أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الخالق كيطان - ارتكبت جريمة هذيان / مقالات ومواضيع اخرى















المزيد.....



ارتكبت جريمة هذيان / مقالات ومواضيع اخرى


عبد الخالق كيطان

الحوار المتمدن-العدد: 502 - 2003 / 5 / 29 - 05:48
المحور: الادب والفن
    




 

                                                           صوت صفير حشرات الليل ، مفزعة كأنها قادمة من بطون التاريخ التراجيدي، دخان قاتم يأخذ بالأنفاس ،
جثث متروكة تلهو بما تبقى من ملابسها رياح متوسطة
السرعة ، لم يحن الظلام بعد ، إنه بعض ظلام الدخان …
تتدحرج  ببطء خوذة بين تلك الجثث ..
تعال أيها الصبي
يا أبن سلالات مريرة
احك قصتك
وسأدونها بدوري
                                                       تفرش عباءتها ، تضع عمامتها جانباً .. يجلسان ..
في نيتي أن أرجم الطير والزواحف
في نيتي أن لا أصدق كتب الكهان التي درستها
كنت أنحب
تتدحرج أمامي كرات الحلم
لم يشفع لي تاريخ الندب
ولا مجلس الحكماء الذي علمني الجلادة
بغتة
تنزاح أمامي حجب السماوات
يخرج حراس الفجور من مخابئهم البعيدة
ويوغلون في قتلنا
_ كنت صغيراً على ذلك ؟
لم أكمل عقدي الأول ..
_ وماذا بعد ؟
أخذوا مجموعة منا إلى حيث الموت
هناك
طلب منا أن ننشد ممجدين للحرب
كانت القذائف تساقط من حولنا
قائد القوات
جلس متوسطاً ضباطه
خلفه المئات من الجنود
كانوا من ضعيفي البنية
شواربهم مفتولة مع ذلك
ولما عدنا من حفلة الموت تلك
كان الدم قد زين ملابسنا المرقطة
عشنا في المستشفيات سنيناً طويلة
جرحى
قتلى
ومتبرعون بالدم كي نديم المعركة
                                                    يعلو الصفير … ومن بعيد يبدو ضوء ساقط … يلتفتان بهدوء نحو الضوء ، ثم يعودان إلى وضعهما الأول بلا مبالاة .
طرق على باب المنزل
مرة
ومرتين
لم يفتح
كانت الأم ترد بصوت واضح :
اذهب وفتش عن طعامك .
في الجانب الآخر
زوجة محارب عتيد تبيع الخضار
نساء ملتفعات بالأسود
هنا وهناك
 يتاجرن بالوجوه الشاحبة
                                             الأم تقرفص عند عتبة باب الدار ، تنظر في
الاتجاهات بلا تعيين ..
يلزمني عدة محارب آشوري
أذهب إلى حافة الواقع
كي أنساه
قابلني جوق من الشعراء
يحملون الدفوف
خلفهم رتل جنود كسالى
جياع .. جياع ..جياع
صوت يتردد بالرغم من قرع الدفوف
وآهات الجنود الحيرى
_ من أين يأتي الصوت ؟
_ إنه قادم من الذاكرة ..
                                           تضع المرأة عمامتها على رأسها من جديد ، تهم بالنهوض .
والجثث ؟
_ لا تريد أن تكمل لي ؟
_ ولكن …
_ تخاف ؟
_ لم لا … أنا والخوف توأمان … هذا تعبير من تلك التعابير الإنشائية التي قرأتها مراراً ،
أبي قال ذلك
أمي
أخوتي وأخواتي
كل من كان في الحي قال ذلك
حتى معلم التاريخ همس به ذات مرة .
أتوق لقول كلام آخر
ولكن … ما باليد حيلة
هذا الكلام هو الصواب
إنه بالضبط ما رأيته ، تعلمته وعشته .
                                                   أربعة جنود يركضون وراء شخص يبدو أنه هارب منهم ، يفتحون النار من بنادقهم تجاهه … لا يستدير إليهم ،
 كما أنه لا يسقط بنيرانهم ، يستمر الركض .
في احتفال الموت رأيت
رأيت ما لا يرى
علقوا ثلاثة أوتاد وسط الشارع
ثم جاءوا بثلاثة رجال عصبت عيونهم
حشد من ذوي الكروش يهتفون
الأبله ، كان أخوه أحد الثلاثة
وعندما بدا صوت الرصاص بالانهمار في الآذان
خر صاحبنا
سقط ملدوغاً
أخذوه إلى المشفى
عاد أخوه داخل كيس نايلون
ودفع هو ثمن الرصاصات التي استقرت في جسده النحيل
جربت أن لا أزاحم أحداً
في الباص
في السوق ، المدرسة …
ولكنهم منحوني رتبهم كلها
فررت منهم
الفرار سمة هو الآخر
                                           وهي واقفة ، تخرج كيس تبغ من جيبها ، تلف سجارة .
هل تدخنين ؟
_ تمانع ؟
_ كلا .. ولكن الدخان من حولنا ؟
_ يعجل في اللحاق بهم ..
حضرت إلى هنا بينما كانوا في الطريق
في واقع الأمر
كانوا قد سبقوني
كانت بينهم نسوة يشبهنني
وأطفال أيضاً
القذائف لا تفرق
هل كنت معهم أنت الآخر ؟
_ لا .. أنا كنت في مكان بعيد جداً
كنت أواظب على القراءة
جزء من هذا الدخان
سببه حريق المكتبة
دخلت على المكتبة وكانت تتعرض للنهب
حاولت أن أوقف الجموع فلم أفلح
حاولت أن أنقذ ما يمكنني من كتب
ولم أفلح أيضاً
أخيراً
دخل الملثمون ، وحرقوها .
الحوادث متشابهة ..
هنا وهناك تتشابه الحوادث
كان أبي يخشى علي من البنادق
حماني
نعم ، لقد حماني
ولكنه فقد أبنه الأكبر
جاءوه به على عربة نتنة
يجرها حمار
_ هل أفلحت الحيوانات بالنجاة ؟
_ أبداً ، ولكنه حظ أخي .
                                                     تتمشى وهي تفكر ، تلتقط مغزلاً من الأرض .
حكاية مملة ؟
_ للغاية ..
_ سأنام قليلاً ..
_ أقدر ذلك ، جئت من مكان بعيد
                                               يحاول التمدد على الأرض ، يلتقط شيئاً لكي يجعله
وسادة ، شيء مدبب كاللغم ، تصرخ به :
حذارِ ..
_ ما الأمر ؟
_ انتبه جيداً ولا تتحرك ..
ستصل موجة جديدة منهم
وهذا فألهم
أنت تحمل عنوانهم بين يديك ..
****
أديلايد في 2/4/2003
عبد الخالق كيطان : شاعر عراقي مقيم في أديلايد

 

*********************************************

"أمير الأهوار" مقاتل من زمان الفجيعة :
أحفاد سومر يبحثون عن جنتهم القديمة في عراق جديد

عبد الخالق كيطان

يختتم جيفين يونغ كتابه الذائع ( العودة إلى الأهوار ) بدعاء له دلالاته الكبيرة حين يقول : ( أدعو الله أن لا يأتي اليوم الذي يضطر فيه سكان الأهوار لترك جذورهم ، فمن شأن ذلك قتل شيء ثمين فيهم . ومع ذلك أعتقد أن هذا ما سيحدث يوماً ما . ولهذا يتعين عليّ أن أنهي الكتاب بدعاء وهو أن يحافظ أحفاد السومريين على نقاء أرواحهم مهما واجهوا من مصاعب وأدعو الله أن يقبل هذا الدعاء عليهم الآن وإذا ما تفرقوا فإني أدعو الله أن يبارك أولادهم وأحفادهم في القرون القادمة ) .. بهذه الكلمات الحميمة يعبر الرجل القادم من بريطانيا العظمى إلى مناطق الأهوار العراقية قبل حوالي نصف قرن من الزمان … عجوز أمضى سنوات طويلة في المناطق الأشد إثارة في العراق ، شأنه في ذلك شأن مواطنه ثيسيغر ، وقد خرج الرجلان بكتابين مهمين يعدان اليوم من أبرز مصادر دراسة سكان تلك المناطق والذين تمتد جذورهم لأكثر من ست آلاف عام .
كتاب يونغ ، كما كتاب ثيسيغر ، يستند إلى مشاهدات حية ، واللغة الاستعادية الاستذكارية للكتابين مثلت تحدياً على قدرتها في الوصف والسرد البسيط الخالي من التعقيدات اللغوية .. فمناطق الأهوار العراقية كانت تمثل للرجلين أكثر من مناطق ارتاداها بفعل الرغبة السياحية ، لقد تحولت هذه المناطق عندهما إلى ذاكرة رائعة عن شعب وتاريخ وتقاليد وعلاقات برزت مجتمعة في الكتابين .
ومناطق الأهوار العراقية  ، بحسب دارسي الآثار العراقية ، تعد مهد الحضارات السومرية في العراق القديم ، ويرجّح الباحثون أن تكون ثمة مدائن كاملة تحتها بقيت حتى اليوم . ويشير بعض علماء السومريات ، ومنهم العراقي فاضل عبد الواحد علي في أكثر من مؤلف ، إلى أن تقاليد وصناعات سكان مناطق الأهوار ما زالت معتمدة بشكل كبير منذ آلاف السنين وإلى يومنا هذا ، ومن ذلك الصناعات البدائية التي تكون المواد المتوفرة في الأهوار أعمدتها ( القصب والبردي بشكل خاص ) ، بل أن عبد الواحد علي يؤكد أن سفينة النجاة السومرية كما وردت في الألواح كانت مصنوعة من القصب بناء على وصية الآلهة ، وهي الملاحظة الثمينة التي وجدناها في العديد من الكتابات التي تناولت تاريخ سومر ، والقصب كما هو معروف يمثل المادة الأساس في صناعة قوارب الصيادين في الأهوار كما أنه المادة الأساس لبناء البيوت والمضائف وعدد الصيد ويصنع منه أيضاً أبرز آلة موسيقية في تلك المناطق وهي آلة الناي .
والأهوار بالنسبة لي تمثل حلماً بعيداً .. ولادتي كانت في منطقة لصيقة لمناطق الأهوار ، وتحديداً في مدينة العمارة ، وكان سكان الأهوار على الدوام ينظرون إلى العمارة نظرتهم إلى مدينتي البصرة والناصرية باعتبار هذه المدن مراكز ( للحضر ) ، وهي تسميتهم على السكان المدنيين الذي يجاورونهم ويختلفون عنهم في عادات المأكل والملبس كما في عادات الأفراح والأحزان وغيرها ، والاختلاف هنا نابع من شرط واحد فقط هو شرط التمدن ، على إن جذور هذه التقاليد مجتمعة تظل واحدة بالنسبة لجميع سكان الجنوب العراقي .. وبالرغم من القرب الجغرافي بين مدينتي ومناطق الأهوار كما أسلفت إلا أن فرصة زيارة تلك المناطق كانت مستحيلة على الدوام .. في أوائل سبعينيات القرن الماضي وقبلها بقليل كانت مناطق الأهوار تمثل المخبأ الأمين لانطلاق مقاتلي أحد فروع الحزب الشيوعي العراقي التي فضلت حمل السلاح ضد السلطة المركزية ، وهو ما يعرف بجماعة الكفاح المسلح / عزيز الحاج / وبعد سنوات من الدم قام صدام حسين بالتوغل شخصياً في مناطق الأهوار في حملة تلفزيونية مثيرة لكسب ود سكان تلك المناطق ، وما زلت أتذكر الصور التي بثها التلفزيون العراقي وأظهرت صدام يوزع التلفزيونيات على سكان المنطقة الذين لم تصلهم بعد الكهرباء .. ولكن الهدنة هذه لم تكن إلا هدنة قصيرة للغاية لم أستطع خلالها أيضاً من الدخول إلى تلك المناطق ..  ومع بداية الحرب العراقية الإيرانية صارت مناطق الأهوار من أكثر المناطق العراقية منعاً ، حتى قام نظام صدام أواخر تلك الحرب بأضخم حملة رسمية  عرفتها مدينتي ، وكان عنوانها : حملة قص القصب والبردي في الأهوار ،وكانت بقيادة نائب صدام عزة الدوري وقيادات من حزب البعث الحاكم .. أتذكر كيف أجبر الآلاف من أبناء مدينة العمارة على المشاركة في هذه الحملة المرعبة .. كانوا يأخذون المواطنين من الرجال والنساء وحتى الأطفال في باصات كبيرة وسيارت مكشوفة إلى مناطق الأهوار تحميهم في ذلك القوات العسكرية وطائرات الهليكوبتر ليقوم المجتمعون بحرق وقص نباتات الأهوار من قصب وبردي ، وكان السبب في ذلك كما أبلغوا الأهالي ، لأن ( العملاء والجنود الإيرانيون كانوا يحتمون بتلك المناطق ) ثم وفي مطلع التسعينيات كانت أدبيات السلطة تتحدث عن أهداف أخرى لهذه الحملة ، ومن ذلك هدف إقامة أنهر صناعية جديدة قالوا أنها ستعمر المناطق الصحراوية وتغمر الأرض بالزرع !!!.. وكانت ردة فعل سكان تلك المناطق متوافقة مع مصابهم الجلل ، حيث حملوا بنادقهم بعد انتهاء حملة القيادة وبدءوا بخوض سلسلة من حرب العصابات ضدها استمراراً لنضالهم الطويل ضد سلطات حزب البعث ، وبالطبع كان ذلك سبباً مضافاً يمنعني ، وغيري ، من دخول تلك المناطق ..
حمل السلاح إذن صار سمة من بقي من سكان تلك المناطق ، فقد فر الآلاف منهم إلى المدن القريبة ( العمارة ، الناصرية والبصرة ) وبعضهم هرب إلى المناطق الإيرانية المجاورة ، ناهيك عن من نفق منهم بحروب وهجمات النظام المتكررة ضدهم .. الذين بقوا حملوا السلاح لفترة طويلة وظهر بينهم رجال كثيرون أبرزهم يعرف باسم كريم ماهود ، ويلقب ( أبو حاتم ) ، وقد كنا في العمارة وبغداد نسمع عن هذا الرجل وجماعته قصصاً أقرب للأساطير ، بينما دأبت سلطات النظام على تصويرهم ( بعصابة الأوغاد ، الخونة ، العملاء ) .. حتى أن جريدة نقابة الصحفيين العراقيين التي يقودها عدي صدام حسين نشرت على صدر صفحتها الأولى في العام 2000 رسالة كتبها تابعون لعدي يطلقون له فيها البشارة من أنهم استطاعوا القضاء على ( جماعة العملاء في مناطق الأهوار وإلقاء القبض على كبيرهم ) في مدينة المجر الكبير القريبة من مدينة العمارة ، وبالطبع فقد كان الخبر عارياً عن الصحة إذ استمر ( أبو حاتم ) في عملياته المثيرة للشغب بالنسبة للنظام .
خرجت من العراق وحلمي لم يتحقق في زيارة الأهوار ..على إن فيلماً ذاع بين العراقيين المنفيين ، وكان سجله صحفي بريطاني بعد قمع انتفاضة الشعب العراقي في العام 1991 كان كافياً للقضاء على أحلامي بالعودة ثانية لزيارة تلك المناطق … تظهر في ختام الفيلم الذي حمل عنوان ( حقول موت صدام ) امرأة طاعنة في السن وهي تردد بألم وهدوء :
الشجر مات
الطير مات
الجاموس مات
ماكو ماي
بالضيم حالنه
فيما من وراءها تبرز الصورة في عملية تداخل ذكي جثث الحيوانات والطيور والأسماك والبشر أيضاً في مكان كان يعد جنة عدن ! ..
اليوم يظهر من جديد كريم ماهود ، الذي لم يجد مراسل شبكة البي بي سي وصفاً له غير وصفه بأمير الأهوار .. ظهر كريم ماهود في مدينة العمارة تحديداً عندما قام بالسيطرة عليها وتحريرها من سلطة النظام الساقط بدون أن يطلق رصاصة واحدة مستغلاً عدم ولاء الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب العراقي للطاغية المقبور ومستنداً إلى تاريخه الذي يعرفه ويقدره أبناء تلك المناطق ..
وبين يونغ وثيسيغر وأمير الأهوار تاريخ طويل حقاً ، تاريخ تظهر وتختفي فيه وجوه ووجوه : سومر ، كلكامش ، أور ، أوتنابشتم ، آلهة الحكمة السومرية … وصولاً إلى سيد صروط والشيخ مجيد الخليفة وشيوخ بني لام والفرطوس والبو محمد ، وإلى مناضلي الحزب الشيوعي العراقي ومن تبعهم من مناضلي المعارضة العراقية بمختلف أطيافها ، شيوخ عشائر وفلاحين وعبيد .. جنود أتعبتهم الحروب ، بعثيون يطيعون أوامر قياداتهم حتى ولو كانت تنص على الإبادة ، صدام حسين بكل جبروته وقسوته ، وجوه مستشرقين ورحالة وسواح وشعراء وقصاصين .. وجوه كثيرة مرت من هنا وبقيت أحلم وحدي في الوصول إلى هذا الهنا دون جدوى .. هل أستطيع العودة الآن إلى العمارة ؟ وهل أستطيع منها الدخول إلى الأهوار ؟ وقبل هذا وذاك ، هل عليّ أن أصدق تحليلات المختصين من إمكانية عودة الحياة إلى مناطق الأهوار على ما كنت عليه في غضون سنوات قليلة قادمة ؟ أسئلة حيرى تدور في رأسي دون أن أجد لها أية إجابة ..

***
عبد الخالق كيطان
شاعر عراقي مقيم في أديلايد

************************************

رسالة إلى شفيق المهدي :
انتهى ماكبث … شرب الكأس التي كان يسقيها غيره

عبد الخالق كيطان
مرحباً شفيق المهدي … كان المسرح الوطني بعيداً عنك حقاً ، من أجل ذلك ذهبت إلى الجماهيرية العظمى مدرساً هذه المرة ، كانت بناتك الثلاث ينظرن إلى صورك في المنزل ويهمسن إلى أمهن : هل كان بابا مخرجاً مسرحياً ؟ .. عدت إذن للمسرح الوطني في أصدق لحظات التراجيديا العراقية .. عندما هوى تمثال الخراب وسحقته الأقدام الغاضبة ..
شفيق المهدي ، بطاقة سريعة : هو واحد من مجربي المسرح العراقي في ثمانينيات العقد الثمانيني في القرن الماضي .. عمل أولاً في مختبر أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد لصيقاً لأكبر مجرب مسرحي عراقي معاصر : صلاح القصب ، تحولا سوية في حدائق المخيلة الشفافة ، والجارحة أيضاً فكانت أعمالهما المشتركة تؤشر ولادة جيل جديد ، جيل عجزت المؤسسة الصدامية عن تحييده على أقل تقدير ، وكان عرض ( العاصفة ) آخر التجارب المشتركة بين القصب والمهدي .. لم يصبر شفيق كثيراً ، ففي العام 1989 أقدم على مغامرة كبيرة حقاً ، كان عرض ( ماكبث ) ، عندما ظهر بطل العرض الفنان حكيم جاسم مرتدياً بدلة لاعبي الكاراتيه ومن حوله مجموعة من الأتباع .. صعق الوسط الفني والثقافي العراقي بهذا العرض الغريب الذي حضره أيضاً بعض مراسلي الوكالات الأجنبية ، خرج هؤلاء مصدومين من قوة الفكرة ، من قدرة العراقي على الإدانة واللعب المسرحي الذكي على الجريمة المعاصرة .. إما في العراق فقد تعرض المهدي لهجوم كاسح أبطاله بالطبع هم التقليديون ، ومن ورائهم بعض المرتبطين بإعلام السلطة ، أولئك الذين فسروا العرض كما يحب المهدي وفريقه ! ، صمت شفيق بعدها طويلاً ، حتى قررنا تحويل المواجهة إلى ملعب آخر ، كان هذه المرة ملعب الأكاديمية عندما اقترح المهدي عنواناً لافتاً لتجمع ثقافي نما بقوة في الأكاديمية فكان : جماعة تحت المنبر !!! لماذا تحت المنبر ؟ تساءل الكثيرون ولكن المهدي قال لي بالحرف الواحد : عبد الرزاق عبد الواحد يلقي قصيدته بحماس مبالغ فيه فوق المنبر ، نحن سنلقي قصائدنا تحت المنبر !!! ومرت شهور والجماعة تقيم العشرات من الندوات المختلفة حتى وصل هادم اللذات ومفرق الجماعات : واحد من الأقلام البعثية الكثيرة الذي رتب تقريراً عظيماً رفعه إلى قيادة الحزب في الأكاديمية ، والحمد لله أن التقرير وقع بيد السيد مصطفى تركي السالم الذي اكتفى بأن نبهنا وطالب منا تعليق نشاطات تحت المنبر لينتهي الموضوع بسلام !… بعد سنوات كان الجوع يفتك بشفيق وأهله .. ماذا يفعل ؟ تملقه أرباب المسرح الاستهلاكي كي يسقطوه ، عينوه مديراً لواحد من مسارحهم ثم استدرجوه ليخرج لهم مسرحية شعبية ، اشترط شفيق أن يخرجها على أن لا يضع اسمه عليها ، نوع من الاحتيال فتاريخه أهم من جوع عابر ، لمنا شفيق ، وبعضنا أعطاه الحق ، حتى قرر أن يعود لعشه الحقيقي : محراب المسرح التجريبي فكانت مسرحيته ( كأس ) التي كتبها علي حسين وشارك في أدائها مجموعة الفنان ناجي عبد الأمير ، الذي هاجر في ذلك الوقت وكانت مجموعته لا تعمل إلا في مسرحيات خاصة جداً .. في الكأس نرى أنفسنا أزاء مؤامرات البيت الشكسبيري كلها ولا يبرق من تلك المؤامرات الخبيثة غير صندوق الاقتراع !.. هل الفنان إلا متنبئ ؟ من فريق الكاراتيه الذي يشير بوضوح للحلقة المحيطة بصدام ، وأقصد ماكبث ، إلى صناديق الاقتراع التي ستنهي مؤامرات القصور الصدامية وأقصد الشكسبيرية !!!!!
رحل شفيق المهدي إلى ليبيا ، مثلما رحل من قبله العشرات من أهل المسرح العراقي بحثاً عن نسمة هواء ولقمة خبز ، وذكرت في عدد من مقالاتي حينها أن المسرح العراقي فقد بذلك واحداً من أبرز مجربي المسرح العراقي والذين كان ينتظرهم مستقبل مشرق لولا أنهم كانوا في العراق تحديداً ..
آه شفيق ..أنا الآن في أبعد نقطة من هذه المعمورة .. قرأت قبل قليل أنك ، ومجموعة من المسرحيين العراقيين التقيتم في المسرح الوطني لتقولا : لا لحقبة صدام ، وأهلاً بأيام المسرح العراقي القادمة ..كم كنت أتمنى أن أكون قريباً من لقاءكم ذاك ..ومن خلالك شفيق أرسل هذه الرسالة إلى العشرات من أهل المسرح العراقي داخل وخارج العراق ، فيوم الحرية الذي طالما انتظرناه  وحلمنا به قد صار واقعاً ، وصار من الممكن لنا اليوم أن نختلف ونتحاور ونعلن آراءنا الجريئة والصريحة في بغداد ، ومن على مسارحها التي سيعمرها الإنسان العراقي بوجوده الثر .
***
عبد الخالق كيطان
شاعر عراقي مقيم في أديلايد

الشهر الخامس من العام 2003

 

***************************************

رسائل سرية في الزمن الصعب
رسائل علنية في زمن الحرية
عبد الخالق كيطان
مازلت أقول بأنني من مثقفي الداخل جرياً على عادة المنفيين العراقيين الذين قسموا الثقافة العراقية إلى ضفتين هما : ثقافة الداخل وثقافة الخارج .. أقول إنني أعد نفسي من مثقفي الداخل لأسباب كثيرة أهمها إن سنوات إقامتي خارج العراق لا تتجاوز الأعوام الخمسة ، ولذلك فطراوة علاقاتي مع المثقفين العراقيين والناس في العراق ما زالت ندية لليوم ..لقد كانت إقامتي في العاصمة الأردنية عمان للفترة من 2/8/1998 ولغاية 7/1/2002 حافلة جداً بالتواصل الحميم مع أولئك الأصدقاء البررة ، وبخاصة من المشتغلين في حقول الثقافة العراقية المختلفة ، وتواصلت تلك الصلات بعد سفري إلى أستراليا حيث أقيم اليوم ..كانت أبرز مشكلة أعاني منها في كون لقاءاتي مع القادمين من العراق محفوفة بالمخاطر بالنسبة لهم على اعتبار إنني من ( المرتدين والخونة والمعارضة الإمبريالية ) وما إلى ذلك من توصيفات تطلقها باستمرار سلطات النظام الصدامي الشمولي بحق المثقفين العراقيين الذين أجبروا على العيش في المنافي والمنائي ..ومع ذلك فقد كان الأصدقاء يغامرون بلقائنا نحن المطرودين من جنة الوطن ، ولطالما تعرضت ، وتعرضوا بالطبع ، لتحذيرات متبادلة من مغبة تلك اللقاءات .
اليوم وقد سقط نظام صدام وإلى الأبد أصبحت أستطيع الحديث بحرية عن تلك الأيام وكشف حقائقها ، ومن ذلك الإشارة إلى ما كان الموفدون العراقيون يسرون به إلى أصحابهم الذين يعيشون خارج العراق .. ولئن كنت أنوي في هذه الكلمة الإشارة إلى لقاءاتي ورسائلي المتبادلة مع الفنان العراقي المبدع مقداد عبد الرضا باعتباره عينة من تلك الصداقات الكبيرة التي نمت بالرغم من الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بنا من كل جانب ، فإنني من جهة أخرى أشير إلى ما كان الشاعر فاروق سلوم ، وكان يعمل مديراً عاماً لدائرة السينما والمسرح في العراق ، يؤكده باستمرار في لقاءات عمان من قرب سقوط نظام صدام لسبب يؤكد عليه سلوم ، ومفاده : إنغلاق مؤسسات الحكم الصدامية على نفسها فلا تسمح إطلاقاً بأي اختراق حتى لو كان هذا الإختراق يريد تطوير عمل تلك المؤسسات ، كما كان سلوم يشير إلى ظاهرة حكم العائلة القاسي في العراق .. أشير أيضاً في هذا السياق إلى لقاءات حميمة مع فنانين عراقيين أبرزهم : عبد الخالق المختار ورائد محسن وحكيم جاسم وصلاح القصب وعزيز خيون ويوسف العاني وسامي عبد الحميد وفلاح إبراهيم ومحسن العلي وكريم محسن وكاظم النصار وهيثم عبد الرزاق وفارس طعمة التميمي .. وإلى أدباء كثيرين على الأغلب كانوا لا يعودون إلى العراق !.
أما عن الفنان مقداد عبد الرضا ، وهو ممثل مسرحي وتلفزيوني وسينمائي معروف له اهتمامات كبيرة بالتصوير الفوتوغرافي والكتابة الصحفية والسينمائية ، فهو كان من أبرز ممثلي جيل ما بعد الستينيات في الفنون التمثيلية  العراقية ..ولطالما كنت وعبد الرضا ومجموعة من الأصدقاء نلتقي في بغداد ، وخاصة في باراتها ونواديها ومسارحها ، ونحلم ..حتى خرجت من العراق إلى عمان .. وهناك ، في عمان تحديداً ، كان أبو أريج يأتي باستمرار محملاً بهمومه الكبيرة ، فهو من جهة لا يجيد عملاً غير أن ينتمي لتاريخه الفني الطويل فيما أخذت الرداءة تجتاح كل شيء في الفنون العراقية ، وكان لزاماً على الفنان العراقي أن يختار خيارات أحلاها مر علقم : بين الخروج من العراق وهذا أمر مكلف خاصة بالنسبة لمن له عائلة كبيرة ، أو العمل في مناحات الحصار المدعومة من النظام أو العمل في تيار المسرحيات الاستهلاكية أو البحث عن عمل آخر غير الفن ناهيك عن خيار الانخراط في جوق الرقص والتطبيل لمذابح النظام ..كان مقداد إذن حائراً بين هذه الخيارات التي دفعته دفعاً لأن ينغلق ما أمكنه ذلك داخل العراق وأن يشارك في بعض المسلسلات التلفزيونية ، من أجل دفع غائلة الجوع عنه وعن عائلته ، كما اضطر للمشاركة في مسرحيات أقل ما يقال عنها رديئة الصنع للسبب ذاته ..وإذ كنا نلتقي في عمان باستمرار فقد كان الموضوع أشد صعوبة مع رحيلي إلى أستراليا ..ومع افتتاح خدمة البريد الألكتروني في بغداد بدأت وعبد الرضا سلسلة من المراسلات التي أتخذت فيها عنواناً بريدياً وأسماً مستعاراً لئلا أفضح صاحبي الذي كان في أحيان كثيرة يمدني بأخبار حال الثقافة العراقية والناس في بغداد ناهيك عن اتصالاته المستمرة بالأهل داخل العراق …، خاصة وهو وجه معروف في الشارع العراقي … اليوم وقد تنفس أبو أريج ومعه ملايين العراقيين هواء غير مراقب من قبل عيون الجريمة وصناعها الكثر أعود إلى قراءة آخر رسائله لي قبل انقطاع الخطوط الهاتفية مع العراق بعد بدء الحرب الأخيرة ..وهي رسائل يلمس قارئها مدى سخونة الحدث وجدية الخطر الذي كان يشكلها الرقيب الصدامي … تقول واحدة من تلك الرسائل :
( خرجت مبكرا هذا اليوم تجولت في بغداد..عدت إلى أيام التسعينات مع ناجي عبد الأمير ..فارغة بغداد وحزينة عسى أن يكون هذا آخر أحزانها..انتقلت إلى بيت في الدورة وهو اكثر أماناً..مكاني ليس أمين تماما..العائلة هناك..جئت لأتفقد الشقة وبالصدفة فتحت الكومبيوتر ووجدت رسالتك ..سأحاول أن افتح الكومبيوتر كلما سنحت فرصة ) .. كان عنوان هذه الرسالة ( حاول أن تطمئن ) وقد أرسلت بتاريخ 23/3/ 2003 … وفي رسالة أخرى عنوانها لماذا يبتعد الأحبة في الأحزان ؟ أرسلت بتاريخ 19/3/2003 يقول عبد الرضا :
أعرف ربما يكون السبب هو الأيميل .. ولكنها أي وحشة عشرات المؤلفين لا يقدرون أن يكتبوا جملة واحدة عن الذي يجري .. أصفر لون بغداد .. أسمع نبض الشوارع يدق بفزع .. أي دمار يمكن أن يحدث .. أغلقت المحال .. وأغلقت معها الأرواح .. هوس بالانتقال من أجل الشعور بالآخر .. لكن هل يمكن أن يكون الآخر هذا منقذاً .. هذا ما ستكشفه الأيام .. ربما سنلتقي أو نعاود الكتابة مرة أخرى ..إنه الخميس الدامي .. أكتب .. ربما أستطيع أن أتسلم رسالة أخيرة منك يوم غد ..أنتظر .. أو ..إلى لقاء .. أو غربة مرة أوحش …) .. وفي رسالة بتاريخ 5/3/2003 كتب يقول : ( لا داعي للملفات ( يقصد الملفات الفنية والثقافية التي كنت أرسلها إليه نقلاً عن الصحف والمجلات ومواقع الأنترنت ) وشكراً لما بعثته سابقاً ولو أن أغلب المواقع مسدودة .. لكن ميهم ( ليس مهماً ) هم نعمة وسط هذا الغول ) ويقصد نعمة البريد الألكتروني ..ويتساءل في رسالة مليئة باللوعة في رسالة بتاريخ 28/2/2003 : ( سجلت حياة سالم حسين .. أهم شيء زودني به شريط فيديو نادر يظهر فيه حقي الشبلي بيده إيقاع ويغني مقام …أنتظر .. العجيب أن نماء الورد وصلت بغداد .. شلون ( كيف ) ما تدري مثل فاضل الربيعي !..عجيب أمور غريب قضية )  ..
هذه بعض رسائل الفنان مقداد عبد الرضا ، السرية جداً ، ولكنني اليوم لا أبعث له رسالة باسم مستعار ولا من بريد لا أستعمله إلا له .. هذه المرة أرسل له رسالة بوسع القلب وكبر محبة العراق .. رسالة علنية أنشرها عبر أثير ( كيكا ) ، وكيكا يا أبا أريج موقع ثقافي عراقي جديد لم أرسل لك مما ينشره سابقاً ، قلت فيها ما شعرت به بصدق ومحبة ولم أكن أختار فيما كتبت الكلمات اختياراً خوفاً من رقيب غبي لا يفهم إلا في وضع النصال على الرقاب ..
ملاجظة أخيرة : كنت في تلك الأيام أتسلم رسائل ألكترونية من داخل العراق يبعثها أصدقاء آخرون ولكن تلك المراسلات لم تكن منتظمة لأسباب تتعلق بصعوبة ذلك ، خاصة وإن أغلب الذين كانوا يراسلونني كانوا يستعملون بريدي العلني ما يجعل من حرية الكتابة صعبة إلى أبعد الحدود ، ومن هؤلاء أذكر : الفنان عبد الخالق المختار ، القاص وارد بدر السالم ، الشاعر والمسرحي عزيز عبد الصاحب ، مجموعة أدباء مدينة العمارة : علي سعدون ، جمال الهاشمي ، محمد الحمراني .. وغيرهم .. فلهم كلهم ولمبدعي العراق تهنئة قلبية بعصر الحرية الذي يعيشون اليوم ..


****
عبد الخالق كيطان
شاعر عراقي مقيم في أديلايد

 

**********************************

ثقافة ما بعد الطغيان
الثقافة العراقية تستعد لعصر الحرية

عبد الخالق كيطان
قال مذيع واحدة من الفضائيات العربية الناشطة وهو يعلق على تقرير مصور من مراسل القناة في العراق كان ينقل بعض الصور لمدينة نائية في جنوب العراق ، هي ناحية المشرح في العمارة ، إن حقيقة نظام صدام حسين بدأت بالظهور للعلن حيث الصورة وشهادات المواطنين تكشف أن هذه المدينة لم تصلها الكهرباء ولا الماء منذ العام 1991 ، وينتقل المذيع نفسه ليعلق على الصور التي ظهرت للعالم حول الطابع الحياتي لمدينة عراقية أخرى هي قرية العوجة وما فيها من عمران وبناء لا يقارن بتلك المدينة الجنوبية النائية … يشدد المذيع في تلك اللحظات على ( تكشف حقيقة نظام صدام ) بعد أن كان المذيع ذاته قبل أيام من سقوط النظام يبح صوته حول ما أسماه ضرورة المقاومة ، بالطبع دفاعاً عن البطل القومي ! ..
مشهد تكشف الحقائق هذا سينتقل إلى مناطق أخرى كثيرة ، بعضها كان دخوله محرماً في العراق ، والبعض الآخر كان ينتقل للآخر بصورة مشوهة للغاية ..إن الثقافة التي كانت تؤسس في العراق طيلة عقود لا يمكن النظر إليها إلا بكونها ثقافة تخلف ( بدءاً ، لابد من القول بأننا نتكلم هنا عن مشهد كامل لا عن استثناءات ) هذه الثقافة التي يقودها على الأرجح أميون ونشائون صغار لا يجيدون غير ارتداء بزاتهم العسكرية النظيفة وعلى صدورهم تلهث من اللمعان صورة القائد الأوحد .. وبالطبع فإنني أتحدث عن مرحلة عريضة كنت مشاركاً في تأثيثها بشكل أو بآخر ، ولهذا الموضوع سأعود في مناسبة أخرى .
في الشعر مثلاً ، لم يكن يعلو صوت أبداً غير صوت شاعر الدم أياً كانت مواهبه ومرجعياته وثقافته ، وقد أجادت المؤسسات الإعلامية الرسمية في إبراز ذلك الشعر وتصديره ، حتى كنا نقرأ في مجلات ثقافية كبيرة في الوطن العربي عن شاعر الفراتين ( حميد سعيد ) وآخر عمالقة عمود الشعر ( عبد الرزاق عبد الواحد ) ولم يكن الجواهري قد مات حينها !!، ناهيك عن الألقاب المجانية التي أشاعت ثقافة الرداءة مثل : شاعر القادسية ، شاعر أم المعارك ، شاعر القوات المسلحة ألخ ، وبالطبع فقد كانت تلك فرصة سانحة لكي يتدخل بسرعة قصوى أصحاب المواهب الكبرى في فنون الكسب على الخط حتى صرنا نقرأ مجموعة شعرية عنوانها : قصائد في حب القائد ، على سبيل المثال ، ولم تكن المؤسسة بجاهلة عن ذلك إذ أنها استغلت الفرصة لتطبع على الدوام مجاميع تحشد فيها العشرات من الشعراء تحت مسميات ( قصائد في المعركة ) أو ( في حب القائد ) أو ( في أم المعارك ) وهكذا .. وبالطبع فثقافة التخلف هذه لا تقف عند ضفة ثقافية دون سواها ، حيث تجد القصة والرواية والنقد الأدبي وقد أبتلى بالداء نفسه ، ومن اللافت هنا إن كل من أراد التحايل  على تلك الثقافة كان يشتغل على مناطق ( غير مفهومة وغامضة ) حدث ذلك مع موجة التجريب الهائلة في الشعر العراقي ( الثماينيات وما بعدها ) وفي النقد عندما اشتغل مجموعة من النقاد الجدد على النظريات الأدبية الحديثة ( لطالما سخر من هؤلاء بعض الكسبة ووصفوا تجاربهم بالمشوهة والمستنسخة وما إلى ذلك ) وكذا الأمر في السرد عندما ذهب الجادون مديات نائية جداً عن الجاذبية الأرضية ، كما في تجارب عبد الستار البيضاني وطه حامد الشبيب وغيرهما ..
في ضفاف الثقافة الأخرى كان داء التخلف يزداد اقتراباً واستحكاماً : الفنون التشكيلية لا شغل لها إلا وجه القائد الأوحد وانجازاته العديدة ، المسرح من جهته كان محاصراً بطريقة رائعة جداً : إما المسرح التهريجي وإما المسرح الجاد بشكله القاتم ( مسرح مناحات الحصار ) ، السينما كرست بالكامل لتمجيد القائد وفي الإذاعة والتلفزيون يشتغل بعض المغامرين على مسؤولياتهم الخاصة في برامج وأعمال تلفزيونية وإذاعية تريد الإفلات من دوامة الرداءة الكاسحة .
هذا المشهد المأساوي كان يمثل واقعاً يتحرك في ضوءه من يريد الاشتغال في حقل الثقافة ، مشهد لا يعبأ بشيء مثل الخديعة والخوف ، أما الفارين من عتمة هذا المشهد فكانوا يعيشون الحياة الثقافية بطريقة مختلفة حقاً ، مجموعة من النوادي المؤقتة التي تتشكل بسرعة رهيبة لتنهار بنفس تلك السرعة : ( جماعة تحت المنبر ، جماعة المنتدى الثقافي في كلية الآداب ، جماعة الصليخ ، جماعة الناصرية ، جماعة العمارة ، جماعة الموصل ، جماعة الاسكندرية ، منتدى المسرح ، قاعة حوار ، جماعة المركز الثقافي البريطاني ( قبل العام 1990 ) جماعة السينما الجديدة ، لجنة نقاد المسرح ، جماعة مهرجان حقي الشبلي في معهد الفنون الجميلة ، جماعة المسرح الجامعي ، جماعة الأكاديميين الجدد ، جماعة دارسي الآثار والمخطوطات ، جماعة الاستنساخ الضوئي ، جماعة الدراميين الشباب ، ألخ ) .. هذه الجماعات ، وبعضها لم تكن منظمة ، كانت بحاجة دائمة إلى الدعم ، وبالطبع فإن الدعم الرسمي غير متوفر لها على الإطلاق مقابل نكران تام لجهودهم من قبل تيارات الثقافة العراقية المعارضة خارج الوطن ، ناهيك عن العيون التي تلصص عليها هنا وهناك ، كل تلك كانت الأسباب المباشرة لسرعة انهيار مشاريعها الثقافية الطليعية التكتلية ، ولا نقول الفردية التي كانت تستمر بوتائر متصاعدة دائماً .
ثقافة الطغيان هي التي جعلت من عبد الأمير معلة ونجمان ياسين ورعد بندر وهاني وهيب رؤساء الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين في عقدين من الزمان بالرغم من الأمية الكاسحة التي يمتاز بها هؤلاء الأربعة ، وهي ذات الثقافة التي أنجبت رؤساء تحرير لصحف يومية على شاكلة صلاح المختار ( صار سفيراً للنظام في الهند ، وقد صرح بعد سقوط الطاغية بأنه سيقاوم من مكانه !!!) … وعلى وعزف موسيقى البطون الفارغة كانت تنصب الخيام الضخمة لموائد السلطان التي يحضرها البعض من المحسبوبين على الثقافة العربية في مرابد يراد لها مبايعة الدم على حساب الوردة ، وفي مواسم مختلفة للنزيف العراقي ..
اليوم وقد نفض العراق عن أردانه سلطة القهر والظلم يتطلع مثقفوه إلى مرحلة جديدة تسترجع فيها الثقافة صوتها الإنساني النبيل وتعدديتها الحضارية ..وإننا لعلى ثقة كاملة بأن التشويهات الخطيرة التي أصابت جسد الثقافة العراقية طيلة عقود لن تقف أما دورة النهوض التي آن أوانها ، فالعراقيون استطاعوا أن يوصلوا صوت الحرية من داخل أقبية الجلادين القاسية وهاهم اليوم يعيشون بالفعل حريتهم التي غدرها نظام صدام .
إن تكشف الحقائق الذي أشار إليه المذيع العربي في أول القول هو الذي سيستفيق الكثيرون على وقعه ، فالذي كان يصدر من بغداد خلال أكثر من ثلاثين سنة هو نص الخراب ، أو بالأحرى نص التخلف ، هذا النص الذي طبل له كثيرون باعتباره وجهاً من وجوه ( البطل القومي ) ونتاجاً مباشراً لسلطته المطلقة ، واليوم  يصحو هذا البعض على موسيقى جديدة ، هي ولا شك موسيقى العراق وثقافته التي تحررت من قيودها المختلفة .
***


عبد الخالق كيطان
شاعر عراقي مقيم في أديلايد

 



#عبد_الخالق_كيطان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن رحيل الشعراء ومفارقاته
- خطيئة الاجتزاء
- المثقفون العرب وأم الحواسم: الحيرة واليقين في مخيلة مواطن عر ...


المزيد.....




- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الخالق كيطان - ارتكبت جريمة هذيان / مقالات ومواضيع اخرى