أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي كنعان - بوح في حضرة القصيدة















المزيد.....


بوح في حضرة القصيدة


علي كنعان

الحوار المتمدن-العدد: 1682 - 2006 / 9 / 23 - 04:48
المحور: الادب والفن
    



يطيب لي أن يكون الحديث بسيطا مكثفا يشبه النجوى. لن أخوض في تعريفات الشعر كما يفعل المنظرون وأساتذة الأدب، على أهمية ما يفعلون في خدمة الشعر وإضاءة زواياه الظليلة أمام طلبة المدارس والجامعات. إنما سأحاول أن أقدم بوحا وجدانيا خاصا في حضرة القصيدة وأمام ثلة عزيزة من عشاقها ومبدعيها. إنه بوح طفل في السبعين عاشر القصيدة طويلا... وأنا أختار هنا فعل المعاشرة بدلا من المعايشة، لأن العشرة تنطوي على المحبة والمؤانسة والاهتمام. نعم، وبلا حرج ولا تردد أقول: إني عاشرت القصيدة أكثر مما أتيح لي أن أعاشر المرأة الحبيبة، على اختلاف أنماطها وجنسياتها وأطوار سكينتها وجنونها وألوان أديمها من خلاسية أمريكا اللاتينية حتى الشحوب الياباني الغامض، مرورا وانتهاء بأبهى وأغلى ما في ياسمين الشام من رقة الجمال وعذوبة الوجد ورهبة الانخطاف ولين الحرير وصوفية الماء. يبدأ الشعر حرفه الأول في صرخة الوليد، وهو يعب الهواء في شهقته الأولى؛ فالشعر قلق آسر واحتمال غائم وطموح جميل ومغامرة كثيفة الرهبة مريبة العاقبة.
العنوان المطروح علينا "الشعر بين الانتشار والانحسار" يفتح الباب واسعا أمام ألوان شتى من الآراء والملاحظات. وهنا أود أن أقول إن أمة تتخلى عن الشعر تكون مستعدة للتخلي عن تراثها ومستقبلها معا.. وحتى عن وجودها، لأن الشعر هو التجلي الفني والجمالي للقيم والمثل التي تؤمن بها وتعمل على نشرها، وهذه القيم هي التي تسهم في تشكيل وهجها الداخلي وبناء مناعتها الروحية والفكرية والوجدانية.
العملة الرديئة
الذائقة الشخصية لكل واحد منا هي التي تقدر وتستسيغ وتطمئن إلى ما هو شعر، وهي ذاتها التي تنفر من شتى مظاهر الركاكة والادعاء والزبد. وتلك المظاهر لا تعدو أن تكون شطحات مجانية دخيلة لا تملك حق الدخول في ملكوت الشعر. وفي رأيي أن نسبة كبيرة مما يطالعنا في الدوريات الأدبية والمواقع الإلكترونية لا يدخل في باب الشعر ولا النثر، لأنه يفتقر إلى مقومات الكتابة الأساسية وصاحبها أبعد ما يكون من إدراك سر اللغة وسلامة العبارة وبناء الجملة المفيدة. والسبب الرئيس في ذلك يعود إلى الخلل البنيوي في مناهجنا التربوية، كما يمكن إرجاعه إلى بؤس ثقافتنا وإلى القطيعة مع التراث، على اختلاف أصوله الأدبية والعلمية والفقهية. النجار والبناء والصائغ يتقن حرفته ويجيد فن استخدام أدواته بعد مران طويل، لكننا نرى أن ركاما عبثيا من الكتابة المتهافتة تفتقر إلى أبسط مهارات الصنعة لأن صاحبها لم يجتهد، وربما لم يكترث بفن الكتابة، ولم يصبر على مشقة السهر ويتمرس بمهارة الإبداع. الكاتب الذي لا يسعى إلى تحصيل المعرفة الكافية والكفيلة بانطلاقه في هذا الدرب الصعب الشائك، يفتقر إلى امتلاك الأدوات، وهو في الوقت ذاته يفتقر إلى الطريقة السليمة في استعمال تلك الأدوات. أليس غريبا أن يكون في مجال الصناعة العصرية علم اسمه "الأمن الصناعي" ولا نرى في مجال صناعة الكلمة مثل هذا العلم، ولو من باب الحذر والاحتياط؟ وهل ننسى أن فن صناعة الكلمة أخطر ما عرفت البشرية من صناعات؟! من هذه الزاوية، زاوية غياب التقييم والتقويم، يأتي هذا الطوفان الفظيع في سعة الانتشار. والعملة الرديئة – كما يقال - تطرد العملة الصحيحة من السوق.
لن أتوقف عند هذه النقطة، لأن الكتابة الرديئة تموت ساعة ولادتها وربما قبل تلك الولادة الفجة المبتسرة، وليس لنا أن نضيع الوقت في تفنيدها. سأنتقل إلى الشق الآخر، وهو الانحسار. فأنا لا أرى أن الشعر في حالة بلبلة أو انحسار؛ وما يعنيني هنا هو الشعر الجدير بحمل هذا الاسم. إن ظاهرة الاختصاص التي تعد من أبرز سمات عصرنا هي التي جعلت الشعر يبدو في حالة حصار وتأزم وانحسار، مع أن الواقع العربي العام هو الذي يعاني شتى ضروب التأزم والعطب، وهذه الحالة المرضية المزمنة لا بد أن تنعكس على مختلف مناحي الحياة.
كان الشعر ديوان العرب، لكنه لم يعد قائما بهذه المهمة ولا ينبغي له ذلك. إذا كان في كل مدينة عربية مئة عاشق حقيقي للشعر، فهذا يعني أن هذا الفن الجميل العذب ما زال بخير وعافية وازدهار، ولا خوف عليه من التردي أو الانقراض.
لكن، ماذا يعني أن يكون الشعر ديوان العرب؟ هل فكرنا في هذه العبارة ودلالاتها؟ هل نذهب مع لسان العرب إلى أن الديوان: مجتمع الصحف؟ أم نتقدم من دواوين الخلفاء والسادة والزعماء ونقارب المجاز فنقول إن الشعر حديث المجالس؟! ولا ننسى أن نشير إلى أن معظم أحاديث المجالس تسليات عابرة وثرثرات جوفاء لا فائدة فيها ولا متعة. إن إمعان النظر في المسألة يطرح علينا سؤالا آخر: هل ينحسر الشعر من الحياة العربية فعلا إذا لم يكن قد انحسر من نفوس الشعراء أنفسهم؟
إذا كنا نعني بالشعر كل شيء جميل وعذب ومضيء في هذه الحياة، فحسبنا أن نلقي نظرة عابرة على مشاهد الدم والدمار في الفضائيات العربية والعالمية. هذا يعني، إذا سمحنا لغمام التشاؤم أن يغشي الصورة، أن الشعر لم ينحسر وحسب ولكنه انتفى من حياة البشر وتلاشى إلى غير رجعة. إنما بنظرة بعيدة متأنية وطامحة، ورغم تراكم المظالم والظلمات، نلمح في آخر النفق الجهنمي براعم تتفتح وضياء نجم بعيد يستقي زيته من بسمات الأطفال ولهفة الأمهات وقلوب العشاق والشهداء وهم في زهوة شبابهم. هكذا يشمخ التحدي ويتجدد الأمل.. وهكذا نتملى هذه النفحات الندية الواعدة، ليواصل الشعر مقاومة الظلم والبشاعة واليباب وتمور في عروقه شهوة الحياة وإرادة الأحرار.
ثلاثة نماذج
إن الشعر يحتاج إلى حامل.. ونرى في واقعنا أن بعض الشعراء جعلوا من أنفسهم ومن أصحابهم منابر إعلام ودعاوة نشطة. وهنا سأضرب مثلا بثلاثة شعراء: نزار قباني ومحمود درويش وأدونيس. ليس في هذا الاختيار حكم قيمة، ولا أعني أن هؤلاء الشعراء طمسوا ذكر غيرهم وحرموهم من الوجود، إنما أرى أنهم أكثر شهرة وانتشارا في الساحة...
قضية المرأة هي الحامل الذي طار باسم نزار قباني عبر الآفاق. وإذا كانت هذه القضية تثير كثيرا من الجدال، وبخاصة من منظور التقدم والنكوص، فإن حساسية الشاعر المرهفة هي التي التقطت هذا الخيط الندي العذب، كما أن معجمه الشعري ونسيجه الجمالي الخاص، على بساطة مفرداته وشيوع صوره، أسهما في سعة انتشاره. مع أنني ألاحظ أن الشاعر بدا يكرر نفسه في السنوات الأخيرة، وهذه علة لا أدعي أن أي واحد منا سليم معافى منها، وإن تباينت نسب التكرار والاجترار.
وإذا أردنا أن نفتح دائرة النظر على الظروف الموضوعية فلا بد من القول إن نزار قباني هو الشاعر الرائد في فضاء الحرية الاجتماعية. بعد مئات السنين من الكبت الإقطاعي طوال مراحل الاستبداد العثماني، بدأت آثار الانتداب الفرنسي الذي امتد ربع قرن تترك شذرات من الضوء في العلم والانفتاح على العصر الجديد. فالبيت الشامي (أو العربي) الذي كان مسورا بالجدران الكتيمة مع الخارج لينفتح من داخله على السماء وحسب، بدأ طرازا عمرانيا جديدا يمتاز بالنوافذ والشرفات المطلة على العالم الخارجي. وموضوع الحريم والحجاب شهدا كذلك تغييرا جذريا.
وقضية فلسطين، هذه القضية المرتبطة بحرية الأمة وكرامتها ومصيرها؛ فلسطين هي الحامل الذي جعل شعر محمود درويش يمتد على اتساع العالم. لكن هذا الحامل لا يكفي وحده، ولعل امتياز الشاعر كامن في لغته وتفرده في نسج هذه اللغة. وربما كان وهج شاعريته معرضا للكسوف والخفوت لولا لغته المسبوكة بلمسات سحرية خاصة وحميمة جدا، إذ يشكل منها صورا فنية يتفرد بها فلا نرى له منافسا أو نظيرا. وهو يحاول بدأب مدهش وشجاعة مضنية أن يتخطى راهنه بلا كلل أو استرخاء، منذ أن رفض الاستجابة إلى (ما يطلبه المستمعون!) إلى مغامرته المدهشة في تجريب بلاغة البساطة.
وقضية فلسطين هذه ليست وقفا على درويش وحده أو على شعراء معينين، وإنما هي في لباب خلايا كل عربي، وفي بؤرة اهتمام كل مسلم، وحتى في هواجس عشاق الحرية وأنصار التحرر الوطني في العالم.
أما الحامل الشعري لدى أدونيس، وبخاصة في دواوينه الأخيرة، فهو مشروع الحداثة الذي مازال ملتبسا، لأن الحداثة في الشعر أو الرواية أو التشكيل لا تنسجم ولا تعيش في مجتمعات لم تقارب الحداثة ولم تدخل بعد أولى أساسياتها وأجوائها ومنطلقاتها. المطابخ العصرية لا تصنع شعرا عصريا ولا تبدع فنا معاصرا. وأرجو ألا أظلم الشاعر المتألق أو أنزلق إلى التحامل والمهاترة، إذا رأيت في نسبة كبيرة من شعره الأخير (وخاصة بعد انهيار جدار برلين) إرضاء للقارئ الغربي والمؤسسات الغربية، وبعض هذه المؤسسات ليست بريئة من علة الاستشراق والتعصب العنصري.
المرآة والصورة
وهنا لا بد لي من التوكيد أن حامل الشعر عند هذا الشاعر أو ذاك هو حامل ذاتي واجتماعي وحضاري في الوقت ذاته، ما دام الشعر جوهر كل إبداع إنساني حضاري. إن القيم التي تشكل هاجس الشعر العربي ورسالته الحميمة هي التي أعطته مكانته المتميزة على مر الأجيال. وربما أدى تردي الواقع العربي وضياع المعايير والقيم، إضافة إلى غياب الأمة عن الإسهام بالفعل الحضاري (وهو تغييب منهجي مدروس، يقوم فيه تخلفنا بالقسط الأكبر...)، أقول: ربما أدى ذلك إلى وقوع الشعر في منطقة الوهن والكسوف. فهل نتخلى عن هذا الكائن الجميل لأن أمراض الواقع العربي تريد ذلك؟
أذكر لقاء جرى (في مجلة نيوزويك الأميركية) مع كاتب إفريقي مناضل أمضى في سجون العنصرية سنين قاسية، وحين سأله المحرر: "هل ستستمر في النضال أم أنك ستستريح؟".. كان الجواب المدهش: إذا لم تعجبك صورتك في المرآة، فهل تحطم المرآة أم تسعى إلى تحسين الصورة؟! تلك هي روح الشعر.. أن يستمر في المقاومة دفاعا عن جمال الحياة ومناخ العدالة والحرية والعافية والتعايش السلمي المتكافئ والآمن بين أبناء الأرض كافة.
ولكن، بعيدا عن ثنائية الانتشار والانحسار، أود أن أعترف أن جمهور الشعر لا يشغلني ولا يعنيني، إنما يعنيني قارئ الشعر. فالقارئ الجاد المتأني يعيد إنتاج القصيدة، ويجدد وهجها وحرارتها، ويستكمل بناءها بقدر ما يستقي منها المتعة والفائدة. هناك جمهور للمسرح والرياضة والسينما وما يطلبه المستمعون أو المشاهدون، لكن ليس للشعر جمهور كما كان في الماضي.. ولا ينبغي أن يكون له ذلك. فالشعر لا يحتاج إلى مصفقين. يكفيه أن يتمتع بقراء معدودين بالمئات أو بالألوف – على امتداد الوطن العربي.
قارئ الشعر هو العاشق الذي ألمَّ إلماما جيدا بتراث أمته الشعري والنثري، وسعى بجد واهتمام واصطبار إلى الاطلاع على روائع الشعوب الأخرى. وقارئ الشعر هنا هو الشاعر، بالقوة أو بالفعل. ومن المفارقات أن نرى في مجتمعاتنا عشرات الألوف من المتعصبين لشعر التراث المبني على البحر الخليلي، لكن هؤلاء لا يكلفون أنفسهم عناء القراءة المتأنية والتأمل العميق ومعايشة الشاعر في لحظات الإبداع. إنهم يكتفون بسماع الإيقاع والاستمتاع به، كما اعتادوا أن يستمعوا إلى الأغاني الدارجة. الشعر عندهم حالة صوتية منغومة، لا أكثر. ويبلغ البؤس غايته حين تكتفي كتب الشعر بشرح المفردات، وكأن الشعر مجموعة من الأفكار المتراصفة، بمعزل عن المشاعر العميقة والدلالات المتنوعة والإيحاءات الخفية الموشاة بكثير من الظلال واللمسات الملونة الغامضة.
عالم بلا أسئلة!
قبل أكثر من ألف عام، قال أبو العلاء المعري:
أيُّها الغِرُّ، إن خُصِصتَ بعقلٍ
فاسألنْه.. فكلُّ عقلٍ نبيُّ
نحن في مجتمعات لا تبيح لأطفالها حرية التساؤل والسؤال! كل قصيدة من المعلقات أو من شعر الصعاليك أو العصر العباسي الأول تستأهل منا سهرة مستقلة لنتقرَّى فيها مغامرة اللغة، فضلا عن فرادة التجربة ورهافة الرؤى وطلاقة الخيال. وسأكتفي هنا بإشارة لغوية سريعة إلى الشنفرى في رائعته التي يمجد فيها عالم الحيوان وما فيه من ألفة وتراحم ومسالمة ويؤثر العيش فيه على عالم البشر وما فيه من جور وحقد وطغيان... يقول الشاعر:
أديم مطال الجوع حتى أميته
وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل
لنتأمل هذا الفارق الكبير بين بنية الشطر الأول، حيث اختار الشاعر خمس كلمات ممدودة بحروف العلة، ويشعر القارئ أن أنفاسه تتقطع قبل أن ينتهي من قراءته. أهناك أقسى من مقاومة الجوع؟! لكن الشطر الثاني خالٍ من أي مد، فإرادة الشاعر سرعان ما تنأى به عن ذكر ما يعانيه حتى ينساه أو يفقد إحساسه به من شدة الطوى وطول المكابدة.
ونعيد التأمل في أحرف العلة الثلاثة في الكلمات الثلاث الأولى. بدأ بالياء في (أديم)؛ ومن قاع هذا الكسر العميق انطلق صاعدا إلى ذروة الفتح مع الألف في (مطال) ثم انتهى بواو (الجوع)، هذا التناوب العفوي والاتساق المدهش والتوازن العجيب بين الحركات الثلاث وأحرف المد الثلاثة بكل دلالاتها وإيحاءاتها وتأثيراتها.. لا يأتي بها إلا شاعر عبقري أصيل لا تنفصل حياته عن شعره، بل ينصهران معا ويشكلان كلا واحدا. ولا بد أن أشير كذلك إلى مرارة السخرية من العلاقة التجارية بين الدائن الربوي والمدين العاجز عن الوفاء في كلمة (مطال)، ومن ثم (موت) هذا الدَّين بعد ذلك. كيف استطاع الشاعر أن يطفر خارج نفسه ليستحضر لنا ذلك الموقف الساخر والموجع، وكم رآه يتكرر في عكاظ وغيرها من أسواق جزيرة العرب؟!
ولا بأس أن نتجاوز تلك المراحل الذهبية لنقف مع المتنبي مثلا، ونحن جميعا نعلم أنه واسع الانتشار جدا وأن ذكره على كل لسان. إن قلة نادرة من قرائه يمكن أن يتوقفوا عند روائعه الكثيرة.. فلنقف لدى قصيدة الحمى، مثلا: أهي حمى مرضية أصابت جسم الشاعر فعلا أم هي حمى وبائية أصابت المجتمع كله من حوله؟.. حين أعود إلى تلك القصيدة وغيرها من القصائد التي قالها الشاعر وهو في حصار كافور، أو قبل ذلك، فإني لا أملك إلا العجب والاستغراب والرهبة. أول قصيدة مديح لكافور يبدؤها بهذه الصورة المخيفة، صورة الموت، إذ يقول:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
أي مديح هذا؟.. بل أي شعور صاعق أن تصل الحالة النفسية من اليأس لدى الشاعر إلى هذه الدرجة المتردية التي لا شفاء منها إلا بالموت، ولكن الموت يغدو أمنية للخلاص، أمنية مستحيلة لا تنال!
خارج ثنائية
الانتشار والانحسار
في مناخات صحية وأجواء حضارية متفتحة، يكون المستوى الشعري هو المسؤول عن سعة الشيوع والانتشار. أما في ظروفنا المعتلة، فلا أرى من خسارة أو حرج في أن ندع مسألة الانتشار والانحسار جانبا، فهذه أعراض وأحوال وتقديرات تصلح للاستطلاعات الصحافية واستكشاف ميول الطلبة أو مستوى تحصيلهم. ولا ريب أن بحث هذه المسألة لن يسهم في تحسين حالة الشعر وتعزيز مكانته في المؤسسة أو المجتمع، إنما هو وسيلة ومدخل للتفكير بصوت مسموع وإمعان النظر وتبادل الرأي في شجون الشعر وشؤونه، وفرصة للاحتفاء به، وصولا إلى منظومة القيم الإنسانية والجمالية والحضارية واللغوية والروحية التي يمثلها هذا الشعر.
والعودة إلى موضوع الشعر تعني تركيز الاهتمام على القصيدة... على تلك الحالة الوجدانية الخفية التي تشكل القصيدة وتسويها كائنا عجبا، كائنا شعوريا فنيا جماليا، منسوج الصور من خيوط الكلمات وألوانها، وهي صور مفعمة بالإشارات والرؤى والدلالات، مشرعة على شتى المقاربات والاحتمالات.
تبدأ ملحمة جلجاميش بالقول: "هو الذي رأى..."
الرؤية في المعاجم متعددة المعاني، فهي تعني البصر والبصيرة والرأي والحلم والشهادة والتقويم... إلى آخر ما هنالك من معان رضعناها مع حليب الأمهات وارتشفناها من أباريق المدارس والجامعات ومجالس الأنس والسمر. لكنها في الشعر تغادر حدودها المعجمية وتنزاح لتكتسب دلالات وإيحاءات وأبعادا مختلفة.
إن وفرة الإنتاج الشعري لا تعني جودته. الموسوعة الشعرية صارت تحتوي على ثلاثة ملاين ونصف المليون بيت من الشعر، يكفي أن يكون ثلثها أو ربعها ذا مستوى جيد. صاحب اليتيمة، كعب بن زهير، البوصيري، لقيط بن يعمر الإيادي، مالك بن الريب، ابن زريق البغدادي، المقنع الكندي، حاتم الطائي.. وغيرهم كثير، هؤلاء معروفون بقصيدة واحدة. وهذا يؤكد أهمية المستوى.
الشعر يشكل، في رأيي، روح الأمة. ومن هنا تبدو ترجمته عسيرة أو شبه مستحيلة لأن الأرواح لا تترجم. وتحضرني هنا عبارة للصديق الشاعر فرج بيرقدار الذي قضى أربع عشرة سنة في أقبية السجن السياسي. يقول الشاعر: "كلما قرئت قصائدي مترجَمةً شعرت بالانقباض. رموز وإحالات لغوية وتاريخية كثيرة لا بد أن تُفقِدها الترجمة الكثير من ظلال معانيها وجمالياتها..."
ومثل آخر من أقصى الشرق والغرب. يشكل الهايكو الياباني أصغر قصيدة في العالم. القصيدة مؤلفة من سبعة عشر مقطعا موزعة على ثلاثة أسطر: خمسة، سبعة، خمسة. ولهذا الشعر قواعد صارمة، ومنها أن كل قصيدة ينبغي أن تحتوي على كلمة أو إشارة تدل على الفصل الذي كتبت فيه. لكن حياة الاستهلاك، والطريقة الأميركية التي استطاعت أن تغوي العالم وتشده إلى أحضانها وتعبث بكل جميل، جعلت هذا الشعر لعبتها. فحين تقرأ الهايكو الأميركي تشعر بأن ثورا بريا هائجا دخل روضا من الأزهار ليحيله قاعا صفصفا. وإذا استثنينا بعض الشعراء المخلصين في محاولاتهم الصادقة في كتابة قصائد قصيرة، فإن طبيعة اللغة الإنكليزية وخصائصها لا تسعف بتقليد الهايكو، وبخاصة أن اللغة اليابانية مقطعية.
فلسطين الوجود
أود أن أقول إن بعض الترجمة أو كثيرا منها يسهم في بلبلة الشعر وتهافته. وإذا أردتم أن أتحدث في الهواجس الخفية الكامنة وراء ولادة قصيدتي والداخلة، بشكل أو آخر، في سدى نسيجها ولحمته.. فأنا أرى أن جرح فلسطين، في واقعيته ورمزيته وفجائعيته، غائر في أعماق وجودي ووجداني، سواء شعرت بذلك وعبرت عنه بصور واضحة مكشوفة، أو توارى مطموسا في غياهب اللاشعور ليوشي الكلمات والرؤى بمسحة من الأسى الأندلسي والشجن البابلي الشفيف.
قبل فلسطين، كانت الأندلس التي ترسبت ذكرياتها في القاع وتحولت إلى أطياف رومنسية غاربة... وقبل فلسطين وبعدها ومن خلال حضورهما الأثيري الحار الموجع والموَّار في خلجات الوجدان وكيمياء الخلية.. تنبثق قضايا الحرية والعدالة والخير والجمال.

كنت أطفو سؤالا لجوجا
على غبش العاشرة
يوم جاءت فلسطين إلى دارنا
واستراحت قليلا على صدر أمي
تجدد لون الحليب
وطعم الحليب
وتدخل في صيغة الروح،
تدخل طيَّ نسيج الهواء
يومها اختمرت أرضنا..
وجوانحنا..
بالعذاب الجليل.

فلسطين لم تكن يوما عنصرا خارجيا أو ملحقا بشعر جيلنا، إنها نسغ الشعر ونبض الشعور وأنفاس الكلمات. والحكمة الهندية تقول: ليس مهما أن ترى النار الموقدة أو ترى الثمار على الشجرة، لكن المهم أو الأهم أن ترى النار في قلب حجر الصوان وأن ترى الشجرة في نواة الثمرة.. وتلك هي فلسطين في كوامن الشعر.
أذكر أني عانيت المرض في صباي أربع سنوات متواصلة، ثم زار دمشق جراح فرنسي في ربيع 1956، وكان أن أودعت في جيرة بردى خمس قطع من أضلاعي وشطرا من رئتي اليسرى. وعندما أتذكر طبيعة الشعر، تتداعى صور علتي القديمة وأدرك أن اغتصاب فلسطين أخذ قطعة من حبة القلب وضياء العين وجوانح الروح.. وكان الشعر هو المحرقة وهو البلسم والعزاء.
كيف يتخلى الإنسان عن روحه أو يستهتر بها؟ ذلك ما لا يمكن التعبير عنه.
ليس الشعر بيانا حزبيا ولا أعطاف راقصة أو قهقهة مهرج أو قفزة بهلوان يتنقل برشاقة فوق الحبال. إنه لغة الأعماق الدافئة، خلجات المشاعر الحميمة. وهو شجرة الجمال الحضارية التي لا تنحني أمام الأعاصير ولا تقوى الزلازل أن تميد بأرضها، كما أن الصواعق لا تستطيع كسر أفنانها أو التهام أزاهيرها. الشعر نضرة الحياة ونور الاكتشاف وهواء العافية. وإذا كانت رسالة المعلمين أن يعملوا على تربية الذائقة لدى الأجيال بالرسم والشعر والموسيقى، فإن مسؤولية المبدعين تقضي بالعمل الجدي الدؤوب لحماية هذا الوجه البهي المشرق من الحياة في أغلى تجلياته الجمالية وأصفاها



#علي_كنعان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي كنعان - بوح في حضرة القصيدة