أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مهدي النجار - الحركات المطرودة من التاريخ















المزيد.....

الحركات المطرودة من التاريخ


مهدي النجار

الحوار المتمدن-العدد: 1662 - 2006 / 9 / 3 - 05:49
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الحركات المطرودة من التاريخ


أولا:حركة الخوارج

ونحن نحاول التبصر في التاريخ ،نواجه حذراً شديداً من مغبة الوقوع في خطأ الإسقاطات والمغالطات التاريخية ،المقصود بذلك إسقاط مفاهيمنا الحديثة واشكالياتنا على الماضي والعكس،إذا ما وقعنا في خطأ الإسقاطات التاريخية تفلت منا القراءات الموضوعية التي تحاول أن تخرج الماضي إلى دائرة الضوء كي يصبح صريحاً وواضحاً،خاضعاً بصورة جذرية للتحليلات والمساجلات النقدية،إن العنف بمعناه النفسي والمادي،وبقطبيه المتضادين،عنف السلطة وعنف الحركات المضاد،احدث شروخاً بالغة،من خلال فظاعاته وتاريخه الطويل،في قيم الاجتماع العربي الإسلامي،القيم التي سعى الإنسان من اجل تأسيسها ونشرها وترسيخها،تلك القيم العالية المستوى التي ما برحت تؤكد على احترام الإنسان للإنسان سواء بالنداءات الدينية المتواصلة أم الخطابات الفكرية والفلسفية،حيث كان فلاح البشر جوهر تلك القيم،غير إن العنف الذي أجلت (أو شوهت)كتابة تاريخه المؤسسة الرسمية أو الضواغط الاجتماعية كي يكتب بطريقة أحادية لصالح النظم السياسية،اخذ هذا العنف يتخبأ ويتخفى في نفوس الناس،ما أن يجد فرصته السانحة حتى يتفجر عن آلام وأهوال مفزعة،محزنة،وأبدا لم يكن التأريخ الإسلامي في يوم ما بمنأى عن هذه التفجرات الدامية التي يتهم أحد الخصمين(السلطة والحركات المضادة) في كل مرة تاريخ الآخر بالعنف وينسى نفسه،يعتبر نفسه هو الناجي وهو وحده الذاهب إلى الجنة والآخرين مارقين،أشعلوا الفتنة فمصيرهم النار.
صحيح إن للعنف أسبابه الثقافية والدينية والنفسية،إلا أن الأهم من ذلك ،له أسبابه الواقعية(المادية) حيث إن نيران الخوارج لم تكن لتندلع لو لم تستيقظ تلك الفتنة،التي كانت نائمة أبان فترة صدر الدعوة الإسلامية،أي فترة قيادة الرسول الكريم(ص) حينها ألغيت التعصبات القبائلية والتغالبات العرقية وحل التوازن الاجتماعي وتآخى الناس فيما بينهم من جهة،وبينهم وبين الأجناس البشرية الأخرى (الأحباش،الفرس،عبيد أفريقيا…الخ)من جهة ثانية،ما أن توفي صاحب الدعوة حتى بدأت الفتنة تتململ وتهيئ نفسها للاستظهار،متمحورة حول زمام السلطة،مَن يقود مَن؟ومَن يتزعم مَن؟.
إن ما تتفق عليه الدراسات التاريخية تقريباً،هو إن ظهور الخوارج كان في صفين،المعركة التي حدثت بين المسلمين أنفسهم وسالت بها دماء كثيرة(بين جيش الإمام علي وجيش معاوية)وخرجت بنتائج مأساوية أكثرها إدهاشا ظهور تيار الخوارج،بدأ هذا التيار ولم يتوقف طيلة أربعين عاماً(37 ـ78 هجرية/658 ـ698 ميلادية)حيث كان زوالهم يتبع زوال الدولة الأموية،وكانت أهم فرقهم:الازارقة،الاباضية، البيهسية،(ينظر تاريخ الطبري/ج6،ج7،ج8 ).
لا يكمن سبب اندلاع شرارة الخوارج فقط في إحساس غلاة المتشددين في الدين،المتمسكين بالعقيدة الإسلامية بخيانة جوهر الإسلام بعد وفاة نبيهم الكريم فانتهزوا فرصة ( التحكيم) ليكشفوا عما كان يغلي في نفوسهم من ثورة على ما آلت إليه أوضاع الخلافة على عهد عثمان: (لم تمض سنة من أمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالا في الأمصار وانقطع إليهم الناس وثبتوا سبع سنين كل قوم يحبون أن يلي صاحبهم)الطبري/ح6 .فضلاً عن الإحساس بالقهر والغبن،علينا البحث في الأسباب الكامنة في تركيبة المجتمع الناشئ في الكوفة والبصرة والمشكلات التي واجهته في السياق العام للتطور الذي كانت تمر به السلطة الإسلامية كلها،حيث نعثر على ثلاثة أنماط من الصراعات الأساسية،صراعات قبلية داخل المجتمع العربي الإسلامي،صراعات بين من نزلوا المدن العراقية أولا (أهل الفتوحات) ومن نزلوها فيما بعد، وثالث الصراعات بين هؤلاء جميعاً من جهة وبين السلطة المركزية التي كانت تريد تشديد قبضتها.
إن الملاحظة المهمة التي ينبغي الالتفات إليها هي أن معظم الخوارج لم يكونوا من قريش ولا ثقيف ولا الأنصار،بل من قبائل اقل أهمية من حيث العدد والمكانة الاقتصادية والسياسية،اندمجت في الإسلام خصوصاً بعد حرب الردة،و أقامت في الكوفة والبصرة. إن نزاع من يسمون(القراء) مع سعيد بن العاص والي الكوفة حول ملكية السواد،وهل هو (بستان لقريش) أم انه ملك (رماح الفاتحين)،هو خير معبر عما كان يدور من تغالبات وتطاحنات وسط المجتمع العربي الإسلامي(خاصة العراق)آنذاك،هذا هو برأينا،المفتاح الحقيقي لفك الالتباسات الحاصلة حول أسباب اندلاع تمردات الخوارج.
يعتقد الخوارج بان الأمة الحقيقية هي تلك التي ينتسب أليها المسلمون الصالحون سواء كانوا من العلية أم من الطبقة الدنيا،عربا أم موالي،والمكانة العليا للأتقى،ويدعو توجههم السياسي إلى تحقيق هدف تتقرر فيه أمور العامة وفقاً لكتاب الله ونواهيه،حيث ينبع توجههم هذا من حرصهم على الولاء للمثل الأعلى القرآني ويتمثل في إقامة دولة تحكم وفق المبادئ الموصى بها من الله وتأسيس مجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وجسدوا طوباويتهم في مقولة(لتكن عدالة ولو فنيت الدنيا بأسرها)عبر سلوك عنفي،متشدد ومتعصب يكفر المناوئين له بالرأي والاجتهاد ويستبيح قطع أعناقهم،وهذا اخطر ما جاء به الفكر الخارجي،إضافة إلى فتح الباب واسعاً أمام تصفية الأعداء(وهم من المسلمين غالباً) جسدياً واغتيالهم،هذا السلوك المتشدد جعلهم يدفعون الثمن بالسيوف،فلم يكن تاريخهم إلا اشد حالات العنف دموية.
ثانياً:حركة الزنج
بشكل عام يمكن القول إن نظام فكر العصور الوسطى،أي عصور الانحطاط ما يزال مسيطراً على قطاعات واسعة من شعوبنا العربية الإسلامية خاصة في قراءتها للتاريخ،هذه القراءات التي تهيمن عليها التصورات الخيالية والتقديسية والاطلاقية حتى يبدو التاريخ الإسلامي كأنه تاريخ فردوس،انه بالأحرى تاريخ عنف لسلطة استبدادية وعنف مضاد،فيه من الماسي والأوجاع ما لا يوصف،وفيه من المفزع ما لا يطاق،لكن ثقافة السلطة وضعت كل ذلك في منطقة ممنوع التفكير فيها،من اجل تعميم التاريخ الذهبي،تاريخ السلطة على كل شيء،وإعادته مرمماً دون ملل.
إن كشف المسكوت عنه يبدأ بأرخنة تلك الإرهاصات الاحتجاجية التي أطلقها الناس حين شعروا باختطاف رسالة نبيهم الأصلية أبان تعاظم المفسدة الاستبدادية،وتوجيه الإبادة المنظمة والمتطرفة ضد كل المخالفين،حينها تحول الإيمان إلى فرح محفز من اجل الاحتجاج والاعتراض: "الرواح،الرواح إلى الجنة" هذا الحلم في الرواح إلى الجنة متفق تماماً مع طموحات الحركات المعارضة في تحقيق العدل على الأرض: "لا عذر لنا وقد جعل لنا القلوب والأسماع حتى ننكر الظلم ونغير الجور ونجاهد الظالمين" .في الإمبراطورية العباسية يتضح الاستلاب الباهظ لإنجازات تلك الدعوة التأسيسية، دعوة النبي الكريم محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وسلم)،في هذه المرحلة تدخل الدولة العباسية طوراً متمدناً كممثلة سياسية للفضاء الاجتماعي ،اقتنصت مشروعيتها من الدين،غدت تنظيماً متطوراً من القوة والباس،أي تنظيم العنف بقصد الهيمنة،هذه الهيمنة المعتمدة على فصائل رجالها المسلحين، وثرواتها الطائلة،وسجونها وكل أدوات قهرها،إضافة إلى سلطتها الفقهية والفكرية،تبدو في قمة عقلانيتها وتنظيمها البيروقراطي،وقد وظفت نصوص الدين لأجل تبرير شرعيتها حتى تجلت للملأ على إنها تمثل "سلطة الله" على الأرض،فاللازمة الدينية التي تتوارثها في الدعوة لنفسها هي نفسها اللازمة الدينية التي اجترحها خلفاء النبي الكريم الأوائل في صدر الفترة الإسلامية: "أننا ندعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه"،هذه اللازمة ليست دعوة إلى ذلك الكتاب التأسيسي الجليل وتلك السنة النبوية الكريمة،إنما هي دعوة لاستملاك السلطة والاستحواذ عليها، تتململ أطراف الإمبراطورية فتعلن عن غضبها وانتفاضاتها،فتظهر شرارة ألبابكية عام781 من قرية "البذ" وانتفاضة أهل حمص في عام 820 ،تتواصل الاضطرابات الداخلية في بغداد وسامراء،وثبات عديدة للطالبين،معارك بين العرب والأتراك،العسكرية التركية المستعربة تخترق أسوار العائلة الحاكمة،المستعين يبايع المعتز ويسلمه رمز الخلافة"البردة والقضيب والخاتم" مقابل مقاسمته الأموال والتنازل له عن ثلاث جوار كان المعتز تزوجهن من جواري المتوكل،أم المعتز تبذل عشرة آلاف ألف في كل سنه لجواريها وخدمها والمتصلين بها، والمعتز يرسل إليها يسألها أن تعطيه مالا ليوزع أرزاق العامة.
بين سامراء وبغداد ثم البحرين والبادية،كانت هناك انتفاضة تتهيأ بصمت يتزعمها"علي بن محمد" مركزها البصرة جنوب العراق،حيث كان سوء الحال سائداً وسط نشاط زراعي اعتمد "العبودية" كشكل خاص سُخر فيه العبيد الزنج لإزالة السباخ والعمل في المزارع الكبرى بجانب البيض أنصاف الأحرار،أي ظهور العبودية كظاهرة خاصة في النشاط الاقتصادي لمنطقة البصرة ونسبياً في سواد الكوفة،هذه الظاهرة برزت في ظل الأنشطة اللاأنتاجية المهيمنة:التجارية/الربوية/الحربية،إضافة إلى النشاط الزراعي وأنشطة بدائية حرفية وأعمال منزلية،من هذه الأنشطة الاقتصادية الهشة ظهرت قوى ثورة الزنج،فإضافة إلى العبيد (الزنج والبيض)هناك الفلاحون الأحرار وأنصاف الأحرار والعمال البدائيون(كغلمان الدباسين) والعمال الملحقون بالعمليات التجارية والنقدية والحربية.
نميل إلى الاعتقاد بان الوعي العنصري(الزنجي) الذي تغلب على الوعي الديني والاجتماعي ساهم في استبعاد جماهير كبيرة للانخراط في ثورة الزنج،ونكون مبالغين ـ كما يفعل البعض ـ إذا اعتبرنا هذه الثورة(أو الحركة) هي ثورة عبيد،إلا أن مثل هذا الوعي الاجتماعي لم يكن غائباً ،خاصة عند قيادتها المتمثلة بخطابات "علي بن محمد" الذي تواصل مع هموم الفقراء،"فكان يسال عن أخبار غلمان الشورجيين وما يجري لكل غلام منهم من الدقيق والسويق والتمر وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد"، وكما يذكر صاحب الزنج في معرض تبريره للثورة انه "لم يخرج لغرض من أغراض الدنيا وما خرج إلا غضباً لله ولما رأى الناس عليه من الفساد في الدين"، إن القتال في سبيل الله يعني قتالاً لإقامة العدل الاجتماعي، وان "الفساد في الدين" الذي يعنيه صاحب الزنج هو المقابل ألمفهومي للفساد الأرضي واستبداد الدولة وعنصريتها،هكذا سعت الثورة الزنجية عن طريق العنف لإلغاء عنف الدولة ،هذا العنف المضاد تعاظم وتوسع واستمر متواصلاً خمسة عشر عاما(835 ـ 850 ).
إن تفسيراً واقعياً لهذا العنف المتواصل ضد الدولة يكمن إلى جانب العوامل السياسية والدينية،في تفكك هياكل الدولة نفسها وفسادها وركاكة الخليفة"المعتمد"الذي انصرف كلياً إلى قنصه وشربه ونسائه،كذلك يكمن سر نجاح التمرد الزنجي وتواصله إلى شخصية قائدها"علي بن محمد" هذه الشخصية الديناميكية الموفورة الذكاء وما يحيط بها من أتباع ذوي أصول كادحة فمنهم الكيال شان "يحيى بن محمد" المعروف بالبحراني وكان من أهل الإحساء،ومنهم القصاب نظير "محمد بن مسلم"الذي ينتمي إلى هجر.إن أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق هذه الحركة للوصول إلى أهدافها هو اعتمادها العنف المسلح طريقاً وحيداً لمواجهة آلة قمعية هائلة تسحق أمامها كل شيء.
*نشرت في ثقافية جريدة الصباح/بغداد/تشرين الأول 2004
ثالثا: حركة القرامطة
نادراً ما يقرا الناس تاريخهم الفعلي،تاريخ احتجاجاتهم وثوراتهم ضد شروط حياتهم الصعبة وواقعهم المروع وأحلامهم المقهورة،وإذا ما قرأوه فسيقرؤونه مموهاً ومشوهاً من قبل مزورين أكفاء ومهرة، لقد وصفت حتى اليوم هذه الحركات الاحتجاجية كونها حركات مروق وتجديف وزندقة ،وهذه مناسبة لكي يطعنها الخصم (السلطة) في قلبها،فالتاريخ الإسلامي الرسمي المحتل من قبل الرسميين هو الذي يفرض بقوة السلطة ولا يحتفظ عادة إلا برواية الخط المنتصر والمهيمن الذي يضطهد الناس باسم الشريعة ونيابة عنها،في حين تحذف أو تزور وتطمس بقية الروايات،وفي أحسن الأحوال توضع في محل ريبة قاسية وتطرد من سفر التاريخ باعتبارها روايات تحكي عن حركات تطاولت على سلطة المقدس،ويمكن القول إن زمن أقفال التاريخ الرسمي يعود إلى لحظة الشيخ الطبري (عام923 م) فقد كان تاريخه بمثابة التأسيس الأولى لتاريخ الملوك،أي للخط الرسمي الذي شاع وهيمن فيما بعد بصفته الخط الوحيد الصحيح،وما عداه فهرطقة وضلال.
إن حركة القرامطة (القرامطة:نسبة إلي حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط،عامل زراعي ومؤسس الحركة في سواد الكوفة) من أكثر الحركات المضادة في التاريخ التي حصل حولها الالتباس والاختلاف،وحلت عليها اللعنات والطعونات،نحن هنا لسنا في موضع دفاع عن الحركة أو توصيفها بوصف سلبي أو إيجابي إنما نهدف العبور إلى منطقة الممنوع التفكير بها التي يحتلها الظافرون والمنتصرون وفي ظلهم أو ظل سيوفهم يكتب التاريخ ،نحاول أشكلة التاريخ نفسه ووضع وقائعه وأحداثه تحت التساؤلات والاستفهامات،نحاول إثارة الحوار والريبة حول المسكوت عنه وكم جرى فيه من أهوال وفظائع،لكي نتوصل إلى نوع من الحقائق التاريخية في ما وراء الرسمي والمؤدلج.
في الفترة نفسها التي كانت البصرة تشهد فيها تمردات الزنج العارمة بدأت الشرارة القرمطية تظهر(800 ـ 1050 م) في أنحاء متعددة من الإمبراطورية العباسية مُتلبسة سمات مموهة وتوجهات فكرية مستترة وغير واضحة،فبحق أطلق عليها حركة باطنية أو حركة سرية ،إلا أن اغلب المواد التاريخية تؤكد انتماء الحركة القرمطية إلى الطائفة الإسماعيلية(المباركية هي الإسماعيلية الأولى نسبة إلى المبارك مولى إسماعيل ابن جعفر الصادق) بصورة عامة وفكرها بصورة خاصة،ولا نميل إلى هذا الفصل بين انتماء الحركة من جهة وفكرها من جهة ثانية،ورغم عدم همنا في جمع المادة التاريخية المختصة بشان تصاعد وتطور الحركة القرمطية (ينظر بهذا الصدد:النويري/نهاية الأرب ج23 )،يمكن تلمس كون هذه الحركة هي التبلور السياسي أو الممارسة الجماهيرية للفكر الإسماعيلي ،استهدفت هذه الممارسة إسقاط السلطة القائمة وإحلال محلها سلطة عادلة لم تتوضح نوعيتها في مجمل برنامج القرامطة،كذلك تبلورت الحركة كنموذج فريد يشهده العصر الإسلامي الوسيط من حيث انعطافها نحو التفكير العقلاني والتوازن الاجتماعي،آخذه بنظر الاعتبار تمحورها حول الشعارات الدينية المركزية: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين" ،هؤلاء" المستضعفون " هم الذين ركنت إليهم الحركة لتجعلهم الوارثين للسلطة الأرضية ،ونلاحظ بوضوح إنها ألغت في تشكيلاتها التنظيمية التمايزات القبلية والعرقية بشكل حاسم،وقد قام التشكيل على أساس نخبوي ديني يتسيد هرمه الأئمة المستورون أو المستودعون،واغلبهم من المثقفين والسياسيين المتنورين(بلغة عصرنا)من أصول اجتماعية فقيرة وشغيلة(أبو سعيد الجنابي دقاقاً،أي يبيع الدقيق مؤسس الحركة في البحرين،عبدان أبو حاتم الرازي،احمد بن الكيال،حميد الدين الكرماني،هؤلاء بعض القيادات اشتهروا بسعة معارفهم ونزعتهم التنويرية)ونستطيع البت بان فكر الحركة القرمطية،كما أسلفنا،هو نفسه فكر الحركة الإسماعيلية وبصفة عامة فان هذا الفكر لم ينسلخ عن فكره ألام،الدعوة الإسلامية،ولم يُحدث أي قطيعة معه،رغم خصوصيته وتمايزه في مجمل البناء الديني الإسلامي المستند على فكرة التوحيد الإلهي الأساسية،هذه الخصوصية تمايزت في تأويل النص وتطويعه اجتماعياً وفلسفياً،وكذلك استفاد الوعي الطوباوي القرمطي من الدين ـ كما تفعل السلطة ـ لتبرير شرعية الحركة وممارساته العنفية، من هذا نرى أن كل واحد (السلطة والحركات المضادة) يكفر الآخر ويتهم تاريخه بالعنف وينسى نفسه.
يمكن ملاحظة تمايز آخر في الوعي القرمطي بجانب إرهاصاته الاجتماعية والعقلانية هو الاستفادة من كافة الأفكار الدينية السائدة والقديمة المثالية والمادية،خاصة اليونانية والفارسية،الأخذ منها والتلاقح معها،ولم نجد أي سند وثائقي أكيد يبرهن على انفصال هذا الوعي عن عموم الوعي الإسلامي اللهم إلا في المدونات الرسمية التي تُلحد الحركة وتكفرها من اجل تجييش الناس ضدها عن طريق مواطئ الضعف التي تكمن فيها العواطف والغرائز والعصبيات،ففي خلاصة لآراء الإسماعيلية عن مسالة التوحيد مثلاً نجدها واضحة عند حميد الدين احمد الكرماني (عبد الرحمن بدوي/ مذاهب الإسلاميين ج2 ) ما نجده هو آلية عقلية جديدة ابتدعها الكرماني في تفسير الوجود ،اعتمد نظرة "الإبداع"التي تؤكد على إن وجود الموجودات يتم عن طريق الإبداع ،وهذه تختلف عن نظرية "الفيض" السائدة والتي قالت بها الأفلاطونية واخذ بها الفارابي،فهذه النظرية الإبداعية الجديدة تدعم الفكر الإيماني التوحيدي وتصب فيه،ولم نجد في مجمل دراسات"أخوان الصفا"،وهم البُناة والمؤسسون للفكر الإسماعيلي (انظر:جامعة الجامعة/تحقيق عارف ثامر) أي خروج عن المنحى الإلهي الإسلامي،فبحق هذه المدرسة كانت هي الإشعاع العقلاني في العصر الإسلامي الوسيط،إلا إن كل ذلك لا يستبعد وصول الاجتهادات الشخصية في الفكر الإسماعيلي إلى لحظات القلق الإيماني كما وصفها ابن الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي.
ـــــــــــــــــــــ





#مهدي_النجار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اسئلة المثقف الاشكالي
- مسكويه فيلسوف الادباء
- الاكراه والاختيار في الخطاب الاسلامي
- الذكرى المئوية السادسة لرحيل العلامة ابن خلدون
- للعقل وقت وللخوف وقت
- الاسلام والفكر المعاصرحوار مع المفكر محمد أركون
- التسامح وقبول الاخر
- الاسلام والمعابر الى الديمقراطية
- الثقافة الاسلامية وتصحيح الاسئلة
- الإطار المفهومي للعلمنة
- كيف نفهم الإسلام اليوم ؟ - مقابلة مع محمد اركون
- جدلية الحداثة المادية والحداثة الثقافية


المزيد.....




- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مهدي النجار - الحركات المطرودة من التاريخ