|
نجيب محفوظ لحظة وداع
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1665 - 2006 / 9 / 6 - 10:41
المحور:
الادب والفن
عبر نجيب محفوظ عالمنا إلي العالم الآخر ، العالم الذي طالما كرر قوله عنه : " إنني لا أخشى الموت ، بل أحبه ، مثلما أحب كل ظواهر الحياة " . وقد نجح ذلك الأديب العربي المصري الكبير أن يقفز من أحد الأزقة الصغيرة في القاهرة إلي العالم أجمع ، وإلي بيوت أغلب العواصم العالمية ، ليصبح أولا شخصية قومية لاقت إجماعا لا يلاقيه سوى زعماء تاريخيين مثل جمال عبد الناصر ، أو فنانين مثل أم كلثوم ، ثم أصبح نجيب محفوظ شخصية عالمية ، بالمعنى الإنساني لتعبير العالمية . وفي كل ذلك كان محفوظ شديد التواضع ، والرقة ، يتتبع كل ما يدور حوله بحب ، وشعور مرهف . ولم يكن مستغربا أن يبكيه عند رحيله أبناء الشعب المصري من كافة الطوائف والتيارات السياسية . يقولون في الأدب الروسي إن كل الأدباء خرجوا من معطف جوجول ، ويصدق هذا القول على محفوظ ، إذ خرج من معطفه كل الروائيين المصريين وعددا كبيرا من الروائيين العرب . لقد قدم نجيب محفوظ نموذجا إنسانيا نادرا – وربما وحيدا - في تاريخ الأدب العربي لما ينبغي أن يكون عليه الكاتب الكبير على المستوى الأخلاقي ، والفلسفي ، والإنساني ، والأدبي . وقد يكون رحيل الكاتب العظيم مناسبة لإلقاء بعض الضوء على الاهتمام الخاص الذي تمتع به أديبنا الكبير من جانب الاستشراق الروسي قبل وبعد فوزه بجائزة نوبل . فقد أعدت رسائل دكتوراة جامعية كثيرة تناولت مختلف جوانب مسيرة محفوظ الأدبية ، بعضها أعده باحثون عرب ، وبعضها مستشرقون منها " الثلاثية إبداع الواقعية النقدية " للباحث المعروف روشين ، و " الروايات الاجتماعية الأولى لمحفوظ " لطاش محمد وفا ، ثم " قضية البطل عند نجيب محفوظ " للسيدة " أ . ناد " وغيرها . وخصصت فالنتينا تشيرنوفسكايا وهي مستشرقة معروفة فصلا مطولا في كتابها " الانتلجنسيا المصرية " تحت عنوان " نموذج المثقف المصري في رواية المرايا "، وهي قراءة خاصة وممتعة لذلك العمل . وبشكل عام اعتبر الاستشراق الروسي أن محفوظ أضخم ظاهرة أدبية في الأدب العربي ، وأنه على حد قول فاليريا كيربتشنكو : " يذكرنا بالعمالقة الكبار ديكنز ، وبلزاك ، وغيرهما " ، وكانت كيربتشنكو قد كتبت دراسة طويلة وعميقة تحت عنوان " البحث عن طريق " تناولت فيها بالتحليل والنقد الروايات الست لنجيب محفوظ بدءا من اللص والكلاب عام 1961 ، حتى ميرامار عام 1967 . إلا أن ثراء عالم نجيب محفوظ ، وطابعه التقدمي المستنير ، وعدائه للظلم الاجتماعي ، قاد المستشرقون الروس إلي اضطراب النظرة إليه مرة باعتباره أفضل ممثل للواقعية النقدية ، ومرة أخرى باعتباره من أنصار الماركسية تحتشد رواياته بروافد من تيار الواقعية الاشتراكية . وعلى سبيل المثال اعتبر المستشرق " على زادة " في رسالة دكتوراه أن : " جوهر أعمال نجيب محفوظ هو الرفض الكامل للنظام الرأسمالي وتصوير حتمية انهيار المجتمع البرجوازي " . ويضيف على زادة أن : " نجيب محفوظ وهو يتنبأ بمستقبل مصر الإشتراكي أثر تأثيرا ايجابيا وعميقا في مجمل الأدب المصري والعربي " . وربما كانت فاليريا كيربتشنكو المستشرقة الوحيدة التي حاولت وضع يدها على بعض الركائز الفكرية - الفلسفية الرئيسية في أدب نجيب محفوظ . وتشير كيربتشنكو إلي أهمية الدعوة الأخلاقية في أدب محفوظ وإن كانت لا تستند إلي برنامج اجتماعي ، وإلي أن " قضية المبادئ الأخلاقية لدي الإنسان " تشكل الفلسفة التي تقوم عليها أعمال محفوظ الأدبية . ولعل كتاب الناقد الكبير ابراهيم فتحي " العالم الروائي عند نجيب محفوظ " هو أعمق ما ظهر في النقد العربي في سياق البحث عن الرؤية الفلسفية لعالم نجيب محفوظ . فقد عثر إبراهيم فتحي على المفتاح الحقيقي الأساسي لفهم نجيب محفوظ حين تحدث عن " الجبرية المثالية " التي تحكم رؤى محفوظ للعالم ، وما تشتمل عليه من الإيمان بالتقدم : " كضرورة نابعة من مجرد تعاقب السنين وتحقيقا لمبدأ العدالة المجردة الكامن في طبيعة العالم " إنه إيمان بأن الزمن بطبيعته يمضي بالبشرية نحو التقدم ، وهو مفهوم يختلف كل الاختلاف عن الإيمان بالحتمية التاريخية للتقدم على أساس الصراع الاجتماعي . وبذلك وضع إبراهيم فتحي حجر الزاوية لفهم عالم محفوظ الخصب والثري ، ومن دون كتاب إبراهيم فتحي يستحيل عمليا فهم عالم الأديب العملاق فهما حقيقيا . لقد حفر نجيب محفوظ بنصف قرن من العمل المنهك اسم الرواية العربية جنبا إلي جنب مع شوامخ الأدب العالمي ، ومع ذلك اعتبر على حد قوله أن كل ما قام به هو مجرد : " اجتهاد أديب عربي أخلص لعمله فاستحق تقدير المخلصين " . لقد أحببت شخص نجيب محفوظ حبا كبيرا، وأحببت فيه عطفه على البشر والأشياء ، وهو جانب لاح فيه بقوة أكثر حين تخطى السبعين . وقد بكيته في صمت ، حين شاهدت صورته مع نبأ وفاته مبتسما بوداعة وأسى ، كأنه يقول للزمن : أعلم أنت ستتغلب علي ، كما تغلبت على كل شئ . وتذكرت عبارة من الثلاثية " لكن الزمان عدو لدود ، للورود " . وبكيت ليس الأديب العظيم ، فحق هذا الأديب مصان ، لا ينازعه فيه أحد ، لكني بكيت الشخص الدقيق، المرهف ، الغفور ، بحضور ذهنه في كل ما هو خير ، وعزلته الشديدة ووحدته . لقد شعرت دائما أن نجيب محفوظ وحيد ، وهو أمر طبيعي لمن بذل كل ذلك الجهد وفي حياته التي وصفها هو نفسه بأنها كانت " حياة الرهبنة " ، وهو أمر طبيعي عند كاتب عظيم يدرك بقسوة وحب المأساة الكامنة في أن كل شئ لزوال ، وأن علينا مع ذلك أن نعشق كل شئ . لم يكن الكاتب الذي سيبقى هو الذي آلمتني وفاته ، لكن الشخص الذي سيزول . ولم أكن أتردد عليه في الأماكن التي يجتمع فيها أصدقاؤه حوله ، ومعارفه ، وأشخاص عابرون ، كنت أكتفي بشعور طيب أن نجيب محفوظ حي ، وأنه من حين لآخر ، يرسل تعليقا ، أو كلمة ، ربما توقف عن الكتابة ، لكنه يظل مثل نور هادئ يشير من بعيد إلي تاريخ لامع . وكانت محبتي له كشخص تتضاعف كل يوم ، وأنا أراقب كفاحه الجميل من أجل استمرار حياته ، يوما بعد يوم ، بالتمشية ، وبالالتقاء بالناس ، وحين يكون وحده تماما ، حين يستعيد الأغنيات القديمة بأنغامها لكي تظل ذاكرته وروحه حية . كان هذا الكفاح اليومي من أجل الحياة يضاعف محبتي الشخصية له ، وإعجابي به بل وذهولي ، فأتذكر وأنا أتابع ذلك الكفاح قول أنطون تشيخوف : " الحياة تعطى لنا مرة واحدة ، وأريد أن أحياها بقوة ، بوعي ، بجمال . فلتتشبث بقوة ببقايا حياتك ، ولتنقذها ، إنني أريد أن أعيش بشدة ، حياة سامية مهيبة كقبة السماء " . ليس الأديب والأدب هو الذي أبكاني ، هذا لم يرحل ، بل الشخص الذي كافح بنبل ، وصمت ، في سنواته الأخيرة من أجل استمرار الحياة ، مع قبوله بتسامح بالمصير النهائي ، الذي لم يمنعه ولا للحظة من مباركة حياة الآخرين من بعده ، بمودة ومحبة من يجد نفسه في الآخرين . أظن أن نجيب محفوظ هو الشخص الذي وصفه هو في الثلاثية حين قال : " إن الرجل القوي العذب أسطورة " . تبددت الأسطورة ، وظلت لنا منها صفحات أيا كانت فهي قليلة لكنها ستظل تذكرنا بأن الحياة يمكن أن تكون مهيبة ، ومنيرة ، كقبة السماء .
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حجر وورد .. وجوه لبنانية
-
تحرير الانتصار اللبناني من الكذب القادم
-
المقاومة اللبنانية وتفكيك الشخصية الصهيونية
-
لن نغفر ولن ننسى
-
المقاومة اللبنانية وفلاسفة الهزيمة
-
الليل طويل والطيارات مش نايمة
-
لم يبق في غزة سوى الهواء
-
نبيل الهلالي . سحابة العدل
-
انطفاء أحمد عبد الله .. قمر على جيل السبعينات
-
جينا لندن ترصد أدق الرغبات
-
ساندوا الشاعرة الفلسطينية سارة رشاد
-
سولجينتسين يواجه الحصار الأمريكي
-
شلنات وبرايز
-
لا للتمييز ضد البهائيين المصريين .. نعم لحرية الاعتقاد
-
البهائية والنزعة السحرية
-
ما الذي يريده الشعب المصري ؟
-
تبني مطالب الأقباط .. هو الطريق للخروج من الأزمة
-
الآداب السلطانية . نص متجدد
-
أطوار بهجت .. من الشعر إلي الحرب
-
حكاية هند والفيشاوي
المزيد.....
-
هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف
...
-
وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما
...
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|