أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ابراهيم محمود - التاريخ الكردي من منظور الصوت: عبر رواية كردية















المزيد.....



التاريخ الكردي من منظور الصوت: عبر رواية كردية


ابراهيم محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1682 - 2006 / 9 / 23 - 04:26
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


الخارج في داخله:
بين حضور الكردي من خلال الكتابة، وحضوره من خلال الصوت الذي يمثله كلامه، كلامه الذي يحدده كثيراً في الزمان والمكان، فارق كبير جداً، لا يقاس، إلا إذا تمكَّن المتحدي في القياس زبه هنا، في أن يحصي العدد الفعلي من الكرد، وهم يتكلمون الكردية حيث يكونون، وما هم عليه كماً، وما يعنيه الكم هذا من زحزحة لافتة لحقيقة كونهم كرداً، حيث تمثلهم لغات أخرى، وليس لغة واحدة، إذ يشكلون استثناء متبقياً أكثر من أي شعب آخر، انطلاقاً من جملة الظروف والأوضاع التاريخية والجغرافية والسياسية التي تتحكم بهم، سواء من خلال الكتابة المباشرة، أو من خلال اللغة الممثَّلة، لترتد الكردية ربما أكثر من اعتبارها لغة ثانية، تعبيراً عن وجود ٍما اضطرارياً، بالتأكيد، أو بسبب جملة تراكمات يبدو الاضطرار اختياراً، ولكنه اختيار لا يخرج في حيّزه التاريخي والجغرافي والسياسي، عن حالة توصيف قهرية.
طويلاً عاش الكردي ، ولا زال، في عهدة لغات أخرى، ليس لأنه ( ناقص الإيمان) بلغته، وإنما لأنه سيق في معبر نقص القدرة الذاتية والواقعية، لتكون علاقته بلغته تلك- هذه ضعيفة.
ليس من تفاضل قدري بين اللغات، فالذين اُتّهموا بالبربرة منذ أقدم العصور شعوباً وقبائل، كان المقصد تبريراً لإعلان حرب عليهم، ومحاولة تطويعهم لسلطة من بربروهم، كما كان ذلك شأن اليونان مثلاً، لتكون البربرة مدخلاً لغوياً لاستيعاب الحقيقة المؤلمة تاريخياً للبربرية بأكثر من معنىً ( هنا، على الكردي ذاته مراجعة لغته، حين يستخدم مفردات، دون وعي منه، ودون أن يتوقف عندها، كما لو أنها ولدت معه، لأسباب يفسرها أكثر من تاريخ يتجاوزه، ويستبد به في الآن عينه، وهو ضحية ما يستعمله في الحالة هذه في السياق اللغوي، عندما يحاول النيل من سواه: من كرديّه القريب منه، هنا، وليس غيره، بأنه يبربر وبصيغ شتى:
Ew dike birbir, ew çiqas dike birbir, birbira wî, hema dike birbir...Hud).
ثمة خيانة لأصل لا نعتبره أسطورياً، وإنما لذاكرته التي يعتبرها مرجعاً له في تأكيد ما لحق به من غبن ومحاولات تحوير وتجيير وتغيير قسرية في ذاته ، وفي أعمق مدى ً نفسي له. إنه وهو يتكلم، يمارس عصياناً ذاتياً على صوته إذ يستحيل كلاماً، يجرد الكلام من صفته الانسانية، حيث البربرة ليست سوى الصوت الذي لا يُفهَم، ويعني ذلك تبرير كل فعل من شأنه تنحيته مما هو إنساني، والإثم الذاتي هنا مضاعف: كونه الضحية التاريخية اللافتة في التعرض لحالة( البربرة والتبربروالبربرية والتبريرلأي سلوك" بربري" يُفعَّل فيه)، وهو يعرف عدوه التاريخي مبربره جيداً، إذ يجرده عن خاصية صوته حين يتهجى ألفباءه المميّزة له، وإذ يبعده وهو يجرده عما يؤكده، حيث يبربر سواه دون وعي أو بوعي منه، دون تحرّي النافذة التي عبرها تسللت الكلمة هذه إلى خانته اللغوية، ليروّض فيه ذاك الكردي باعتباره انساناً مختلفاً، ليكون حتى ما دون الاسم دون مسمى، على الأقل: تعريباً وتتريكاً وتفريساً، ولأنه يمارس تقليداً لمن مارس ويمارس عليه تشديداً وتهديداً، في ألا يكون إلا بالصورة التي يراد منه أن يكون عليها، ضداً على تركيبته المورفولوجية، ونقيضاً عدائياً لتركيبته الفونيتيكية، كما لو أنه ليس هو، فيكون في المحصلة صوت الآخر فيه: سوطه التاريخي الناتىء، والذي يعدم فيه تمايزه أو قدرة التحرك نحو التمايز، وصوته المزيَّف بالآخر.
لا يعود داخله إلا الخارج الذي لطالما انشغل بتبديد معالمه وقواه، في بعد أحادي دون جذور، هو البعد الذي يكون تعريفاً به، بينما هو تحريف لبعده الرئيس: كرديته الجلية بصوته.
يكون الرجوع إلى التاريخ، ليس انسحاباً من الحاضر، أو محاولة نسيان أو تناس ٍ للمستقبل، وإنما هو استحضار للتاريخ، ذهاب إليه من المكان الذي نحن فيه، مقارعة التاريخ، كما هو التاريخ المقروء بمكتوبه اللاكردي، بالتاريخ الذي ينتظر كتابه بين يديه، بمكتوبه المنتظر تدويناً بصوته المباشر، الصوت الذي لطالما أُلّبت عليه جهاته ذاتها، فما بالك بجهات تحيط بجهاته وما هو أبعد منها! لتكون اللغة المقروءة من جهة الكيف : التمثيل الاعتباري التاريخي للكردي لماهو عليه كماً، وعلي هنا، أن أتوغل في محظوراللغة التي تخصني وتمسني في الصميم، وأنا أستعين باللغة التي لطالما راودت قواي النفسية عن كينونتي قهراً وهدراً: العربية، ليس استعانة الدخيل بالداخل عليه، وإنما استعانة المدرك للغة إذ تجرَّد من قوتها التي وجهت بها، مثلما أتحدث عن الكردية صوتاً ذا معنى من بين أصوات متمايزة، لا من جهة التمايز الحدي، إنما التمايز اختلافاً معرفياً.
تتقدمني اللغة التي أشدد عليها، وهي محاولة لقراءة تاريخ لم يدوَّن كما يكون التدوين، تحريراً له من نزعة تمركز ما، وهي الكردية، مدخلاً لمكاشفة تاريخ، يمكن أن يفيدنا كثيراً في تنوير التاريخ الذي أتحرك نحوه، فيه، أو أحمل صورته داخلي، حيث الصوت الذي أحاول سماعه، يتمثل في من يحيل التاريخ إلى مشهد حيوي، مجال للتعارضات، فتح ملف طويل في تاريخ، لطالما أُغلق عليه، وقيّد كل جرم ٍمرتكب فيه بحق الكردي عامة، ضد مجهول في أفضل حالاته، توكيد قيمة لوثيقة منتظرة، لا يمكن ردعها في نجاعتها وقوة شهادتها، لحصر التاريخ، بوصفه التاريخ الذي لم يُتداوَل إلا في اعتباره ساحر فرعون التاريخي، نفياً لحقيقة.
إنه ( الرد بالكتابة)، كما هو محتوى كتاب أثير مترجم إلى العربية حديثاً، وبالاسم ذاته، مع توضيح محدَّد( الرد بالكتابة: النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة)، لا تكون الكردية هنا استثناء، ولو أن حدود الكتاب لا تسميها، إنما هي قابلة للتوسع دلالياً، فالكردية لم تكن في يوم ما،اللغة التي تتحرك في طريق آمن، داخل جغرافيا جرى تقسيمها وتلغيمها بأهليها الكرد وفيهم.
هنا, وخلاف كل التصورات التي تنتقد الصوت، وتعطي الأفضلية للكلام، لمنح الكتابة قيمة موازية، وما للقضية هذه من أبعاد سياسية وتاريخية وثقافية واسعة المدى، كما هو شأن كتاب إشكالي ونافذ القيمة( في علم الكتابة) لجاك دريدا، يكون التركيز على الصوت في مسمّيه الكردي نزوعاً نحو التاريخ ما أنصفه كتابه تنوع مناخات، حيث كتابه حراسه، بمعنى لصالح ما أرادوه تاريخ حقيقة، إنها محاولة لجعل الصوت الكردي صوتاً تاريخياً، وليس صوت التاريخ استثناء.
هنا أجدني إزاء رواية الكردي المقيم في السويد محمد أوزون، الكردي الجامع بين اسمين لا يمثلانه تاريخياً، ومن جهى اللغة تماماً، الاسم الأول في سياقه التاريخي العربي الاسلامي، أي محمد، والاسم الثاني فضلة تاريخ يفتقد روح الفضيلة في إطلاق أسمائه المنتقاة سلطوياً، أي أوزون: الطويل، بالتركية، ليكون ثلث الثالوث السلطوي الآخر بالفارسية، وهكذا، حين يكتب رواية( Rojek ji rojên Evdalê Zeynikê: يوم من أيام عفدالي زينكي)، منشورات ولات، ستوكهولم، 1991.
ربما كان سؤال: لماذا الرواية هذه، بعد مرورعقد ونصف عقد على ظهورها، هو ذاته السؤال الذي يشكل جواباً ما: لماذا لا تكون الرواية هذه، وهي تطرح ذاتها بفكرتها؟
بالنسبة لي، ربما كان لي تبريرما، وهو أنني حصلت عليها مؤخراً في نسختها الكردية، وقد قرأتها بالعربية، من خلال ترجمة الكاتب والشاعر محمد نورالحسيني، سنة 1993، ولأن المستجدات التي نشهدها تخلق أسئلتها، مثلما تخلق رواياتها، أو تعيد ترتيبتها من جهة مقوماتها الأدبية وصلتها بالمستجدات هذه تاريخياً، كما هي اهتماماتي الآن، وهو تبرير لا يؤثر، كما أظن، لا في التاريخ الذي نعيشه، كل بطريقته، ولا في عملية القراءة، إلا من جهة المقصد التأويلي فقط.
التاريخ الكردي لا زال في انتظار من يدوّنه، وليس من يعيد كتابته، لأنه لم يدوّن في حده الأدنى، كما هو شأن ألوان ثقافته تلك التي نعيشها حسياً أو في نطاق ضيق، ثقافة تصارع ذاتها لتبقى، مثلما تصارع ثقافاتها الشقيقات الكائدات المكيدات لها في محيطها، لتكون اللاثقافة، إذ تروم اختلافاً كما هو الكردي الذي ينشد اعترافاً بكينونته، ليكون المسموع بصوته رفداً موضوعياً لتاريخه الذي يُراد له تاريخاً بلغته، كما هو تاريخ الآخرين.

جديد مضاعف:
أن أتحرى تاريخاً لم يبصر بعد طريقه بين تواريخ الآخرين، لأسباب كثيرة، تاريخية في العديد من نقاط قوتها النافذة، هو التاريخ لكردي، فذلك من خلال فن أدبي حديث العهد به، من قبل الكردي ذاته، ويفسر حداثته التاريخ المشار إليه خارج إرادة الكردي وضداً عليها معاً، ليكون الصوت الذي يتعالى داخل الرواية: صوت الراوية، الفن الكردي المكثف دلالة، الوجه المكمل لما يريده الكردي، أي أن يستمر بتاريخ مسرود من الذاكرة: القلعة الوحيدة المتنقلة، كما لو أنها المورّث العضوي، لوذاً بخصوصية تاريخية لا يعيشها سوى أهليها، وتخلصاً من تاريخ مفروض، أو تخفيف عبء موجع لهذا التاريخ المهدد له في حواسه وما تحمله ذاكرته تلك.
وربما لأن في ذلك، مسعىً، لتقصّي الذاكرة، ما تكونه الذاكرة هذه، أي حكواتية تتضمنها، وأي تاريخ يمكن تعقب اُثره، بناؤه من الداخل، كما هو المعمارالمرئي، ليكون صالحاً للسكنى رمزياً، وأي قيمة يمكن التوقف عندها، وتفكيك أبعادها، ليكون في وسع الكرد هضمها والتميز بها.
سؤال يطرح نفسه، ونحن على عتبة الرواية، لا بل في صميم منشأتها التاريخية: أي تاريخ يريد أوزون تقديمه، وأي تاريخ يمكن استشفافه من خلال سرد روائي بدايةً؟

اليوم الذي هو تاريخ مفتوح:
ليس المقيم والمتحرك بين دفتي رواية أوزون هو التاريخ بألـ تعريفه: جملته قاطبة، ثمة تحديد زمني، لا يخفى على القارىء، من قراءة العنوان( يوم من أيام)، إن الرواية هي رواية يوم واحد، فهل التاريخ الذي يراد له أن يكون تاريخاً كردياً، تاريخ يوم واحد، وما علينا إلا أن نستعيذ بقوة تجبر بخاطرنا، لنتحرى الأيام الأخرى، بغية توسيع رقعة التاريخ هذا يتمرقد داخلنا قسرياً؟
كما هي لعبة السرد، نحن هنا إزاء زمن الخطاب الذي يؤكد حصافته، من خلال سرد روائي، وعلى لسان راوية، هو حكواتي بمعنى ما، إنه مغنٍّ وحكواتي معاً، فيكون زمن حكايته متعدد الأبعاد الزمنية، بينما يكون الزمن المخصص لها: زمن القول في يوم واحد، لأن الذي يتعرض له يغطي تاريخاً من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، حصره بقواه وأسبابه، بجلاديه وضحاياه تماماً.
ليس من زمن محدد للرواية، وإن كان المحدَّد في العنوان يوماً واحداً، ولكنه يوم للحديث عن التاريخ، ومن جوانب شتى، وبطريقة مميَّزة يدركها أوزون، لأنه رصد اليوم هذا، مثلما رصد الذي أسكنه فنياً هذا اليوم، مثلما رصد صوره ولغته المنتقاة اللتين أرادهما أدوات رصد له لكائنات ألهمها قوةً ما، وموقَعَها، كما لو أنه يؤفلم لأحداث روايته: تاريخه الكردي هنا.

العتبة الكبرى :
إنها العتبة التي تستشرف الرواية، وبدءاً من العنوان وما يليه. فإذا كانت العتبة هي الحد الفصل بين الخارج والداخل، فإنها في موقعها تشكل تعريفاً بالداخل للخارج، من خلال المساحة والعلو والمواد الداخلة في تشكيلها، أعني بذلك:
مساحة التاريخ بواقعه، وما يتخلل الواقع مما هو واقع حسي، وما هو منتقىً، وجار ٍ التركيز عليه، وما هو داخل في صلب الواقع هذا، في تسميته خيالاً، وليس من خيال بمنأى عن واقعة ما.
ومساحة الرؤية التي تحيط بالتاريخ هذا، من جهة الوضوح أو الغموض، وما يرتسم خارجاً من علامات، تعزز قوام العتبة ودلالتها، ومدى الجاذبية التي تغري بالنظر والتقدم صوب الداخل.
وشخصية الكاتب، صانع العتبة عبرمؤالفة يستحيل الفصل بين المعتبر واقعاً والمسمى خيالاً، اعتماداً على القدرة الفكرية والأدبية، وحتى سياسة الكتابة.
أذكّر هنا بغراهام هو، وهو يقول في كتابه ( مقالة في النقد)، وبصدد العلاقة بين الرواية والتاريخ، كيف أن ( كل الروايات تكون تاريخية)، ليشدد فيما بعد على الرواية النافذة المفعول بسلطانها الأدبي هنا، حين: ( الروائي يقدم تحرراً روحياً صحيحاً في لمحات وإضاءات، بقدر ما تستطيع الرواية أن تذهب في تجاوز التاريخ والمجتمع.) – الترجمة العربية1973ص 148.
إن فذاذة الكاتب تتبع خط سير رؤيته في التمكن من التاريخ: التاريخ القائم ومقاضاته، استعانة بتاريخ ربما هو في الخلف منه، أو ينتظر ظهوره وحضوره، معتمداً جرأة الكاتب هذا، ومدى تصدّيه للعوائق المختلفة، تلك التي تحول دون تعميق مساحة التاريخ، أعني تحول الذاكرة تاريخاً آخر، كما تعلمنا، بصورة ما، رواية محمد أوزون، أكثر من كونه تاريخ الكاتب، وإلا لما كان من قيمة وجاهية للنظر في الرواية، أو الاستئناس بها. ذلك شرط الفن المعتبَر ملهماً في التاريخ.
ماالذي يمكن التعرض له عبر هذه العتبة الكبرى : السرد المدشن استلهاماً لسرد آخرتال ٍ قراءةً.
ليس محمد أوزون اسم الكاتب أو الروائي، الذي يُقرَأ بمعزل عن الرواية، كما تعرضنا له قبل الآن، أما بصدد عنوان الرواية، فثمة ما يجب التذكير به مضاعفاً، وهو أنه خلاف الاسم المذكور، الذي لم يكن له دخلٌ فيه، إنه هنا صنيعه، أي طريقة تقدير للتاريخ، هذا الذي يريدنا بصورة ما، التعامل معه، وتحديداً الشخص الذي تتمحور حوله الرواية، على لسان راوية، يكون أقرب إلى الروائي، لأنه هو الذي يذكّي نار تاريخه الخاص، أعني بذلك عفدالي زينكي.
ثمة خلخلة في الاسم كما في الكتابة عربياً، خلخلة على صعيد الاسم مصدراً، وبتهجئته عربياً أو في الوسط الاجتماعي، حيث لا يكون عفدال، أو عفدالي، إلا تحويراً لـ: عبدالله، وكيف أن الباء تنقلب حرفV، خلاف المكتوب، كما لو أنه إمعان في تسوية من جهة واحدة كردياً حيث إن الاسم تذكير بالمفردة الكردية Kol: عبد، ويكون اجتزاز للنصف الآخر( الله)، كما الحال مع زينكي، حيث نجد أنفسنا إزاء الأقرب من جهة السلطة الرمزية: زين، زينة، والأبعد جين، أو بالكردية تحديداً Jîn، وفي الحالة هذه ما علينا إلا أن نمد في بساط التفسير، وليس التأويل احتياطاً طارئاً(لأن الأول يفي بالمطلوب)، عندما نحيل علاقة الاسم باللقب، أو بالنسبة زينكي، وكيف أن ربط اسم بأنثى تحريك لأكثر من تسلؤل، حول المسبب لرابطة كهذه، وكما يقول الراوي : ( كان ينحدر من أسرة بائسة، كان ابن زيني، وحيداً ويتيماً. ص 19).
يعني ذلك تيتمُه من جهة الأب، ويعني أيضاً أن أمه هي التي ربته، ويعني ثالثة أن هذا اللقب في مجتمع ذكوري، لا تُخفى أبعاده التاريخية، يشكل حالة دونية قبل كل شي ء له، وتوصيف الأسرة يقول هكذا( بؤسها)، وكذلك وضع الشخص: وحدته.
اثنان وعشرون شطراً من شعر أحمد خاني، من ( مم وزين)، تشكل مفتتح الرواية، وهي حالة مألوفة، إلا أنها في كثرة أبياتها نسبياً، تضعنا في قلب تاريخ آخر، حيث الأدب لا يُستنجَد به لمصاهرة التاريخ فقط، وإنما ليكون له سهم جلي في تدوينه، أو في استبصاره بحقيقته الممثَّل فيها كثيراً، إذ في الوقت الذي يكون إقصاء أو إرجاء لتاريخ ما، بوعي مخطَّط له، تعود الذاكرة الحكم الفصل، يكون الصوت عبر الكلام مزدوج المهمة:
التعبير عن الذات الجمعية للذين يستقطبهم الصوت ذاك.
ولتدبير تاريخ يتم توارثه جيلياً، اعتماداً على بدائل مؤثرة فنياً، ليسهل تداوله وتناقلهن حتى يتم تدوينه أو التحقق منه، وفي الحالتين يكون إطلاق لتاريخ اُلزِم الصمت المكَره عليه طويلاً.
وليس الاقتباس من أحمد خاني مجرد حالة مزاجية، وإنما لأنه يشكل فورة تاريخ لا مجال لتجاهل فراهته قيمياً، خصوصاً في الأبيات التي اقتبسها، بوعي مركَّز، كما في:
وخاني ليس من دون كمال فميدان الكمال رآه خال
وليس الكرد من دون كمال همو كانوا ضحايا سوء حال
دعاة العلم لا الجهل ظلوا بلا راع ٍ يوحدهم تجلوا
هي بعض من الأبيات التي ترجمتها شعراً تجاوباً مع نداء خاني من الداخل، كما يبدو لي، بغيةالحفاظ قدر المستطاع على طلاقة الروح المتقدة فيه، وإزاء الوضع هذا، فإن أوزون، كما لو أنه أراد تقديماً لروايته، أو تصنيفاً للفكرة قبل نثرها على مدى مائة وستين صفحة .
لاحقاً يتضح كثيراً ما من أجله كانت الرواية مفهوماً وقيمة، حيث الإهداء يخص شخصيتين كرديتين مثقفتين، قضي عليها في الغربة، شخصية الدكتور نورالدين ظاظا الذي توفي في سويسرا سنة 1989، وفي الجانب الآخر اغتيل قاسملو في النمسا في السنة ذاتها، على يد جلاوذة فُرس، وكأن في ذلك إحياء لذكراهما، بعد سنتين من وفاتهما.
لكن الذي يجب التوقف عنده، هو إذا كان قاسملو وجهاً كردياً يستحق التقدير، فإن ظاظا الذي أحيط بمناخ من الصمت والتكتم عليه كما يعلم بذلك أولو العقل والنهى الكرد، يصعد إلى سطح التاريخ أكثر، بسبب اهتماماته المختلفة معرفياً، ومن ذلك: الفولكلور، حيث شخصية عفدال زينكي لا تخرج عن دائرة الاهتمامات الثقافية والبحثية التي شدد عليها كثيراً.
فهو ذاته من كتب في مقدمته لـ" مم آلان"، وقبل ثلث قرن، ما من شأنه الحرص على الفولكلور الكردي، لأن ثمة تاريخاً ينتظر تدويناً، وأن هذا الفولكلور يشكل معيناً لا ينضب للتاريخ الكردي هذا، وبشكل أدق، ما يخص الحكواتيين والمغنين الشعبيين الذين لا يُعتبرون مصدر أنس ومتعة ومنادمة مجالسية فقط، إنما ما يبز كل ذلك، مصدر تعلُّم تاريخ وكتابة تاريخ حورب كثيراً، حيث كان المغنون والحكواتية يتواجدون في مضافات آغوات ووجهاء الكرد، وأن غياب هؤلاء يعني زوال أولئك، أي ضرورة دوام الاتصال بهم للنهل من معين تاريخ يُغنى أو يُقص من خلالهم.
لا بل ثمة ما يدفع بشيطان النثر،وليس الشعر هنا، إلى استلهام تاريخ مقروء، والربط بين أمكنة حية: أمكنة حقيقية وأخرى رمزية أدبية.
فالرواية تبتدىء عبرالتعريف بمغنٍّ وحكواتي، وعلى لسانه، ليكون هذا معرّفاً بأشخاص حقيقيين فعلاً: الأمير جلادت وأخيه الاخر الأميركاميران بدرخان بك، حيث عاشا في الشام لزمن معلوم، مثلما كان الآخر الذي لم يُذكَر اسمه، وهو نورالدين ظاظا، وقتذاك في الشام في في بداية ثلاثينيات القرن الآفل، ومهتماً به من قبل جلادت ذاته، وفي الفترة التي يسميها، حيث تكون الكلمة التي يوردها على لسان جلادت هي ذاتها مضمون الكلمة التي شدد عليها ظاظا في مقدمته المعروفة لـ" مم آلان"، حيث يخاطب جلادت الراوي: المعني والحكواتي ( الأغاني والحكايات الكردية تعتبَر الوجود الحي وثروة فعلية لنا، الأزمنة تتغير، ولو أننا لم نهتم بها، ستضيع، يجب أن تدوَّن . ص 11).
إن ذلك يحثنا على طرح أكثر من سؤال، من مثل :
هل قرأ أوزون مقدمة ظاظا السالفة، هل اطلع على تاريخه، هل توقف بما يفيده أدبياً، عند تاريخ البدرخانيين، وفي المرحلة التي سُمّيت في روايته؟
لا مجال لقول العكس، لأنه هو ذاته يورد على لسان الراوي، ما يخصه، باعتباره شخصية حقيقة كذلك، أي اهتمام جلادت به، في صحيفته ( هاوار)، وكما في الصفحة (14) من الرواية.
طبعاً لا ضير في ذلك، إنما محاولة تتبع خطى الروائي، وكيفية تدشينه لعمارته بواجهة تاريخية، ولما يظهر في الواجهة، خصوصاً، عندما تتم قراءة المكتوب على الغلاف الثاني من الخارج، كما هو المترقَّب التالي إثر الفجر، بيقين تاريخي هذه المرة، أكثر من أي مرة أخرى، ومن خلال تاريخ صدور الرواية، كما هو معلوم، وتحت صورة الروائي، كأن نوعاً من الضمان قد أُعطي للحدث التاريخي في أن يستحيل ما هو مرغوب فيه( اليوم، الأكثر جلاء هو كردي، ونحن بدورنا نريد ذلك)، وهذا ليس وعداً، إنما ترجمان وعد مشدَّد عليه، ورؤية يتردد صداها خارجاً كذلك.

الفجر أولاً الفجرأخيراً:
ليس الفجر انبثاق النهار، إنما إعلام به، مثلما أنه ليس إدباراً لليل، إنما إنباء عن نهاية له.
على مستوى آخر، ليس ما يخيف أكثر من الفجر، إنها اللحظة القاتلة، حيث يكثّف الليل قواه رمزياً لجعل الذاكرة النهارية مقلقة مختومة بالأثر الليلي، هذا ما يعلمه زوار الفجر، مثلما يعلم ذلك من يستعجلون النهار خائفينة من المتبقي الليلي، كون العتمة لا تزال تمد بساطها، ولو بغلالتها الرقيقة سواداً، بينما ثمة تجلٍّ لوميض ضوء، يتطلب وقتاً محسوباً ليكون النهارجلياً.
لم أثر هذا القول، إلا لأن تاريخاً مقدَّراً داخل الرواية بداية ونهاية، إثر الكلمة، كلمة الروائي، حيث الفجر يبرز أولاً بتعددية أقسامه، مثلما يبقى أخيراً بتعددية أقسامه، وإن كان في نهاية الفجر الآخر ما يعد بالأمل، ولكنه أمل، أعتبره متخيَّلاً من كونه أملاً هو مخاض واقع يمكن الركون إليه، اطمئناناً، كما تقول بداية تسعينيات القرن المنصرم، كما هي اللحظة التاريخية التي بدا فيها عفدالي زينكي الذي ربما عُقدت عليه هو وطيره الكركي آمال، أكبر من التاريخ المناوىء لها دلالياً، كما يعلم المعنيون بالتاريخ العام، وكما يدرك ذلك متحروالتاريخ الخاص كردياً هنا.
الفجر امكانية استطلاع للمتحرك في الجوار، والتنبه لما يجري، بصورة أكثر حذراً وترقباً لموعود ما، لتاريخ لا يعود هنا مجرد صوت، إنما لغة تجد طريقها إلى القرطاس كتابة مدوَّنة.


الاسم المصوّت في التاريخ :
لن أقول، إن ثمة لعبة للأسماء واضحة المقامات في الرواية، لأن ليس من رواية إلا وتعتمد استراتيجية خاصة بها، وهي تمارس لعباً أسمائياً، إنما يمكن القول بأن الرواية تعزز حضورها التاريخي منذ البداية من خلال أسماء تقيم في التاريخ، ولكنها تتفعل في الذاكرة أكثر، حيث إن إدوارها تتنوع هنا قيمة أو أهمية، ولعل الروائي الذي لا يني يعاود الكرة إثر الكرة الدخول في التاريخ الذي يجده مناسباً له، يخرج منه به، إلى واضحة النص الذي يتلمسه أكثر قدرة على تحريك واعية القارىء. إن الاسم الذي يدشن به الرواية هو ذاته الاسم الذي يسكن تاريخ أشخاص أحياء، باعتباره كان شخصية من لحم ودم: انتماء ونسباً وحتى مكاناً، لو أردنا تعقب أثره، وليس الأشخاص الأحياء إلا جملة الذين لا زلنا نقرأ لهم، أو لا زلنا نقتفي آثارهم، ونمارس تفكيكاً وتركيباً لا متناهيين لما تركوه كتابة مطبوعة أو مخطوطة، وما هو طي الذاكرات وصدور الأشخاص هنا وهناك، كما في حال آل بدرخان، وجلادت في المقدمة.
ما يعنيني كباحث آثاري، وتكون الكلمة الأثر المتجدد في التاريخ، هو ما تنطوي الكلمة عليه من تاريخ أو أصداء تاريخ، وكيف توضعت بناه، وتوزع أشخاصه، وأي لغة تصادت أصداؤها بين جنباته، وفي الإطار المحدَّد كيف يمكن للغة محظورة، أن يكون لصوتها دوام الاتصال بالتاريخ.
ثمة حضور طاغ ٍللصوت المحروم من حضوره كتابياً، الصوت الذي ينشد الحضور في التاريخ تدويناً. إن العنوان الفرعي الذي يستهل الروائي به روايته مباشرة، لا يمكن تجاوزه دون تعليق، خصوصاً وأنه يتميز عن بقية العناوين المفصلية، بمعنى آخر، يعتبر بدوره مفصلياً من نوع مختلف، وتحت اسم ( كلمتي: Gotina min)، كما لو أن المسرود لا حقاً لا يندرج في إطار كلمته، كما لو أن لا صله له بما يجري، على لسان الراوية هنا، وبصيغة أخرى، كما لو أن بقية المدون تتنحى في سياق مغاير، أي ما ليس مدرجاً تحت عباءة كلمته.
قراءة الصفحات التي تتبع العنوان هذا( 11 صفحة)، هي التي تجلو مقامه، كون الموضوع يخصه وحده، سجل تعريف به، إو إضباته الذاتية، كما أن المتكلم الراوية، يتحدث عما يكون عليه لمن يريد التعرف إليه: ( اسمي أحمد. أحمد فرمان. أحمد فرمان كيكي. أي أن أحمد هو اسمي. وفرمان هو لقبي، وكذلك هوفألي. وكيكي نسبة إلى كيكان. اسم عشيرتي. وثمة أسماء أخرى لي: مغني عامة الناس، ومنشد النجدة .. الخ . ص7).
ثمة تقطيع للأسماء، كل اسم مذكور بمفرده، لتشكل النقطة نهاية، أي تحديد موقع، ليكون التسلسل كما هو السجل العدلي ( إخراج قيد شخصي) له، فقط عندما يأتي على ذكر أسمائه الأخرى، تطول الجملة، كما لو أن ذلك لا يهم كثيراً إن استفاض حتى النهاية، بعد النقطتين.
أن يكون مغني عامة الناس ومنشد النجدة، لا يكون ذلك بمثابة الاسم، إنما اللقب، وكأن اللقب هنا يتجذر في تاريخ آخر، ينافس الاسم ذاته، رغم أن الاسم الأخير يستحضر أسماء كثيرة، ولا يكون اسم أحمد فرمان كيكي، إلا المقيَّد بما تعارف عليه كممارسة مهنة، أو صنعة أيضاً.
يتضح لاحقاً، عندما يأتي التعريف أكثر:( نعم، صحيح، أنا مغنٍّ ومطرب. باستثناء الأغاني والكلام ، والحكايات، والأمثال والحكم. لا أنفع لأي شيء آخر. الكلمة حياتي. ص 7).
إنه دخول في تاريخ الصوت، في القدرة الذاتية على اجتذاب الآخرين ممن يفهمونه، ويتجاوبون مع ما يثيره في إطار القائمة المذكورة من أصناف الكلمة.
إذ ليس من مغن إلا وهو حكواتي، كما كان عهده، وليس من مغن وحكواتي إلا وهو قادر على التعبير بأفانين القول، على ذكر الأمثال والحكم، على اعتماد القص مجالاً لتأكيد كينونة ما. وخصوصاً حين يشدد على أن الكلمة هي حياته، لأنه طالما يمارس الكلام، والكلام كرنفال أنشطة، وفي الحالا كافة يكون الصوت الملحن كما هو الصوت ذو النبرات، ليدوم الأثر.
( في حياتي المديدة عشت كل أصناف البشاعة والسوء، وعايشت كل صور البلايا والأرزاء التي أحاقت بنا نحن الكرد ولازمتنا ظلالاً لنا. ص 8).
هو في مقامه هذا لا يتحدث كمغنٍّ، إنما باعتباره معنياً بما يجري، متفهماً للتاريخ الذي يعيش مأساته النافذة فيه، وربما يكون أكثر من كونه حكواتياً من خلال طريقة سرد أحداث تاريخية.
إنه يحدد مكان إقامته :( الآن، أنا هنا، في ديارالغربة، في بلاد الشام. ص 8).
يحمد الله لأنه بعيد عن مكان إقامته في الأصل، بسبب الممارسات المهينة النازلة في شعبه من قبل النظام التركي ومن يمثله، ومن ذلك ملاحقة من يتحدث بلغته، ومعاقبة كل من يتحدث بالكردية، بحسب عدد الكلمات، لأنه لو كان هناك، لما كان هنا، أي حيث تكون سلطة السرد مدموغة باسمه، لما التقى بأعلام لهم صيتهم الأثير، كما في حال البدرخانيين: جلادت وكاميران، حيث وحدهما سعد مشترك( ص9).
هو نفسه محط أنظار الآخرين، لأنه يحمل تاريخاً متعدد المرامي بين جنبيه، ويُرغب في سماع ما يخصه: ( لو الله يمدني بالقوة والطاقة، سوف أسرد يوما ما، ما يخصني، وعما جرى لي كذلك. إنما ليس الآن. الان من أجل عفدالي زينكي حملت القلم، سأتحدث عنه، وعن حكايته، إذا استطعت. ص 10).
ثمة تعريف به، بتاريخه، لا بل بتاريخ، وكيفية تنضيده في الذاكرة، كما يقول صوته: ( كنت مغني الأمراء والبكوات والباشوات الكرد. كان صوت أغنياتي وطنبوي ونايي والكلمة الكردية تزين لياليهم. ص 10).
لاحقاً ثمة ما يتطلب توقفاً ومساءلة كيفية وروده هكذا قول على لسانه: ( ما كنت أميراً، ولا بيكاً، ولا آغا، ولا شيخاً، لأتمكن من استقطاب الناس، وأمارس السياسة. مغنياً بائساً كنت، تُرى ماذا في يد مغنٍّ من حول وقوة؟ ما كان من شيء سوى الناي والأغاني. ص 10).
في التاريخ الكردي، لا بل من وضع مجموعة متقابلات، كما في تاريخ الجوار، من ذلك أن المغني أو الحكواتي أو المطرب، لا يمكن إلا أن يكون صاعداً من طبقة محدودة الاعتبار، إنما دون أن يصعد بها اعتبارياً في المجمل، وأن ليس بالمقابل، فيما يخص الآغا أو الباشا وسواهما أن يكون أي منهم هكذا، يكون الصوت هنا الصوت المسموع، للاستثناس به، كما يكون من خلال تنوع الأمكنة التي يحل فيها تاريخاً مسروداً بطرق شتى، يدرك فيها المستمعون: ذووالمكانة، حقائق تعنيهم، إذ هم يتسقطون أخبار سواهم، إذ يصغون حيث يريدون وساعة يريدون، لأن النفوذ المادي والقيمي في أيديهم.
يعني ذلك، كيف أسهب الراوية هنا، في التعريف باسمه، ليقول عن أنه ليس في عداد من سماهم مؤخراً؟ هل هناك استثناء؟ بحسب المتداول والمشاع، وكما تعلمنا الأدبيات التاريخية، ليس من حكواتي أو مغنٍّ مثلاً يكون آغا في الأصل، ويغني لسواه، كما لو أنه يؤنسه، هذا خرق لقانون سيق اجتماعياً وتاريخياً، ثمة ضوابط، كما نعلم ذلك حتى الوقت الراهن.
هل من منفذ لهذه التركيبة الأدبية؟ ربما ما ورد أخيراً: عمله الغناء وقص الحكايات وأشباههما، وعمل من يغني ويسرد حكايات في حضرتهم تغيير المجتمع، قيادة الناس وتمثيلهم.
لكن توصيفه المأتي على ذكره، لا يكون دقيقاً، إنما فيه نوع من التجاوب مع مأساته من الداخل، مع اللامدرك مع فلتة لسانية، لا أعتبره المسؤول عنها، إنما الروائي هنا، حيث إن عفدالي زينكي بدوره، كان بائساً، أو ينحدر من أسرة بائسة يتيماً، ولكن القوة الاستقطابية ذات المنحى الكاريزمي بصورة ما، تضع حداً فالقياً بين جانب التعريف الذي يخص أحمد فرمان وبؤس تسميته مقامياً، وجانب التوصيف لعفدالي زينكي الذي يبدو في السياق دون الأول مقاماً احتماعياً، ولكنه بدا مؤثراً في استقطاب الآخرين، حيث يجري حديث عن مشهد يمثله من تكون الرواية محمولة باسمه، وكيف تنفذ كلماته في الآخرين، أنى حل وتحرك، وهو يتحرك باتجاه سيباني خلاتي الجبل الكردي ذو الصيت، فما كان باستطاعة أي كان حصر أو إحصاء العدد، بسبب التأثر به: كلمات وغناء:( وفي كل مكان، تبعهم واحد، اثنان، خمسة، عشرة. صاروا خمسين، صاروا مائة، صاروا ماثتين وعندما شارفوا جبل سيباني خلاتي ما كان يمكن رؤية البداية والنهاية. لقد بدا الناس أمواجاً تتقدم. ص 27).
فهل يريده استثناء، والاستثناء أحياناً لا يتم ذكره لأن من غير الممكن الاعتماد عليه في تأكيد تصور ما كنتيجة، أم أن الاستثماء هنا، يظل هكذا، لندرته، وأن تكرار مثيله يتطلب توافر شروط تتوقف على التاريخ، وعلى الذين يتبون حكمته؟
لاحقاً، يكون اللقاء بجلادت ومعه أخوه، لقاء بتاريخ يصعد عالياً مثلما يتسع أفقياً من جهة القيمة، لأن جلادت أراد الدخول في التاريخ عبر الكلمة، حيث السياسة العملية آلمته كثيراً، أو أن يعزز السياسة هذه قدر المستطاع، بعد أن سعى العثمانيون إلى تبديد شمل عائلته ذات المكانة اللافتة في التاريخ، وليكون لقاؤه بمتعدد الأسماء دخولاً في تاريخ، لطالما نظر إليه بعين الشك، وحتى دونية قيمة، خارج دائرة الإمتاع والمؤانسة الذاتيين، كما جاء ذلك على لسان الأمير جلادت بصدد أهمية الحكايات الكردية ، خصوصاً وأن الأمير تحد عنه مهتماً به ( ص 14)، ليكون ثمة توضيح لما هو عليه صاحب الصوت، ربما بديلاً عن المكانة التي يُعرف بها الأعيان وخلافهم، وذلك حين يقول: ( لا أعرف كيف تنبثق الكلمات، كيف تتناثر متسلسلة، مثل اليواقيت والجواهر لماعة براقة. ص15).
وليس إلحاح الأمير جلادت ومعه أخوه الأمير كاميران، عليه بضرورة سرد حكاية عفدالي زينكي إلا تعزيزاً لقيمة ذاتية، لأهمية الشخص المحتفى به في الرواية طبعاً، ولقربه من تاريخه الآخر بدرخانياً ، حيث كان للبدرخانيين صيتهم الدولتي، قبل ولادته بعقود زمنية عديدة، وكما هو الأسلوب المتَّبع في سرد الحكاية، والمقسمة إلى فقرات، حيث نهاية فصل تعلم القارىء بضرورة انتقال إلى محطة أخرى للملمة الحكاية :( الآن سندع كلمتنا هنا جانباً، لنذكر عفدالي زينكي قدوة الصوت والمغنيين، الأغاني والمطربين الكرد . ص 17).

عفدالي زينكي:
قد لا يكون ثمة داعٍ لتخصيص عنوان ، ينطوي على حركية السرد الخاصة بما أفصح عنه روائينا، أو فاض به لسان راويته، حيث أشرنا إلى بعض مما يخصه آنفاً، ولكن مسيرة الصوت، حيث يكون التركيز لاحقاً عليه، هي التي دفعت بالكتابة، لكي تتخذ مثل هذا الإجراء.
كما ذكرنا، فإن ذا الصيت هذا ينحدر من اسرة بائسة، وقد عاش وحيداً ويتيماً، حتى أثبت وجوده بالصوت، صوته الذي يتشكل به تاريخ مختلف: ( عفدال كان مغنياً ذاع صيته، ومطرب طاهر خان أمير الأكراد. أمضى شبابه وسط المجالس والأعراس، وفي حفلات الرقص ومضافات البكوات والأمراء ، كل يوم كان في مكان) ، ومن ثم :( كان فاتح أبواب قلوب ومثير أفراح ومسرات . ص 29).
هذا التخصيص يعيدنا إلى إشكالية المغني المشهور هذا، وارتباطه بذي اعتبار، من جهة المكانة الاجتماعية، كما الحالة هنا. عفدال ما كان له أن يذاع صيته، لو لم يتم تبنيه من قبل من هو مهيوب الجانب. إنها خاصية تاريخية كردية، لا يجب القفز عليها، عند دراسته. يعني ذلك أيضاً، أنه تخصيصاً مرتبط بأمير، وتعميماً بآخرين، ولكن دون نسيان من يكون من جهة الحماية والرعاية، ولا بد أن يكون الشخص الحامي مقتدراً، له اعتباره، ليكون صيت المغني متداخلاً مع صيته، أي حضور الصوت العذب والمؤثر، معلوماً ومسموعاً، ومعرفاً به من خلاله، مهما بدا عدلاً في علاقاته الاجتماعية، كحال أميره المذكور.
لاحقاً، يؤكد عفدال هذه العلاقة، وما فيها من ملكية اعتبارية، أو احتواء لصوته كذلك:
أنا عفدالي زينكي
شاعر الدنيا.
أنا شحرور الأرض
مغني طاهر خان الكردي أ،ا.
بلبل السموات العلى أنا.
أنا عاشق الوردة كلي Gulê. ص 68.
إن كلي المسيحية الأصل، والتي بدورها كانت مغنية، حيث أحبته وتزوجته، تشكل ملهمته، مثلما يكون هو ذاته الملهم الذاتي لما يعتبره فنه.
عفدال هو رجل عملي، مثلما هو رجل معتد بنفسه : ( كانت حياة عفدال وفنه أيضاً وفق مقاس كلماته، لهذا أصبح صوت الناس. ص 60).
عفدال زينكي يُعتدُّ به، إنه حكيم، ومقدّر لحقيقة الكلام والكتابة، كما جاء على لسان الراوية، متجاوباً مع صوته: ( الكلام المباشر والكلام المكتوب لا يبقيان سواء. تلك الكلمات التي كانت يتفوه بها عفدال، وكما نسجلها سالفاً، لم تكن سوى غيض من فيض في ذلك المساء. ص 58).
من جهة يشدد الروائي ، عبر راويته على أهمية الصوت، على مدى استقلالية عفدال، ومن جهة أخرى على مدى نفوذه الصوتي في الآخرين( هو صوت الناس)، ويعني هذا أنه يعبر عن آلامهم وأحاسيسهم، وفي الحالة هذه، كيف يمكن تتبع حركية الحياة اليومية لهؤلاء الناس الذين يستأنسون بصوته، طالما أنه يتلمس فيه حياة بالمقابل؟ أي فضلة تاريخ تتبدى في المنظور القيمي اليومي لأولئك الذين يعنيهم السارد الرئيس، متجاوباً مع هموم الناس من حوله، ولا أظن أن الهموم هذه لا علاقة لها بمن يلوذ بهم عفدال، سواء كان طاهر خان أو سواه؟!
هل كان القهر اليومي الذي يعيشه الناس، خارج المحيط الذي يعيش فيه مغنينا؟ هل التحم الناس بأمرائهم ووجهائهم وآغواتهم ومشايخهم، منقادين لأوامرهم، عائشين في هناءة بال، وأن ليس لهؤلاء صلة بما كانوا يتعرضون له ظلماً اجتماعياً أو استغلالاً طبقياً بالمعنى العام للكلمة؟
كيف يمكن لعفدال أن يكون مخلصاً لفنه، أن يكون فنه من النوع الذي يستقطب الجميع سواء بسواء، كما لو أنه حلال المشاكل، مذلل المصاعب، قاهر التناقضات، والتاريخ المعاش هو خلاف ذلك، وأن التاريخ المعرَّض له لا يمكنه أن يكون استثناء، وحتى لو كان كذلك، لا يمكنه أن يكون موضوعاً أدبياً روائياً، لأن الرواية لا تنحصر في الاستثناء الضيق هذا ؟!
إن بلاغة المغني، مثلما هي بلاغة المغني الآخر، الذي هو حكواتي هنا، وسارد رئيس في الرواية، هي بلاغة صوتية، ولكنها بلاغة تفصل ما بين صوت وآخر، وخصوصاً حين يتم التشديد على فاعليته: صوته ليس كأي صوت، وحضوره بحضور صوته، ليس كحضور أي كان، كما لو أنه المستثنى من سلطة القوانين الاجتماعية، وهو خلاف ذلك، كونه مغني طاهر خان، أي ما يتردد هنا، يقلص من حدود الموصوف به خارجه، حيث يستحيل هذا التطابق بين حياته وفنه، وأرى أن في ذلك مأزقاً توصيفياً بسبب الاندفاع وراء غواية الصوت، ومن جهة الكاتب ذاته، إذ يمكن للكاتب أن يبالغ، أما أن يتعالى على التاريخ وبه، فهذا جنحة تاريخ.
إن زواج عفدال من المسيحية، وموافقة أهلها بالبساطة المتصورة، والحديث الحكواتي المتسلسل عن حياة عفدال، وكيف رزق الزوجان بمولود ذكر، هو تمو، وكيف تبنى ميروMeyro، وصاحب الطائر الجريج الكركي، وكيف تعرض للعمى، ليتوافق العمى مع جرح جناحي الطائر، وليبصر النور مع تماثل جناحي الطائر للشفاء، وما في ذلك من دخول تاريخ مختلف، كل ذلك يترافق مع سلسلة من الحوادث والمصاعب.
نلاحظ وجود نوع من التوافق والتنسب بين المستجدات والمتغيرات في بيئة عفدال وحاله.
أن يكون حديث عن الصراع بين قوى الخير والشر، هو نوع من اختبار الإرادة ، إرادة عفدال عندما تعرض للعمى، وفي إشارة إليه:
واه ٍ لقدري
يا زمن لماذا فعلت بي هذا؟
لقد طعنتني تماماً
عمى عفدالي زينكي، شيخوخته في الدنيا
كان من صلب اهتمامات الزمن هذا. ص 22.
العمى لا يلغي الصوت، ولكنه يقيد حاسة النظر، يقيد الجسم على الحركة، وفي الوقت ذاته، فإن الصوت يزداد انفعالاً أو تأثراً بهذا المستجد المؤلم، حيث التنويه إيلاماً يكون من خلال أحمد فرمان كيكي، الراوي الذي يجد ضالته الصوتية، قدوته في من أصيب بالعمى.
وعندما عثر تمو الابن على الكركي، وكان عفدال أعمى منذ سنوات ست، يخاطب هذا الطائر الجريح، وقد مرر يديه على جسمه :( أيها الكركي، يا جميل العينين، زاهي الريش، إن الدنيا لهي مخادعة، هي دنيا الآلام والنوائب . ص 45)، فإن في ذلك تماه بين وضعه، والحالة التي عليها الطائر الجريح، كما لو أن كلاً منهما يكون امتداداً للآخر.
وهذا يتجلى في النهاية حين يطيب جرح الطائر، ويبصر الآخر، وتتجلى الحياة بصورة مختلفة. يكون العنوان اللافت هو ( ضوء النهار وروعة السموات)، والنهاية تكون هكذا : ( الكركي طار، بما فيه الكفاية حلق، بعد ذلك التفت إلى عفدال عائداً إليه، ليسترخي على ركبته... عفدال كان يضحك... كلي كانت تضحك... تمو كان يضحك... الناس جميعاً كانوا يضحكون.
بالنسبة لنا، لم يعد هناك داع ٍ للكلام أبداً. ص 163).
لا يعود عفدال هنا حالة خاصة، ولا تعود حالته مميّزة له، إنما إضاءة لعالمه، مثلما هي مقاربة للحالة العامة للذين أحاطوا ويحيطون به، إذ إن كل تصرف كان يميزه كان يجد انعكاسه في تصرفات هؤلاء، فهو الحركة المؤثرة، مثلما هو الاتجاه الذي يروم، ويكون الآخرون في إثره، ليكون لشخصه كمال الصوت، وكمال التعبير عن سلوك يستوجب على الذين عنوا به، أو تحلقوا حوله، اندفاعاً في الحياة التي ترتسم في ملامحه، وذلك هو الحد الأقصى من خيال مغنينا الكردي، ذاك الذي مركَز حضور عفدال، وصاغ منه الشخصية التي يتمحور فيها يتجاوزها.
نحن هنا إزاء روايةالشخصية، ولكن إلى أي مدى يمكن الذهاب مع الروائي، وهو يطلق سراح عفدالـ:ه، من جهة التحرك في الزمان والمكان، في السياقات التاريخية التي يصعب الموافقة عليها؟ وخصوصاً حين تكون أبعاد الشخصية تتضارب مع ظروفها التي تعاش هنا وهناك!
حب عفدال من كلي الذي بدا تاريخياً، كيف لنا أن نستجيب لصوته حيث التاريخ أقوى منه، من خلال طريقة التعامل معه بيئياً؟
كلي كانت مخطوبة، وهي مسيحية كما مر معنا ذكر ذلك، وربما تكون إرادتها قوية في أن تكون مع عفدال هذا، ولكن أي سهولة هذه التي تجيز لأبويها في أن يكونا معها هي وحبها، عندما تختاره زوجاً لها وهو كردي ومسلم، تاركة دينها قبل كل شيء وخطيبها؟:( حرة ابنتنا فيما تختاره، ونحن معها فيما هي راغبة فيه. ص 33).
سابقاً كان هناك تنويه إلى تفتح وعي عفدال، إلى حبه للجميع، وحب هؤلاء له : ( كان عفدال فناناً ذا سمع مرهف. المسيحيون عنده كما المسلمين، والأرمن بدورهم كما الكرد مقدرين. هو لم يكن مغني الكرد وحدهم، وإنما مغني الشعوب الأخرى التي كانت تعيش في كردستان: الأرمن، السريان، الكلدان. ص 31).
إن طيب عفدال، وانفتاحه على الجميع، وكذلك تقديره لكل هؤلاء، لا يشكل حالة استثناء، ليلقى تجاوباً ضد ما كان سبباً في اشتعال الفتن وإعماال القتل والتنكيل المتبادل بين أصحاب المذاهب.
في حومة الصراع بين العثمانيين والروس، كان انعكاس الصراع في الداخل، بين أصحاب المذاهب الدينية: المسلمين والمسيحيين، وصار ما هو مرعب في التاريخ: قتل المسيحيين بالجملة، وملاحقتهم هنا وهناك، كما جاء ذلك على لسان الراوية، وتبدو صرخة عفدال التاريخية لافتة، وهو يخاطب بني جلدته، رغبة في الحفاظ على تاريخ مشترك: ( أيها الكرد، أنا رسول الطيبين، مغني الناس أنا. إياكم وارتكاب الجريمة. لا تقتلوا الأرمن. الأرمن هؤلاء أبناء عمومتنا وجيراننا. لا تصغوا إلى الغدارين والقتلة الذين لا يراعون عهداً،ولا ذمة لهم. لا تغدروا بالأرمن، الغدر ليس من أخلاق الكرام. ص 98).
وبالصيغة التفخيمية ذاتها يكون الحديث عن الإيزيدية في شينغال :( قديمة كانت عقيدتهم، تعود إلى عصور موغلة في القدم. كانوا يجدون أنفسهم حفدة النبي زرادشت، أبناء وبنات رب العالمين المصطفين... الخ ص 127).
في مجمل الحالات، وفي الوقت الذي تبدو الظروف معقدة، تلك التي عاشها عفدال، فإن طريقة عرض التاريخ، وكما تشكلت على لسان راوية مغنٍّ، وعن مغن أكثر صيتاً وموسوعية معارف كذلك، تضع القارىء في مواجهة طبيعة الذاكرة هذه، أو طبيعة الصوت الذي يراد له أن يكون تاريخاً، أو يتدون ما استحال به كلاماً مسموعاً.
تُرى هل نستجيب لما أفصح عنه الصوت هذا، وننسى أو نتجاهل ما هومقروء هنا وهناك، خلاف المتردد بالصوت، حتى من جهة الذين نعرفهم كرداً؟ والروائي يشير إليهم، اعتماداً على راويته، بعض الكرد الذين اندفعوا بتأثير العاطفة الدينية، وهم يمارسون قتلاً في : أبناء عمومتهم وجيرانهم( انظر الصفحة 98 أيضاً)، أم نحاول السير عكس اتجاه الريح، متحركين صوت تاريخ آخر، هو المأمول أو المنشود في الاعتماد، وفي وضع كهذا، نكون الخارجين على الكثير مما شكل تاريخاً، لا يمكننا التخلص من وطأته؟
ثمة توكيد لحيوية الصوت، وكما هو الحكواتي الذي تأخذه عاطفته، ومهما تجلت حرارة العاطفة هذه، فإن حدوداً للعاطفة تبرز عالية وخطرة أو ملغومة، يشير إليها العقل في التاريخ ذاته، وذلك في جملة النقاط: الأمثلة التي أردنا التوقف عندها قليلاً.
كأني بالروائي يريد التمهيد لمرحلة تاريخية جديدة، استجابة لرغبة داخلية، هي رغبة انسان عاش ولا زال يعيش أهوال تاريخ، وككردي، ولا يمكنه التخلص من أوجاع التاريخ الذي كان سبباً في أن يكون في السويد، في أن يكون راويته مغترباً، وأن يتعرض هو لأكثر من مضايقة نفسية وتاريخية، ولكنها الرغبة التي تستفز العقل لكي يبصرها بحقيقتها، بموقعها واقعياً.
سأكون معه، مع صوت فناه الكردي، وهو مبدع شخصيته، مطهره من كل الأوبئة النفسية ، وجملة العقد النفسية التي تبقيه تابعاً لجملة العادات التي تجرده من خاصية الشخصية الانسانية، هذه التي تحلق في سماء التاريخ، وليس أن تقيم بين الحدود التي ترسمها سياسات الدول والأنظمة، أن تعيش كلاً واحداً، وليس أن تعرف بصوت واهن، وسلوك اقتتالي تناحري.. لكن ذلك حقيقة نفسية، تكون الرغبة من صلبها، وليس حقيقة تاريخ، حقيقة وقائع، ليس في وسع الرغبة التي حركت الرواية كثيراً بحوادثها، أن تخضع التاريخ لها دون حدود.
ثمة نوع من التماهي مع الشخصية التي أُريد لها أن تكون محورية، أي عفدال، أو عشقٌ نفسي لها كمفهوم، ليكون الصوت المتصور، مأخوذاً بالوصف، ويكون الوصف هذا تقليداً ذاتياً، أي تجميلاً يغيّب ما لأجله كانت الرواية، أي أن تلتزم بقواعد ( المرور) في التاريخ، ذات العلاقة بما هو ممكن في أقصى حد، وما يجعل من التفكير في الممكن، وبسبب فاعلية الرغبة، تفكيراً في اعتبار الممكن إمكان المستحيل، بتحويل المستحيل تمكيناً من الواقع المرصود ذاتياً.
يدخل التاريخ الكردي في ما يشبه النفق، وما أدراك ما هو النفق الخاص بالتاريخ، إن أفضل الاحتمالات لا يعود ممكناً تاريخياً، لأن مسير النفق يضيق بالمتحرك فيه صوب نهاية، يريدها استشرافاً لواقع مغاير لما هو مفكَّر فيه.
يكون التاريخ المقلق بطريقة سبكه، نتاج وعي صوتي، إن جاز التعبير، الصوت الذي يتعزز ذاتياً، لأن الذي يسمعه بداية، هو صاحبه بالذات، وقدرة الصوت على التأثير، قد تكون سلبية أحياناً تماماً، من جهة اعتمال المشاعر والانفعالات، من جهة الرغبة ثانية، لتجاوز خناق التاريخ الذي لا زال الأرض التي عليها نعيش عليها راهنا، وهي ممزقة، وتمزقنا معها، بصور شتى، وأن نكون أبناء اليوم، لا يعني أن من يشكلون أجداداً لنا، وفي الأمس القريب، كانوا مغايرين لنا كلياً، كما في المرصد الفني المنصوب لأوزون تجاه عفدال، وما أريدَ منه رمزياً.
ثمة افتراش للمكان، حيث الوصف جلي بأبعاده الوظيفية، ولا غرابة في ذلك، كون السارد الرئيس، وكون الذي تدور الرواية حوله، يتطلبان مثل هذا التكثيف، فالوصف هو ملح طعام الحكواتي، والطعام هنا هو الكلام الذي يستحيل: غناء، قصاً، أمثالاً، أقوالاً .. الخ.
وفي الوقت الذي يكون الوصف تقريباً للمكان من واعية القارىء، مثلما هو استراتيجيا نصية موجهة، لإضفاء مصداقية أكثر على أن النص المحبوك مولود واقعي، فإنه قد يمارس خداع ذاته، بسبب خاصية الغواية التي يتمثلها أو يتجسدها الوصف من الداخل، لأنه يكون قناعاً، والقناع في الوقت الذي يخفي ما وراءه، قد يخفي الناظر، ويثير الشكوك بالمقابل حول المرئي.
لا أُبعد نزعة القناعية في رواية أوزون، ما من شأنه كانت الرواية، مهما قيل لي، حول أن الرواية تخلق تاريخا الخاص بها، وترسم مساراتها، تضاريسها، أشباحها، مناخاتها، كائناتها، عوالمها، بطريقتها الخاصة، اعتماداً على المتخيل الأدبي، ولكن ذلك يجب ألا يكون يقين الكاتب هنا ، أي كاتب، وليس الروائي هنا وحده، في تبرير كل إجراء متخذ وعن طريق المتخيل ذاته، لأنه هو ذاته كائن تاريخي، ولأن النفسي التاريخي لا يكون على وتيرة واحدة، وهو يتحرك في اتجاهات، قد تغدم تلك القيمة الرمزية التي لأجلها ولدت الرواية.
الصوت الذي يتمسك أوزون، دفاعاً أو مشروعاً تنويرياً لا يخفي حنيناً إلى المكان الذي أراده نموذجياً، ومن خلال شخصية مركَّبة، شخصية عفدالي زينكي، هو ذاته، قد يكون صوتي، ولست ببعيد عنه الصوت الذي يلهم، ويحرك المشاعر، ويفجر المكبوت المتراكم على مدى عصور وعصور، حيث القهر التاريخي ، والعنف التاريخي الموجهين ضد الكرد، ولكم يعنيني/ يهمني التاريخ الذي يمكن أن يتدون بتأثير من القريحة الصوتية الأثيرية الفارهة تلك، في مواجهة جملة التحديات التي لا تدع الواحد منا، وهو كردي ، قبل كل شيء، في راحة بال، والرواية مكتوبة بالكردية، بلهجة من لهجاتها، بدقة أكثر، تحديات تنتمي إلى الماضي، أراقت دماء متعددة الجنسيات، وجيشت عواطف أجدادنا، ومن تبعودهم وسايروهم، وقد صاروا شيعاً رغم أنوفهم، وتنتمي إلى الحاضر، مربوطة بتلك الماضية، وبما هو مستجد، وهي تحثنا على كتابة تاريخ يستوعبنا جميعاً، نفرح له جميعاً، كما كان شأن الناس جميعاً بحضور الكركي المحلق في السماء، تعبيراً عن رغبات محققة، ولكن واقعاً لا أظن أن الكركي متماثل للشفاء، مثلما أستبعد صوتاً مؤسطراً، يستقطب الآخرين كرداً وغير كرد، ليكون يوم من أيام عفدالي زينكي جديراً بالتقدير وبالدخول في المرغوب الموسوم فيه، حيث لا يمكننا التوقف عن الكلام، خوفاً من أن تنال منا الرغبة، ونحن منقادون لها.

شذرتان:
شذرة تاريخية :
لأن الموضوع يخص التاريخ، وكيفية التعامل أو التفاعل معه، وإلى أي درجة يمكن التحرك داخله، وأي وعي يستلزم التاريخ: قراءة وكتابة ونقداً، وخصوصاً من خلال مفهوم الصوت، باعتباره ذاكرة شفاهية مقاومة ومحمولة، إزاء ذاكرة كتابية مفتوحة ومتوارثة، وأنا أتمعن في رواية ( عفدالي زينكي)، أجدني مأخوذاً برواية الكاتب الكردي الآخر، والذي يكتب بالتركية، وأعني به يشار كمال( تولُّد سنة 1923)، تلك التي كتبها سنة 1970، وهي ( أسطورة جبل آغري). إنني أغير مسار رؤيتي، وأنا أحاول ممارسة نوع من المقارنة بين الروايتين، أو بدقة أكثر حرفية أدبية ونقدية، وأنا أندفع بتأثير القراءة هذه إلى التقابل بينهما، حيث ثمة أكثر من تداخل، وهو تداخل، لا يعني أن ثمة إمكانية للمقارنة من جهة الفكرة، أو طريقة البناء للسردي للرواية، وإنما صلة الوصل بين رواية أوزون الحديثة مقارنة برواية كمال.
ليس الموضوع هنا، هو توجيه اتهام باختلاس ما، بقدر ما أن الموضوع يفرض نفسه.
في رواية يشار كمال، والمترجمة إلى العربية حديثاً ( سوريا، ط 2005)، ماذا نجد؟:
كما هو العنوان، يكون التركيز، بقالب أسطوري شعري لماح رحب المتخيَّل، على جبل آغري، ومنذ البداية: ( على ارتفاع أربعة آلاف ومائتي متر، وعلىامتدادمساحة شاسعة وبأعماق متفاوتة سحيقة أحياناً، تشكلت بحيرة أشبه ببئر محفورة وسط صخور لماعة حمراء محد السكين. يخترقها درب ترابي بلون النحاس، يمتزج بلون البحيرة. تلكم هي بحيرة كوب على أطراف جبل آغري، والتي تزهو بلونها الأورق المخملي الناعم . ص 5).
وأظن أن الوصف الذي يخص جبل سيباني خلاتي في رواية أوزون وبحيرته التي تقع في قمته، لا يبعدنا من جهة الاستثارة والاستقطاب الجمالي المكاني، كما في الصفحة(21).
فثمة جبل إزاء جبل وثمة بحيرة تخص كلاً منهما، مع الاحتفاظ بفارق الزمن والقدم في الكتابة.
السارد الرئيس هو ممثل الروائي في رواية يشار كمال الأسطورية، بينما يكون التركيز على الشخصية الرئيسة في رواية أوزون، من خلال أحمد هو الآخر، كما هو معلوم.
في رواية كمال، أحمد مأخوذ بالموسيقا، بالناي، وعند أوزون يكون حضور الغناء والموسيقا.
في رواية أوزون تكون كلي المسيحية محبوبة عفدال، بينما في رواية كمال فتكون كول بهار Gulbuhar، متيمة بحب أحمد، وهي ابنة زوجة الباشا الأرمنية الأصل. حيث تحب خاني بأشعاره، وخاني حاضر في رواية الآخر بدوره.
في رواية أوزون يكون حصان عفدال ذو الملح الأسطوري: الرهوان: كوكرجين، بينما في رواية كمال الحصان الأسطوري الرائع وصفاً، والذي يخص أحمد.
يشغل طائر الكركي مكانة ملحوظة في رواية أوزون، بينما في رواية كمال فثمة طائر صغير لافت جميل :( طائر أبيض أقرب إلى السنونو. ص 5).
إزاء النهاية المعلومة لرواية أوزون، أذكّر بنهاية رواية كمال، حيث يموت أحمد، وتبقى كول بهار( كما ورد الاسم هكذا كتابة في الرواية في الترجمة العربية)، وحدها على طرف البحيرة، لكن الذي يؤنسها هو ذلك الطائر الصغير الذي: ( يغمس جناحه بزرقة مياه البحيرة الشديدة ويمر فوقها ظل حصان شديد السواد)، ولاحقاً، يكون الطائر نزيل الجملة الأخيرة في الرواية، بعد حديث أخاذ عن الكون المحيط بالبحيرة والجبل والرعاة القادمين إليه وهم ( يخرجون ناياتهم من أحزمتهم ويعكفون على ترديد قصة حب وغضب جبل آغري. وما إن تشرف الشمس على المغيب، حتى ينطلق الطائر الأبيض الصغير محلقاً. ص 112).
هذه بعض أوجه التشابه، مع الفارق الزمني في الكتابة، بين كلتا الروايتين، وما يعنيه التاريخ في كل منهما، أجدني أقرب إلى رواية كمال رغم أن الحضور الكردي وبالاسم محدود فيها، مقارنة بما هي عليه رواية أوزون، ولكن البنية السردية، وفي تجليها الإبداعي، ومصداقية التاريخ المعالَج أدبياً، تبقيني في صف ( أسطورة جبل آغري))، إنها أيضاً كردية في نطفتها، رغم أنها مكتوبة بالتركية، ومترجمة دون مستواها الأدبي إلى العربية.
وللقارىء أن يقرر ما يعتبره صواباً خاصاً أو خلافه لصيقاً برؤية ما تموقعه أدبياً.

شذرة هامشية:
هذه الشذرة تتعلق بترجمة الرواية إلى العربية، ومن جهة الكاتب والشاعر محمد نور الحسيني كما ذكرت آنفاً.
لا بد من التنويه بداية إلى الجهد المبذول من جهته في الترجمة، وفي ذلك الوقت، ثمة حِرَفية ملحوظة في عملية الترجمة، حيث النص العربي يمكن تتبع خيوطه، دون نسيان أنه نص مترجم عن الكردية بالذات، وهذا شعور من يعرف الكردية، ويتوقف عند عبارات متداولة في بيئته.
لكن ثمة إشارات إلى مواقع خلل، لا يمكن التغاضي عنها:
فالكلمة التي ثبَّتها الروائي على ظهر غلاف روايته من الخارج، في الجانب الآخر، والتي مر معنا ذكرها، لم تورد عند المترجم، ولا أدري فيما إذا كانت النسخة مختلفة، أم أن سبباً معلوماً دفع به إلى عدم إيراد الكلمة تلك، لأنها ذات صلة بالرواية.
والأبيات الشعرية التي تخص خاني لم تورد بدورها بتاتاً في النص المترجم، وهو سبب آخر، ربما يجد تفسيره، إذا ما وجد تفسير( ظرفي، مثلاً) لما سبق ذكره، دون رفع المسؤولية طبعاً.
ثمة كلمات، توقفت عندها، لا يمكن تجاهل دلالتها في الحالتين:
ففي الصفحة الثامنة، ترد كلمة serhidanên kurdan، تُترجَم بـ( التمردات الكردية. ص 6)، وهذا ليس خطأ فقط، وإنما لسان حال لا يُراد له أن يكون، ومن خلال رؤية الروائي بالذات، إنها فقهياً تتجاوب مع رؤية الطرف الخصم والمناوىء للكرد.
في النص الأصلي صفحة( 14)، حيث أحمد فرمان يعرّف بنفسه غنائياً، لتأتي عبارة استفهامية فيما بعد ( رب... ماذا كنت سأقول؟)، حيث لم ترد في النص الأصلي، وأعتقدها سقطت سهواً.
في نهاية ( كلمتي)، تكون صفة( الكرد) تعريفاً بالمغنين، بينما في الترجمة العربية ( ص 13)، فترد مفردة( المغنين) دون ( الكرد)، ولا مجال لعدم التذكير.
في النص الكردي، وفي الصفحة( 79): السطر العاشر من الأسفل، سقطت عبارة( وأنا أعلم أن الليل الذي يمضي، سيعقبه نهارمقبلاً إلي)، في النص المترجم، وفي الصفحة(64)، بعد السطر الثالث بدايةً، وأظنها بدورها سقطت سهواً.
هذه بعض الملاحظات، حيث لم أتوقف عند كلمات عديدة، سواء كانت ناقصة، أو لم تكن دقيقة على صعيد المعنى، ولكن كل ذلك، يبقي حقل القمح حقل قمح، وإن تخلله بعض الزؤان



#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدارات محاكمة : نورمبرغ العراقية
- ما هو أبعد من الترجمة كردياً : لالش قاسو ومترجمه المثالي
- الفيلسوف الكردي
- ما هو أبعد من العلم العراقي
- المثقف الكردي المشعوذ
- ثرثرة مفلس
- الصراع الكردي - الكردي: رؤية أدبية، عبر ترجمة فصل من رواية : ...
- مستقرات السرد في الرواية - رومانس المكان-: هيثم حسين في رواي ...
- قلبي على لبنان
- - Mijabad رواية أوديسا الشاعر الكردي- المقام الشعري في رواية ...
- نقد العقل القدري الكردي
- مكائد الأمكنة: حسين حبش وشعرية المكان
- أعلام الكرد الخفاقة
- موسم الهجرة الطويل إلى جنوب كردستان
- الكردي مؤرّخاً
- الدوغماتيكي رغم أنفه
- -النقلة باعتبارها تمرداً في الأدب: سليم بركات في روايته الجد ...
- أهي نهاية المرأة ؟
- منغّصات الترجمة
- الكردي الرشيد: رشيد كرد


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ابراهيم محمود - التاريخ الكردي من منظور الصوت: عبر رواية كردية