يصادف اليوم 17/5/ يوم الاستقلال النرويجي أو يوم الدستور، وفي هذه المناسبة يخرج المواطنون من المنازل وهم في ثياب تقليدية لتجسيد الوحدة الوطنية والعائلية في مسيرات احتفالية راقصة بصورة عفوية بدون توجيه أو أوامر كما يحدث في عالمنا العربي المجيد.
وكل كلب تقوده شقراء.
وفي عالمنا العربي كل شعب يقوده سفاح.
في العالم العربي، ولمناسبة عيد استقلال أي قطر عربي شقيق، أو تحرير أية عنزة من الأسر، والاستقلال الافتراضي طبعا، لأن الكل تحت الاحتلال، لكي تخرج الجماهير من المنازل إلى المراعي يتطلب الأمر أوامر من الحرس الوطني، أو الحرس الجمهوري، أو الحرس الملكي، أو الشرطة الوطنية، أو الأمن الوطني، أو عسس الليل والنهار، سرا أو علنا، بالمخابرات أو محطات التلفزة، أو محطات الراديو، وإعلانات محطات البنزين، وحتى محطة ناسا للأبحاث الفضائية، أو محطة المياه الجوفية ..الخ.
ومع ذلك، وفي الغالب، لا يخرج سوى العاطلين عن العمل للفرجة، والمراهقين للاستمناء، والعوانس للحظ والصدفة التاريخية، ورجال المباحث بحثا عن عبوة ناسفة في حاوية أو بحثا عن مواطن نائم ويحلم في حاوية، أو بحثا عن "أصولي" يتبول على جدارية.
وإذا مر موكب سموه أو جلالته أو فخامته طُلب من الجمهور، همسا، ودعسا، وخبطا على الأكتاف في الزحام، ودعكا للصدور، وطيا للأذرع، أن يصفق فيصفق.
ويطلب منه أن يشهق بالفرح، فيشهق.
ويطلب منه أن يبكي بهذه المناسبة العظيمة، فيبكي.
ويطلب منه أن يصاب بالذهول من الموكب، فيصاب بالذهول.
ويطلب من أحدهم، في مناسبات، أن ينتحر من الفرح والطرب والحرية وهول المشهد، فينتحر.
ويطلب منهم، في النهاية، الانصراف، فينصرف الجمهور وهو مصاب بالرعشة الجنسية من وجه سموه الشهي.
والمناسبات كثيرة:
يوم عيد العرش.
يوم عيد الجيش.
يوم عيد الاستقلال.
يوم عيد نفي الملك.
يوم ولادة الرئيس.
يوم هربه.
يوم جنونه الحزبي.
يوم محاولته قتل الرئيس السابق.
يوم انقلابه على الرئيس السابق.
يوم شراء أول حذاء وأول دبابة، وأول مكنسة تعمل باللمس كالجماهير، وأول خطاب، وأول جهاز إنصات، وأول جهاز تفجير عن بعد بأجساد السجناء.
يوم ( تفريغ) السجون من السكان، وتفريغ السكان من السجون.
يوم أول عادة سرية لقائد الحرس الملكي.
يوم أول دورة شهرية لحرمه.
يوم محاولة اغتياله في الداخل أو في الخارج، في الشارع أو في الحمام، بعبوة ناسفة، أو بعبوة فياغرا، بواسطة دسم السم في الطعام، أو تفجير مدينة كاملة مر بها، عن طريق عناق طويل مع عشيقة آسيوية، أو عن طريق تفجير بالرومول لفرج شقراء من بلاد الثلج والضباب والحرية.
يوم عيد ميلاد الشيخة فلانة.
يوم ميلاد الفرس محروسة.
يوم جلوس الوصي، يوم عودة الولي من المنفى، يوم استقباله على أكتاف الجماهير، يوم المسيرة الخضراء، يوم تأليف الكتاب الأخضر، يوم زيارته للصومال، يوم عودته من بلجيكا، يوم تكرمه بزيارة الخبر، يوم زيارته لطنجة، أو طرابلس، يوم إفلاته من سيارة مفخخة، أو نجاته من هجوم بالسكين من مواطن جائع ..الخ.
أعياد لا أول لها ولا آخر.
لكني في مثل يوم الدستور النرويجي أشعر بالخوف من أي سؤال قد يقذف في وجهي فجأة عن يوم الاستقلال الوطني العراقي مثل حفاضة طفل من سيارة عابرة أو شرفة أو جريدة، مثل مقالة عن ميثاق شرف من خبير في البراز والنصب والاحتيال، والسعار، والكلبية، والجدري، والصرع، والفراغ، والفن الملتزم.
وأخطر أنواع الفراغ هو الفراغ السياسي.
حتى أن الشتيمة الجديدة هذه الأيام في معارك الجيران والأصدقاء والإخوة والرفاق في شوارع العراق هي:
ـ عساك بالفراغ الدستوري!
والفراغ عندنا لا يمكن أن يملأ إلا بالدبابات واللصوص والقتلة وأرباب السوابق وخبراء تزوير الجوازات، وتزوير الضمائر، وتزوير التاريخ، وتزوير الأعمار أمام المراهقات أو العوانس عبر البريد الألكتروني.
فأنا أعرف أن أحدهم ولد في عام تأسيس أول معمل للأحذية في بغداد في الثلاثينات من القرن الماضي، لكنه صار يتنكر، أمام العوانس بعمر مراهق بأسنانه اللبنية، ويتحدث عن الحب العذري، والسياسة، والكحول، والتغيير، والحرية، دون أن ينسى وضع المكنسة في يده وهو يكتب. هذا تعبير قاله لي كاتب عربي صديق لن أبوح باسمه خوفا عليه من "عبوة تشهير" تحت ذريعة التدخل في شؤون العراق، أو كشف أحد أسرار التراث الوطني، أو عرقلة كاتب تقدمي من أداء دوره التاريخي في الحمّام، لكي لا يحتج مرة أخرى ويخرج إلى الشارع بدون ثياب داخلية ويخدش الذوق العام.
لأن الخرف أنواع:
هناك من يعانق الناس في الشوارع.
هناك من يتبول على المنازل أو المواقع أو الصحف.
وهناك من يحاكم خصوما حتى لم ير وجوهم.
وهناك من يعلن الاحتجاج على دم البعوضة، وينسى موت الآلاف.
ماذا سأقول لو سألني أحدهم هنا عن عيد الاستقلال أو أي عيد آخر وطني؟
وجهزت نفسي للرد:
عندنا عشرات المناسبات اليوم عن اغتيالات فاشلة.
وعشرات المعارك التي عاد منها الجنود منتصرين، وأنا منهم مرة في شرق البصرة 82، بدون حذاء، أو حتى بيرية، ومع ذلك علمت بالنصر وأنا في مشرب في الشارع الوطني بملابس مدنية مع صديق عن طريق البلاغ العسكري.
لكن أحدث أعيادنا الوطنية والقومية هي التي لم تقع بعد وهي:
ـ يوم إلقاء القبض على الزعيم الفلاني من قبل الانتربول الدولي.
ـ يوم وقوف زعيم الحزب الوطني الجمهوري أمام محكمة جرائم الحرب الدولية بتهمة تصفيات جسدية في العهد السابق، رغم التنكر اليوم بثياب العهد الجديد.
ـ يوم مثول عضو جبهة الإنقاذ الوطني حاليا، ومسؤول جهاز سري أمني سابقا، أمام محكمة بلجيكية بتهمة المشاركة بجرائم ابادة جماعية.
ـ يوم محاسبة الزعيم الفلاني على جرائم التطهير العرقي.
ـ يوم ( الاحتلال الوطني) فنحن آخر بلد في التاريخ والجغرافية وقع تحت الاحتلال المتأخر، على طريقة الحب المتأخر، وهذا يكون في الرأس وليس في القلب،لذلك يكون" هوى" وليس حبا عاديا.
إنه حب آخر العمر.
لكن، لو قررت الاحتفال ليلا وسرا، فأي علم وطني صغير أضعه على الطاولة أو في زاوية المنزل كما يفعلون هنا؟
ـ هل أضع علم الحزب الديمقراطي الكردستاني وعلم الطالباني؟
ـ أم علم المؤتمر الوطني؟
ـ أم علم الحزب الإسلامي؟
ـ أم الحزب الاشتراكي؟
ـ أم الشيوعي؟
ـ أم حزب الفارين بالدخل القومي؟
ـ أم نجمة داود؟
ـ أم العلم الأمريكي؟
ـ أم البريطاني؟
ـ أم علم فندق فلسطين مريديان؟
ـ أم علم الوحدة العربية؟
ـ أم علم جبهة الخلاص الوطني من الحياة؟
ـ أم علم ماكدونالد؟
وعلم أي وطن أضع؟
ـ علم أربيل؟
ـ أم علم الكرادة؟
ـ علم مدينة النجف؟
ـ أم علم مدينة الفنطوزي؟
ـ علم الزهراء؟
ـ أم علم الاعظمية؟
ـ علم الصابونجية؟
ـ أم علم مقبرة بابل؟
ولو حلت مسألة العلم، فأي نشيد وطني أسمع؟
ـ نشيد "وطن مد على الأفق جناحه"؟
ـ أم نشيد" يا عمال العالم أتحدوا؟
ـ أم نشيد :في كل يوم مسيح، في كل يوم حسين؟
ـ أن نشيد :هربجي، كرد وعرب رمز النضال؟
ـ أم نشيد " فلانة زعلانة وما تلبسك يالباس ياوللللللووووو"؟!
وماذا عن الاحتفال بجيش النصر ومعاركه؟
بأية فرقة عسكرية أحتفل؟ ونحن لم تعد لدينا لا:
ـ فرقة حمورابي العسكرية.
ـ ولا فرقة الأنشاد الوطنية.
ـ ولا فرقة مكافحة الجراد.
ـ ولا حتى فرقة أم علي للبزخ؟
عندنا، وفقط، فرقة للردح في الخارج، بقيادة دكتور في البراز الثوري فخر الصناعة الروسية!