نحن نعيش في عالم ملوث، وهذا لا يعني تلوث البيئة فقط بل تلوث العقول والأخلاق والمبادئ والقيم، وربما يكون العالم العربي هو أكثر المناطق معاناة من التلوث الفكري في أرجاء العالم. فنحن في عالم لغة الضاد معرضون من كل حدب وصوب للفكر السلطوي الدكتاتوري، وللفكر الأصولي الإقصائي المتطرف وللفكر العميل التابع للاحتلال والطغيان الأجنبي وللفكر الانتهازي الذي يروج للمصالح الخاصة لأصحابه.
في هذا العالم الملوث، يبدو للكاتب العربي أن الأفق بات ضيقا جدا للكتابة بحرية، وأن الهواء النقي لم يعد له مكان في أرض التلوث الفكري العربية، ولهذا فإن موقع الحوار المتمدن بالنسبة لي هو بمثابة مساحة من الهواء النقي والتي لا أجد مثيلا لها في الإعلام المطبوع والمرئي على امتداد العالم العربي.
أنه المكان الذي أكتب فيه بدون رقيب ذاتي، وأعبر فيه عن أفكاري بحرية، وبدون وصاية الدولة أو الدين أو رئيس تحرير مضطر لمجاراة لعبة المصالح السياسية والاجتماعية، والاقتصادية في المجتمع العربي.
أعتقد بأن الحوار المتمدن هو بمثابة جزيرة يندفع إليها المثقفون والكتاب العرب لممارسة حقهم الأبدي في الحرية، والذي تختطفه منهم عشرات العوامل والقوى السياسية والاجتماعية والدينية في العالم العربي، ولا أدري إذا كانت مساهماتي ومتابعاتي الحديثة للموقع تسمح لي بالمشاركة في التقييم ولكنني سأحاول أن أطرح بعض الأفكار.
من الناحية التقنية هناك الكثير من الجهد الرائع في تنظيم الموقع، وتسهيل التصفح من قبل الزوار، وهناك العديد من الخدمات الوافية. التنظيم الدقيق للمقالات، وتقسيمها حسب الكتاب وحسب المواضيع والتاريخ في نفس المكان يسهل كثيرا من مهمة البحث والتوثيق والأرشفة.
بالتأكيد أن خدمة تقييم المقالات مثيرة للاهتمام. ربما لا تمثل رأيا علميا ودقيقا كما معظم استفتاءات الإنترنت ولكنها بالتأكيد تساهم في إعطاء كاتب المقال فكرة عن مدى التأثير الذي أحدثه المقال لدى القراء، وهذه خدمة لا تتوفر للكاتب في الصحف ووسائل الإعلام التقليدية، وتساعد بشكل كبير على عمليات التقييم الذاتي للكاتب.
على صعيد نوعية المقالات فهي بكل تأكيد تتباين كما في أي تجمع للكتابة الحرة، ولست بكل تأكيد في موضع تقيين النوعية لأن ذلك يتنافي مع مبدأ الحرية، ولكن ربما تكون هناك حاجة إلى وضع بعض المعايير التوجيهية في عدم استخدام العبارات المهينة أو شن الهجوم الشخصي وذلك حماية لنوعية الكقال نفسه ولسمعة الكاتب، فالاسترسال في الحرية والسماح بنشر كلمات وعبارات غير مقبولة، وهي نادرة جدا قد تتسبب في النهاية برفض مضمون المقال وفكرته.
وبالرغم من أن الهم العراقي يهيمن على كتابات معظم المساهمين في الموقع، فإن هذا لا يشكل نوعا من "التخصيص" أو القطرية في الطرح، بل لأن الهم العراقي يعيش فينا جميعا من كل الأقطار العراقي، لأن الجرح العراقي يحمل في طياته كل جروح العرب والحياة البائسة ما بين مطرقة الدكتاتورية وسندان الاحتلل والهيمنة، والخطر من تنامي الأصولية والأفكار الإقصائية كما أننا نعرف جميعا بأن هذا العالم العربي لو قدر له أن ينهض، فإن هذه النهضة لن تكون إلا من أرض العراق.
الموقع منتم لشعارته ومبادئه، وهو متنفس نادر للفكر اليساري العلماني اللا سلطوي في العالم العربي، والذي نؤمن نحن المشاركين في الموقع بأنه الفكر الذي سيحقق النهضة التي ينتظرها العرب منذ فترة طويلة، ولكنني أتمنى المزيد من التركيز من قبل المساهمين وخاصة اصحاب التوجهات الفكرية الناضجة منهم في متابعة تطورات الفكر اليساري والعلماني الحديث في العالم ونقله إلى قراء الموقع، حتى لا يبقى هناك هذا الفاصل الكبير في المعرفة والإدراك بين العرب والعالم المحيط.
ربما تكون هناك حاجة إلى تجديد وتطوير الأقسام والمواضيع الخاصة بمناهضة العولمة ضمن إطار المنظومة الفكرية اليسارية- العلمانية التي تقود تيار مناهضة العولمة في العالم، والتركيز على قضايا العولمة وعدم العدالة في العالم مثل قضايا منظمة التجارة الدولية والتنمية والفقر والزراعة والبيئة والمياه والطاقة.
التعددية هي الميزة الأكثر أهمية لهذا الموقع، وهذا ما يتأكد لي يوميا عندما أقرأ الكثير من المقالات التي لا تعجبني، ولكن نشرها يسعدني إذ يثبت بأن لجميع حق الكتابة في هذا الموقع ما دام يؤمن بثلاثية الديمقراطية والعلمانية واليسار، وهو الثالوث المغيب في عالمنا العربي.
تحياتي للقائمين على هذا الموقع، والذين يتحملون مسؤولية كبيرة في الإبقاء على هذا المنبر وتطويره، حتى يتسنى لنا جميعا تنشق هذا الهواء النقي والعليل بعيدا عن التلوث الفكري الذي يطاردنا.