم بل بالغضب الأخلاقي القادم من ذوات مجروحة ومعذبة ، أفقدها قمع واضطهاد النظام الحاكم توازنها فتخلت عن حركة العقل و انصاعت لفورة الضمير الذي يقدم لها متنفسا تلذذيا على الصعيد النفسي وتعويضا وهميا على صعيد الدفاع " الزائف " عن الذات على اعتبار أن الدفاع الحقيقي إنما يكون بتطوير ملكة التفكير من أجل المقاومة والخلاص الفعلي .
- التطبيق التوضيحي على الملاحظة السابقة نجده في المثال التالي : يخلط بعض الكتاب - ومن اليسار الديموقراطي العراقي تحديدا -بين المصطلحات المحددة التالية : الشمولية / الاستبدادية / الدكتاتورية / الفاشية / التوتاليتارية / الكيانية / التمامية , لنرفع من القائمة المفردات القادمة اللغات الأجنبية ( الدكتاتورية والفاشية والتوتاليتارية ) ولنحاول التدقيق في الكلمات المتبقية سنجد أن الشمولية والتمامية والكليانة لها معنى واحد وتقابل كلمة " توتاليتارية وأصلها كلمة " توتال " والتي تعني " المجموع الكلي أو التمامي " ولكنها لا تعني تحديدا " الاستبدادية " التي تقابل في أغلب الترجمات " الدكتاتورية " لماذا ؟ لأن الشمولية تحتوي الاستبداد في الحكم وما هو أكثر منه وهو فرض نمط معين من الحياة والتفكير على أفراد المجتمع حيث الحزب الشمولي هو الذي يقرر كل شيء من طول شعر الناس إلى ملابس الأطفال والنساء وطلاب الجامعات في المدارس وصولا إلى رائحة المقابر ومذاق الخروع ! النظام الدكتاتوري " المستبد لا يفعل ذلك إنه يكتفي بالحكم المنفرد التسلطي ولا علاقة له بطريقة حياة الناس وتفاصيل تلك الحياة . أين يمكننا أن نضع نظاما كنظام زين العابدين بن علي في تونس ؟ وهل يمكن أن نصفه بأنه شمولي . كلا طبعا إنه نظام استبدادي " دكتاتوري " فقط . أما الأنظمة البعثية ومنها نظام صدام التكريتي ، والستالينية وتشمل جميع أنظمة الحزب الواحد التي تنسب نفسها إلى الاشتراكية الماركسية ، والوهابية في السعودية والسودان وأفغانستان قبل العدوان الأمريكي ، والخمينية في إيران رغم محاولات اللبرلة التي يقوم بها جناح خاتمي يضاف إليها نظام العقيد القذافي في ليبيا الذي يمكن اعتباره أكثر هذه الأنظمة شبها بالنظام العراقي المهزوم . هذه الأنظمة هي أنظمة شمولية ولكننا يمكن أن نصفها بأنها أنظمة دكتاتورية " استبدادية " أما نظام بن علي في تونس وعلي صالح في اليمن وحسني مبارك في مصر وبوتفليقة في الجزائر فلا يمكن أن نصفها بالأنظمة الشمولية بل بالأنظمة الاستبدادية فقط . هذا الأمر لا يمنع الباحث بطبيعة الحال من وصف بعض هذه الأنظمة بصفات أخرى ذات محتويات أكثر أكاديمية فعدد من علماء السوسيولوجيا السياسية يصفون تجارب بعض الأنظمة بحسب الحزب الحاكم كما يفعل د. علي الدين هلال ونيفين مسعد حيث يصنفان الأنظمة إلى ( النظم اللاحزبية /نظم الواحدية الحزبية / نظم الحزب الواحد / نظم الحزب القائد / نظم التعددية المقيدة .. عن كتاب النظم السياسية العربية، ص70 ) وثمة باحثون آخرون يصفون مثلا أنظمة مصر واليمن ..الخ بالتجارب " التعددية لمسيطر عليها " أو " الأنظمة ذات الديموقراطية المسيرة " كما يفعل الباحثان روجر أوين و غوردن كريمر في كتاب " ديموقراطية من دون ديموقراطية " . وسيكون أيضا من حق الشعراء والفنانين وكتاب الأعمدة استعمال صفات أخرى كثيرة لوصف النظام بالقذر والمجرم والدموي والساقط والخائن وابن العوجة .. الخ ، ولكن ليس من حقهم خلط الرايات ببعضها وتحويل صانع الأواني الخزفية إلى رائد فضاء أو العكس ، وصولا إلى القول إن من يصف النظام العراقي بالشمولي هو متواطئ ويطالب بالمصالحة وإن من يصفه بالفاشي والمجرم الدموي هو الأكثر إخلاصا وعلمية من غيره .ومن الطبيعي أن أستثني حالة توصيفية تمت بصلة إلى الأدب وليس إلى السياسة عبر عنها المفكر المشاعي العراقي الراحل هادي العلوي والذي كان يرفض وصف صدام أو نظامه بالدكتاتوري أو الشمولي أو حتى الطائفي لأنه يعتبر أن هذا الحاكم لا يستحق حتى هذه الصفات ، وقد رفض حتى مجرد وصفه بأنه طائفي فقال ( وأود الاستدراك بخصوص "صدام التكريتي " الذي لا يمكن تصنيفه طائفيا لأنه لم يصل إلى المستوى الاجتماعي الذي يجعله يرتبط بفئة من الناس . فالطائفية مستوى متقدم على صدام يصعب بلوغه وكانت – الطائفية – صفة أحمد حسن البكر الذي يستمثل خصوصية رجل سوي متخلف تنعكس في شخصيته أوضاع مجتمعه وطائفته وكان متعصبا للسنة أما صدام فلا يمكن عَدَّهُ مسلما ولا عربيا ولا سنيا ولا حتى تكريتيا لأن هذا الشعور بالانتماء إلى قرية متقدم عليه . من كتاب /حوار الحاضر والمستقبل 29 ) ولكي لا يهرع المغرضون إلى مشجب الاتهامات الطائفية المضادة والمستشرية اليوم نورد رأيا آخر للراحل الحاضر هادي العلوي حول حاكم عراقي آخر هو مؤسس الجمهورية العراقية ورئيس وزرائها عبد الكريم قاسم حيث قال بصدده في الكتاب والصفحة نفسها ( حالة عبد الكريم قاسم لا تقترن بموقف تقدمي ، لأن عبد الكريم لم يكن مثقفا وإنما هو زعيم عسكري وسياسي . ولم تكن له اتجاهات يسارية ضاغطة بل هو وطني بالمفهوم العام ، أما خروجه من ربقة الطائفية فيرجع إلى عاملين : الأول هو تكوينه الأخلاقي المتين والأخلاق عندما تتبلور كقيم ضاغطة لدى الفرد تتغلب على النزعات العقائدية أو الإيديولوجية الضارة ، أو تخفف من أثرها . وثانيا خلفيته العائلية فقد ولد لأب سني وأم شيعية وكان كلا الوالدين فاضلا ومحمودا في محيطه فعبد الكريم قاسم نشأ في عائلة متوازنة طائفيا وهي عائلة فاضلة أيضا وأتيحت لعبد الكريم تربية مستقيمة هي التي تقف وراء شخصيته الاجتماعية المتكاملة ... )
- خلاصة القول هي إن النظام الشمولي يحتوي تلقائيا الاستبداد ولكن النظام الاستبدادي لا يحتوي تلقائيا الشمولية ! و ماذا عن الفاشية في هذا الزحام ؟ في الجزء القادم من هذه المقالة سنتابع هذه الظاهرة الأوروبية المنشأ والصيرورة ونقارنها بالظاهرة القريبة منها التي تسمى " البونابرتية " .
إذن ، للحديث صلة في الجزء القادم ..