أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - الشاهد والمطر / قصة قصيرة















المزيد.....

الشاهد والمطر / قصة قصيرة


ابراهيم سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1666 - 2006 / 9 / 7 - 10:17
المحور: الادب والفن
    


المطر يتتابع بضراوة.. بحيرات صغيرة متناثرة تنتشر في أرجاء المكان.. الظلام اللانهائي الصامت المفتوح على فضاء أسود حالك خيم على كل التفاصيل.. بحث عن جدار يتوارى خلفه وأجهد نفسه في ذلك دون فائدة.. لملم ظله الخافت من الطرقات وسار مقدار خطوة ثم وقف تحت مطرقة المطر الكثيف.. قذف بحقيبته الجلدية الكبيرة على الرصيف البحيرة.. تقدم إلى الأمام بسرعة مفاجئة وراح يصرخ ويرقص بهستيرية محمومة والليل لا يرد الصدى.. شعر بسعادة غامرة لم يعتدها من قبل، ثم توقف بعد أن انحدرت دمعتان كبيرتان على خديه وامتزجتا بماء المطر العالق بوجهه والمنساب من رأسه بغزارة.. رفع يده يمسح هذا الخليط عن عينيه ليزيل الغشاوة اللزجة المتكونة تواً.. الشوارع خالية والمياه تغطي كل شيء على الأرض وتكون بركاً متناثرة وكأن بحراً قد قذفها منذ حين.. حدق في الجهة الأمامية القريبة ثم استدار إلى الخلف.. لمح شبحاً يتحرك.. لمحه يخرج من الظلام المقابل إلى حدود الضوء الخافت.. توتر قليلاً انتشر فزعه في أروقة جسده المتعب.. حرص على التغلب على هذا التوتر الذي كان يهز جسده.. انتقل من مكانه مسرعاً إلى الأمام نحو الشبح الهدف، لم يعد يشعر بشيء سوى أن جسمه قد اندفع بقوة هائلة لا يعرف مصدرها، جعلته يصطدم بكتلة كبيرة تجثم بعناد فوق رصيف الشارع.. صرخ بأعلى صوته.. شعر بذراعين قويتين قد أمسكتا به تحاولان النيل منه وأخذت الضربات تشتد عليه.. كل ضربة تهدئ من ثورة الجسم الهائج كالثور.. المطر ينهمر وقطراته تصطدم بالجسد الهزيل الممدد بفعل تلك الضربات.. تحرك الشبح ببطء نحو الجسد الممدد.. خيمت لحظة صمت مرعبة.. كانت المأساة تقترب منه.. نهض مسرعاً خائفاً وركض بكل شتات قوته المتجمعة يبحث عن شيء يتوارى خلفه.. ابتعد قليلاً صرخ مستنجداً غير أنه لم يسعد بهروبه ذلك.. حيث طالته الأذرع القوية من الخلف وسحبته بقوة أسقطته في الوحل، نهض ثانية يجر أشلاء جسده الواهي وراح ينقل خطواته الثقيلة بصعوبة إلى الأمام.. كانت ثمة ريح قد هبت على المكان جعلت من قطرات المطر تنهمر برعب أخافه، وهو يتحرك بصعوبة إلى حيث لا أحد ينازعه وحشة المكان ورهبته.. صرخ الرجل ذو الكتلة القوية بصوت جهوري طغى على عواء الريح المزمجرة..
-لا تبتعد أكثر من ذلك؟ لا فائدة..
التفت وهو يرتجف بشدة إلى مصدر الصوت محاولاً استيعاب ما سيحصل إن لم يلب أمره.. هرول بسرعة أكبر متجاوزاً حدود مقطع الرجل صاحب الصوت، غير أن كتلة ضخمة أخرى تحركت بقربه كما لو كانت وحوشاً انطلقت من جحورها بعد سبات طويل.. تصاعدت منها همهمة خفيفة غير مفهومة.. وتكرر الصوت المدوي:
-لا تبتعد أكثر من ذلك! توقف!
وراحت الكتل البشرية تتحرك نحوه بهمة فيما اشتدت حاجته إلى الانفلات أكثر فأكثر..
-ارجع!
وأحكموا الطوق حوله فيما راح يحاول التخلص يائساً- قال أحدهم:
-لنقتله!!
صرخ ثان:
-حالاً وبدون تأخير..
مرت كلماتهم كزوبعة كادت تكتم أنفاسه المتعبة.. لم يتفوه أو يحاول ذلك لشدة ما كان يسوؤه ذكر أية كلمة لأنها انتحار حقيقي قد يؤدي به إلى الهلاك..
قال أحدهم:
-إنك الشاهد الوحيد على ما حدث منذ أول الليل..
قال آخر:
-إنك الوحيد الذي عرف كل شيء..
كان غارقاً في استرجاع ما شاء لـه من قوة تعينه على استذكار الدقائق اللعينة الماضية، لم يتكلم كما لو أن قوة خارقة سورته بطاقة خفية تمنعه عن ذلك وسط ذهوله وخوفه.. الشوارع مقفرة والليل يجثم فوق كل شيء..
لم يفهم هرجهم غير أنه بعد جهد استطاع أن يلملم قدراً من تفكيره المتشظي كحبات عقد منثور ويجمعه في رأسه.. قال بصوت خافت عنكب فيه الرعب..
-لم أر أو أسمع أي شيء..!!
ازداد الطوق إحكاماً بتقدمهم حوله وهو واقف في مركز الحلقة، شعر بأن كل شيء قد انتهى وكل ذكرياته قد تجمعت هذه اللحظة في تجويف رأسه المبلل.. استذكارات ماضية لليال كان فيها كياناً ممهوراً بالطلاسم لا يعرف لـه أدنى رغبة في إيذاء نملة على الأرض.. هو الآن يرزح تحت رحمة هؤلاء الذين عدوه شاهداً على ما قاموا به قبل حين.. الطرقات خالية تماماً إلا من ضجيج المطر الممزوج بريح بدأت تخف قليلاً، لا أثر لكائن حي آخر غيرهم هنا.. كل شيء صامت لا يعرف الحركة.. قال أحدهم:
-لنغادر المكان بسرعة!
رد عليه آخر بصوت مدو وكأن صاحبه ارتكب خطأ فاحشاً بكلامه..
-لا مغادرة قبل التخلص منه..
منذ لحظات أخذت الريح تتلاشى تاركة قطرات المطر الخفيف تنساب بحنو فوق الشوارع المقفرة فيما انفكت الحلقة البشرية المحاكة حوله.. قال وهم يهمون بعمل ما..
-لم أر شيئاً مطلقاً.. أتيت لتوي.. كنت غائباً عن البيت منذ فترة طويلة.. بيتي ينتظرني.. زوجتي وكل شيء.. هناك بيتي في آخر الشارع لم أصله منذ وطئت هذا المكان اللعين.. همس أحدهم في أذن صاحبه الذي ارتجف بهيكله الضخم.. واستدار إلى الجهة الأخرى وكأنه يهم بالهروب..
أخذت توسلاته تخف شيئاً لاصطدامها بجدار سميك من الرفض، وراح يحملق بنظرات ملؤها تمنيات بالهرب والتملص.. قطرات المطر انعقدت حبيبات على جبينه لتسقط بالتتابع كأنها خارجة من صنوبر في أعلى الرأس.. تهاوى على الأرض كخرقة بالية تلعب بها الريح.. توسد الوحل ومدد جسده على هامش البحيرة المطرية، ودارت النظرات الفزعة فيما بينهم حينما تسرب صوت محرك سيارة قادمة.. أخذوا يتحركون بعشوائية مثل لعبة بزنبرك.. التمعت حبات المطر المتساقطة لاصطدامها بضوء السيارة وبدأ المكان يلتمع فيما أخذ الرجال بالجري مسرعين بلا هدف.. وفي لحظة كانت الساحة خالية إلا منه وحيداً ممدداً في وسط الشارع، رفع يده ملوحاً للسائق الذي حول وجهته إلى اليمين قليلاً واستمر في سيره دون اكتراث.. شعر بتيار هوائي بارد يداعب وجهه.. اختط طريقاً وسط الظلام الكثيف وسار بترنح.. لم يجد حقيبته في مكانها حيث تركها.. رجع يتابع خطواته المتعبة.. اجتاز تجمعات المياه الوحلة وخفت وطأة المطر وساد الصمت المكان.. لا شيء يعكر صفوه.. وقف أمام باب داره لا يقوى على عمل شيء.. هاجمته الأفكار الغريبة وتمنى لو أن قوة خارقة نفخت في ساقيه المرتجفتين.. ازداد اهتزازه ويده تتحسس طريقه إلى الباب.. أخذت شفته السفلى ترتعش عند الطرقة الأولى ثم تبعتها أخرى.. لا أحد يسمع.. همس في نفسه كلمات استحضرها بمعجزة.. لا أحد في الداخل.. انتابته قشعريرة حاول أن لا يظهرها.. صرخ بعنف ضرب الباب بكلتا يديه بشراسة.. هجم كالوحش على الباب الذي انفتح على مصراعيه.. الظلام يسود كل شيء داخل البيت.. رائحته غريبة خليط من الدم والنتانة اندست في خياشيمه أفقدته قوة التركيز.. أشعل عود ثقاب فتراقصت الظلال على الجدران.. لم يكن هناك ما يوحي بوجود أي أثر للحياة.. اجتاز العتبة إلى الأمام.. قطع الأثاث مبعثرة بعشوائية.. كل الأشياء خرجت من وضعها الطبيعي إلى حيث العبث والفوضى.. سمع نحيباً متقطعاً ومكتوماً أشعل عوداً آخر.. كانت امرأة تجلس متكئة على الحائط كقطعة حجرية صماء.. نظرت إليه بعينين دبقتين ووجه علاه الغبار وشعر تناثر بعدوانية فوق رأسها.. مدت يدها إليه.. ظل يراقب المشهد صامتاً مرعوباً.. وامتدت يدها الأخرى نحوه.. اتجه مسرعاً إلى الجدار القريب ووضع رأسه بين يديه ثم استدار وصرخ صرخة مدوية اهتز لها المكان، وركض بخفة خيالية نحو باب الدار المفتوح وانطلق إلى الخارج..



#ابراهيم_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متاهة / قصة قصيرة
- اوجاع بلا هوادة
- يوم من ليلة / قصة قصيرة
- حافة الزمن / قصة قصيرة
- قصة قصيرة / قراءة في لوح التراب
- محنة الرقم 4 .. الى كمال سبتي
- فلنعش ولنرجم الغراب بحجر
- كان اسمها ورقة التوت / قصة قصيرة
- ليلة الرمل / قصة قصيرة
- قصة قصيرة - ما قاله الرقيم
- المُدَوّنة / قصة قصيرة
- الكثرة تغلب القراءة
- المواطن الناصري الابدي
- ايقاع الالم وسحر الكتابة
- الحرية والدموع في رواية ممر الى الضفة الاخرى
- الطائر / قصة قصيرة
- جنون النار/ قصة قصيرة
- اعترافات تاجر اللحوم : رواية المنافي والانكسارات المتلاحقة
- ليل راكض / قصة قصيرة
- برج النعام / قصة قصيرة


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - الشاهد والمطر / قصة قصيرة