أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - جوزيف سماحة - موسكو في ظل لينين - القسم الأول 1920















المزيد.....



موسكو في ظل لينين - القسم الأول 1920


جوزيف سماحة

الحوار المتمدن-العدد: 1656 - 2006 / 8 / 28 - 10:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ترجمة جوزيف سماحة
بقلم: روزمير ألفريد

1- أوروبا عام 1920
في بداية عام 1920 كنت في طولون عند صديقي مارسيل مارينيه (Marcel Marinet) عندما وصلتني رسالة من باريس تعلمني أنه قد تم اختياري من قبل لجنة الأممية الثالثة للذهاب إلى روسيا السوفياتية. كان الوقت ضيقا إذ كان يتوجب علي أن أكون مستعدا للذهاب خلال أسبوع. وكان هذا يفوق الوقت الضروري لتحضير حاجاتي. فبالنسبة لي، كما بالنسبة لكل الذين عاشوا السنـوات الطويلة لما كان يسمى الحـــــــرب الكبـــــرى، كانت الثورة الروسية هي الثورة المنتظرة – الثورة التي ستتبع الحرب – لقد كانت فجر عهد جديد وبداية حياة جديدة، ولم يعد كل ما كـان سابقـا لها يملك أية جاذبية: لقد فقدت الاهتمام بكتبي، وبكراستي، وبأعمالي التي أحضرها، ,أصبحت أكثر من مستعد، أصبحت ملتهفـــا للذهاب.

لم تفارق تفارق هذه الرحلة إلى موسكو أفكارنا إطلاقا، وخاصة أفكاري، لأن اختياري للقيام بها تم مسبقا. غير أن هذا كان مشروعــــا صعبا، خصوصا بالنسبة للفرنسيين. فقد كانت فرنسا كليمنصو وبوانكاري، بين جميع الأمم، الأكثر سخطا على جمهورية السوفيات. فقد ادعى كليمنصو أنه سيعزلها عن العالم، وعاملها باعتبارها جمهورية موبئة يجب إحاطتها «بنطاق صحي» من أجل خنقها ومن أجل حماية الشعوب ضد العدوى، وكنا نكتفي بالغيـرة مــن الإنكليز أو الأميركيين الذين يستطيعون تجاوز كافة أنواع الحواجز التي تشكل في الواقع هذا «النطاق».

إلاّ أنه كان بمقدورنا أن نميز الصواب من الخطأ في هذا الركام من المعلومات التي تنشرها الصحف. لقد فاجأت ثورة أوكتوبر البورجوازية، ولم يستطع ممثلو هذه البورجوازية حتى الأذكياء منهم، أن يفهموا منها شيئا. كيف تستطيـــــع هذه النواة الصــغيرة مـن المهاجرين الذين سمحت لهم الحكومة المؤقتة بالعودة إلى روسيــا، أن تحتفظ بالسلطة؟ إنه لكابوس حقا، إلاّ انه لن يدوم سوى بضعة أيـــام.

لقد انتقل مراسلوا الصحف من بتروغراد إلى عواصم البلدان المجاورة، إلى ريغا، وستوكهولم، وفرصوفيا، حيث كانوا يرسلون يوميا أخبارا قاتمة: أعدم لينين تروتسكي، أو على العكس، حدثت ثورة ضمن القصر وأعدم تروتسكي لينين، فكل شيء يدور حول هذين الاسمين اللذين سرعان ما انفصلا عن الآخرين. لقد كان جهلهــم يسمح لهم بتصديق الإشاعات الأكثر غرابة، حتى إذا ما علموا الحقيقة ذات مرة بالصدفة، فإنهم كانوا يعرفون أن أرباب عملهم لن يسمحوا لهم بقولها.

إن قراءة برقيات ذلك العصر والتعليقات التي قيلت حولها ضرورية لتكوين فكرة محددة عن الغضب الحقود الذي دفعت ثورة أوكتوبر البرجوازية إليه، فقد كانت هذه البورجوازية تقدر أن كل الوسائل جيدة لتدمير الثورة، كما أنها كانت تستمد عزاءها من الجــوع الذي سوف يمتد، كما تزعم، في طول البلاد وعرضها. وحدث ذات مرة أن وجدت نفسي، في قطار العودة من مرسيليا إلى باريس، وبعد انتهاء إجازتي، بقرب ثلاثة نقباء، في يوم كانت الصحف قد قررت أن تنشر فيه خبر استيلاء البلاشفة على السلطة وقد كان جيراني شديدي السخط، وتناوبوا على إنزال الشتائم الغليظة بقادة الانتفاضة الذين يجهلون أسماءهم، وكان هذا مأخذا إضافيـــــــــا. وأخيرا استخلص أحدهم: «سيموتون جوعا... فهـــــم لا يملكون مؤونة لثلاثة أيام!»

لقد كنا محصنين ضد الأكاذيب المتنوعة لمراسلي ريغــــا، إذ اننا نعرف جيدا هؤلاء «المجهولين»، فأسماؤهم وأفكارهم ليست غريبة عنا. فلقد عاش البعض منهم في فرنسا أثناء الحرب، تروتسكــي بالدرجة الأولى، وقد عاش منذ تشرين الثاني 1914 حتى اليوم الذي نفاه فيه وزير الداخلية زميل الوزيرين الاشتراكيين جيســـد وسمبات (أيلول 1916)، وأنطونوف-أوفسينكــو مدير اليومية التي أصدرها في فرنسا، طيلة الحرب، الاشتراكيون الروس من مختلف الاتجاهات والذين تجمعوا على قاعدة معارضة الحرب الامبرياليية والدفاع عن الأممية البروليتارية، ودريزون–لوسوفسكي، وغيرهم أيضا.. لقد التقينا للمرة الأولى في خريف 1914، عندما سمحت لنا مناسبة طارئة بأن نلاحظ اننا نملك، حول المسائل الكبــرى التي تطرحها الحرب، موقفا أساسيا مماثلا. كان تشيتشيريـن وليتفينوف في لندن، ولينين وزينوفييف في سويسرا. لقد تم الاتصال بين اشتراكيي مختلف البلدان الأمينين للأممية في مؤتمري زيمفرالد (أيلول 1915) وكينتال (نيسان 1916). وكنا نسخر من الأخطاء التي يرتكبها، جهلا، صحافيوا «الصحافة الكبيــــــرة»، الذين يضعون في السيرة الحياتية، ويقعون في اختلاطات فائقــة، ويخطؤون حتى في تحديد أسماء الأشخاص الظاهرين في الصور.

رغم كل شيء، كان يحدث بعض الأيام أن تجد ثقتنا في صلابة النظام الجديد صعوبة في الصمود أمام دقة البرقيات التي تعلن سقوط بتروغراد، أو حتى اندحار الجيش الأحمر أمام هجمة ناجحة لواحد من جنرالات الثورة المضادة، وقد قادتنا محاولة اغتيال لينيـن، في 30 آب 1918، وعندما لم يعد الشك مسموحا، إلى الانغمـــــــــاس في القلق والحيرة، هل ستنجح الثورة المضادة أخيرا في الانتصار؟

كان الوضع أيام رحلتي إلى الجمهورية السوفياتية في ربيع 1920 قد أصبح ملائما، إذ نجح النظام في مقاومة هجمات أعدائه اللدودين الذين اضطروا للاعتراف بأنهم ارتكبوا خطأ جسيما في تقدير البلشفية إذ أنهم لم يروا فيها سوى انتفاضة حضرتها قبضة من الديماغوجيين توصلوا بفضل ظروف استثنائية إلى انتصار سهل، إلا انه انتصار يسهل تدميره. لقد أصيبوا بدهشة مريرة عندما اصطدموا بحركة جديرة بخلق نظام جديد راسخ الجذور في الأرض التي بالأمس إمبراطورية القياصرة. فلأول مرة منذ أوكتوبر كان سوفيات العمال والفلاحين والجنود يتنفس بحرية، فقد استطاعت الجمهورية، بجهد مضن ومثير، أن تتخلص من التهديد المثلث الذي يرزح فوقها لمدة ثلاث سنوات: إيدونيتش Ioudenitch وكولتشاك Koltchak، ودينيكين Denikine، كما أن البورجوازيــات المتحالفة خلف هؤلاء قد تم دحرها. لقد تحطم النطاق في إحدى نقاطه، فالمعاهدة المعقودة مع استونيا تمنح جمهورية السوفيـــات نافذة على أوروبا، ومنها على العالم. وكانت بريطانيا، على اثر أميركا، قد تراجعت عن أي تدخل: كان الاحتجـــــاج العمالي قد أصبح قويا إلى حد أن لويد جورج أخذ يهيئ الرأي العام البريطاني لعقد اتفاق تجاري مع السوفيات. ولم يمتنع عن ذلك سوى فرنســا التي حافظت في بولونيا على حالة روحية محاربة وشوفينية. فبولونيا التي لم تكد تتوحد بعد تريد إلحاق أوكرانيا. وقد كلف تحريــر هذا البلد الثوري ثمنا لن نستطيع تقديره بدقة سوى لاحقا. أمّا في فرنسا فقد قاد المد الثوري الذي تطور بعد انتهاء الاعتداءات الفلاحين والمثقفين وبعض شرائح البورجوازية الصغيرة والمناضلين السابقين، إلى جانب العمال، المجروحين أم الأصحاء، إلى العودة إلى منازلهم حاملين فكرة محددة عن حساب يجب تسديده: يجب على الحكومة والنظام اللذان أرغماننا طيلة أربعة أعوام على حياة حيوانية في الخنادق من أجل «البلاغ الرسمي» أن يدفعا، لقد تعطلت البرجوازية عن العمل: وبقيت مذهولة أمام نتائج الحـــرب التي لم تكن تتوقعها، لقد فقدت الإيمان بمصيرها.

لقد كبح هذا المد الثوري العارم في اتساعه وتصميمه بواسطة الرجال الذين كانوا يقودون، في كل مكان من العالم، التنظيمات النقابية والأحزاب الاشتراكية. لقد نجحوا، مستفيديــن من فقدان الخبرة لدى الوافدين الجدد، ومقنعين أعمالهم بجمل ديماغوجيــــة، في حرف هؤلاء الوافدين عن أي عمل ثوري. ازداد عدد هذه التنظيمات والأحزاب ازديادا ملحوظا، فانتقل عدد الحزب الاشتراكي من 90.000 عضوا في تموز 1914 إلى 200.000، كما أن الـ C.G.T. أو الاتحاد العمالي العام الذي تحول في بداية الحرب، وبفعل التعبئة فقط، إلى نقابات هيكلية، أصبح يستطيع، ولأول مرة في تاريخها، أن يدعي أنه أصبح تنظيما جماهيريا يضم مليونين من النقابيين المنظمين. كان القادة الاصلاحيون يقولون أنه يكفي أن نكون متحدين كي نكون أقوياء، أو جديرين بأن نفرض على الحكام، حول أية مسألة هامة، إرادة الطبقة العاملة. وكانوا يؤكدون – لفظيا – تضامنهم مع الثورة الروسية، إلا أنه ليس ضروريا برأيهم، بالنسبة للأمم الديموقراطية الغربية، اللجوء إلى العنف، إذ يمكن هنا تأسيس نظام جديد بمجرد تحقيق برنامج اقتصادي تصوغه التنظيمات العمالية، ويتوجب على الحكام وأرباب العمل الموافقة عليه. وهكذا يتم تجنب النضالات القاسية، والعذابات، والبـؤس التي هي من نصيب البلدان التي تجتاحها الثورات. وقد سنحت لي الفرصـــــة، فيما بعد، أن ألاحظ أثناء رحلتي عبر أوروبا أنه كان من السهــل نسبيا – خداع الرجال الذين حولتهم الحرب إلى ثوريين بواسطة سراب من هذا النوع.. فلماذا الاقتتال طالما يمكن الوصـول إلى الهدف يدون صراع؟ .. وهكذا استطاع جوهو Jouhoux وأصدقاؤه في القيادة الاتحادية الذين ساوموا مع الاتحاد المقدس في الحــرب التي نعاين الآن أضرارها الواسعة والعميقة، في الاستمرار على رأس الـ C.G.T. (الاتحاد العمالي العام)، في حين تم إبعــــــــــاد قادة الحزب الاشتراكي زمن الحرب واستبدلوا بعناصر غير أكيدة تهتم قبل كل شيء باللحاق بالتيار.

بين أول إضراب كبير بعد الحرب، إضراب عمال سكك الحديد في بداية 1920، أن المد الثوري لازال قويا، وعبر هذا المد عن نفسه في القيادات الجديدة للتنظيمات المحلية وفي معارضة الإصلاحية المقنعة للقادة الإصلاحيين. وقد كان نضج هذه القيادات الجديدة ملحوظا في بعض الأحيان. وقد أتيح لي أثناء إقامتي في «طولون» أن أتابع عن كثب نشاط الوحدة الاتحادية للنقابات. وعندما أعلن إضراب عمال سكك الحديد، دهشت للذكــــــاء الذي أبداه سكرتير هذه الوحدة في تحضير وتنظيم الدعم الواجب تقديمه للمضربين. فعرض بوضوح معنى الإضراب، وبين التطورات التي يمكنه أن يأخذها في وضع عام ثوري موضوعيا، وتنبأ بالتدابير القمعيـة التي قد تلجأ إليها الحكومة. وشكل في سبيل استمرار العمل العمــــالي فرق بديلة للجن الإضراب. تم هذا ببساطة، وقيل بدون التشدق الملازم لسكان تلك المنطقة واضطرت الشركات التي فوجئت بالحركة وباتساعها وبالحزم والنظامية اللذين يسودان تطورها، إلى الاستسلام سريعا. إلاّ أن الشركات عادت فانتقمت بعد ثلاثــــــة أشهر، تساعدها الحكومة، كما يساعدها قادة الـ C.G.T. (الاتحاد العمالي العام) الذين ضربوا إضرابا تضامنيا فرض عليهم.


--------------------------------------------------------------------------------

2- رحلة موسكو


إن الرحلات عبر أوروبا في فترة ما بعد الحرب شديدة التعقيد. فالأمم الجديدة التي ساهمت في خلقها الإيديولوجية الويلسونيـة تحتمي داخل حدودها وتدافع عن نفسها ضد التسلل البلشفي، وضد المهربين الذين توجدهم الظروف الصعبة. كان يتوجب الحصول على تأشيرات دخول للوصول إلى هذه البلدان، ومن ثم الحصول على ادونات بالخروج لتركها، ويتوجب تحمل الزيارات الجمركيـــة الدقيقة، والشكليات اللامتناهية وغير المحتملة. ويكون سعيدا من يخرج سليما معافى من كل هذه الصعوبات. أمّا العقبة الأخيرة والأكثر جدية من سواها فهي: إن الأمم المحادية لروسيا والتي انفصلت عنها لا تسمح بالمرور. نتيجة لكل هذه الأسباب دامت رحلتــــــــــــي من باريس إلى موسكو ستة أسابيع، ولذا وجدنها طويلة إنما غنية بالمعلومات لأنها تضمنت دورات عديدة قادتني إلى الأمم الجديدة فـــــــــي أوروبا الوسطى وألمانيا الجديدة. وقد تمكنت بنفسي من معاينتها، والدخول من ثم في اتصال مع الأحزاب والتجمعات المختلفة التي كانت قد انضمت للأممية الثالثة أو التي تطرح الانضمام إليها، والتعرف إلى الرجال الذين سأعود فأجدهم فيما بعد في موسكو.

خصصت في البداية بضعة أيام من مهلة الأسبوع التي حصلت عليها للقيام برحلة إلى كاتالونيا. فثمة أهل وأصدقاء لي هناك أريد رؤيتهم قبل الذهاب. لا أفكر اليوم، أكثر مما فكرت في السابــــــق، في تضخيم مخاطر الرحلة الطويلة التي كنت سأقوم بها ولا بالنتائج التي ستترتب عليها، فالحقيقة إن مجرد التفكيــــر بأني سأكون في قلب الثورة السوفياتية كان يمنعني من التوقف عند ذلك. إلاّ أن هذه المخاطر كانت موجودة، ولم تكن كلها خيالية. وأتاحت لي هذه الزيارة السريعة أن أرى بنفسي الحالة الراهنة للحركة النقابيـة القوية جدا في هذه المنطقة. في طريقي، وجدت صدفة في مكتبة محطة «جيرون» (Gerone) كتابا، ظهر للتو، حول النقابية الثورية والاتحاد الوطني للعمل (C.N.T.) يقدم هذا الكتاب معلومات محددة هامة عن المؤتمر الأخير لهذه المنظمة ذات الميول الفوضوية النقابية المنعقد في مدريد (كانون الأول 1919) والذي تقرر خلاله الانضمام إلى الأممية الثالثة وصوت على القرار بالإجماع، وأعلن المؤتمر، بالإضافة إلى ذلك، تأييده لديكتاتورية البروليتارية وهذا حدث هـام جدا يمكننا بواسطته قياس المضاعفات التي تركتها في العالم ثورة أوكتوبر. لقد كان قادة الانتفاضة المنتصرة ماركسيين، واشتراكيين ديموقراطيين، ولو أنهم من النوع الذي صادفناه حتى هذا الوقت في الحركة الاشتراكية العالمية. ولم يتردد هؤلاء النقابيون الثوريون الاسبانيون، أعداء «السياسيين»، والأحزاب السياسية، عــــن التجاوب مع ندائهم. ويقول جواكين مورين في تعليقه اللاحق على هذه القرارات: «لقد عرفت الحركة النقابية تحولا فعليا» إن وضعهم هو مثل وضع النقابيين الثوريين في إيطاليا، ومثل وضعنا.

كنت في اسبانيا عندما استطاع النقابيــــون عقد مؤتمر علني كبير في مدريد في حين كان التنظيم نفسه، وفي الوقت نفسه، محلولا في برشلونة. كان أعضاء التنظيم هنالك ملاحقين من قبل الشرطة العادية ومن قبل شرطة خاصة أوجدتها تنظيمـات أرباب العمل، وكان ثمة قانون يمنح الشرطة الحق في الإعدام العلني للرجال الذين تقرر إعدامهم. وكان الفوضويون النقابيون يردون باغتيالات فردية تطال المسؤولين عن هذه الجرائم والوشاة وكان هذا نضالا قاسيا ومستمرا. ووجدت صعوبة كبيرة في الالتقاء ببعض الأصدقاء الذين كنت قد تعرفت عليهم في رحلات سابقة. وقد أكدوا لي، وأكملوا ما كنت قد عرفته من خلال الصحف والمراسلات حول الحركة العمالية أثناء الحرب. لقد عرفت كاتالونيا في ذلك الوقت فترة ازدهار استثنائية اذ كانت مصانعها تعمل بملء طاقتها من أجل المتحاربين، أي من أجل ألمانيا وفرنسا على حد سواء. لم ينجح هذا الازدهـــار في تخدير الوعي الثوري لدى العمال، بل أثاره.. وجاءت الثورة الروسية لتحمله إلى حده الأقصى، ما أدى إلى حصول إضــــراب عام في سنة 1917 هدد في المدى الذي وصل إليه النظام كله.. بالمقابل، لم تكن كاتالونيا الصناعية العمالية المنطقة الوحيدة التي يثيرها اضطراب داخلي، فقد عرفت المقاطعات الزراعية الجنوبية، ولو على مستوى أدنى، محاولات تمردية ضد ملاك الأراضي الكبار وخاصة في أندالوزيا Andalousie لم تكن المهمة العاجلـــــة بالنسبة للثوريين سوى التنسيق بين هاتين الحركتين. أمّا الآن فان العمل السري يستغرق جهودهم كلها. فبينما كنت أشرب فنجــان القهوة الأخير كان باعة الصحف المسائية يعلنون نبأ اليوم: اغتيال أحد أرباب العمل في سان جيرفازيو.

* * *

في باريس التقيت بالرفيق الروسي الذي دبر لي، الرحلــة ستسنح لي الفرصة للكلام عنه في الصفحات اللاحقة، وللكلام عن اختفائه المبكر عن المسرح السياسي حيث لم يلعب سوى دور لا شأن له. عرض علي المخرج الذي تخيله: كان الحزب الاشتراكي الإيطالي قد قرر لتوه إرسال بعثة هامة إلى روسيا ويشترك فيها قادة الحزب والزعماء النقابيون الرئيسيون ستكون البعثة كبيرة إذن وسترحل دون صعوبات بجوازات سفر عادية وبكافة التأشيرات الضرورية. فالاشتراكيون هم الحزب الأكثر عددا في البرلمان، ونفوذهم واسع جدا في المدن والأرياف، وقد بدت الحكومة مستعدة لتسهيل رحلتهم، ولم يبق سوى الاستفادة من هذه الظروف لإرسالي ضمن البعثة. وهذا، في الواقع، بسيط، وقد بدا لي جميلا جدا، لذا اتفقنا على موعد في ميلانو.

لقد كان لي بالضبط الوقت الكافي للوصول، فقد استطعت اللحاق، في مودان، بالقطار الأخير المسموح له بالرحيل قبل إيقاف العمل – بعد أن أعلنت النقابة إضرابا. كان المجلس الوطنــــي للحزب الاشتراكي مجتمعا تلك الأيام في ميلانو. طلبت بورديغا الذي كنت افترضه قريبا جدا منا: انه قائد الشق الإستنكافي أو الممتنع، وهو يدافع بنجاح عن موقفه في أسبوعية تعبر عن هذا الاتجاه، «السوفيات». وقد أصر مباشرة، خلافا لما كنت أتوقع، علـــى الابتعاد بوضوح عنا. وشرح لي مطولا بفصاحة يحسده عليها في المؤتمرات المختزلون، انه ليس متفقا تماما معنا، وانه يعتبر النقابية الثورية نظرية خاطئة معادية للماركسية، وبالتالي خطرة. فوجئت بهذا الانفلات غير المنتظر، إلا أنني اطلعت جيدا على وجهة نظر هذه المجموعة المعادية للبرلمانية. قادونا فيما بعد إلى المنزل الشخصي «لسيراتي» (Serrati) مدير الـ Avanti – يوميـة الحزب – حيث كان يجري لقاء حميم وذو طابع مختلف. إن «سيراتــــي» هو أحد أكثر المتأثرين بمؤتمر زيمرفالد نشاطا، كما أن صحيفته الممتازة هي الأكثر إطلاعا حول الحركة الأممية ، وكان قد جاء إلى باريس أثناء الحرب حيث إلتقيته في مكتب ميرهايم، أيام كان هذا المكتب مكان لقاء جميع البلدان. كان موجودا هناك، عدا سيراتي ونائبين إيطاليين، بعض الهنغاريين والنمساويين، وروســي، وبلقانين: روماني وبلغاري، وفرناندو لوريو، الزعيم الاشتراكي للزيمرفلديين الفرنسيين الذي وصل في العشية، إنها عناصر مؤتمر أممي فعلي كما نرى.

إن هذا المؤتمر الصغير، والمؤتمرات من هذا النوع التـــي سوف أشارك فيها في طريقي إلى موسكو، هي، قبل كل شيء، اجتماعات لتبادل المعلومات. كان كل واحد من المشتركين يعرف بصورة عامة ما حصل في أوروبا والعالم، إلاّ أنه كان متشوقا ليعرف المزيد، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالأمم البلقانية وأمم أوروبا الوسطى التي هزتها الحرب، أكثر من غيرها، كما هزتها الحركات الثورية لفترة ما بعد الحرب، وليعرف كيف تطورت أوروبا الولسونية هذه... هذا العالم الخيالي لمثقف أميركـــــي ليبرالي، الأستاذ كالفاني، وكان رفاقنا البلقانيون من جهتهم متشوقين للمعلومات حول الحركة العمالية في أمم أوروبا الغربيــة الكبيرة. غير أن الانتباه تركز على إيطاليا، إذ أننا موجودون في ميلانو في وقت تمر به البلاد في وضع ثوري. وعندما طلبنا من «سيراتـــي» أن يقدم عرضا لذلك اعتذر، وطلب من النائب «ساسيــــــــردوس» أن يقوم بذلك. قدم لنا هذا نوعا من تقرير إداري أورد فيه عـــدد النواب الاشتراكيين، والبلديات الاشتراكية، والمناطق والمدن والأرياف المكتسبة إلى الاشتراكية، والنمو المطرد للنقابات، والاضرابات العامة التي تتدخل الطبقة العاملة بواسطتها في الحياة السياسية عندما يطرح أي موضوع هام. وكان هذا هاما، ومؤثرا ومشجعا إلاّ أننا كنا ننتظر شيئا آخر. وقد أدرك «سيراتــــي» ضرورة التعليق، فاستنتج من المعطيات الإحصائية التي دونهــا: «إننا نسيطر على المدينة والريف، ويستجيب العمال لنداءاتنـــا، وليس الفلاحون أقل حماسا ففي عدد كبير من القرى الريفيـــــة استبدل رؤساء البلدية، في بلدياتهم صورة الملك بصورة لينيــــن. إننا نملك قوة، ونملكها إلى حد لا يسمح لأحد بإنكار ذلك، والمشكلة الوحيدة بالنسبة إلينا هي استعمال هذه القوة» إنها في الواقــــع المشكلة الكبيرة لدى عمال جميع البلدان، إلاّ أنها مطروحة هنا بصورة أكثر إلحاحا من أي مكان آخر.

تعرفت في ميلانو إلى أشخاص جدد، بالإضافة إلى الذيـــــن كنت أعرفهم في السابق: الفوضوي ايريكو مالاتيستا، وسكرتير الاتحاد النقابي الإيطالي، أرماندوبورغي. إن مالاتيستا هو أحد الأوجه الساطعة للفوضوية، وقد اضطر أكثر من مرة للهرب إلى ايطاليا تخلصا من القمع إلا أنه كان يعود فيظهر عندما يصبح الوضع مناسبا – كانت عودته هذه المرة مفروضة على الحكومة المترددة أمام تهديد المسجلين البحريين بالإضراب – ويستعيد نشاطه كمـــــا لو أنه سافر في العشية. كنت أعرفه جيدا، وقد قرأت له منذ مدة طويلة عندما قابلته، للمرة الأولى، في لندن، حيث وجد ملجئا عندما كانت الحياة في إيطاليا لا تطاق بالنسبة له وقد عرفت الحركة التمردية التي كانت تهز إيطاليا بعمق عشية الحرب العالمية، كل مداها وأهميتها في «أنكون» (Ancone) حيث يصدر مالاتيستا مجلة أسبوعية Volonta وأصبح، هو وأصدقاؤه، سادة المنطقـــة المجاورة والمدينة لمدة أسبوع. وقد سحقت القوى الحكومية التمرد الذي ضايقه القادة الاصلاحيون، واضطر مالاتيستا مرة أخرى للهرب إلى ملجئه اللندني. عاد من ثم إلى ايطاليا في الأيام الأولى من 1920، وأقام في ميلانو، حيث أخذ يستعد لإصدار جريدة يومية «الإنسانية الجديدة» وقد ذهبت لرؤيته هناك. تتألف مكاتـــــب الجريدة من غرفة مربعة تتسع بالضبط لأربعة طاولات، واحدة في كل زاوية، يجلس إليها المحررون. كان مالاتيستا يعمل على طاولته وكان الجميع في غمرة تحضير العدد، فاتفقنا على موعد في المساء. وقد صحبت معي أرماندو بورغي من الاتحاد النقابي.

كان مالاتستا قد خصص مقالته للأممية الثالثة، وكان يطرح هذا السؤال: ما هي؟ كان يطرح السؤال بتعاطف وتأييد، غيـــــــــر أنــه لا يجب أن يطلب منه في هذه اللحظة أكثر من ذلك، إنه يريد في البداية أن يطلع قبل أن يقرر الانضمام. كان الحزب الاشتراكـــــــي قد انظم بلا تحفظ، وكان ينشأ بين المستجيبين لنداء موسكو نوع من التعاطف تخف بعده التناقضات القديمة. لكن مالاتيستا الذي يعرف جيدا قادة الحزب الاشتراكي الإيطالي يستطيع أن يتساءل كيف وافقت بعض عناصر الحزب وخاصة القادة الاصلاحيون ل
«Confederazione General del Lavaro»

على هذا القرار، وهذا التساؤل هو، بلا شك، أحــــــــــــــد أسباب انتظاره. إن الصراحة هي واحدة من الصفات التي يعطيها قيمة كبيرة، وقد كان هو نفسه غير جدير بإخفاء تفكيره أو التخفيف منه، وقد قدم الدليل على هذا أثناء الحرب عندما أخذ موقفا معاديا لكروبوتكين Kropotkine وللفوضويين الذين التحقوا بالحرب في مقال قاس بعنوان «فوضويو الحكومة»، ورغم أنه كان يكن إعجابا كبيرا للنقابة الثورية فإنه كان يصر دائما على أن يحدد أن النقابية والفوضوية مفهومان متميزان بالمقابل، لم يتأخر بورغي وتنظيمه النقابي الثوري عن الانضمام، فقد صوتوا على هذا القرار مثـل رفاقهم الاسبانيين ومثل أقلية الـ C.G.T. (الاتحاد العمالي العـــام) في فرنسا.

في اليوم التالي حدث حوار واسع مع «ايفان» (الاسم الـذي أطلقه على مرافقي) والشيوعي الروسي الذي إلتقيناه في اللقــاء الأممي عند «سيراتي» إنه يختلف اختلافا شديدا عن «ايفـــــان»، ولو أني لا أملك معلومات عن أصوله وسيرته السياسية فإنني أستطيع أن أتصور أنه ينتمي إلى هذه الفئة من المثقفين والتقنيين الذين أعادتهم ثورة أوكتوبر إلى العمل الثوري، والذين يمثل المهندس كراسين نموذجا كاملا لهم. وهو يعمل مع «سيراتي» في إصدار المجلة الشهرية Comunismo، ويقول: «تسبب لي المجلة عملا شاقا، إذ يتوجب علي أن أفعل كل شيء، ولهذا لم أستطع الذهاب إلى أي حفل موسيقي منذ أن جئت إلى هنا!»

ظهر سريعا خلال نقاشنا أن الحيلة الرائعة المتخيلة لتسهيل رحلتي قد سقطت وذلك بمجرد أن تكلمنا عنها بصورة محددة. فالاشتراكيون الإيطاليون، لأسباب عديدة، غير مستعدين إطلاقا لأن يعرقلوا أنفسهم بي، فهم ينتظرون أن يرحلوا كمواطنين محترمين ومزودين بجوازات سفر موثوق بها، ليصلوا إلى موسكو كزائرين في ThosCook أصبح من الواجب إيجاد طريقة أخرى. وكان البديل المرتجل يتضمن انعطافا طويلا عبر فيينا، مع توقف في البندقية حيث يجب على «ايفان» أن يوافينا.

عدنا والتقينا، إنما في ظروف أوحت لي بشكوك جدية حول مؤهلات ايفان كمنظم لرحلات سرية. إذ انه لم يصل في القطار الذي اتفقنا عليه ولا في الذي يليه، ولم نشاهده سوى في منتصف اليوم الثاني، وصدفة، أثناء نزهة عبر المدينة وكان واقفا يتابع سيــر غندول في القنال الكبير.



--------------------------------------------------------------------------------

3- أول أيار في فيينا


تعين الحدود النمساوية بوضوح الانتقال إلى أوروبا الأخرى، وكان من الضروري صرف صباح بكامله للانتهاء من الرقابات، والتحقيقات، والزيارات التي لا تـنتهي. كان القطار مؤلفا مـن قاطرتين تكدسنا فيهما، وأخيرا أقلع. كانت مشيئته توفر لي الوقت الكافي للإعجاب بالمنطقة الرائعة التي كنا نجتازها لولا طلاقة لسان رفيقي، فقد كان ثرثارا روى لي كل أنواع القصص، وهي قصــص لا يخلو بعضها من فائدة، اعترافه لي مثلا باحترامه لكروبسكايـــا. لقد عمل في سويسرا سنوات طويلة، وكاد ينغمس في حياة لهـو سخيفة لو لم تنقده كروبسكايا بنصائحها العاقلة، وبالتأثير الخفــي الذي تمارسه رفيقة لينين على كل من يقترب منه، خاصة إذا ما تذكرنا بساطة حياته.

إلاّّ أن هذا كان مجرد استثناء، إذ انه كان يكذب ببلاهــة: «لاتزال المجاعة موجودة فر روسيا، إلاّ أن كل ما نجده هو من الطراز الأول» في حين أنه كان يعرف أنني سوف أجد هناك خبزا رديئا أسود. كان هذا كريها، فقد كنت أتوقع أن تكتفي روسيا السوفياتية بمبعوثين ثقاة، إلاّ أن اكتشاف هذا البلشفي ترك فــــي نفسي انطباعا سيئا. فحول المسألة التي يعرفها أكثر مني، والتـــي كان يمكنه الكلام عنها كلاما ذا فائدة، كان يبدو شديد التحفظ. ففي المؤتمر الذي عقده الحزب الشيوعي الألماني الشاب، في أوكتوبر مؤتمر هايدلبرغ – انشق الحزب حول البرلمانية والتنظيم النقابــي. فقد أعلن قسم محترم من المندوبين، وبقوة، أنهم ضد أية مشاركـــة في العمل البرلماني، ومع ترك النقابات الإصلاحية التي اقترحوا استبدالها بتنظيمات عمالية جماهيرية جديدة. اصطدم هؤلاء المندوبون بقيادة متصلبة، وأبعدوا عن الحزب، إلاّ أنهم سرعــــــان ما أسسوا حزبا آخر. الحزب الشيوعي العمالي الألماني. لم أكــن أملك حول هذا الموضوع سوى معلومات عامة وملخصة، وكان بودي معرفة المزيد، إلاّ أن «ايفان» كان يتهرب عندما أسألــــــه، فهو يعرف أنني، كنقابي، معاد للبرلمان، ويخاف جدا أن أتأثر بهذا الانشقاق.

كان الوضع في فيينا، هذا الربيع من 1920، رهيبا. البؤس المنتشر في كل مكان يؤذي من يراه، ويتجلى هذا البؤس في الثياب الممزقة وفي الإنهاك الجسدي الظاهر على أجساد العاملين، وفي واجهات المحلات ذات الصناديق الفارغة. ما أن انتهت الحــرب حتى سارع المهربون من كل مكان لنهب عاصمة الإمبراطورية الكبيرة المنهارة، وكان الإيطاليون، بحكم قربهم، أول الواصلين، وكـــان يزيد من تمتعهم كونهم يسرقون «العدو الوراثي». كان كل ما نراه ونسمعه موجعا.

كانت الأيام الثلاثة التي قضيناها نسخة من إقامتنا في ميلانو: اجتماع أممي صغير وزيارة لفوضوي معروف جدا. كان الهنغاريون يسيطرون هنا على الاجتماع، وهم الذين نجحوا في الهرب عندما انهارت الجمهورية الشابة أمام هجوم مرتزقة الحلفاء الرومان، والذي كان من نتيجته أسر بيلاكون Belakun كان موجودا بينهم الاقتصادي أوجين فارغا الذي يملك بعض المعلومات عن فرنسا، وقد سألني أسئلة متعددة بينها، واحد عن فرانسيس دولايزي وكتابه «الديموقراطية وأصحاب الأموال» الذي يؤكد فيه أن سادة فرنسا، ليسوا الحكام «الديموقراطيين» بل الحكام هم أصحاب الأموال، هذا العدد الصغير من الرجال الذين نجدهم في المجالس الإدارية لكل المشاريع الكبرى – هذا ما أصبح فيما بعد، أيام الجبهة الشعبية، موضوعة «المئتى عائلة» عرف هذا الكتاب الخفيف والسطحي بعض النجاح في فرنسا، وتجاوز الحدود كما أتضح لي الآن. تصدر هذه المجموعة الشيوعية في فيينا مجلة Kommunismus إلا أنها على عكس Comunismo ميلانو، ذات اتجاه «يساري» كمـا أن تحريرها أكثر طرافة وشخصية وأقل ارتباطا بالمواقف المعتبرة إذ ذاك رسمية.

كان الفوضوي الذي زرته فيما بعد مختلفا تماما عن مالاتيستــا إنه رجل مكتبات بالإضافة إلى كونه رجل نشاط. وكان قد كـتــب، بين كتابات أخرى، كتابا حول باكونين دون أن يجد له ناشرا، أو أنه لم يحاول أن يبحث لأنه ذو عنفوان متشكك ويكره التوسل، فاكتفى بأن طبع منه عددا محددا مخصصا للمكتبات الكبيرة حيث يكون بمقدور البحاثة والمؤرخين والدارسين مطالعته. لقد أثرت عليه سنوات الحرب الطويلة تأثيرا قويا بالتحريمات التي تفرضها وبإجباره على عدم الخروج من النمسا. لم يكن غنيا، إلاّ أنه يملك مصادر كافية ليعيش على سجيته متجولا من مكان إلى آخر طالبا الانشراح وملبيا حاجات الأبحاث التي تفرضها أعماله. وكان قد جمع حول الحركة العمالية بصورة عامة، وحول الفوضوية بصورة خاصة، عددا هاما من الأعمال التي كانت موجودة في مستودعات مدن عديدة كان هذا هو اهتمامه الكبير. عندما وصلت إلى منزله كان مشغولا في تحضير عشائه: صحن فاصولياء.. وإذا كنا خارجين سوية لاحظت أن ثمة شيء ما على قبعته، فقال لي: «هذا بغية عدم نسيان توزيع السجائر، إذ أنني لا أدخن وأبادل السجائر ببعض الغذاء» تلك كانت الحياة في فيينا، في شهر نيسان 1920 وهذه هي الحالة التي أصبح فيها رجل حر بفضل الحرب ومحروماتها.

ذات مساء، إذ كنا نتنزه في ضاحية فيينا استوقفنا نيتلو وقال بلهجة تشوبها المرارة: «من هنا يمكننا أن نرى ما يسمى تشيكوسلوفاكيا» لقد كان موقفه من الحرب مثل موقف كروبوتكين، إنما مقلوبا، فهو مع الدفاع عن الحضارة الجرمانية ضد البربرية الآسيوية. توقفنا في إحدى الحانات التي يقصدها الناس العاديــــون كل نهار أحد، إلاّ أن الزبائن كانوا قليلين، وقد كفى كأس نبيذ أبيض وبعض حلوى لتغيير وجه صاحبنا، فتوردت خدوده وحل محـل تحبير الحزن والتعب الذي لم يفارقه نوع من الحيوية.

كنا وصلنا في أول أيار، وكانت المظاهرة التقليدية مؤثرة إذ انها ارتدت طابعا أمميا بمشاركة الإيطاليين والهنغاريين فيها. وكان الهنغاريون، رغم كونهم مهزومين، يؤثرون بقوة، إذا كانوا ينشدون «الأممية» بوقع دقيق، ومختلف تماما عن الغناء الرتيب العادي، ترافقه مشية إيقاعية.


--------------------------------------------------------------------------------

4- تشيكوسلوفاكيا مازاراك


تقدم براغ نقيضا مطلقا لفيينا: ففيها حلت الوفرة محل البؤس والفرح محل الحزن، تفيض المخازن بالمؤن، وتولد الدولة الجديدة بالقدر الذي استطعنا فيه أن نلاحظ ذلك في يوم واحد، ضمن شروط ملائمة جدا. والود الذي يبديه الأهلون للفرنسيين يصل إلى حد الإزعاج، إذ لا يمكنك منع أحد الشبان التشيكيين من الاستيلاء على حقيبتك ووضع نفسه تحت تصرفك ليدلك على المدينة. ورغم أني لم أتأثر أبدا بمطالب الاستقلال القومي، فلقد وجدت أن لهذه الحيوية المرحة التي تبديها هذه الأمة الشابة جانبا لطيفا. كان التشيكيون والنمساويون يصطدمون في كل شيء، حتى داخل المؤتمرات العالمية، ويخلق اصطدامهم الحاد، كاشتراكيين ونقابيين، منازعات كثيرة، إلاّ أن التشيكيين المطالبين بتمثيل قومي مستقل، يستطيعون بعد اليوم العيش كجيران طيبين.

إلاّ أنه ليس من الضروري البقاء طويلا في براغ للشعور بشكوك جدية حول هذا الموضوع. فالصراف الذي قدمت إليه عملة نمساوية أعادها لي باحتقار قائلا أنه لا يتلقى عملة من هذا النوع.. في فيينا قمنا بزيارة لسكرتيرة الفرع النمساوي للرابطة الأممية للنساء من أجل السلم والحرية، وقد ناضلت في سبيل أفكارها رغم كل المخاطر، أثناء الحرب، رغم الضيق النمساوي والتقسيم السخيف الذي جعل النمسا أمة غير قابلة للحياة، مخلصة لأمميتها المسالمة. إلاّ أن المرأة التشيكية التي أرسلتنا إليها لا تشبهها في شيء. فزوج هذه الأخيرة يحتل مركزا مرموقا في الدولة الجديدة – إذ أنه كان يوجد مناصب عديدة شاغرة بعد التحرير، وكانت هي نفسها تدير مؤسسة حديثة: وليس مطروحا بالنسبة إليها المشاركة في نشاط أممي.

كان التشيكيون فخورين برجلي الجمهورية الكبيرين: مازاريك وبينيس، وبالإعجاب الذي يكنه ويلسون لهما، وكانوا يتكلمون عن الثورة الروسية بنفور واحتقار: سوف تظهر تشيكوسلوفاكيا للعالـــم ما هي الديموقراطية الحقيقية. يمكن التصور، بواسطة هذا المثال، شوفينية التشيكي العادي. تتضمن الدولة الجديدة عددا من الأقليات القومية، ليس أقل مما كان في النمسا القديمة، ويخشى ألا تعاملها بصورة أفضل.

كانت براغ شيئا مختلفا تمام الاختلاف: لم يحصل فيها، كمــــا في ميلانو وفيينا، اجتماعا أمميا، إذ لا توجد أسباب تدعو الشيوعيين للمجيئ إليها، في حين يوجد أسباب تدفعهم لتجنبها. كان مازاريك، الكبير – عدائيا حيال البلشفية وثورة أوكتوبر، كما ان المساجين التشيكوسلوفاكيين الذين سمحت لهم الحكومة السوفياتية بالعبـــور عبر سيبريا وفلاديفوستوك تحولوا فجأة ضدها وانضموا إلى كولتشاك. لم أستطع سوى تدبير لقاء مع الصحفيين الاشتراكييــن. كان هؤلاء ينتمون إلى اليسار وكان الصراع محتدما داخل الحـزب، فالقادة يريدون المحافظة على الائتلاف الذي تحقق أثناء الحرب بين البرجوازية الوطنية – مازاريك، بينيس – والحزب الاشتراكي الديموقراطي، رغم نقد معارضة قوية تطالب بالانفصال والعــودة إلى سياسة الصراع الطبقي الاشتراكية (تم الانشقاق بعد بضعة أشهر في أيلول 1920، وأسس الجناح اليساري في الحـــــــــزب الاشتراكي الحزب الشيوعي الذي انظم إلى الأممية الثالثة في أيار 1921). لقد ذهلت للطريقة التي تحدث بها هؤلاء الصحافيون عن بوهومير سميرال Bohumir Smeral – الذي سيصبح زعيم الحزب الشيوعي، وهو انتهازي أكيد، وقد برهم على ذلك عندمــا كان نائبا في البرلمان أيام حكم آل هابسبورغ. لقد كانوا محرجين، دون أن يستطيعوا لإنكار إعجابهم بحنكته كسياسي داهية. ورددوا مرة أنه«لا يمكن فعل شيء بدون سميرال» كما لو أنهم يجيـبــون على اعتراض حاضر أبدا.



--------------------------------------------------------------------------------

5- كلارا زيتكين – شليابنكوف، تظاهرة ضخمة في برلين


في برلين وجدنا «إيفان» الذي فقدناه تماما منذ فيينــــــا، إذ وقعت له مصاعب غير منتظرة على الحدود التشيكوسلوفاكية المحروسة أفضل مما كان يعتقد. كانت زيارتنا الأولى لكلارا زيتكين وهي تسكن عادة في شتوتغارت وتحتفظ بمسكن صغير في برلين بالقرب من Potsdamerplatz وتسهر سكرتيرة شابـة علــى راحتها: «لا تجعلوها تتكلم كثيرا، فهي تعبة في هذه اللحظة» غــير أن هكذا طلب لا يوجه إلينا، ف كلارا زيتكين تتكلم باندفاع ليس من السهل وقفه. قدمت لنا عرضا مثيرا للاهتمام للوضع العام فـــــي البلاد وللحياة الداخلية وبمختلف الأحزاب الاشتراكية، وهو عرض قريب من أسلوب خطابات الاجتماعات العامة، أي أنه لم يصل إلى عمق الاختلافات بل بقي في العموميات، وثم، عندما أردنا الانسحاب صرخت بنا«أتعرفون، إن لجسمي مقدرة مذهلة على التمــــــدد، وذلك بلا شك، لأن الدم الفرنسي يجري في عروقي!».

نصحتنا كلارا بأن نرى بول ليفي الذي يقود، معها، الحزب، والمنخرط أكثر منها في حياته الداخلية. لم أكن أعرفه، إلاّ أن شيوعيا هولنديا كنت قد إلتقيته وهو على إطلاع واسع على الحركة الاشتراكية الألمانية، رسم لي صورة عنه. إنه محام، ابن مصرفي، غني نوعا ما، يسكن شقة مريحة، وقد عاش في سويسرا أثناء الحرب وتقرب من لينين والبلاشفة، وشارك في مؤتمر كينتال، وناضــــل منذ عودته إلى ألمانيا، إلى جانب كارل ليبكنيخت وروزا لوكسمبورغ وكان في الوقت نفسه محاميها. إنه رجل مثقف، مطلع، جديــر بتحاليل لامعة، إنما عاجز عن الاستنتاج وحتى عن صياغة النتائج الطبيعية لتحاليله. ويبدو أن أصوله وطريقته في العيش تمنعه مـــن أن يصبح قائد حزب عمالي ثوري. وإذا كانت كلارا زيتكين قد بدت متفائلة وملأى بالحماس، فإنه كان متشائما ونواحا. وكـــان الشيوعيون الذين قاوموه في هايدلبرغ خصمه اللدود، كان معقدا منهم، كما أن النزاع بينهم يأخذ طابعا شخصيا. فهو يـــرى أن النقابيين ليسوا رفاقا أكيدين من الوجهة السياسية إذ يمكن لهم أن ينجذبوا نحو العداء للبرلمانية الذي يمثله الحزب الشيوعـــــي العمالي. حاولنا أن نتكلم في أمور أخرى لأن النقاش أصبح مضنيا ومستحيلا، ويعود باستمرار إلى هذا التعارض المخيف.

توقفت البعثة الإيطالية، التي تركت ميلانو بعدي بقليل، في برلين. وكان الشيوعي الروسي الذي وجدته لدى سيراتي هنــــــــا وقد طلب مني أن أذهب لأراه. وإذا كنت ذاهبا إلى العنوان الذي أعطاه لي التقيت صدفة بسيراتي. «لقد رجوني أن أنتظر فــــــي الشارع. هذا سخيف. أنا لا أجازف بشيء فمعي جواز السفــــــــر، أمّا هو.. ما هذه الطرق التآمرية الخاصة» وكان يتحرق غيظـــا عندما أتوا لأخذنا. والغريب في الأمر هو أنهم يكونوا يملكـــــــــون ما يقولونه لنا، باستثناء بضعة نصائح سطحية من أجل بقية الرحلة.

التقينا في برلين بمسافرين آخرين يقصدون موسكو، وكانوا ينتظرون، مثلنا، اكتشاف طريق ممكن. وبينهم انجيل بيستالنــا Angel Pestana سكرتير الاتحاد الفوضوي – النقابي الاسباني، والبلقانيون الذين رأيتهم في فيينا، وفي يوم آخر التقينا ببلغاريين ثلاثة بينهم كولاروف، وهم شيوعيون من نمط جديد من حيث مسلكهم وثيابهم، ويشبهون الأغنياء والتجار الموسرين: لا خطر من أن تستجوبهم الشرطة أثناء المداهمة. إلاّ أنهم يدعون الانتماء إلى البلاشفة، ويدافعون عن الاشتراكية والصراع الطبقي. أمّا في الحقيقة فلم يكن ذلك أكثر من نزاع بين جيسد وجوريس كما سوف تظهر التجربة. اتصلنا بعدد كبير من مناضلي الشبيبة الشيوعيــــــــــة، كانوا جميعا لطفاء ومتحمسين. وكانت لهم مآخذ على قيادة الحزب ومأخذ ضد الأممية الشيوعية أيضا – إلاّ أنها ليست مآخذ الحزب الشيوعي العمالي الألماني، فهم يأخذون عليها بشكل خاص أنهــا ليست ثورية كفاية.

كنا في الوقت الذي غزت فيه، مرة أخرى، بولونيا بيلسودسكي Pilsudski أوكرانيا وحاولت إلحاقها بها. لقد كان العــــدوان صريحا إلى حد دفع بحكومة لويدجورج إلى رفض كل مساعدة لبولونيا، وقاد قادة الأممية الثانية إلى الطلب من فروعهم فضح المغامرة بواسطة اجتماعات عامة، ومن النقابات الامتناع من نقل وشحن المؤن نحو فرصوفيا. ونظمت الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الألمانية مجتمعة تظاهرة في برلين. وكان مكان تجمع المواكب الساحة الكبرى الواقعة في وسط المدينة بين القصر الإمبراطوري القديم والكاتدرائية والمتحف، ولبت جماهير غفيرة هذا النداء وتجمعت، حسب انتماءاتها، أمام حوالي عشرة منصات وكانت الخطابات كلها تطور موضوعة واحدة وتردد لهجة واحدة، لقد أيقظ بيلسودسكي الكراهية الكافية لدى الألمانيين حتى الاشتراكييــــــن منهم حيال البولونيين، وكان للألمانيين مأخذ جديد على البولونيين، انه مأخذ «الرواق» الذي منحته معاهدة فرساي لبولونيا والذي يقطع ألمانيا إلى قسمين منفصلين. وساعة انتهاء الاجتماع دوى صوت بوق، وتمت قراءة قرار والتصويت عليه في الوقت نفسه وفي كل الأمكنة في ظل الهتافات. وانتهت الخطابات معا في كل المنصات باستثناء منصة الشبيبة حيث إستمرة الخطابة حتى بعد إنـــــذار البوق، وأخيرا انتظم هذا الموكب وسار في خطى حثيثة على وقع نشيد الأممية...

كان شليابنيكوف [4] ذلك الوقت في برلين، وكان قد قدم إليها بصفته مندوبا للـ C.G.T. (الاتحاد العمالي العام) في روسيا إلى مؤتمر نقابة عمال المعادن الألمان ومدد إقامته مستفيدا من هذه المناسبة النادرة لجمع الحد الأقصى من المعلومات حول هذا الغرب المقطوع عن موسكو، وليسأل المسافرين المتلهفين لإكمال طريقهم والمضطرين للبقاء في برلين. أعطاني موعدا في مقر النقابة وجعلني أنتظر طويلا قبل أن يأتي، إلاّ أنه عندما وصل كان مغتبطا حدا وقال لي ضاحكا: «أتعرف من كان في مكتبي؟ كاشين وفروسار». ولم يكن هذا بالنسبة لي تعويضا عن الانتظار ولا سببا للاغتباط. فكاشين هو مدير «الإنسانية» Humanite، وفروسار هو سكرتيـــــر الحزب الاشتراكي الذي قرر في مؤتمره الأخير المنعقد في ستراسبورغ إرسالهما إلى موسكو «للإستعلام» قبل تقرير الانضمام إلى الأممية الثالثة، مكتفيا بالانسحاب من الأممية الثانية. لم أكن أستلطف لا الأول ولا الثاني، فكاشي رجل لا شخصية له وقد كان شوفينيا متعصبا في بداية الحرب كما قان بمهمات لدى موسوليني بتكليف من الحكومة الفرنسية، ومن ثم سار مع التيار وأخذ يدعــي أنه بلشفي رغم أنه أدان في مقالاته انتفاضة أوكتوبر وأنه يكن، في أعماقه، كرها شديدا للبلاشفة. أمّا بالنسبة لفروسار فيكفي هنا أن نقول أنه نسخة فقيرة من برياند، وقد ابتدأ متعاطفا مع الزيمفرالدييــن لينتهي وزيرا لدى لافال وحتى بيتان، وسوف نعود فنلتقيه في سياق هذا البحث.

لم تكن الإقامة معدومة الأهمية إلاّ أنها طالت كثيرا ولم نكن نملك لتهدئة قلة صبرنا سوى المحادثات بين المندوبين، إذ كان يصل باستمرار مندوبون جدد. في مقهى باور كانت القهوة رديئة إلاّ أننـا كنا نجد فيه صحف كافة البلدان، استقبلت مجموعتنا الصغيرة بسرور الإشاعات التي تدل على قرب الرحيل. لقد نظمت الشبيبــــــــــة مسألة العبور، فسنقوم بدورة عبر اسكندينافيا وصولا إلى مورمانسك إلاّ أنها أمل خائبة، واستمر الانتظار، وأصبح من الضروري الرضوخ والاهتمام بالمدينة، وبمحاولات ماكس رينهاردت المثيرة للاهتمام في هذا السيرك الواسع حيث يقدم عرضا متنوعا، من Tisserands إلى «اورفه في الجحيم» ويكون العرض جميــلا عندما تتوافق القطيعة مع الإطار، كما بالنسبة ليوليوس قيصر. لـم أكن أحب تقديم Tisserands التي سررت بها مسبقا عندما قدمها أنطوان على مسرح صغير في باريس. وفي Lessinger Theater كان إخراج وتمثيل Peer Gynt ضعيفا. كما أننا استمتعنا في الأوبيرا بأمسيات حلوة عزفت فيها الحان فاغنر. بالإضافة إلى ذلك قمنا بنزهات خارج المدينة نحو البحيرات الموجودة داخل الغابات واستطعنا الوصول إلى بوتسدام بواسطة الباخرة.



--------------------------------------------------------------------------------

6- من ستيتين إلى ريفال (تاللين)


أخيرا، أخطرنا فجأة، بيستينا وأنا، بأنه يجب علينا الانطـــلاق بلا تأخر، كان ذلك في ساعة متأخرة من الليل، وكان من الواجب علينا أن نستقبل في الصباح أول قطار إلى ستيتين. ومر كل شيء بالطريقة الأكثر بساطة في العالم – باستثناء النهاية حيث طرأت عقبة غير منتظرة، سافرنا في باخرة رائعة أوصلتنا إلى ريفال (التي أصبحت تالين)، واستمتعنا بالتسكع على الجسر، وبمآكل طيبة بعد «الريجييم» الذي فرض علينا في فيينا وبرلين، ولم يزعجنـــــــا سوى رؤية مسافرين آخرين سريين، الإنكليزي مورفي والأميريكي فرينا، يجازفان بالخروج من عنبر الفحم ذات مساء، حيث أرغما على البقاء. ورغم أن لا علاقة لي بالأمر فقد استمر مورفي حاقدا علي.

كانت الرحلة ممتعة والبحر هادئ طوال ثلاثة أيام، أمّا في ريفـال فكان الصباح سيئا. كانت جوازات سفرنا جيدة ومقبولــة إلاّ أننا لم نكن قد طلبنا تأشيرات الدخول الاستونية في برلين، ولذلــــك تم عزلنا عن بقية المسافرين واقتيادنا إلى مقر الحكومة. لقد اتفقت الايديولوجية الولسونية وإرادة التضييق على روسيا السوفياتيـــة لجعل الدول البلطيقية أمما مستقلة، ويترافق مع هذا الإنبعـــــــاث، كما رأينا في تشيكوسلوفاكيا، شوفينية تتزايد بقدر ما تكون مساحة البلاد صغيرة وهنا جاء وزير الخارجية بنفسه يتهددنا ويتوعدنا ويصرخ قائلا: «يريدون عدم الاعتراف بنا، إلاّ أننا لن نسمــــــــح لهم بذلك!» وعندما حاولنا أن نشرح له، بالتواضع المناســــــــــب، أن هكذا فكرة بعيدة جدا عنا لم يؤد ذلك إلاّ إلى استثارته وجعله يصرخ بصوت أعلى: «لقد قررنا فرض احترام الآخرين لنا!» كان رجلا صغير القامة وقد أخذ يذرع غرقة مكتبه ملوحا بيديه ورافعا صوته بقدر ما يقترب منا. كان ذلك مشهدا سخيفا وحتى مضحكــا، إلاّ أننا لم نكن في وضع يسمح لنا بالحكم على ذلك، إذ إننا كنـا نتساءل عما إذا سنفشل ببلاهة على مقربة من المرفأ. وأخيـــرا، دعينا إلى الانسحاب ريثما يدرس وضعنا على أن يتم إبلاغنــا بالقـــرار.

ذهبنا إلى البعثة السوفياتية نقص حكايتنا. كان الوزيـــــــر جالســا إلى طاولة مع عائلته ومساعديه. دعونا إلى الجلوس والأكل على أن نتكلم عن مغامرتنا في نهاية الغداء. وقادتنا إحدى السكرتيرات إلى مكتبها حيث يتوجب علينا أن ننتظر قرار الحكومة. ومضت الساعات، وكان بيستانا قد وجد موضوعا للحديث، وهو موضوع يسر دائما لتوسيعه: الوضع الحالي في اسبانيا الأكثر ملائمة أكثر من أي وقت مضى لقلب النظام الألفونسي، فالتحـــــرك الثـوري لم يعد محصورا في كاتالونيا، بين العمال، إذ إنه أخذ يتطور في المناطق الزراعية في الجنوب الخاضعة للنظام الإقطاعي، فالفلاحون يتمردون وحركتهم تتوسع إلى حد جعل الربط بين الحركتين لا ممكنا فحسب بل ملحا. وكانت السكرتيرة تبدو مهتمة بهذا الموضوع الذي قطعه المجيء المفاجئ لرسول يحمل خبرا مشجعا، لم يكن القرار الحازم قد اتخذ بعد إلا أنه يبدو أن المعارضة أخذت تضعف، وقد اسرعت السكرتيرة في الاختفاء مما دفعنا للاعتقاد بأنها لم تكـن مهتمة بالمشاكل الاسبانية بالقدر الذي جعلتنا نفترضه.

قضينا صباحا كاملا في اجتياز استونيا، من ريفال إلى الحدود، لا لأن المسافة تفرض ذلك بل لأن سكة الحديد كانت في حالة سيئة في أكثر من مكان، فثمة جسر لم يكد ينتهي إصلاحه يقضي المرور عليه بذل احتياطات جدية. لم يكن قد مر زمن طويل على مرور ايدونيتش من هنا... أوقفوا أيضا في نورفا بسبب شكليات الخروج ووصلنا أخيرا إلى روسيا السوفياتية في ايامبورغ. قفزنا جميعا بحماس من القطار وأسرعنا عبر الطريق نحو بناء المحطة. شكلنا مجموعة صغيرة جدا لأن المندوبين، الذين لم نكن قد رأيناهم بعد، ظهروا فجأة، وأثار الفرح الذي شعرنا به أكثر الناس هدوءا ووجد تعبيرا عن نفسه في عناق عام.

كان الاحتفال الذي جرى في المحطة بسيطا جدا، فعلــى الجدران لم يكن ثمة ديكور سوى صور كبيرة أربع: لينين، تروتسكي، زينوفييف، لوناتشارسكي. وعاد الشيوعيون الروس الذين جاؤوا لاستقبالنا، معنا، مما حول قاطرتنا وبسرعة إلى ناد للنقـــــــاش. وكان فرينا فخورا بأن يرينا كتبا ضخما، مجموعة مقالات لينين وتروتسكي، كان قد جمعها ونشرها واستطاع أن يحملها معــــــــه إلى هنا، وهذا شيء جدير بالثناء طبعا. حاول شيوعي روســــي جاهدا إقناعي بالمسألة البرلمانية، وكانت ذريعته في ذلك ترجمة الموضوعات التي لم يكن يملك منها سوى النص الإنكليزي. وقد اجتهد كاتب هذا الموضوعات، كما يبدو بوضوح، أن يصــــــوغ عددا من الأحكام المحددة لا يعود بالامكان لأي من أعضاء الحزب، إذا ما انتخب ذات مرة، أن يتهرب من نظام الحزب ويمارس سياسة شخصية مستخدما نيابته لينجح في مهنته، كما يوجد أمثلة عديــدة على ذلك. عندما أنهيت قراءتي أبدى عدد من جيراني ارتياحهم وفوجئوا برؤيتي غير مهتم، فسألوني «ألا تجد هذا النص ممتازا؟» أجل، إنه جيد جدا، إلاّ أننا نكون قد قمنا بالثورة في فرنسا قبل أن ننجح في فرضه، فجماعة ميلليران وبرايند يضحكون من النواب الأكثر حزما ويقدمون درسا يستفيد منه كل من يريد تقليدهم. وهنا عاد النقاش فاحتدم، وتدخل رفاق آخرون، وخف الأصدقاء الروس للنجدة. «إذا كنت تجد هذا النص غير كاف فاقترح تدعيمه، وثـــــق أن تعديلاتك ستعتمد.»

أصبحت الرحلة سريعة الآن بفضل هذه النقاشات المرتجلة القافزة من موضوع إلى آخر، وأخذنا نستمتع برؤية المنظر، منظر روسيا الجديد المنتقلة فجأة من القيصرية المباشرة إلى الثورة المحررة التي تتعلق بها أنظار الثوار في كافة بلدان العالم. عندما استطعت أن أهرب من النقاش للحظة صغيرة، التقيت في الممر بصحافية إنكليزية تراسل، كما قيل لي، الدايلي نيوز، وهي جريدة ليبرالية يومية كانت قد استخدمتها مرارا للحصول على معلومات هامة حول روسيا السوفياتية. ما أن رأيتها حتى دخلت في موضوع الأممية الثالثة، وفي المؤتمر الذي ستعقده قريبا. إلاّ أن رفيقا روسيا فرقنا بصورة خفية، وبعد أن استفسر عن الأسئلة التي طرحتها علي قال لي: «تجنبها، إنها مشبوهة بالنسبة إلينا، لقد جاءت إلى هنـــــــا بعد أن أمضت فترة في بولونيا، كما أن الاهتمام الذي تبديه بالأممية الثالثة يزيد عن اشتباهنا بها. – ولكن لماذا تدعونها تدخل؟ - لأنــه ثمة مصلحة كبيرة بالنسبة إلينا في كشف الجواسيس، فالحكومات البورجوازية تعسى لإدخال عملاء إلى داخل الأممية الثالثة، بالإضافة إلى ذلك، وخاصة، يجب علينا الحفاظ على أمن المندوبين الذين جاؤوا إلى هنا بصورة غير شرعية».



--------------------------------------------------------------------------------

7- بيتروغراد – زينوفييف


وصلنا إلى بتروغراد في بداية السهرة، وهي واحدة من السهرات التي لا تنتهي، إذ أننا كنا في عصر ليالي السهر. وكنا قد قمنا بتجربة ذلك على الباخرة. لم تكن الألغام قد انتزعت بعد بالكلية من خليج فنلندة ولذا اقتربت الباخرة بحذر من الشواطئ. كــــــــان كل شيء غريبا، الانتقال عبر جزر الأند والمشية البطيئة للقطبان الذي يقودنا، والليل الذي لا يأتي.. لم يكن بوسعنا تقرير الانتقال إلى غرفتنا للنوم فيها. وحدث الأمر نفسه في بتروغراد. فما أن وصلنا إليها حتى أسرع «إيفان» حاملا معه نصا توجب علي إصلاحـه فورا. كان هذا، حسب رأيه، نصا رائعا، كما أنه كان متأكدا مـــــن أني سأسر لدى قراءتي له. وقد قلت له، وأعدت، أثناء مناقشاتنــــــا أنه يبدو لي مستحيلا بناء حزب شيوعي بواسطة قادة الحزب الاشتراكي، خاصة أولئك من نمط كاشين، الذين تخلوا عـــن الاشتراكية وخانوا العمال في الساعة العصيبة، وتحولوا إلــــى شوفينيين متعصبين، وإذا ما كانت ثورة أوكتوبر قد هزتهم فليـــس ذلك لأنهم تملكوا أنفسهم بصدق، بل لأنهم يريدون البقاء في قيادة الحزب. لم يكن النص العتيد سوى رسالة مفتوحة لأعضاء الحزب الاشتراكي الفرنسي تذكر وتدين بصراحة وبدون نسيان أي شيء جحود قادتهم، وهكذا يصبح متوجبا على المؤتمر مخاطبة الطبقة العاملة من فوق رأس قادة الحزب. ويبدو واضحا أن الرسالة «تحضر» لعودة كاشين وفروسار إلى فرنسا. لم أستطع أن أحنق حول هذا الموضوع خاصة لأني كنت أريد الاهتمام بشيء آخــــر. وقد وصل فيكتور سيرج في الوقت المناسب لإنقاذي قائلا: «دع عنك ذلك، إنه من اختصاصنا».. كان من الفوضويين الذين أجابـــــــوا على نداء ثورة أوكتوبر والأممية الثالثة. كان قادما من بعيد إذ انه انتمى في شبابه إلى التيار الفوضوي الفردي، غير أنه مر بتجارب قاسية. عندما اندلعت الثورة في روسيا كما هو في اسبانيا، وأسرع بالرحيل آملا الوصول إلى بيتروغراد عبر فرنسا. غير أنه أوقف وسجن في إحدى المعسكرات. واستطاع أخيرا الوصول إلى بيتروغراد بعد أن التحق بقافلة من المعادين. عين في تحرير مجلة الأممية الشيوعية حيث تجد معرفته للغات ومواهبه ككاتب ومشاركته في الحركة العمالية في بلدان مختلفة مجالا للتوظيف. وكان بالنسبة إلينا أفضل الأدلة. وكانت الأسئلة تنهمر عليه من كل مكان إذ اننا كنا نملك الكثير منها لطرحها عليه، أما هو فكان ملتهفا ليعرف أين أصبحت ديموقراطيات الغرب، إذ أن الاتصالات لا زالت صعبـة، كما أن الصحف لا تصل بانتظام، بالإضافة إلى كون المراســــــلات لا تستفيد سوى من ظروف استثنائية. ويكفي مثل واحد ليبين مدى ندرة المواصلات وصعوبة الإطلاع الدقيق. في الوقت الذي استطاعت فيه «الحياة العمالية» - وكانت تمثل آنذاك الاتجاه النقابي الثوري المنضم إلى الأممية الجديدة – أن تعود إلى الصدور، ظهرت أسبوعية جديدة تحت العنوان الغريب التالي: «العنوان المراقب» مما يسمح بالاعتقاد أن العنوان الذي منعته الرقابة هو «البلشفي»

كانت هذه الصحيفة من صنع فوشيه دوكليمانصو الصغير وماندل، وكان هدفها الأكيد معاكسة «الحياة العمالية» وخــداع العمال. وكان الأمر متفقا إلى حد جعل بعض الريفيين الفرنسيين يؤخذون به. ولذا فإن فيكتور سيرج مغدور إذا ما أدرجها في واحدة من حولياته ضمن الدوريات التي تدافع عن روسيا السوفياتية والأممية الشيوعية.

قادتنا نزهتنا عبر المدينة إلى أماكن أعرفها جيدا من خلال مطالعتي، كانت أثار الحرب موجودة وعديدة، فالمدينة تعرضــت أكثر من غيرها، نتيجة موقعها الجغرافي الذي جعل مسألة تموينها والدفاع عنها مسألة صعبة مما سبب عذابا شديدا لأهلها. مشينــــا على جادة نيفسكي الشهيرة حيث نرى في طرفها الأقصى سهم الـ Amiraute الذهبي، ورأينا كاتدرائية كازان وأبوابها الضخمة، وقصر الشتاء الذي جعلنا نفكر بيوم 22 كانون الثاني المأساوي: الجماهير السلمية التي يقودها الكاهن غابون تحمل التماسا إلى نيقولا الثاني فيكون إطلاق النار هو الرد.

عبرنا نيفا بواسطة جسر ترويتسكي المحاذي لقلعة بطرس وبولس الرهيبة، ودخلنا في ضاحية فاسيلي أوستروف الثورية. وانتهينا إلى ساحة القديس إسحق، إلى فندق استوريا حيث يسكـــن قادة سوفيات بتروغراد وحيث كان يملك فيكتور سيـرج غرفة. شاهدنا في نهاية الرواق رشاشا موجها نحو المدخل، فقد عاشت المدينة منذ وقت قريب أياما قلقة، إذ إنها كانت مهددة بهجوم جيش ايدونيتش، وكان الإحساس بالحرب الأهلية لا يزال موجودا، كما أن جنود بيلسودسكي كانت قد اجتاحوا أوكرانيا لتوهم.

كان من المفروض أن يذهب زينوفييف في الغد إلى موسكو فاللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية مدعوة، وسوف بأخذ معـه المندوبين الذين وصلوا إلى بتروغراد محاولا أن يستفيد من الرحلة ليتصل بهم ويسألهم. كان زينوفييف مطابقا للصورة التي رسمناها عنه: ويعطيه رأسه العريض وكتفيه العريضتين الصلبتين شكل الخطيب الكلاسيكي. كانت المناقشات صميمة تماما، وكان يبدو مسرورا خاصة عندما تتوفر له مناسبة للمزاح غير المؤذي، وقال ضاحكا، لمندوب رفض صحن حساء: «يجب أن تأكل، هذا هو النظام!».



--------------------------------------------------------------------------------

8- موسكو – في اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. سادول – راديك – بوخارين


في موسكو، نقلنا بسيارات إلى مقر الأممية الشيوعية. وكــــان قد وصل عدد كبير من أعضاء اللجنة التنفيذية، وبينهم جاك سادول (Jaque Sadoul) وكان سابقا في روسيا مع البعثة العسكرية الفرنسية وكان البير توماس مخبره الشخصي. كان سادول ينتمي قبل الحرب إلى أكثر الأجنحة اعتدالا في الحزب الاشتراكي، إلاّ أنـــه تأثر بثورة أوكتوبر وانتقل إلى صف البلاشفة. وتظهر الرسائــــل التي كتبها عندئذ إلى صديقه توماس أنه اضطلع بمهمته بذكاء خارق وهو، إذا ما اعتبرنا الفرنسيين الموجودين في روسيا في ذلك الوقت، أحد القليلين الذين فهموا معنى الأحداث التي شهدوها. وقد حصل البلاشفة على نسخ من هذه الرسائل أثناء حملة تفتيش، ونشروها. وهي رسائل يتوجب استثمارها لمعرفة تاريخ بدايات الثورة. وكانت قراءة هذه الرسائل عام 1918، في اجتماعاتنا في باريس وفرنسا كلها، تثير الحماس: إنها أفضل رد على أكاذيب مراسلي ريغـــا. وكان سادول يعرف ذلك إلاّ أنه سر كثيرا عندما أكدت له ذلك. وقال لي: «كيف أصبحت صديقا لتروتسكي إلى هذا الحد؟، فهو يتكلــم عنك وعن رفاقك النقابيين بحماس دائم، على الرغم من أني أذكـر أنه، عندما كنت في فرنسا، لم يكن الاشتراكيون والنقابيون يحبون بعضهم أبدا؟» وأردف قبل أن يتسع لي الوقت للإجابة «إلاّ أنــــــك لن تستطيع رؤيته، فقد غادر موسكو، وهو الآن في إحدى المحطات» وما أن تركت سادول حتى التقين براديك، وقال لي منذ الكلمات الأولى لحديثنا: «لا تنتظر رؤية تروتسكي، فهو مريض ويتوجب عليه أن يرتاح خارج المدينة». كان يفترض في هذه الكلمات أن تجعلني أضطرب، إلاّ أنني لم أكن أملك، في هذا الصباح الكثير الحركة، وقتا للتفكير فيها، كما أنني كنت أعرف أنني سوف أرى تروتسكي.

قبل قليل من بدء الجلسة دخل رجل نحيف بسرية. فقال لـــي إيفان الجالس بقربي: «بوخارين إنه زجاجنا الصافي» والتفـــــــت إلي جاري الآخر الذي سمع الملاحظة وأضاف مكملا: «للأسف إنك لم تكن هنا بالأمس عندما ظهر كاشين وفروسار سوية أمام اللجنة المركزية للحزب، لقد ذكرهما بوخارين بشوفينيتهما، وبخيانتهمــا في أيام الحرب، كان ذلك مؤثرا جدا، فقد أخذ كاشين يبكي». فأجبتـــــه أن دموع كاشين سهلة «فلقد بكى عام 1917 في ستراسبورغ أمام بوانكاريه أثناء الاحتفال بعودة الألزاس إلى فرنسا.»

كان راديك سكرتير الأممية الشيوعية في ذلك الوقت. قـــرأ قرارا يعالج المسألة النقابية إذ إنها الموضوع الرئيسي للاجتماع، ويفسر هذا وجود لوسوفسكي الذي لا ينتمي إلى اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية بل انه كاتب النص المطروح للنقاش. والمطروح هو تجميع كافة العناصر النقابية المؤيدة لثورة أوكتوبر وللأممية الجديدة وهذه العناصر موجودة حاليا في التنظيمات النقابية الفوضوية التي انظمت إلى الأممية الثالثة، وفي النقابات الإصلاحية حيث تشكل أقليات كبيرة إلى هذا الحد أو ذاك، اقترح إنشاء «مجلس عالمـي مؤقت للنقابات الحمراء» تكون مهمته تسهيل الاتصال بين هذه العناصر وتنسيق عملها. وأثارت جملة في المقدمة تشير إلى خيانة القادة النقابيين جميعا ملاحظة من بيستانا: يجب أن نحدد إذ لا يمكننا مثلا أن نجعل الاصدقاء في الـ C.N.T. بهذه الخيانة. فأيدته وأضفت إلى المثل الذي قدمه مثل I.W.W. في أميركا حيث يلاحق أعضاء هذه المنظمة ويسجنون بسبب نشاطهم الثوري ضد الحرب ومــن أجل الثورة الروسية. في النهاية عدل راديك النص ولو مضطرا، وفي نهاية الاجتماع قال لي أنه لا يفهم رفضي لوم جوهو على موقفه أثناء الحرب، في حين أنهم، أي الاشتراكيين الديموقراطيين، لا يتأخرون حتى عن فضح كاوتسكي. لقد كان مطلعا نوعا ما إنما أقل مما يعتقد، وأظهر لي بملاحظته هذه أنه لم يفهم شيئا من مداخلتنا.

قادونا إلى الفندق الذي يجب علينا ان نسكن فيه أثناء المؤتمر ويقع على مقربة من الكريملين، بعد المدينة الصينية، ويسمى دييلوفوي دفور Dielovoi Dvor وهو مرتب ترتيبا كاملا: نموذج للبناء الوظيفي، يحتوي على طابقين من الغرف المجهزة ببساطة: سرير، ومكتب، وكرسيين. وتحتل غرفة الطعام القسم الأكبر من الطابق الأول، ويوجد في الطابق الأرضي غرفة اجتماعات. لقدتم ترتيبه بسرعة لإيواء البعثة الكبيرة للنقابات البريطانية التي كانت قد غادرت عندما وصلنا...
كانت البعثة الإيطالية الكبيرة قد استقرت، وكان قادة الحزب والنقابات قد وصلوا في قطارهم المحمل بالمؤن، لقد سمعوا الكثير عن المجاعة إلى حد جعلهم يحتاطون لذلك. كما أنهم احتاطوا أيضا ضد التيفوس بتحضير علاجات ممزوجة ووضعها في المفاصل للإحتماء ضد العدوى. وقد سخرنا منهم بلطف من أجل ذلك، إذ أنهم الوحيدين الذين احتاطوا، رغم أن التيفوس ليس، للأسف، مــن اختراع مراسلي ريغا. وكان يوجد في بعثتهم: سيراتي، وغرازيادي وبومباشي، كممثلين للحزب الاشتراكي، وبعض الزعماء النقابيين مثل أمناء C.G.L. واتحادات عديدة أخرى: أراغونا، دوغوني، كولومبينو، الذين جاؤوا ليشاهدوا المؤتمر لا ليشاركوا فيه، وبعض الزعماء الآخرين الذين سرعان ما انسحبوا، ولم يصل بورديغا زعيم الجناح الاستنكافي سوى لاحقا ومثله أرماندو بورغي سكرتيـر الاتحاد النقابي الإيطالي.

كنا نحاول، بعد هذه الساعات الملأى، أن نجمع الانطباعـــــات التي تركتها فينا هذه الأحداث واللقاءات، وعندما وصل إيفان وسألنا، أنا وبيستانا، أن نذهب للكلام عن الأممية إلى جنود الجيش الأحمر المرابطين في ضاحية موسكو. اجتازت السيارة حــــــــــــدود المدينة، ودخلت في الغابات ووصلت فجأة إلى منطقة لا شجر فيها حيث كان الجنود الذين ينتظروننا متجمعين. وضعونا في الوسط وحاولنا، بقدر ما نستطيع، أن نعرض ما كانته الأممية الشيوعية بالنسبة إلينا، وما فعلناه من أجلها في بلداننا وما كنا ننتظره منهــا. ولقد انفعلنا، رغم أن بيستانا معتاد، أكثر مني، على الخطابة أمام الجمهور.



--------------------------------------------------------------------------------

9- تروتسكي


عندما كنا ندخل إلى الفندق قال لي المدير أن تروتسكي تلفن طالبا مني الذهاب لرؤيته ما أن أصبح حرا، وكانت الرحلة قد رتبت تماما، إلاّ أنه يتوجب علي أولا أن أذهب إلى الكريملين. سرعـــــان ما غادرت السيارة المدينة، وجرى عبر الريف سباق مجنون، وهذه هي الطريقة العادية في القيادة بالنسبة لسائقي موسكو كما تسنـــــى لي أن ألاحظ بعد ذلك، غير أن ذلك كان يسبب على طريق رديئة قفزات فجائية مستمرة، وكانت الطريق تمر عبر قرى مبنية منازلها من الخشب. سرنا على هذا المنوال مدة نصف ساعة قبل أن ندخل في غابة، وسرعان ما خففت السيارة سرعتها: كان تروتسكــي على طرف الطريق مع ابنه الكبير، ليون. لقد كان من حقي ألاّ أقلق: فالرجل الموجود أمامي ليس مريضا.

كانت العائلة تسكن في بيت يملكه أحد أثرياء موسكــــــــو. وقد تم تحويل غرفة الاستقبال الفسيحة في الطابق الأرضي إلى متحف عام جمعت فيه كافة اللوحات التي كانت موجودة في المنزل، ولم يكن يوجد بينها صور نادرة بالطبع. كان تروتسكي يسكن، مع عائلته، في غرفتين كبيرتين من الطابق الأول، يستطيع المرء منهما أن ينظر بعيدا في الريف المحيط بالمنزل وصولا إلى التلال التي تحل السهل في الأفق البعيد. كان درج الشرف مخربا والأنابيب معطوبة بفعل التجميد، مما يجعل الراحة في هذا «القصر» مسالة نسبية جـــــدا. ولا يمكن السكن في هذا المنزل سوى في الصيف. صعدنا إلى الطابق بواسطة درج «ملائم جدا «للسادة» الجدد السوفياتييـــن» حسب تعليق ساخر لتروتسكي.

استقبلني تروتسكي بانتقاد ملطف: «حسنـــا! لم تعجلوا في المجئ، فثمة ثوريون، وصحفيون يأتون من مختلف أرجاء العالم باستثناء فرنسا». وعندما جلسنا جميعا إلى الطاولة للعشـاء قالت ناتاليا ايفانوفنا «ها نحن من جديد كما لو كنا في باريس» فأجبتها: نعم، مضيفا «إن أمور معينة جرت منذ ذلك الوقت». عدنـــــا بالذاكرة إلى حوادث جرت أيام الحرب، إلى الفندق الكائن في شارع الأميرال موشيز، وإلى المنزل الصغير في سيفر على حدود الغابة، وإلى المسكن المتواضع في شارع اودري، والمراقبة البوليسية المزعجة التي سبقت المنفى. كان أمامنا يومان بكاملهما لمحاولة الاجابة على الأسئلة التي كان يطرحها كل واحد على الآخر. سألني تروتسكي عن الرجال الذين تعرف عليهم في باريس. وكان اثنان بينهم مونان ولوريو، في السجن منذ ثلاثة أشهر وكانا سيمثلان أمام محكمة الجنايات: إذ أن مليران القلق بشأن تقدم الشيوعية اختلق «مؤامرة ضد أمن الدولة»، وهذا شكل عادي في هذه العمليات البوليسية. لقد وفر إضراب عمال سكك الحديد الذي جرى بقيادة زعماء الاتحاد العمالي العام الذين يتمنون سقوطه، وفر للدولة الذريعة التي تنتظرها لتسجن المناضلين الاشتراكيين والنقابيين الذين يدافعون عن ثورة أوكتوبر والأممية الشيوعية. لم أكن أملك الشيء الكثير عن الحوادث لأطلعه عليه: فقد أتاحت له السنتان اللتان قضاهما في باريس الإطلاع عن كثب ومن الداخل على السياسة الفرنسية ورجالاتها وعلى تطور مختلف الاتجاهات داخل الاتحاد العمالي العام والحزب الاشتراكي. ويكفي تروتسكي الإطلاع على بعض الصحف من وقت لآخر ليضع نفسه تماما في مجرى الأحداث.

أمّا أنا فلدي الكثير لأعرفه، إذ لم تكن معلوماتنا عن المراحل الاساسية للثورة، وعن الانتفاضة، وعن بريست- ليتوفسك، وعن الجيش الأحمر والحرب الأهلية، وعن تنظيم عمل السوفيــــات، سوى معلومات غامضة وعمومية جدا، لقد كان لمؤتمر بريست ليتوفسك ضجة كبيرة في بلدان الحلفاء وفي الإمبراطوريات الوسطيــــة، ولم يقصر ممثلوا البرجوازية في وصف المؤتمر بأنه خيانة مما أصاب بعض العمال بالاضطراب، فلقد استغل أحسن استغلال اللقاء الذي تم حول طاولة واحدة بين ممثلي روسيا السوفياتية ورجال الهوهنزولليرن للمناقشة حول شروط السلم والتوقيع على معاهدة سلمية، وكان أكثر من استغل هذا الأمر الاشتراكيون الذين خانوا الطبقة العاملة في آب 1914. أوضح لي تروتسكي ما كان تكتيكــه في ذلك الزمن: لم يكن بوسع روسيا أن تبقى في الحرب، فالمؤن ناقصة، وتجهيزات الجيش تصبح شيئا فشيئا غير كافية، ويبدي الجنود رغبة في عدم القتال. ولم يبق أمامنا سوى الاستفادة حتـــى الحد الأقصى من دعوتنا إلى السلم. لم يكن الجواب غير هــام، إلاّ أنه، للأسف، غير كاف إذ أن الاضرابات التي اندلعت في ألمانيا لم تذهب حتى التمرد العام ضد الحكومة، فقد عمل القادة الاشتراكيون والنقابيون، بكل قوتهم لكبح الحركة. وهكذا أصبح موقف لينين محتما: يجب القبول بالشروط التي يفرضها الألمانيون، تبع ذلـك نقاش حاد داخل الحزب، وفي اللجنة المركزية، وبرزت معارضة ثابتة تطالب بالحرب الثورية ضد ألمانيا، وخرق الاشتراكيون الثوريون اليساريون، الموجودون في الحكومة مع البلاشفة، الاتفاق وتركوا مفوضياتهم. قدم لي تروتسكي وصفا حيا للرجال الذيــن قابلهم في بريست ليتوفسك: الجنرال هوفمن وهو غبي محــــــدود أخذ يضرب على الطاولة عندما فهم ماذا تريد وتفعل البعثة البلشفية وفون كوهلمن وهو ذكي ولين وذو حركات ومبادرات لطيفة («اني مسرور لأنك جئت، فمن الأفضل أن يتم التعامل مع القادة»)، إلاّ أنـــه قلق بشأن نتيجة الحرب.

إلا أن تروتسكي بقي كتوما جدا حول النقاشات داخل الحزب وحول الاتجاهات التي يمكن أن تظهر. لم يكن يستسيغ الثرثرة إطلاقا، ولا النكات، وكان يراعي بدقة القواعد التي يقبلها إراديا المنضمون إلى الحزب. وهكذا، لم أستطيع أن أعرف شيئا عن الصراع القاسي الذي خاضه ضد ستالين ومؤيديه أثناء فترة الحرب الأهلية، كما أنه لم يقل لي شيئا عن خلافه مع لينين حول العمليات العسكرية الهامة الجارية ضد بولونيا. أمّا فيما بعد، وعندما أرغمه النقاش داخل الحزب على ذلك، قال تروتسكي انه كان ضد الزحف على فرصوفيا.

وجدت في موسكو، فيما يتعلق بالقصص الصغيرة، مخبرا ممتازا: هنري غيلبو، كان قد ذهب إلى جنيف عام 1915 كمسالم و«رولاندي» إلاّ أنه تطور تدريجيا حتى البلشفية تحت تأثير الثوريين الروس الذين التقاهم في سويسرا. وهو يعرف شخصيا عددا كبيـرا من القادة السوفيات، وكان مهتما بجمع الشائعات والنكات، مبديا اهتماما أكبر حيال الأشخاص منه حيال الأفكار، يحركه في ذلك تعاطف ونفور معلنان، وكان، قبل كل شيء، كاتبا. كانت تلخيصاته نتيجة ذلك، ملخصة. وقال لي أثناء أحد النقاشات:«لينيـــــن (وهو يكن له إعجابا كبيرا) هو اليسار، زينوفييف وكامينيف هما اليميـن، إلاّ أن لينين يصر على وجودهما في المكتب السياسي من أجل ذلك بالضبط، أمّا تروتسكي فلا يمكن تصنيفه، في حين أن بوخارين هو اليسار الحقيقي». وذات يوم، فيما كنت أنقل هذا الحديـــــث لتروتسكي قال لي: «هذا صحيح نوعا ما، إن بوخارين دائمــــا في الطليعة، إلاّ أنه يلتفت دائما وراءه ليتأكد إذا لم يكن لينين بعيدا» وعندما تعرفت على الرجلين استطعت أن أتصور مشهدا مناسبا لهذه التقديرات: لينين، قباس، قصير، يسير بخطوة متزنة، وبوخارين رقيق، يقفز أمامه، إلاّ أنه يشعر دائما بالحاجة إلى وجوده.



--------------------------------------------------------------------------------

10- في الكرملين – لينين

نهار عودتي إلى موسكو دعاني لينين إلى الكرملين. لقد كان متلهفا ليقيم اتصالا مباشرا مع المندوبين، وليتعرف شخصيا على كل واحد منهم، وليسألهم، كما أنه يهيء المقابلة منذ وصولهم. لم أكن قد رأيته قبل ذلك. إلاّ أن الشيء الذي فاجأني أكثر من غيره في هذا اللقاء هو الراحة التي هيمنت عليه منذ بدايته واستمرت حتى النهاية. كما أني فوجئت أيضا ببساطة لينين، وبالطريقة التي قال لي بها، أنا الذي لا يكاد يعرفني، : «لقد كتبت حماقة».

كانت اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية قد أطلقت نداء «إلــــى كل الشيوعيين وكل الثوريين!» تطلب منهم فيه إرســــــــــال مندوبين إلى المؤتمر الثاني الذي حدد موعده ومكانه بجسارة: يوم 15 تموز في موسكو. إلاّ أن الحصار بقي لأجل هذه الأسباب، وبقيت كل الحدود عقبات وحواجز جدية.

كان طقس موسكو في هذا الشهر – حزيران – من عام 1920 مثيرا، فالإحساس برعشة الثورة المسلحة ما زال موجودا. وكان بعض المندوبين القادمين من كل البلدان ومختلف الاتجاهات السياسية يعرفون بعضهم البعض، أمّا غالبية المندوبين فإنهم يلتقون بعضهم للمرة الأولى في موسكو. ولقد ولدت فجأة بينهم روح رفاقية. كانت المناقشات حادة لأن نقاط الاختلاف كثيرة، إلاّ أن ما يسيطر هــو، عند الجميع، تعلق مطلق بالثورة وبالشيوعية الوليدة.

كان لينين يراقب من الكريملين، وبانتباه، الأعمال التمهيدية للمؤتمر، إذ إنه كتب اثنين من الموضوعات الرئيسية المطروحة للنقاش في هذا المؤتمر، وقد قرر أن يشارك بنشاط في المداولات في اللجنة وفي الاجتماع العام. إذ أنها المرة الأولى منذ الثورة التي يتاح له فيها الاتصال بشيوعيي أوروبا، وأميركا، وآسيا. ولهذا فقد كان متلهفا لاستجوابهم، فما أن يصل أحدهم حتى يذهبوا بع إلى مكتبـــه في الكريملين.

في طريقنا من الفندق إلى الكريملين كنا نتساءل عن الرجل الذي سوف نقابله. لم تكن كتاباته، باستثناء الأخيرة منها، معروفة جيدا لدينا، أو أنها لم تكن معروفة على الإطلاق، كما أننا لم نكن نملك سوى معلومات غامضة عن الصراع الذي دار بين مختلف تيارات الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. تنم كتاباته عن أنه ثــوري من نمط جديد: مزيج مدهش من «الدغمائية» - من الأفضل القول تعلق متين ببعض المبادئ الأساسية – والواقعية المتطرفة، والأهمية المعطاة للتدبير و«المناورة» - وهذا تعبير لينيني نموذجي – في المعركة ضد البورجوازية. لقد حضرنا أسئلة وردودا، وثم وجدنا أنفسنا فجأة في نقاش حميمي عائلي مع رجل كنا نراه للمرة الأولى كما لو أننا كنا نعرفه منذ زمن طويل. لم تقصر هذه البساطة وهذه الراحة في الاستقبال في التأثير على المندوبين، وبوسعنا أن نكون أكيدين من أنهم سيبدون ويختمون حديثهم عن الزيارة، متى عادوا، بالإشارة إلى هذا الانطباع.

كان يجب علينا، قبل أن نصل إلى غرفته، أن نجتاز غرفـــة أمانة السر وهي غرفة مربعة كبيرة. وقد استطعنا أن نلاحظ أثناء مرورنا أن الشيوعيين العاملين هناك هم، باستثناء قلة، من النساء قامت إحداهن لتقول لي أن لينين قد وصل. عندما دخلت، كان قــد قطع حواره مع ملحقين من مفوضية الحرب يحملان له آخر أنباء العمليات العسكرية. قال لي «سأجعله تنتظر قليلا فاعذرنـــــي.» وعاد سريعا إلى زائريه الواقفين أمام خارطة كبيرة يتتبعان عليها حركة الجيوش.

كان الجيش الأحمر يطارد في هذه الأيام جنود بيلسودسكي بعد أن طردهم من المواقع التي احتلوها، مرة أخرى، أثناء غزو أوكرانيا. وكان تقدم الجيش الأحمر صاعقا، إذ انه يتطور بشكل يذهل العسكريين المحترفين، وبشكل لا يستطيع أن يقوم به سوى جيش مسيطر عليه الحماس الثوري.

استمر الحوار أمام الخارطة بضعة دقائق أخرى، ثم جاء لينين وجلس بقربي ونقل لي، بكلمات قليلة، أهم أبناء الجبهة التي وصلت إليه. وقد كان، رغم الأهمية الحماسية لهذه المعركة بالنسبة للثورة، هادئا تماما ومتمالكا لنفسه، ومستعدا للانتقال من موضوع إلى آخر، إذ انه سرعان ما سألني عن الوضع في فرنسا.

في تلك اللحظة، لم أدون أية ملاحظة من هذا الحوار الأول، وعندما أحاول الآن أن أستعيده بأمانة فأني أتذكر أنه اكتفى بأسئلة قصيرة مطروحة بذكاء ودالة على أنه يتجه إلى وضع معقد. إلاّ أني استطعت بواسطة ملاحظة أبداها فجأة أن أفهم مرة واحدة سر موقعه الاستثنائي في حزبه، والنفوذ المهيمن الذي اكتسبه فيه. فبينما كنا نتكلم عن الأقلية الزيميرفالدية في الحزب الاشتراكي الفرنسي وعن منظوراتها، قال لي: «لقد حان الوقت بالنسبة لها للخروج من الحزب وتشكيل حزب شيوعي فرنسي، لقد انتظرت طويلا.» فأجبتــــــــــه أن هذا ليس رأي قادة هذه الأقلية، فقد كانوا في السابق متلهفين للخروج بتكتل من الحزب، إلاّ أن مؤتمر ستراسبورغ الأخير أفادهم إلى حد جعلهم يعارضون رأيهم السابق، فهم يأملون بالتحول إلى أكثرية سريعا. فقال: «إذا كان الأمر كذلك، فإن الموضوعة التي كتبتها هي حماقة، أطلب نسخة من أمانة الأممية الشيوعية وأبعــث لي بالتعديلات التي تقترحها.»

هكذا كان الرجل. لم يكن يدعي معرفة كل شيء، رغم أنه كان يعرف الكثير، إن فهمه للحركة العمالية في الغرب نادر، ولو أن عددا كبيرا من الثوريين يعرفون، مثله، لغات أجنبية، وقد أمضوا سنوات طويلة في المنفى، فليس يوجد سوى القليلين ممن اختلطوا إلى هذا الحد بحياة مختلف الأحزاب الأوروبية وتوصلوا إلى القدر الذي توصل هو إليه. كان هذا يسمح له بمتابعة الأحداث الجارية وتقييمها تقييما صحيحا، واعطائها معناها الدقيق. ولكن، بما أنه يعرف الكثير، فإنه مستعد دائما لاستكمال معلوماته عندما تحين له الفرصة، وليعترف ببساطة، وهذا شيء غير اعتيادي بالنسبة «لقائد»، بأنه أخطأ.

فيما بعد سنحت لي فرص كثيرة برؤية لينين، في المؤتمر أولا، وفي اللجان بعد ذلك. لقد كان العمل معه في اللجنة ممتعا حقا. فهو يتبع النقاش أولا بأول، مستمعا بانتباه إلى كل واحد، مقاطعا من وقت لآخر، محتفظا بنظريته الحادة والساخرة.

إننا نعرف أنه يستطيع أن يكون، إذا كان الأمر واجبا، قاسيا وغير رحوم، حتى بالنسبة لمعاونيه الأكثر قربا، خاصة فيما يتعلق بالأمور الحاسمة، حسب رأيه، لمستقبل الثورة. لم يكن يتورع عن تقديم الأحكام الأكثر قساوة، ولا عن الدفاع عن القرارات الأكثر فظاظة. غير أنه يشرح في البداية بصبر، فهو يريد الإقنـــــاع. لقد كان متوجبا عليه أن يحارب، منذ وصوله إلى بتروغراد حتى أيام أوكتوبر العظيمة، وبضراوة شديدة قسما من اللجنة المركزية لحزبه عام 1920، كانت سلطته واسعة، فقد برهنت الأحداث في كافة الظروف الخطرة أنه كان يرى صحيحا، وهو يبدو في نظر الجميع على أنه الدليل الأكثر ثقة للثورة، إلاّ أنه بقي كما هو، رجلا بسيطا جدا، وديا، ومستعدا ليشرح حتى الإقناع.

كانت بعض النسخ من كتاب لينين «الدولة والثورة» قد وصلـــت إلى فرنسا في بداية 1919. لقد كان الكتاب رائعا، إلاّ أن مصيره كان خاصا: فلقد هوجم لينيـــــن، الماركسي والاشتراكي-الديموقراطي، من قبل نظريي الأحزاب الاشتراكية الذين يدعون الانتماء إلى الماركسية: «هذه ليست ماركسية!»، هذا خليط من الفوضوي والبلانكية. غير هذه البلانكية كانت بالنسبة للثوريين الموجودين خارج الماركسية الأرثودوكسية، للنقابيين والفوضويين، شيئا ممتعا. إذ أنهم لم يسمعوا أبدا كلاما كهذا من فم الماركسيين الذين يعرفونهم، ولذا أخذوا يقرأون مرة وثانية هذا التفسير لماركس، وهو تفسير لم يكونوا متعاودين عليه. فلقد كانت ماركسية جيسد ولافارغ، في فرنسا، فقيرة بصورة خاصة وكانت الاتجاهات المختلفة داخل الحزب الاشتراكي الموحد، المؤسس عام 1905، مستمرة في التصــادم، وكان السجال محتدما وقاسيان إلاّ أن الجميع متفقون حول الأساسي: التحقيق التدريجي للاشتراكية بواسطة الإصلاح. كانوا يتكلمون عن الثورة غير أن ذلك لم يكن سوى كليشيه، سوى إشارة اتفاقية تختم نداء ما. (لم تكن الكلمة قد فسدت بعد كما حدث منذ الفاشيــــة، وكانت لم تزل تعني العنف العمالي والانتفاضة). ولم يكن الأمر مختلفا في ألمانيا، المعتبرة أرضا مفضلة للماركسية، وحيث كان كاوتسكـي يمثل صورة المدافع عن العقيدة الصحيحة.

إلاّ أن الطابع الثوري للماركسية، هو بالطبع الطابع الذي كنا نجده في «الدولة والثورة»، في نصوص ماركس وإنغلز، وتعليقات لينين. فلقد كانت هذه الاكتشافات بالنسبة إليه حتى نوعـا من الاكتشاف. فلقد لاحظ «أن هذه الأشياء مكتوبة من خمسيـــــن سنة، إلاّ أنه من الضروري إجراء تنقيبات من أجل الحصول على هذه الماركسية غير المغشوشة وتقديمها للجماهير.» ولكن ما فائدة طرح مسألة الدولة في حين أن الحرب دائرة؟.. هذا ما كتبه لينين في السطور الأولى لدراسته: إن «مسألة الدولة ترتدي في أيامنا أهمية خاصة، إن من ناحية النظرية أم الممارسة. لقد عجلت الحرب إلى أبعد حد في عملية تحول رأسمالية الاحتكارات إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية.. تنضج الثورة البروليتارية في حين تكتسب مسالة علاقاتها مع الدولة طابعا من الراهنية العملية – من الراهنية الشديدة الإلحاح».. ثم يورد لينين هذا النص الأساسي المأخوذ من أنتي-دوهرينغ لانغلز «إن أول عمل تتجلى فيه الدولة حقيقة كمميلة للمجتمع كله، وبالتحديد عندما تتملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع، هو، في الوقت نفسه آخر من الأعمال الخاصة للدولة. ويصبح تدخل الدولة في الأمور الاجتماعية لا معنى له في ميدان بعد الآخر إلى أن يتوقف هذا التدخل من نفسه. وتحل محل حكم الأشخاص إدارة الأشياء وإدارة عملية الإنتاج. لم «تلغ» الدولة، لقد «ماتت».

يعلق لينين عن هذا النص جملة جملة، ثم يكتب: «إن البروليتارية بحاجة إلى دولة، هذا ما يكرره كل الانتهازيين، والاشتراكيين الشوفينيين والكاوتسكيين، الذين يؤكدون أن هذه هي نظرية ماركس، إلاّ أنهم ينسون أن يضيفوا أنه لا حاجة للبروليتارية سوى إلى دولة في طريقها للتحلل، أي مشكلة بشكل تبدأ معه، بلا تأخير، بالانحلال بدون أن تستطيع الاّ تتحلل.» «تبدأ هذه الدولة بالانحلال غداة انتصارها مباشرة، إذ إن الدولة ليست ضرورية ولا ممكنة في مجتمع اختفت منه التناقضات الطبقية...» «تدمير السلطة المركزية» هذه «الزيادة الطفيلية»، «قطع» و«تقويض» هــذه السلطة المركزية «التي أصبحت نافلة» - بهذه التعابير تكلم ماركس عن الدولة محللا تجربة كومونة باريس عام 1871.» وأخيرا «ليست البروليتارية بحاجة إلى دولة سوى لمدة من الزمن. أننا لا نختلف إطلاقا عن الفوضويين حول إلغاء الدولة كهدف».. وهكذا، لم تكن الثورة الاشتراكية بالنسبة للينين، هدفا بعيدا، او مثالا غامضا يتحقق شيئا فشيئا من خلال شرعية الديموقراطية البورجوازية، لقد كانت مسألة عينية،... المسألة التي تطرحها الحرب والتي سوف تحلها الطبقة العاملة. عدا هذه النصوص التي يجد فيها الثوريون الفوضويون والنقابيون لهجة قريبة من لهجتهم وتصورا للاشتراكية قريبا من تصورهم، فإن ما كان يعجبهم بصورة خاصة ويشدهم إلى البلشفية هو الإدانة الحازمة للانتهازية وللإنتهازيين المكشوفين، وللاشتراكيين الشوفينيين الذين دعموا حكوماتهم الإمبريالية أثناء الحرب، أو الذين وقفوا في منتصف الطريق ينتقدون سياسة حكوماتهم دون أن يجرؤوا على استخلاص النتائج المنطقية من نقدهم.
كان انهيار الأممية الاشتراكية لدى إعلان الحرب في آب 1914، بالنسبة للينين، بداية عصر جديد. وفي حين كان كاوتسكي يحاول إنقاذ التنظيم المهزوم بحجة أن الأممية لا تفيد سوى في زمن السلم، كان لينين يقول بأعلى صوته: «لقد ماتت الأممية الثانية! عاشت الأممية الجديدة!» ويجب العمل مباشرة على تأسيسها.. وذلك بتجميع البروليتاريين الذين بقوا مخلصين أثناء الدوامة. وبما أن الثورة ستلي الحرب، يجب الاهتمام منذ الآن بدراسة مسألة البناء الاشتراكي.
لم يكتب «الدولة والثورة» سوى في آب – أيلـــول 1918، عندما كان لينين، المطارد من قبل كيرنسكي ووزرائه الاشتراكيين، والمتهم بالخيانة، مختبئا في فنلنده، غير أن هيكل الكتاب ونصوصه الأساسية جاءت مع لينين من سويسرا. فلقد عمل في سويســـــرا، أثناء الحرب ، على جمعها والتعليق عليها. وقد كتب، قبل قليل من رحيله من سويسرا/ في 17 شباط 1917، ومن مكانه في زوريخ، رسالة إلى الكسندرا كولونتاي: «إني في طور تحضير (وقد انتهيت عمليا) دراسة عن مسألة علاقات الماركسية بالدولة.» وقد كـــان يعلق أهمية كبرى على هذا العمل إلى حد أنه كتب لكامينيـــــف، عندما كانت البلشفية تجتاز مرحلة صعبة في أيام تموز،: «رفيق كامينيف، لندع الأمور بيننا، إذا ما قتلت، أرجوك أن تنشر كتابا بعنوان «الماركسية والدولة» (وهو محفوظ بأمان في ستوكهولم). غلافه أزرق، ومربوط. يوجد فيه كافة أقوال ماركس وانغلز، وحتى أقوال كاوتسكي ضد Pannekock. ويوجد بالاضافة إلى ذلك سلسلة من الملاحظات والإشارات. ولا يبقى سوى التدوين. وأعتقد أن بالامكان نشر هذا الكتاب خلال أسبوع كما أني أعتقد أنه كتاب هام، لأنه لا يوجد من انحرف سوى بليخانوف وكاوتسكي. ولي شرط واحد. أن يبقى كل ذلك بيننا فقط.»

لا شك أن خلافات عديدة استمرت بين لينين ومناصريه الجدد. فلو أنهم كانوا على اتفاق حول انحلال الدولة، إلا أنه يبقى عليهم أن يتفقوا على المرحلة الانتقالية التي يجب أثناءها المحافظة على الدولة في شكل ديكتاتورية البروليتارية. لم يتأخر الاشتراكيون الروس عن القيام بالمراجعات التي يفرضها انهيار الاشتراكية-الديموقراطية، كما كان من واجب النقابيين أن يأخذوا بعين الاعتبار التجربة: تجربة الحرب حيث غرقت النقابية جزئيا، وتجربة الثورة الروسية. لقد أهملوا حتى الآن الدراسة الجدية لهذه المرحلة الانتقالية، إلا أن كتاب لينين، وأكثر من ذلك، أعمال البلاشفة في السلطة، خلق مناخـــا مناسبا للالتقاء. وقد رأينا أن الفوضويين-النقابيين الاسبانييـن C.N.T. قد أعلنوا أنهم إلى جانب ديكتاتورية البروليتاريا.

بعد أيام قليلة من وصولنا إلى موسكو تلقينا كتابين أصدرتهما منشورات الأممية الشيوعية. وهما (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية) من تأليف لينين، و(الارهاب والشيوعية) وهو رد تروتسكي على أحد كتب كاوتسكي الذي نشر بالاسم نفسه. ويشكل الكتابان نوعا من المقدمة والتعليق على الموضوعات المحضرة للمؤتمر. كنت مطلعا على مضمون مرض اليسارية الطفولي نتيجة الحوارات والنقاشات التي سمعتها خلال رحلتي، وبصورة خاصة في ألمانيا: لقد حدث الانشقاق في صفوف الشيوعيين الألمان حول الحزب، والنقابات، والبرلمانية. لدى قراءتي الكتاب وجدت لينين الحقيقي، لينين «الدولة والثورة»، غير أن العدو ليس هنا الانتهازي، أو الاشتراكي الشوفيني، أو الوسطي، إنه شيوعي، أو هو الشيوعي الذي يسميه لينين «يساري». غير أن المرض ليس هو المرض الذي يمر به كل الأطفال، إنه، حسب لينين، مرض الطفولية بمعنى السهولة، وقلة التعقيد فهو يتكلم أكثر من مرة عن «البساطة الطفولية»، عن «سهولة» «الطفولية المعادية للبرلمانية».

غالبا ما تتجلى هذه النزعة، حسب رأيه، في التجمعات الجديدة والأحزاب الشيوعية. فثمة رغبة من صنع أي شيء جديد، بسرعة، في خلق تنظيمات متميزة عن عن تنظيمات عهد بائد. وكان البعض يكره سماع أي كلام عن الديموقراطية أو البرلمان، ويحتفظ بالحزب شرط أن يكون «حزبا جماهيريا» ينتظر المبادرة وتطور النضال الثوري من حيث، لا «حزب قادة» يقود النضال من فوق، ويقوم بمساومات ويدخل إلى البرلمان. وقد رأينا أن الحزب الشيوعي العمالي الألماني تأسس على هذه القواعد، ونجد في أي مكان تجمعات تسير على الخط نفسه بصورة كلية أو جزئية، مثل تجمع Kommunismus في فيينا، والهولنديين مع غورتر، والبورديغيين في إيطاليا. أمّا في فرنسا فقد رأينا نشوء اتحاد السوفييتات، وهو حزب شيوعي التقى فيه النقابي بيريكا Pericat مع الفوضويين.
يقف لينين ضد هذا الاتجاه، ويقطع عليه الطريق، ويحاربـه بالقوة نفسها التي حارب بها الانتهازيين والوسطيين في «الدولة والثورة». غير أن هؤلاء هم أصدقاء ثورة أوكتوبر والمدافعين عنها، ومؤيدو الأممية الثالثة. لا شك أن لينين يشير إلى هذا التمايز، إلاّ أن هذا لا يردعه إطلاقا عن نقد هذه المفاهيم التي يعرفها خاطئة، وخطرة لأنها كفيلة ببعثرة القوى التي تحتاجها الطبقة العاملة لتنتصر.

رغم أن طابع الكتاب النقدي وسجالي فإنه غني من حيث مضمونه. وقد قرأه المندوبون بانتباه، فهو يوفر لهم مادة للتفكير والنقاش. كان العرض مؤيدا بقوة، بدون أي اهتمام بالشكل أو حتى بالبناء، إلا أن غياب هذا البناء الذي اعتدنا عليه هو بالضبـــــط طريقة لينين في عرض براهينه، فهو يرجع بلا كلل إلى نقطة النقاش المركزية، ويجد حججا جديدة وتطويرات جديدة تضرب على الوتر نفسه، بدون أن يتردد، إذا ما وجد خصمه في وضع حرج، عــن تسديد ضربة الرحمة إليه. يبدأ الكتاب بتأملات عامة حول «البعد الأممي للثورة الروسية»، ويشير إلى «أحد الأسباب الرئيسيــــة لنجاح البلشفية»، ويعرض « المراحل الرئيسية لتاريخ البلشفية»، ويباشر بعد هذه المقدمة الجوهرية في الدراسة النقدية لليسار الألماني الذي نعرف سماته الرئيسية. ويقول لينين عن النزعة المعادية للبرلمانية.

«أن لا يعبر المرء عن «ثوريته» سوى بتوجيه الشتائم إلى الانتهازية البرلمانية، وبمعاداة البرلمانية، هو أمر سهل، ولكن بمــا أنه أمر سهل فإنه لا يحل المشكلة العسيرة والعسيرة جـــــدا. إن إيجاد فئة برلمانية ثورية فعلا في البرلمانات الأوروبية هي مسألة أصعب بكثير من إيجاد مثل هذه الفئة في برلمان روسيا. بالتأكيد، غيـر أن هذا ليس سوى سمة واحدة لهذه الحقيقة العامة وهي أنه كان سهــلا في روسيا 1917، في ظل وضعها التاريخي العياني والخاص جدا، مباشرة الثورة الاشتراكية، في حين أنه من الأصعب في روسيا، قياسا إلى البلدان الأوروبية، الاستمرار في قيادة الثورة في نهايتها. لقد أتيحت لي الفرصة في بداية عام 1918 لأشير إلى هذا الواقـع، وقد أكدت تجربة سنتين صحة اعتباراتي». أمّا أخيرا، فإن الحجة الواقعية، الحجة التي يصعب رفضها هي: «ان ليبكنخت في ألمانيا، وهوغلونذ في السويد قدما مثالا عن الاستخدام الثوري فعلا للبرلمانات الرجعية.»

ولا يقدم عن الاستنكافيين الإيطاليين سوى هذه الملاحظـــــة: «لم تتوفر لي تماما وسيلة الاعتياد على الشيوعية اليساريــــة الإيطالية إلاّ أن بورديغا وجماعة «الشيوعيين الاستنكافيين» مخطئون في الدعوة إلى الامتناع عن المشاركة في البرلمان. لنلاحظ، مرة أخرى، وفي هذا المجال، الأمانة الفكرية الدقيقة للينيـــن. فلقد بقي متحفظا نتيجة عدم كفاية إطلاعه، وهذا على خلاف سلوك «القائد» الذي يعرف كل شيء، ويقرر كل شيء، ولا يخطئ أبدا.

لا يوجد يتوجب على الشيوعيين البقاء في النقابات الإصلاحية والنضال داخلها لانتصار أفكارهم فحسب، بل يجب عليهم أن يتعلقوا بها عندما يحاول القادة الاصلاحيون طردهم منها، والاحتيال للتسلل إليها عندما يحاولون منعهم من الدخول. «للمرة الأولى ينتقل ملايين العمال في فرنسا، وانكلترا، وألمانيا، من عدم التنظيم إلى الأشكال البدائية (الأكثر بساطة وقبولا لأولئك المتأثرين بالأحلام البورجوازية الديموقراطية) من التنظيم، إلى النقابات، ويرفض شيوعيو «اليسار» الثوريون إنما غير العقلاء، رغم كثرة كلامهم عن «الجماهير» النضال داخل النقابات بحجة «رجعيتها»! واخترعوا «الرابطة العمالية» الجديدة كليا، والنظيفة، والبريئة من خطايا البورجوازية – الديموقراطية – إنما المسؤولة بالمقابل عن الخطايا التعاونية وضيق الأفق المهني – التي ستصبح (ستصبح!)، كما يقولون، واسعـة، والتي يكفي الانضمام إليها (يكفي!) «الاعتراف بنظام السوفييات وديكتاتورية البروليتارية». ولا شك في أن السادة غومبرز، وهندرسون، وجوهو، ولوجيين يعترفون بفضل هؤلاء الثوريين «اليساريين» الذين، مثلهم مثل جماعة «المعارضة البدائيــة» الألمانية (لترحمنا السماء من هكذا مبادئ) أو مثل بعض المناضلين الأميركيين «العمال الصناعيين في العالم» (I.W.W.)، يدعون لخروج العمال من النقابات الرجعية ويرفضون العمل فيها. ولكن لا يجب علينا أن نشك في أن قادة الإصلاحية سيلجأون إلى كل وسائل الدبلوماسية البرجوازية، إلى عون الحكومة البرجوازية، والكهنوت، والشرطة، والمحاكم، لمنع الشيوعيين من الدخول إلى النقابات، ولطردهم منها، ولإزعاجهم بالصعوبات والمتاعب والشتائم والملاحقات، وذلك بغية جعل الحالة غير محمولة بالنسبة لهم. ولهذا السبب كتب لينين الأسطر التي أراد البعض أن يرى فيها مديحا للكذب كما لو أنه أساس الدعاية والنشاط للبلشفيين: «يجب معرفة مقاومة كل هذا، والموافقة على كل التضحيات، وحتى استخدام – في حالة الضرورة – كافة الوسائل، واستخدام الحيلة، وتبني طــــرق غير شرعية، والسكوت أحيانا، وإخفاء الحقيقة في بعض المرات، وذلك بهدف الدخول إلى النقابات، والبقاء فيها وتحقيق، رغم كل شيء، المهمة الشيوعية.»

إنه ذو دلالة أن نلاحظ، بصدد هذه الجملة الشهيـــــــــــرة، أنها لم تصدم أيا من المندوبين الذين قرأوها للمرة الأولى. فلمـــــــاذا؟ فهل كانوا جميعا كاذبين مدمنين، أو روادا للزمرة الهتلرية التي كرست الاستخدام اليومي للكذب الهائل؟ على العكس تماما، لقــد كانوا يتكلمون ويتصرفون بصراحة، وكانت لغتهم واضحــة ومباشرة، كما كان التستر غريبا عنهم إذ أنهم فخورين جدا بأن يظهروا على ما هم عليه غير أنه من الواجب أن يضع المرء نفسـه في جو العصر، في عام 1920. لقد خان هؤلاء القادة الاصلاحيون، الذين يفضحهم لينين، العمال عام 1914، وخانوا الاشتراكية، وتعاونوا مع حكوماتهم الإمبريالية، وتحملوا مسؤولية كل أكاذيــــب – وجرائم – الدعاية الشوفينية. لقد قاوموا كل إمكانيــة «لصلح مبكر». وبذلوا كل جهدهم، بعد الحرب، لتحطيم المد الثــــــوري، في النقابات خاصة، ولم يتورعوا أبدا عن خرق قواعد هذه الديموقراطية التي يدعون الدفاع عنها في كل مرة يحسون فيهـا بخطر معارضة متطورة علنا، وعن استعمال العنف للاحتفــاظ بالقيادة ضد إرادة الأكثرية الواضحة، وعن الاستمرار، بخبــــــث، في سياسة الانشقاق النقابي. إلاّ أن ما يجب أن نفهمـــــــه هو أن الحالة هذه هي حالة استثنائية، إنها حالة حرب، والحرب تتضمن الخدعة خاصة عندما يتوجب القتال ضد عدو متستر وممتلك لكل جهاز الدولة القمعي. كان عمل لينين ملفتا للانتباه، إلاّ أن أصالته تكمن في هذا الإخفاء الظرفي للحقيقة. فالجديد فيه هو التركيز على التكتيك: «يجب على الأحزاب الثورية أن تستكمل تثقيفها. لقـــد تعلمت أن تهاجم، وعليها أن تفهم الآن ضرورة إتمام هذا الفهم باستيعاب طرق الانسحاب الأكثر ملاءمة.» كان شعار «لا للمساومة» أحد شعارات «اليساريين» الألمان، ونجد شيئا مماثلا لدى البريطانيين. وقد اجاب لينين على ذلك مذكرا بما كتبه انغلــــــــز، عام 1874، بصدد بيان 33 عن البلانكيين الذين كتبوا: «نحن شيوعيون لأننا نريد أن نصل إلى هدفنا بدون المرور بالمراحل الوسطية وبالمساومات التي لا تفعل سوى إبعاد يوم النصر وتمديد فترة العبودية». كتب إنغلز يقول: «ما هذه السخافة الطفوليــــــــــة في جعل عدم الصبر الخاص حجة تاريخية!» وأضاف: «أن يرتبط المرء مسبقا، ويقول بصوت عال لعدو أفضل تسليحا منه: سنقاتلـك في لحظة معينة، هو شيء سخيف وليس حماسا ثوريا. الموافقــــة على المعركة عندما لا تكون مناسبة سوى للعدو، جريمة، والذيـــــن لا يعرفون أن يقوموا بمساومات واتفاقات لتجنب صراع خاسر هم قادة فاشلون للطبقة الثورية.»

وهكذا، تطرح الأسئلة، مع لينين، بصورة مختلفة كليـــــــا. وتأخذ الكلمات نفسها معنى آخر أو تجد معناها الحقيقي: «فالمساومة» بالنسبة للينين، عمل دفاعي ذكي، للمحافظة على القوى، تفرضه الظروف، ويتم لمنع العمال من الوقوع في الأحابيل، أو في فخ ينصبه عدو أفضل تسليحا. كان للكتاب طابع خــــاص، طابع كتاب استراتيجية وتكتيك ثوريين. ولا شك أن مختلــف الحركات الاشتراكية، والنقابات منها خاصة، لم تكن على جهــــــل تام به، فلقد علم النضال العمال بأنه ثمة لحظات ملائمة لإعلان إضراب، في حين أن الفشل مؤكد في ظل ظروف أخرى يتوجــب فيها الاكتفاء بالقليل وحتى تقديم تعهدات. إلاّ أن ما نعرفه جيـــــــدا هو أنهم لا يحسنون الدفاع عن أنفسهم ضد وسائل أرباب العمــــل، وقد حدث أكثر من مرة أن ضاع نصر أكيد وضاعت معه مكاسب كثيرة لأن العمال لم يحسنون رفض صراع هم مهزومون فيه أصلا وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخلاص وصياغة المبادئ الأساسية للتكتيك بوضوح وتميز. لا يتحرك لينين، على خلاف الاشتراكيين البرلمانيين المهتمين بإبعاد الثورة الاشتراكية لا بمساعدتها، إلاّ ضمن الثورة، كما أن الصراع الطبقي معركــــة يومية تدفع فيها الطبقة العاملة ثمن أخطاء الرجال الذين يقودونها. والخلاصة هي أنه يجب تعلم المناورة!

لم يكن يوجد ثمة ما يقال ضد استبدال التجريبية بالتقنيـــــــة. فهذه النقطة من عمل لينين لم تكن نثير أي نقد. وكان هذا بالضبط يخفي خطرا ما. وهذا هو التعبير الذي استعمله شيوعي بلجيكـــــــي إذ قال لي: «ما هذا الكتاب الخطر، مع لينين لا مجال للمجازفة، فالمناورة، معه، تخدم الطبقة العاملة دائما كما أن المساومة تعقد باستمرار لصالحها، ولكن لنفكر بالشيوعيين الشباب – وحتى بغير الشباب – من الذين لا يملكون أية خبرة أو ممارسة في المعارك العمالية... فهم لن يأخذوا من هذا الكتاب سوى ما هو ثانــــــــوي، وما يكون أسهل وأكثر ملاءمة لهم، ويهملون العمل والدراســـة وسوف يميلون، نتيجة عدم امتلاكهم الأساس الاشتراكي الصلـــب الذي ترتكز عليه المناورات والمساومات، إلى أن يروا في هذه المناورات والمساومات الشيء الأساسي، والتبرير السهل لكل أعمالهم.» وقد تبين، بعد قليل من الزمن أن هكذا خطـــــر ليس وهميا: لقد جعلت «البلشفية الزينوفييفية» هذا الخطر ماثلا منذ أن بوشر بها بعد اختفاء لينين، كما أن «الشيوعية» تحولت في ظل ستالين إلى «مناورة» فحسب.

كان الكتاب يتضمن ملحقا هاما. فبعد أن أرسل المخطوطـــــة إلى المطبعة تلقى لينين معلومات جديدة قادته للاعتقــــــاد بأن «اليسارية» هي أقوى مما كان يعتقد، وأقل تمركزا، وأن السجال الدائر ضدها لن يكفي لشفاء الحركة الشيوعية منها. فكتب مضيفا: «يمكن أن نخشى تحول انشقاق «اليساريين» المعادين للبرلمانية، والمعادين غالبا للسياسة ولكل حزب سياسي وللعمل في النقابات، على ظاهرة عالمية، كما حصل بالنسبة إلى انشقاق «الوسطيين»، الكاوتسكيين، واللونغيين، و«المستقلين»، الخ. لنسلـــــــم أن الأمر كذلك. فالانشقاق في هذه الحالة أفضل من البقاء في وضع مضطرب ومعيق للتطور الفكري والنظري والثوري للحزب، ولنموه، ولعمله المنظم فعلا والموحد في التحضير لديكتاتورية البروليتارية.

«إن «اليساريين» أحرار في مواجهة الحقيقة في كل بلد وفي العالم قاطبة، وهم أحرار في محاولة التحضير ومن ثم تحقيق ديكتاتورية البروليتارية بدون حزب شديد المركزية يتمتع بنظام حديدي، وبدون أن يحسنوا امتلاك كافة أنواع وفروع ومنوعات العمل السياسي والثقافي. ولسوف تعلمهم التجربة العمليـــــــــة سريعا.

«ولكن ينبغي أن نبذل جميع الجهود كي لا يحدث الانشقاق مع «اليساريين» المصاعب، أو كي يوجد أقل ما يمكن من المصاعـب في طريق اندماج جميع العاملين في حركة العمال، ممن يساندون الحكم السوفييتي وديكتاتورية البروليتارية بإخلاص ونزاهة، في حزب واحد، ذلك الاندماج الضروري والمتوقع حتما في مستقبل قريب. لقد كان من حسن طالع البلاشفة في روسيا أنهم، منــــــــذ زمن بعيد، قبل النضال الجماهيري المباشر من أجل ديكتاتورية البروليتارية، كانت لديهم فرصة خمسة عشر عاما شنوا فيها ضد المناشفة – أي الانتهازيين و«الوسطيين» وضد «اليسارييــــــن» على حد سواء – نضالا منظما وأوصلوه إلى غايته. ومن الواجب الآن في أوروبا وأميركا أن ينجز هذا العمل ذاته «بخطوات متسارعة»

هناك بعض الأشخاص، وخاصة بين مدعي الزعامـــــة الفاشلين، بإمكانهم (إذا كان يعوزهم روح الطاعة «والصراحـــــة تجاه أنفسهم») أن يصروا على أخطائهم زمنا طويلا. ولكن جماهير العمال تتحد هي نفسها بسهولة وسرعة، عندما يحين الوقـــــت، ويوحد جميع الشيوعيين المخلصين في حزب واحد قادر على إقامة النظام السوفييتي و ديكتاتورية البروليتارية»

بعد بضعة أسابيع فقط من كتابة هذه الأسطر، استطـــــــــاع لينين أن يقتنع أن مخاوفه كانت مضخمة. لقد استمرت «اليسارية»، خاصة في ألمانيا، إلاّ أنها لم تجمع حولها أبدا في أي تكتل كافة العناصر المؤهلة للارتباط بها، كما أن التنظيم الأكثر أهمية، الحزب الشيوعي العمالي الألماني، قبل في الأممية الشيوعية كعضو مؤيد ومتعاطف.

أمّا كتاب تروتسكي «الإرهاب والشيوعية، أنتي - كاوتسكي» فهو مختلف تماما. إذ أننا نجد هنا شكلا، وبناء، ومضمونـــــــــــــا، كنا قد اعتدنا عليها. ففي حين كان لينين يركز انتباهه على الحزب، والتكتيك، ويحذر من الطفولة الثورية وبعثرة القوى في حزب الطبقات، كان تروتسكي يتوجه نحو مسائل النظرية والممارســــة التي طرحتها الثورة، والحرب الأهلية، وبناء المجتمع الجديد.

لقد كان كاوتسكي، حتى اندلاع الحرب العالمية، معتبـــرا بصورة عامة داخل الأممية الثانية الأستاذ الكبير في الماركســية. وكان نفوذه كبيرا حتى بين الاشتراكيين الروس، البلاشفـــة والمناشفة، ولم يكن يوجد من يجرؤ على الشك في نوعية ثوريته، وعلى الكلام عنه دون إجلال سوى روزا لوكسمبورغ. فلقد عملت إلى جانبه مطولا، واصطدمت مرات عديدة بخوفه في المعارك العمالية، وهي تعرفه أكثر من أي كان. لم تمنعه سلطته المعترف بها من الغرق عام 1914، برفقة أعدائه التحريفيين، ومع أكثرية الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان. ولم يذهب، أثناء الحـــرب، عندما أصبح التحالف مع المتطرفين غير محتمل، ابعد من هذه الوسطية التي اكتفت بابداء التحفظات حول مسؤوليات النــــزاع، وبنقد القادة (مثل شيدمان) الذين تحالفوا مع الحكومة الامبريالية ليعودو فيجدوا أنفسهم معهم في كل المراحل الهامة من الحرب، وليقترعوا مثلهم، وليتحدوا معهم لمحاربة السبارتاكية.
في ألمانيا الويميرية البائسة، المتوقفة في منتصف الطريق بين نظام آل هوهنزوللرن والثورة الاشتراكية، وفي ظل الحكومات المطعمة بالاشتراكيين، والليبراليين، والمسيحيين والتي يرأسها ايبرت Ebert، يحاول كاوتسكي أن يستعيد وظائفه العليـــــــا كمحافظ على الأرثوذوكسية الماركسية. لقد أعلن باسمها (أي باسم الأرثوذوكسية الماركسية) أن روسيا لم تنضج بعد للثورة الاشتراكية، و«موازين القوى» لا تسمح بها حتى الآن. وكان يتكلــم عن «الإرهاب الأحمر» كما يتكلم المؤرخون البورجوازيون عن إرهاب الثورة الفرنسية، كما أنه أخذ يرسم لوحة مظلمة للاقتصـــاد السوفييتي، وينتقد، ويتصنع، الثورة السائرة كما فعل في السابــق عندما رفض التحريفية البرنشتينية من مقعده الوثير.

كتب تروتسكي رده في قطاره، ولذا نفهم أن تكون له لهجة خاصة. وقد عمل على إتمامه، أو انقطع عنه، أو استعاده حسبمـــا ترك له البيض فرصة لذلك، علما بأن هؤلاء البيض كانوا أحيانا بقيادة المناشفة أو الاشتراكيين الثوريين، ومدعومين من قبل الديموقراطيات الكبرى التي يعجب بها كاوتسكي حاليا.

ولذا لا يمكن استغراب الحدة، والسخرية اللاذعـــــــــة، والانفعال الثوري الذي يضيفه تروتسكي على دفاعه عن الثورة.

يتهم الاشتراكيون المعادون لثورة أوكتوبر البلشفية بأنها بلانكية وليست ماركسية، وقد اكتشف فيها كاوتسكي بالإضافة إلى ذلك، بعض البرودونية. ولم يتردد بخصوص الارهاب، عن تصديــق ونشر الأكاذيب الفاضحة والسخيفة المنشورة في الصحف البورجوازية والتي يخترعها مراسلوا ريغا وستوكهولم. ومن جملـــة ما جمعه معلومات عن «اشتراكية نساء» مزعومة وليس أسهـــــل من تبيان خطأ هذه المعلومات. وقد استطعنا من جهتنا، اكتشاف اختراعات من هذا النوع. يذكر تروتسكي بالشروط التي ولـــد وتطور فيها الإرهاب: «حدث الاستيلاء على السلطة من قبل السوفيات، في بداية تشرين الثاني 1917، مقابل خسائر لا قيمـة لها... وفي بتروغراد قلبت حكومة كرينسكي بدون أية معركــة تقريبا. أمّأ في موسكو فقد استمرت المقاومة نتيجة أعمالنا غير الحاسمة. أمّا في غالبية مدن الضواحي فقد انتقلت السلطة إلى السوفييتات بمجرد وصول برقية من بتروغراد أو من موسكو. ولو بقيت الأمور عند هذا الحد لما حدث أي ارهاب أحمــــــر... إذ أن حدة الصراع مرتبطة بمجموعة من الظروف الداخلية والعالمية. وبقدر ما تبدو مقاومة العدو الطبقي المقهور شرسة وخطرة يتحول نظام الإكراه إلى نظام إرهابي. وكان لابد للهجوم الذي قاده كيرنسكي- كراسنوف ضد بتروغراد، وهو الهجوم المؤيد من الحلفاء، من أن يدخل إلى الصراع العناصر الأولى للضراوة. وقد أطلق سراح الجنرال كراسنوف بعد تعهد من قبله.. ولو أن ثورتنا قامت بعد أشهر أو حتى أسابيع من استيلاء البروليتاريا في ألمانيـــا أو فرنسا أو انكلترا على السلطة، لكانت، بلا شك، الثــــــــــورة الأكثر سلمية، والأقل «دموية» في الثورات الممكنة على هذه الأرض. غير أن هذا النظام التاريخي، الأكثر طبيعية للوهلـــة الأولى، والأكثر إفادة للطبقة العاملة الروسية، لم ينقض بفعــل غلطتنا، وعوض أن تكون البروليتاريا الروسية الأخيرة كانـت الأولى. وهذا الطرف بالضبط هو الذي أعطى، وبعد فتــرة من البلبلة، الطابع الحاد جدا للمقاومة التي أبدتها الطبقات القديمــة الحاكمة في روسيا، وهو الذي أرغم البروليتارية الروسية، لحظة المخاطر الكبيرة، والاعتداءات الخارجية، والمؤامرات والانتفاضات الداخلية، على اللجوء إلى أقسى تدابير الإرهاب الحكومي».

أمّا القسم الأكثر حداثة وإثارة بالنسبة إلينا من كتاب تروتسكي هذا، فهو القسم الذي يرسم فيه الكاتب صورة حقيقية للاقتصاد السوفياتي مناقضة للصورة الكاريكاتورية التي رسمها كاوتسكي. تنظيم العمل، دور السوفييتات، والنقابات، استخدام الاختصاصيين. يكتفي تروتسكي، فر رده على كاوتسكي، باستعادة التقريــر الذي قدمه إلى المؤتمر الثالث للنقابات في عامة روسيا، ويضيف إليه بضعة مقاطع مستعارة من تقارير أخرى قدمها إلى مؤتمـر السوفييتات للاقتصاد الشعبي في عامة روسيا وإلى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الروسي. ثمة فصل هام يتعلق بجيوش العمـــــل التي لم تستمر سوى فترة قصيرة إذ أنها اختفت مع نهاية الحرب الأهلية. غير أن الفصل الأكثر اثارة للانتباه هو ذلك المتعلق بالتخطيط الاقتصادي. ويجب في هذا المجال أن نتذكر أننا في آذار من عام 1920. وقد كتب تروتسكي : «يجب تقدير هذا التخطيط لسنوات عديدة. ومن الطبيعي أن ينقسم إلى فترات متطابقة مع المراحل الضرورية للنهوض الاقتصادي للبلد. يجب علينا أن نبدأ بالمهام الأكثر سهولة وأساسية... يرتدي هذا التخطيط أهميــــة كبرى، ليس لكونه وجهة عامة لتنظيماتنا الاقتصادية فحســــب، بل لأنه خط يقود دعايتنا المتعلقة بمهامنا الاقتصادية بين الجماهير العمالية. ستبقى محاولاتنا التعبوية في مجال العمل راكدة ما لم نلمس النقطة الحساسة لكل ما هو شريف في مجال العمل ومندفع في الطبقة العاملة. يجب علينا أن نعلن للجماهير كل الحقيقة المتعلقة بوضعنا وباهدافنا، وأن نقول لها بصراحة أن خطتنا الاقتصادية، رغم كل الجهد العمالي، لن توفر لنا لا غدا ولا بعد غد خبرات كثيرة، وذلك لأننا سنعمل طيلة الفترة القريبة اللاحقة على تحسين وسائل الإنتاج بغية توفير إنتاجية أكبر.. ولا حاجة إطلاقا للقول أننا لن نجنـــــــح أبدا نحو شيوعية قومية ضيقة، كما أن رفع الحصار، والثورة الأوروبية كانا سيؤديان إلى تعديلات عميقة في خطتنا الاقتصادية وذلك باختصار مدتها وتقريب مراحل تطورها الواحدة من الأخرى.

إلاّ أنه لا يسعنا التنبؤ عن موعد وقوع هذه الأحداث. ولذلـك يجب علينا أن نتصرف ونحافظ على أنفسنا وندعم موقعنا رغم التطور غير المشجع، أي البطيء جدا، للثورة الأوروبية والعالمية».
استلفت انتباهنا أيضا نصوص أخرى تتحدث عن تطور بناء المجتمع الجديد كما يتصوره تروتسكي، الا أن التنبؤ الذي بدأ أكثر جرأة من غيره هو هذا: «إذا كانت الرأسمالية الروسيــــــة قد تطورت بدون الانتقال من درجة إلى درجة، بل بواسطة قفزات، وبنت على السهوب مصانع على الطريقة الأميركية، فذلك سبب إضافي لصالح البناء الاشتراكي المتسارع. ولكن ما أن نتغلب على بؤسنا الفظيع، ونراكم بعض الاحتياطات من المواد الأوليــــــة والسلع الغذائية، ونحسن وسائل النقل، حتى يكـــــون بوسعنـــــــا، بعد أن نكون قد تخلصنا من قيود الملكية الخاصة، أن نجتـــاز، وبقفزة واحدة، درجات عديدة ونلحق كل المشاريع والموارد الاقتصادية بالخطة الموحدة في البلد كله. ويكون بمقدورنا إذ ذاك إدخال الكهرباء إلى كافة الفروع الأساسية في الصناعة وإلى دائرة الاستهلاك الشخصي دونما حاجة للمرور مجددا بعصر البخار».

لم تفقد «كتب المناسبات» هذه شيئا من قيمتها. ويمكننــــــــا اليوم أن نستفيد من قراءتها، وليس ذلك لمجرد الفائدة التاريخيــــة التي تقدمها، بل لأن عددا من المسائل المعالجة فيها له قيمة راهنـة وقد كانت هذه النصوص عام 1920، بالنسبة للمندوبين، نصوصا فائقة الغنى، وقد درسوها وناقشوها بحماس بالغ. إذ أن الكاتبين يتمتعان بين المندوبين بنفوذ كبير. فلينين وتروتسكي يسيطران على رجال ثورة أوكتوبر. وذات يوم فيما كنت اقدم ملاحظة بهذا المعنى أمام مجموعة من المندوبين بينهم جون ريد، أبدى هذا الأخيـر سروره لسماعه رأيا يعتبره رأيه الخاص، وقال: «أتعتقد ذلـــــــك أنت أيضا!». لقد كنا جميعا مقتنعين بذلك، لقد جعلتهما الثــورة كبيرين كما جعلت كل المناضلين كبارا. ولقد كان من السهل علي ملاحظة ذلك إذ أنني كنت التقي في موسكو أشخاصا ما كنت قد التقيتهم في باريس. والحالة الأكثر نموذجية في هذا المجال هي حالة دريدزو – لوسوفسكي. لقد عاشرته مطولا في باريس حيث كــان يبدو رفيقا طيبا، مثابرا وجادا. وقد أكدت أحداث ما بعــــد 1924 على أنه ليس واسع الأفق ولا حازم الرأي، إلاّ أنه كان في موسكو عام 1920، واثقا بنفسه، حازما، مطمئنا، وهذه كلها سمات جديـــــــدة بالنسبة له.



--------------------------------------------------------------------------------

11 – بين المندوبين إلى المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية


في النقاشات التي سبقت المؤتمر سيطررت على كافة المندوبين رغبة عميقة فيي الاتفاق، فثورة اوكتوبر والأممية الشيوعية ملك مشترك بالنسبة إليهم جميعا. غير أن القليليـن بينهم وصلوا وهـــم على استعداد للموافقة على كل نقاط الموضوعات التي عرضت عليهم، إذ أن مضمونها مختلف عن التصنيفات التي اعتادوا عليها، كما أن الطريقة التي تعالج بها المشاكل مختلفة، يجب إذا استعـــادة كل المسائل ودراستها بعمق.

بالنسبة للنقابيين والفوضويين سهل كتاب «الدولة والثورة» تقارب المفاهيم النظرية في ناحيتها الأساسية. في حين طرحت ديكتاتورية البروليتارية، التي كانت حتى الآن في المجال النظري، بصورة موضوعية، وباعتبارها المسألة العملية الأكثر الحاحا. كما أنه لم يحصل في يوم من الايام عملية دراسية معمقة لهذه الفترة الانتقالية، لهذا الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكيـــــة، بل تم تجنبها عندما بدا أنها تشكل عقبة: وكان يتم القفز من المجتمع الرأسمالي إلى مدينة مثالية متخيلة. ولم يضف بعض القـــــادة النقابيين أمثال باتو وبوجيه، في كتاب عنوانه «كيف سنقـــوم بالثورة» أية مساهمة محددة لمشكل المرحلة الانتقالية رغم أن عنوان الكتاب يلزمها بذلك: إضراب عام قصير، ويتداعى النظـــــــام... وبعد بضعة أيام من الاضطرابات التي يرافقها حد أدنى من الأعمال العنيفة، يتقدم النقابيون باطمئنان لبناء المجتمع الجديد. وقد بقي ذلك في حيز روايات الجن. أمّا موسكو عام 1920، فقد كنا أمــام الحقيقة والواقع. لا تسمح البورجوازية، حتى لو كانت بورجوازية ضعيفة كالبورجوازية الروسية، بأن تهزم بسهولة، فهي تعرف أن تخرب عندما تكون مهددة، كما أنها وجدت من يدعمها من الخارج عندما سارعت بورجوازية العالم بأسره لمساعدتها. وهكذا لم يستطع الثوريون أن ينصرفوا بهدوء إلى العمل، فقد كان عليهـــم أن يحضروا للحرب، لحرب رهيبة، لأن الهجوم كان من كل صوب وناحية. لقد أرادوا السلم، وكانوا أسخياء وشرفاء تجاه أعدائهم، وقد أخلوا سبيل عدد من الجنرالات المتمردين لقاء تعهد شفهي، إلاّ أن كل شيء كان بلا جدوى. لقد فرضت البورجوازية الحـرب عليهم، وخالف الجنرالات المحررون تعهدهم. واستنفذت كل موارد البلد في الحرب، الموارد المادية والأخلاقية التي رمى بها طيلة ثلاث سنوات في الحرب. وكل من يعتقد أن الأمور ستجري بصورة مخالفة وأكثر سهولة في مكان اخر يرتكب خطيئة لا تغتفر. سيكون الصراع أشد ضراوة، إذ أن البورجوازية هي حيثما كان أكثر قوة.

تبين أن بعض المندوبين الذين يعتقدون أنفسهم على اتفـــــــاق تام مع الموضوعات المقدمة للمؤتمر هم أكثر المندوبين ابتعادا عنها. وقد جاء لينين على ماكلين، مندوب الحزب الاشتراكـــــــي البريطاني، الذي ادعى تقديم موافقة غير متحفظة على الموضوعات – موافقة على دور الحزب، والمشاركة في الانتخابات، والنضال داخل النقابات الاصلاحية - : «كلا، ليس الأمر بمثل هــــــذه السهولة، إذا كنت تعتقد ذلك فلأنك لازلت متأثرا بالثرثــــرة الاشتراكية التي كانت سائدة في الأممية الثانية والتي كانت تتوقف أمام العمل الثوري.» وكان تروتسكي يقول بصدد الحزب: «من المؤكد، أنه ليس ضروريا إقناع شيدمان بفوائد وضرورة الحزب، ولكن لن يكون ثمة مكان لشيدمان في الحزب الذي نريده». كما رد بوخارين بحماس على رفيق اسباني شاب أحب أن يثبت أرثوذكسيته الماركسية بقوله: «ماذا يعني هذا: محاربة الفوضوييـــــــــن؟ في حين يوجد بعض الفوضويين الذين أيدوا، بعد أوكتوبر ديكتاتورية البروليتارية، ويوجد آخرون اقتربوا منا وأخذوا في العمل داخل السوفييتات وفي المؤسسات الاقتصادية. ليس المطروح هو «المحاربة» بل النقاش الودي والصريح، ورؤية ما إذا كـــان بالامكان العمل معا، وعدم التخلي عن ذلك الا في حال الاصطدام بمقاومة لا يمكن تجاوزها».

التقيت في موسكو بجاك تانر، وهو الذي كان يرسل إلينــــــا حتى 1914 «رسائل لندن» «للحياة العمالية». كنت قد رأيتـــــــــه في باريس أثناء الحرب حيث جاء للعمل في مصنع في إحدى ضواحي باريس. وهو يمثل مع رامسي، «لجان مندوبي العمال» التي تطورت واكتسبت أهمية كبرى أثناء الحرب كردة فعل على موقف أكثرية قادة التريديونيونات المؤيدة للسياسة الحربية للحكومة.

وكنت على اتفاق تام معهما, لم يكن النضال داخل النقابات الإصلاحية بالنسبة إليهما شيئا جديدا، فلقد اشتركا فيه باستمـــرار، كما أنهما، مثلي، لا يوافقان حتى الآن على البرلمانية والحزب السياسي.

شذنا تعاطف شديد إلى بعض المندوبين رغم استمرار الخلافات بيننا وبينهم، فقد كان جون ريد وأصدقاؤه الأميركيين متفقين مع البلاشفة حول مسألة الحزب، إلاّ أنهم كانوا ضد العمل في النقابات الإصلاحية. كما انفصل ويجينكوب بوضوح، وهو ممثل الاتجاه الاشتراكي-الديموقراطي اليساري في هولندا، عن «اليساريين» Pannekoek وغورتر، فهو يعتبر وجود «الوسطيين» والاشتراكيين الانتهازيين مثل كاشين وفروسار الذين جاؤوا للإطلاع وجودا لا يحتمل. كما أنه لا يترك مناسبة إلاّ ويحتج فيها على وجودهم قائلا: «انهم ليسوا في مكانهم هنا».

كانت اللقاءات الأولى بين المندوبين ثمينة جدا، فقد اكتسبنا الشيء الكثير الواحد عن الآخر. وكانت محادثاتنا ونقاشاتنا تستمر مطولا في الليل، لا يقطعها سوى بعض الرحلات واللقاءات مع العمال والجنود. وقد حاء بوخارين ذات يوم وصحب بعضا منا إلى مخيم عسكري في جوار المدينة. وما أن وصلنا إلى منصة عالية حتى صرخ بوخارين «هذه هي دبابتنا» وشرح لنا ذلك. كان ايدونيتش القادم من أستونيا يهاجم باتجاه بتروغراد، وكان يتقدم بسرعـــة بفضل الدبابات التي زود بها الإنجليز جيشه. ولم يكن المتطوعون الجدد الشباب في الجيش الأحمر قد رأوا من قبل هذه الآلة الرهيبة. التي أثرت عليهم تأثير وحش لا يملكون أمامه أية وسيلة دفاعيـــة. مما أدى إلى اضطراب وخوف. لم يكن بوسع الجيش الأحمـــــــر، في سعيه لمواجهة هذه الآلة الضخمة، سوى اللجوء إلى أسلحة خاصة، بين هذه الأسلحة كانت المنصة (وهي أكثرها أهميــــة)، فمنها كان البلاشفة يشرحون للعمال والفلاحين معنى الحرب المفروضة عليهم، وهكذا كان الجنود يعرفون سبب الحرب التي يخوضونها.

كان الاشتراكي الإيطالي Pannekoek موجودا بين مجموعتنا الصغيرة في ذلك اليوم، والمعروف عنه أنه يلعب دورا معاديا للبرلمانية رغم أنه نائب ومعاد لبورديغا، الاّ أنه يساهم بواسطــة موقعه اليساري المتطرف غير المحدد أبدا في العمل على عزلة سيراتي المتروك بلا أي دعم من على يساره. كان جميلا جدا، ذا رأس ذهبي. تلمع لحيته وشعره تحت أشعة الشمس. صعـد إلى المنصة وأخذ يقوم بحركات ايمائية مؤثرة يحرك فيها جسده كله، ويتدلى أحيانا فوق الحاجز إلى حد يخيل معه أنه سيقع في الفــراغ. لقد أصاب نجاحا كبيرا، رغم أنه لا حاجة لترجمة أقواله. وقـــد حملناه على محمل الجد دون أن نفكر إطلاقا أنه سينتهي إلى جانب موسوليني. لم تكن نقاشاتنا الطورية والجادة خالية من لحظات ارتياح، وكان بوسعنا أن نرى أثناء ذلك بعض المندوبين يلاحقون Bombacci في أروقة دييلوفوي دفور صارخين: «ليسقــــط النائب».

لم تكن علاقاتنا مع أحد المندوبين الإيطاليين الآخرين بمثل هذه الودية ولم تكن تتضمن مثل هذا المزاج. (المندوب الآخر اسمه داراغونا). كما أن رفاقه في التنظيمات النقابية مثل دوغوني، وكولومبينو، لم يظهروا إطلاقا في اجتماعاتنا: فلقد عادوا بسرعة. وليس من المبالغة في شيء القول أنهم لم يأتوا سوى لإيجاد مبررات لمحاربة البلشفية لا لتأكيد انضمام حزبهم إلى الأممية الثالثــــة. وكانوا يقولون في مجالسهم الخاصة، في سبيل تبرير موقفهم أن العمال الإيطاليين لا يتحملون إطلاقا الحرمان الذي تفرضه ثورة أوكتوبر على العمال الروس. ولكن داراغونا الذي وقع على نداء المجلس العمالي المؤقت للنقابات الحمراء لم يكن يستطيع التهرب دائما وكان يضطر للخضوع إلى أسئلتنا. وكنا نطرح هذه الأسئلة بدون أية مواربة لأننا كنا واثقين من عدم إخلاصه، فهو لا يفعل سوى السباحة مع التيار، تماما مثل كاشين في فرنسا. وعندما يجــــــــد نفسه محاصرا من قبلنا يسارع للبحث عن سيراتي الذي ينقذه من المأزق الذي أوقعناه فيه.



--------------------------------------------------------------------------------

12- راديك يتكلم عن بوخارين


كان على، أثناء فترات التحضير للمؤتمر، أن أقوم بعمل إضافي في لجنة الترشيح، إذ أن اللجنة التنفيذية اختارتني لأكون عضـــوا فيها مع البلغاري شابلين، وراديك سكرتير الأممية الشيوعيــــــــة ذلك الوقت.

يحتل راديك في الأممية الشيوعية موقعا خاصا. فهو بولوني ناضل بصورة خاصة في ألمانيا، وتحول الان نوعا ما إلى روسي. المعروف عنه أنه صحافي لامع ومطلع، الاّ أنه ليس من النادر أن ترد حوله ملاحظات تتعلق بسلوكه في المجموعات التي عمل معها. ولقد اتيحت لي الفرصة لأتعرف عليه أثناء اجتماعات اللجنة أولا، وأثناء اجتماعات اللجنة التنفيذيةللأممية الشيوعية ثانيا. طلب مني، بعد لقائنا الأول في اللجنة التنفيذية، أن أذهب لموافاته في مكتبه الكائن في بناية السفارة الألمانية القديمة حيث أغتيل السفير فون ميرباخ على يد الاشتراكي-الثوري بلوري بلومكين. كان يدعي معرفة الفرنسيــة الاّ أنه لم يستعملها قط، ودار حديثنا بالانكليزية. حاول أن يكــون لطيفا في هذا اللقاء الأول، وأخذ يحدثني بعد أن سألني حــــول الحركة الفرنسية، عن أعماله الأخيرة وخاصة عن دراسة حول بوخارين «قرأت في سجني كتابات بوخارين الرئيسية واقتنعت أن الحكم الذي نطلقه، نحن الاشتراكيين الديموقراطيين، عليــــــــــــــه هو حكم خاطىء من عدة أوجه. يجب علينا إذن أن نستعيد هذا العمل».. تولد لدي انطباع بأن هذا هو تنازل مفاجئ للنقابيين والفوضويين الذين يضعون بوخارين بين كبار الممهدين لهم.

عدنا إلى الشؤون الفرنسية، فسألني عن رأيي بقيادة الحزب الاشتراكي الفرنسي وخاصة كاشين وفروسار، وعن رأيي برحلتهما الاستطلاعية. كان يعرف فرنسيس ديلايزي عبر كتابه «الديموقراطية وأصحاب الأموال»، فسألني عن نشاطه الحالي وعن موقفه أثناء الحرب وعن إمكانية جذبه نحو الشيوعية. فأجبته بأني لا أعرف شيئا إذ أن ديلايزي بقي صامتا أثناء الحرب التي كان قد أعلن عن اقترابها وعن طابعها في كتابه «الحرب القادمة».

كانت مهمتنا في اللجنة سهلة، إذ أن المندوبين الذين قدموا إلينا توكيلاتهم كانوا معروفين، ولم يكن ثمة اعتراضات. ولم يحصل سوى حادث عابر بشأن البعثة الفرنسية. كان جاك سادول وهنري غليلبو قد شاركا في المؤتمر الأول. وكان لغيلبو، المعتبر كممثل «لليسار الزيمرفالدي الفرنسي»، الحق في التصويت، في حيـــــن قبل سادول، مندوب المجموعة الشيوعية في موسكو، كعضو استشاري. فهل كان من الواجب ادخالهما ضمن البعثة؟ كنت إذا العضو الوحيد الذي يملك تفويضا من لجنة الأممية الثالثة. وكان تقديري أن غيلبو الذي قام بنشاط في سويسرا، مؤهل ليحصل على توكيل يخوله حق التصويت، في حين لا يجب أن يحصل سادول، وهو المرتبط بالحزب الاشتراكي، والحليف المؤقت، على أكثر من صوت استشاري. لم يرق هذا العرض لراديك – فهو يكــــــــره غيلبو لأسباب شخصية، ولذا أنذر سادول الذي قدم لنا احتجاجــا شديدا. وأخيرا وضعنا غليبو وسادول على صعيد واحد واعتبرناهما مندوبين استشاريين، وهذا ما لم يرض لا الأول ولا الثاني.



--------------------------------------------------------------------------------

13- سمولني- الجلسة الافتتاحية لافتتاح المؤتمر الثاني


في 16 تموز 1920 ذهب المؤتمر بكامله إلى بتروغراد حيث عقد جلسة في اليوم الثاني. لقد انطلقت الثورة من بتروغـــــراد، وهناك يجب الاحتفال بافتتاح المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية. جرى الاحتفال في سمولني، معهد الفتيات النبيلات القديم الذي تحـــــــول في أوكتوبر إلى المقر العام للثورة. وعندما تقدم لينين في القاعة الكبرى حيث كنا مجتمعين، أحاط به المندوبون الإنكليز والأميركيون مع بعض الوحدات الأخرى وأخذوا ينشدون نشيد أيدل، لـدى الإنكليز، على مزيج من الحب والإعجاب.

بعد بضعة خطب قصيرة انتظم المندوبون، الذين انضم إليهم بعض مناضلي بتروغراد، في موكب وتوجهوا نحو حقل مارس حيت قبور ضحايا الثورة، وثم إلى قصر توريد قصر الدوما الأول ثم مقر سوفييتات بتروغراد الذي تابعنا نقاشاته من أذار إلى تشرين الثاني، وقد كان البلاشفة أقلية فيه في البداية إلاّ أنهم تقدموا سريعـــا وأصبحوا أكثرية منذ أيلول وجعلوا من تروتسكي رئيسا للسوفييتات، المرة الأولى كانت قبل اثني عشر عاما أثناء ثورة 1905.

كانت قاعة الجلسات شبيهة بالقاعات التي تجمعت فيها كافة برلمانات العالم (باستثناء انكلترا حيث القاعة مستطيلة بشكــــــل يلغي بالضرورة الخطب البليغة الرنانة)، فثمة منصة عالية وقاعة جلس فيها المندوبون، ومكان لجلوس المشاهدين. في هذه القاعــة جرى الاحتفال الافتتاحي للمؤتمر. وألقى لينين الخطاب، ليس مطروحا، في إطار هذا الكتاب، تقديم عرض، ولو ملخـــــص، لأعمال وقرارات هذا المؤتمر الذي هو في الحقيقة المؤتمر الأول للأممية الشيوعية. لقد كان هدف مؤتمر 1919 إعلان الأمميـــة الثالثة. وقاوم لينين المتلهف لتثبيت أفكاره في الوقائع عندمــــــــا يكون ذلك مناسبا وضروريا، الاعتراضات، وخاصة اعتراضات روزا لوكسمبورغ والحزب الشيوعي الألماني الذي جاء مندوبه الوحيد إلى المؤتمر ليعارض اعلان الأممية الجديدة، فقد كان هذا الإعلان مبكرا جدا حسب رأي روزا لوكسمبورغ وكان من الضروري التحضير له. أمّا المؤتمر الثاني فكان على عكس ذلك ذا تمثيل ملحوظ إذ جاء المندوبون من كافة أنحاء العالم، ووضعت تحت شعاره كافة مسائل الاشتراكية والثورة. لقد اكتفت في هذا المؤتمر كما في المؤتمرين الاخرين – اللذان عقدا أيام لينين – باستخلاص النقاط الأساسية من النقاشات والموضوعات، واجتهدت لإعادة بناء المناخ الذي جرت هذه المؤتمرات فيه، ولتقييمها. كان خطاب لينين شديد الدلالة على الانسان وعلى طريقته. فقد بدا جاهلا لأهمية اللقــــــاء في هذا المكان مخلا خطابه من الجمل الكبيرة التي تشجع هذه المناسبات عليها. وكانت المفاجأة الكبرى عندما علم أن الخطاب مبني على كتاب الإنكليزي جون ماينارد كينز «النتائج الاقتصادية للسلم». وليس ذلك لعدم أهمية الكتاب، فكينز هو الوحيد، بين خبراء مؤتمر السلم، الذي رأى بوضوح واستطاع أن يبرهن على النتائــــــج الوخيمة للصلح النصف – ويلسوني على اقتصاد أوروبا الجديدة. انطلق لينين من هذا الكتاب ليصل إلى ما أظنه أساسي بالنسبــــــــة له. لقد كان فكره مشغولا في تلك الفترة – كما يدل كتابه عن «اليسارية» - بالخوف من أن تعتبر الأحزاب الشيوعية الشابــة الثورة شيئا سهلا ومحتما. وقد كان يركز على أنه من الخطأ والخطر القول بأنه لن يكون للبورجوازية، غداة الحرب العالمية، أي مخرج. وعاد، بعد أن صاغ هذا التحذير، وحسب طريقته المعتادة التي تعطي لخطبه وكتاباته طابعا مفككا، فاستعاده، ووسعه بتعابير أخرى – بتنويهات جديدة حول الموضوعة نفسها.

ألقى أعضاء مكتب المؤتمر خطبا قصيرة. ووردت في خطاب بول ليفي ملاحظة مزعجة. فقد هاجم كلمة «schlangen» مرتين في خطابه أثناء كلامه عن العدوان البولوني. لقد تابعنا بسرور رد الجيش الأحمر على بيلسودسكي، وملأتنا المسيرة الجريئة لتوكاتشيفسكي على فرصوفيا بالأمل الا أننا كنا ننتظر تمرد الشعب، والثورة في بولونيا غير أن لهجة الخطيب وهذا الـ«schlangen» المكر تعبران عن نوع من الشوفينين الموجودة لدى الألمان حيال البولونيين، ومن المؤكد أن كلماته من هذا المجال لم تكن إطلاقا كلمات أممي.

حدث بعض الظهر اجتماع جماهيري في ساحة قصر الشتاء الواسعة، وكان هذا اللقاء غنيا بالذكريات. كان ثمة منصة منصوبة أمام القصر يستطيع المرء منها أن يشاهد الجمهور الذي جاء يستمع إلى الخطباء، ولم يكن بوسعنا الا أن نتذكر جمهورا آخر، الجمهور الذي قاده الكاهن غابون مستعطفا نيقولا الثاني الذي استقبل الجميع بالرصاص. مر غوركي لحظة بيننا، إنه رجل كبير الجسم، عريض المنكبين وقوي البنية. كنا على علم بأنه مريض وخاضع لعلاجات دائمة إلاّ أن رؤيتنا له على هذا الشكل القوي في الظاهر خلفت لدينا انطباعا حسنا. لقد حارب البلاشفة وثورة أوكتوبر بضراوة. إلاّ أنه عاد فانضم إلى النظام، بدون أن يتخلى كليا عن انتقاداته وتحفظاته، صارف غالبية قوته ونشاطه لانقاد الرجال الملاحقين ظلما، متدخلا لدى القادة السوفييات الذين كانوا أصدقاءه منذ مدة طويلة. ويقـــال إنه أحد كتاب مسرحية جديدة سوف نشاهد عرضا أولا لها في المساء.

لم يكن بوسعنا تصور مكان في الهواء الطلق أفضل من هذا المكان، ساحة قصر البوصة، الذي لم يتم اختياره لقيمته الرمزية فحسب كان الديكور فخما. وكان البناء، اليوناني من حيـــــث نموذجه، محاطا بسور من الأعمدة.

يتألف المسرح من ساحة متصلة بسلم عال. وعليه جـــــرة سلسلة من المشاهد المعبرة عن «مسيرة الاشتراكية عبر الصراع والهزائم نحو النصر». يبدأ التاريخ من «البيان الشيوعي» الــذي نرى كلماته المعروفة على قمة الأعمدة «يا عمال العالم إتحــدوا! فإنكم لا تملكون شيئا لتفقدوه سوى أغلالكم!». افتتح الحفــــل بالطلقات الثلاث من مدفع الحصن وكان المشهد الأول عن كومونة باريس، ثم عن حرب 1914، ثم عن قادة الأممية الثانية الذين يسجدون أمام حكوماتهم وأمام الرأسمالية في حين يأخذ ليبكنخت العلم الأحمر الذي تركوه يسقط ويصرخ: «لتسقط الحرب!»، ثم مشهد ازاحة القيصرية الذي تم إخراجه بطريقة طريفة: تصل العربات المحملة بالجنود المسلحين من نقاط مختلفة ويهدمون بناء القيصر وزمرته. وثمة مشهد قصير يظهر فيه كيرنسكي الذي سرعان ما استبدل بلينين وتروتسكي، صورتين كبيرتين محاطتين بعلم أحمر ومنارتين بأضواء قوية. كما وجدت سنوات الحرب الأهلية خاتمتها الرمزية في هجوم فرسان بودييني الذين يزيلون أثار عدوان الجيوش المضاد للثورة. وفي النهاية، ختم نشيد الأممية المتصاعد عاليا في الليل، مثل فعل الإيمان، هذا النهار المليء بالانفعالات.



--------------------------------------------------------------------------------

14- نقاشات المؤتمر الثاني


ما أن عدنا إلى موسكو حتى بدأ المؤتمر أعماله. كانت البعثة الروسية هامة إن من حيث عددها أم من حيث أهمية أعضائهــــا، فهي تضم: لينين، وتروتسكي، وزينوفييف، وبوخارين، وراديك، وريكوف، وريازانوف، ودزيرجينسكي، وتومسكي، وبوكروفسكي، وكروبسكايا. القضية الأولى في جدول أعمال هذا النهار هي دور الحزب الشيوعي. في حين أن المسألة المطروحة أولا بالنسبة للبعض هي مسالة الحزب السياسي نفسه، إذ لم يسبق لهذا البعـــــض أن انضم إلى حزب سياسي بل إنه بذل كل نشاطه ضمن تنظيمات عمالية. هذا ما قاله جاك تانر من على المنصة وشرح كيف ازدهرت أثناء الحرب «shop stewards committes» والأهمية الجديدة التي اكتسبتها بالتعارض مع سياسة زعماء التريديونيـــووات السائرين وراء السياسة الحربية للحكومة البريطانية. لقد قادتهم المعركة العنيفة التي خاضوها أثناء الحرب إلى تقديم برنامج ثوري للجان المصنع، وإلى الانضمام، منذ البداية إلى ثورة أوكتوبر والأممية الثالثة. الا أن نشاطهم نما وتطور دائما خارج الحزب، وإلى حد بعيد ضد الحزب الذين كانوا يجدون بعضهم قادته أمامهم في النضالات النقابية. لم تعمل تجربتهم الخاصة طيلة السنوات الماضية سوى على تدعيمهم هذه القناعات النقابية: لا تستطيع سوى الأقلية الأكثر وعيا وتأهيلا في الطبقة العاملة توجيه وقيادة جماهير العمال في النضال اليومي من أجل مطالبها كما في المعارك الثورية.

رد لينين على جاك تانر، وقال ما يمكن تلخيصه بأن «هذه الأقلية الواعية في الطبقة العاملة، هذه الأقلية النشيطة التي يجــب أن تقود عمل هذه الطبقة، هي الحزب، هي ما نسميه نحــــن الحزب. ليست الطبقة العاملة متجانسة، فبين الشريحة العليـــــا التي وصلت إلى معي تام، والفئة التي نجدها في الأسفل، أي التــي لا تملك أي وعي لوضعها، بحيث يجد أرباب العمل فيها العمال الصفر ومحطمي الاضرابات، بين هاتين الفئتين يوجد جمهور العمال، هذا الجمهور الذي يجب قيادته وإقناعه إذا ما أردنا الانتصار. ولكن من أجل ذلك يجب أن تتنظم الأقلية، وتخلق تنظيما صلبا، وتفرض انضباطا مؤسسا على مبادئ المركزية الديموقراطية؛ وهذا هو الحزب».

ودار نقاش مماثل لهذا بين بيستانا وتروتسكي. فبيستانـــــــا، على عكس تانر الذي لا يمثل سوى تنظيمات ضئيلة العدد لا تتطور سوى على هامش التنظيم النقابي المركزي، يستطيع أن يتكلم باسم «الاتحاد الوطني لتراباجو» هذا الاتحاد الذي لا يضم كافة النقابيين الاسبانيين، نتيجة وجود مركز نقابي آخر يسيطر عليه الاتجاه الاشتراكي، الا أنه يستطيع أن يفاخر بأنه يعد حوالي مليون عضو، وبأنه موجود بقوة في المناطق الصناعية من البلاد وخاصة في كاتولونيا، وهو يجسد التراث الفوضوي-النقابي المتأصل جــــــــدا في اسبانيا. وهكذا تكلم بيستانا بثقة أكبر من تانر وبلهجة أكثـــر حسما.. وهو يكن للحزب ما هو أكثر من العدائية: الاحتقــــــــــار. وقد سلم بأنه «من الممكن ان يسعى العمال في بعض البلدان للانظمام في أحزاب سياسية، أمّا في اسبانيا فلا حاجة لنا لذلك. ويبرهـن التاريخ أن ثمة ثورات، ابتداء بالثورة الفرنسية الكبرى، حدثـــت بدون حزب». ولم يستطع تروتسكي إلاّ أن يقاطعه قائلا: «لقـــد نسيت البعاقبة!».

أصر تروتسكي في جوابه على ليفي أن يستعيد مسالة الحزب رغم أن ليفي أعلن، بكبريائه المعهود، أن هذه مسالـة محسومــــــة منذ زمن طويل بالنسبة لغالبية عمال أوروبا وحتى أميركا، وأن أي نقاش حولها لن يساهم في زيادة نفوذ الأممية الشيوعية. وقد رفض تروتسكي ذلك باعتبار أن ليفي يتكلم واضعا في ذهنه حزب شيدمان وكاوتسكي. «ولكن إذا كنت تفكر في الحزب البروليتاري فيجب ملاحظة أن هذا الحزب يمر، في مختلف البلدان، بأطوار مختلفة من تطوره. ففي ألمانيا، الأرض التقليدية للاشتراكية-الديموقراطيــــة، نجد طبقة عاملة مثقفة تثقيفا عاليا، ومتقدمة باستمرار، ومستوعبــة كل ما هو ثمين في تراثها. ونلاحظ، من جهة أخرى، أن هذه الأحزاب بعينها تدعي الكلام باسم غالبية الطبقة العاملة، أحزاب الأممية الثانية التي ترغمنا على طرح السؤال: هل الحزب ضروري أم لا؟ وبالضبط لأني أعرف أن الحزب ضروري، ولاني مقتنع بقيمته، وبالضبط لأني ارى شيدمان من جهة، ومن الأخــــــرى النقابيين الأميركيين، والإسبانيين، والفرنسيين الذين لا يريدون النضال ضد بورجوازيتهم فحسب، بل يريدون، على خــلاف شيدمان، خلعها، فإني أقول، لهذه الأسبـــــاب، أن النقـــــاش ضروري مع الرفاق الاسبانيين، والأميركيين، والفرنسيين بغية البرهان لهم على ضرورة الحزب لاستكمال المهمة التاريخية الراهنة، قلب البورجوازية. سأحاول أن أبرهن لهم، على قاعدة تجربتي الخاصة، لا أن أقول لهم، استنادا إلى تجربة شيدمان، أن المسالة محسومة منذ زمن طويل. إننا نرى كم هو كبير نفوذ التيارات المعادية للبرلمانية، داخل بلدان البرلمانية والديموقراطية العريقة، في فرنسا مثلا، وبريطانيا، وغيرهما. وقد أتيح لي، في فرنســـا، أن ألاحظ بنفسي، في بداية الحرب، أن الأصوات الأولى الجريئة ضد الحرب ارتفعت من مجموعات صغيرة من النقابيين الفرنسيين حين كان الألمان على أبواب باريس. وقد كانت هذه الأصوات أصوات أصدقاء مونات، وروزمير، وغيرهم. لم يكن مطروحا مفاتحتهـــم بأمر تشكيل حزب: فعناصر كهذه قليلة جدا. إلاّ أني شعــــــــــرت أني رفيق بين مجموعة رفاق مونات وروزمير وأصدقائهم الذيـن كان لأكثريتهم ماض فوضوي. ولكن، هل كان ممكنا وجود شيء مشترك بيني وبين روينوديل الذي كان يفهم تماما أهمية الحزب؟

«يقوم النقابيون الفرنسيون بعملهم الثوري في النقابات. عندما ناقشت هذه المسألة مع روزمير، وجدنا أرضا مشتركة. كـان النقابيون الفرنسيون يقولون في مواجهة تقاليد الديموقراطية ورغما عنها: «إننا لا نريد أحزابا سياسية، فنحن من أنصار النقابـات العمالية، ومن أنصار الأقلية الواعية التي تدعو، داخل النقابات، وتطبق وسائل العمل المباشر». فما هي هذه الأقلية التي يتكلــــم عنهــا النقابيون الفرنسيون؟ لم يكن هذا واضحا بالنسبة اليهم، الا أنـــه دليل على التطور اللاحق الذي لم يمنعهم، رغم الاحكام المسبقة والأوهام، من لعب دور ثوري في فرنسا، ومن تجميع هذه الأقلية الصغيرة التي جاءت إلى مؤتمرنا الأممي. «ماذا تعني هذه الأقلية بالنسبة لأصدقائنا؟ انها نخبة الطبقة العاملة الفرنسية، إنها القســـم الذي يملك برنامجا واضحا، وتنظيما خاصا، تنظيما تناقش فيــــه كافة المسائل، وتأخذ القارارت، وحيث يرتبط الأعضاء بانضباط معين. وسوف تصل النقابية الفرنسية، نتيجة صراعها ضد البورجوازية وبحكم تجربتها الخاصة وتجربة البلدان الأخرى، إلى خلق الحزب الشيوعي.

«أمّا الرفيق بيستانا، سكرتير التنظيم النقابي الاسباني الكبيـر، فقد جاء إلى موسكو لأنه يوجد بيننا رجال منتمون إلى هذا الحــــــد أو ذاك، إلى العائلة النقابية، وثمة اخرون «برلمانيون»، وهنـاك أخيرا من ليسوا برلمانيين أو نقابيين، بل أنصار العمل الجماهيري، الخ. ولكن ماذا نقدم له نحن؟ إننا نقدم له حزبا شيوعيا أمميا، أي توحيد العناصر المتقدمة في الطبقة العاملة، هذه العناصر التــي حملت إلى هنا تجربتها، وجعل هذه العناصر تتجابه وتنقد بعضها البعض وتأخذ القرارات. وعندما يعود الرفيق بيستانا إلى اسبانيا، حاملا قرارات المؤتمر، فإن رفاقه سيسألونه: «ماذا تحمل إلينــــــا من موسكو؟» وسوف يقدم لهم إذ ذاك ثمار أعمالنا، ويخضــع قراراتنا لاقتراعاتهم، وعند ذلك لا يعود النقابيون الاسبان المتحدون على قاعدة موضوعاتنا يشكلون سوى الحزب الشيوعي الاسباني.

«تلقينا البوم عرضا للسلام مع الحكومة البولونية. فمــــن يستطيع الاجابة على هذا السؤال؟ لدينا مجلس مفوضي الشعـــــب، الاّ أنه يجب أن يخضع لرقابة معينة. رقابة من؟ رقابة الطبقـــة العاملة كجمهور سديمي لا شكل له؟ كلا، سوف تدعى اللجنة المركزية، وسوف تدرس العرض وتقرر. وعندما نريد أن نخوض الحرب، وننظم وحدات جديدة، ونجمع أفضل العناصر، فإلــــــــــى من نتوجه؟ إننا نتوجه نحو الحزب، نحو لجنته المركزية. والأمر نفسه بالنسبة إلى التموين، والمسألة الزراعية، وكافة المسائل الأخرى. من يقرر هذه المسائل في اسبانيا؟ إنه الحزب الشيوعي الاسباني – وكلي ثقة بأن الرفيق بيستانا سيكون من مؤسسي هذا الحزب [5]».

لم تكن المسألة القومية بنظر لينين أقل أهمية من مسألة الحزب لقد استنهضت الثورة الروسية البلدان المستعمرة ونصف المستعمرة، كما أن نضال هذه الشعوب التحرري يمر في فترة مناسبة يخرج فيها المستعمرون الامبرياليون منهكين من الحرب، ولذا يجب أن يكون هذا النضال حاسما، وأن يضمن تحرر هذه الشعوب وإضعـــاف القوى الامبريالية الكبرى. لم يكن يجهل أن مفاهيم مختلفة، وحتى متعارضة ستتصادم داخل المؤتمر حول هذه النقطة أيضا. فلقــد ساجل قبل الحرب حول هذا الموضوع مع روزا لوكسمبورغ التي تعتبر الاشتراكية فوق المطالبات القومية الملطخة إلى هذا الحد أو ذاك بالشوفينية. وهو يملك الأسباب التي تجعله يعتقد أن هــــذا سيكون موقف بعض المندوبين. لذا فقد أخذ على عاتقه صياغة الموضوعات وأصر على تلاوتها أمام المؤتمر بعد نقاشها في اللجنة. أمّا في الواقع فقد حدث النقاش الفعلي داخل اللجنة.

كانت البعثة الهندية كبيرة نسبيا، وعلى رأسها رجل كفــــوء، مانا بيندرا نات روي. كلفت نشاطه في الهند الاعتقال والنفي، وقد وجدته ثورة أوكتوبر في المكسيك. وصل إلى موسكو عبر ألمانيا، وبعد أن توقف في الطريق واستعلم، حتى أنه وصل إلى المؤتمر مطلعا إطلاعا جيدا على الحركة الثورية في العالم. كان يملك آراء محددة في النضال الواجب خوضه ضد الإمبريالية البريطانيـــــة. فهو يرى أنه يجب على الحزب الشيوعي الهندي قيادة هذا النضال.. لاشك أن للبورجوازية الهندية برنامجا على الصعيد القومـــي، إلاّ أنه لا يجب التحالف معها في النضال من أجل الاستقلال، بل محاربتها كما يحارب المحتل البريطاني، وذلك لأنها بقدر ما تملك سلطة خاصة – كانت تملك مصانع كبيرة للنسيج والمعادن – تكون عدوة العمال، ومستغلة لهم مثل رأسماليي الأمم الديموقراطية المستقلة.

رد لينين عليه بصبر، وشرح له أن الحزب الشيوعي الهنــدي لن يكون، ولزمن قد يطول أو يقصر، سوى حزب قليل العــــــدد يملك موارد ضعيفة، ويعجز عن أن يصل، على أساس برنامجه ونشاطه المنفرد، إلى عدد محترم من الفلاحين والعمال. علــى عكــس ذلك، يمكن، على أساس مطالب الاستقلال القومي، تعبئة جماهير واسعة – وقد برهنت التجربة على ذلك - ، ولا يمكــن للحزب الشيوعي الهندي في غير مجرى هذا النضال، أن يوجد ويطور تنظيمه بشكل يجعله قادرا، بعد تحقيق المطالب القومية، على مجابهة البورجوازية الهندية. قام روي وأصدقائه ببعض التنازلات، ووافقوا على أنه بمكن القيام بعمل مشترك ضمن ظروف خاصـة رغم بقاء الخلافات الهامة. وقد جمع لينين موضوعته إلى المؤتمــر مع موضوعة روي وقدما تقريرا مشتركا.

كانت المسألة النقابية أقل المسائل التي عولجت بصورة جيدة. لا بعني ذلك أنها لم تناقش مطولا: كانت اللجنة لا تزال تناقشهــا عندما شرعت الجمعية العامة في نقاشها، كما اجتماعات تمهيدية كانت قد عقدت بين راديك والنقابيين البريطانيين قبل وصولــــي. عين راديك كمقرر، وكتب الموضوعات رغم أنه لا يملك أية كفاءة في هذه المسائل. فقد كان يعالج مسألة بمثل هذه الصعوبة بعقلية الاشتراكي-الديموقراطي الألماني الذي حسم سلفا أن للنقابات دورا ثانويا وأن لا مبرر للنقاش حول ذلك. لقد ردد ما قاله صديقه بول ليفي بصدد الحزب: كان هذا النقاش مخجلا وغير قادر على إنماء نفوذ الأممية الشيوعية.

وجد راديك دعما بلا تحفظ من قبل أعضاء اشتراكيين-ديموقراطيين في اللجنة، وبينهم والشر Walcher الذي بدا أقلهم تفهما، جاهلا أو متجاهلا خصائص الحركة النقابية في بلد مـثل إنكلترا حيث تملك هذه الحركة تقاليد راسخة وتاريخا طويلا. وهكذا وجدنا تانر، ومروفي، ورامسي، وجون ريد، المختلفين حــــــول نقاط عديدة، على اتفاق لرفض هذه النصوص المقتصرة علـــى استعادة موضوعات تخدم الأممية الثانية. وفي الجهة الأخــــرى، وقف راديك والاشتراكيون-الديموقراطيون الواثقون من امتلاك الحقيقة. وكان النقاش يدور لساعات طويلة دون التقدم خطـــوة واحدة. لم يكن بالإمكان، رغم الأهمية الجديدة الممنوحة لدور الحزب، ولضرورة التنظيم المركزي في خوض النضال الثوري على مثال الحزب الشيوعي الروسي، تجاهل دور النقابات في البلدان الرأسمالية، ودورها في بناء المجتمع الاشتراكي. إذ انه ليس من النادر سماع اتهامات وانتقادات موجهة للنقابات الروسية وللطريقة التي تضطلع بها بمهامها، ولعدم كفايتها، وهي انتقادات لا يتركها القادة النقابيون بلا جواب. كما طرحت مشاكل جديدة، فقد بـرزت أثناء الحرب مجالس مصانع في بلدان عديدة، فما هي مساهمتها خاصة؟ وما هي علاقاتها بالنقابات؟

عندما جئت إلى اللجنة كانت هذه قد عقدت اجتماعات عديــدة، إلاّ أني اعتقدت أنه الاجتماع الأول. كان الاشتراكيــون-الديموقراطيون مقتنعين إلى حد اكتفوا معه بصياغة وجهات نظرهم، وكانوا مقتنعين سلفا بعدم اعتبار أية من ملاحظات الآخرين. كان راديك يتابع النقاش بدون اهتمام، مفتشا في رزم الصحف التـي يحملها إليها بريد الأممية الشيوعية. عندما انتهى، رفعت الجلسة لتعود فتعقد مجددا عندما يحلو له ذلك. وكان يحدث أنه أثناء انعقاد الجمعية العامة كنا نبلغ بأن اللجنة ستجتمع فور انتهاء جلســـة الجمعية – غالبا حوالي منتصف الليل – وكنا في اللجنة نستعيد النقاش حتى الساعة الثانية أو الثالثة صباحا، ثم نذهب إلى النوم واثقين من أننا أضعنا وقتنا. وحتى القسم من الموضوعات الـــــذي كنا على اتفاق حوله انا وراديك – النضال داخل النقابــــات الإصلاحية ومعارضة كل انشقاق – صيغ بسرعة وبتلخيص يجعله يصطدم ولا يقتنع. وعندما عرض القرار أمام المؤتمر جاء إلي جون ريد قائلا: «لا يمكننا العودة إلى أميركا مع قرار كهذا، فليس للأممية الشيوعية من أنصار في العالم النقابي سوى بيــــــــن الـ I.W.W. في حين أنكم ترسلوننا إلى الإتحاد الأميركي للعمل حيث لا يوجد سوى أعداء حازمين للأممية».

أخذ لينين على عاتقه، بالإضافة إلى الموضوعات المتعلقة بالمسألة القومية، الموضوعات المتعلقة «بمهام الأممية الشيوعية».. وكان يعلق عليها أهمية مماثلة إذا أنها، في الواقع، تستعيـــــــد وتحــدد نتائج وقرارات المؤتمر، وتضعها في إطار وضع كل بلد. وكانت اللجنة المعنية لدراستها عديدة إلى حد أن اجتماعاتها تمثل مؤتمرا صغيرا، وكانت الاجتماعات تحصل من الساعة العاشرة حتى الرابعة بلا انقطاع.

ذات صباح كنا لا نزال في الفندق رغم أن الساعة تجاوزت العاشرة، فجاء من يقول لنا أن لينين يود تذكيرنا بأن الاجتماع سيبدأ الساعة العاشرة في الكرملين. ولا فائدة من القول أننا شعرنــــا بارتباك أثناء احتلالنا لأماكننا ول الطاولة. فقد عودنا زينوفييف وراديك على عادة سيئة، إذ لا أهمية للدقة في المواعيد معهمــــــا، كما أننا كنا نجهل أنه بالنسبة للنين وتروتسكي – وهمــــــــــا متشابهان في هذا أيضا – الساعة هي الساعة.. وهكذا كنــــــــــا جميعا في اليوم التالي في أماكننا الساعة العاشرة تماما. إلاّ أن لينين هو الذي تأخر هذه المرة. وصل بعد تأخير دام ربع ساعة، اعتذر، وجلس مرتبكا: كان يعيش في غوركي على بعد 30 فرست [6] من موسكو، وقد تأخر بسبب عطل طرأ على السيارة، ما أن وصل حتى استعدنا النقاش من حيث تركناه.

توفر الموضوعات التي صاغها لينين سبيلا ملائما للنقاش. كنا نأخذها فقرة فقرة، فنناقشها، ونصححها، ونعدل فيها أو نغير النص. كان وسواس «اليسارية» موجودا، هنا أيضا، وقد طلب منا أن ندين بوضوح المنظمات والتنظيمات المصابة بها، مثل مجلة Kommunismus في فيينا، والنشرة التي يصدرها في هولنـدا مكتب الأممية الشيوعية في أوروبا الغربية، وكانت بعض الملامح «اليسارية» قد ظهرت فيها. وقد اشرت إلى أنه لا يمكن وضــــع مجلة يديرها شيوعيون أوستراليون وبلقانيون على الصعيد الذي نضع عليه نشرة الأممية الشيوعية، ففي الحالة الثانية يجب توجيه اللوم لقيادة الأممية باعتبارها مسؤولة عن النشرة. وكان ذلــــــــك يبدو لي أكيدا إلى حد لم أتصور معه قيام نقاش حول هذا التفصيل البسيط. إلاّ أن زينوفييف، مدعوما من ليفي، أصر: يجب أيضــــــا لوم النشرة. عندئذ تدخل لينين: «حسنا، لنقترع حول ذلــــــــك – ولكن أين بوخارين، يجب أن نجده». جيء ببوخارين الذي كـــان غالبا ما يختفي، وقال له لينين: «اجلس هنا، إلى جانبـــــي، ولا تتحرك أبدا». انقسمت اللجنة بالضبط إلى قسمين. وتساوي عدد الأصوات المؤيد والمعارض. كان لينين قد تابع العمليات بدون أن ينحاز، وامتنع عن التصويت، إلاّ أنه أخيرا مال إلى جانبنا.

سرعان ما استرعت قضية هامة جدا انتباه اللجنة: إنهـــــا المسألة الإيطالية. كان الحزب الاشتراكي منقسما إلى حد ليس من المبالغة معه في شيء القول بأن كل واحد من مندوبيه يمثل تيارا. وكان سيراتي، المعزول عن بعثته، يحاول عبثا الحفاظ على وحدة هذه الاتجاهات المختلفة. بضم الاتجاه اليميني القادة الأكثر شهرة والأكثر ثقافة بلا شك، مثل توراثي، وتريف، وهذا الاتجــــــــــاه معاد بصورة مطلقة للأممية الثالثة. ونرى في أقصى اليسار بورديغا وأصدقاءه، المؤيدين المندفعين للأممية الشيوعية، والممتنعين أو الاستنكافيين؛ ويمثل Bombacci يسارا غير واع، أمــــــّا غرازيادي فيكتفي بمجال النظرية السلمي، في حين غاب لازاري العجوز، سكرتير الحزب، الذي منت قد رأيته في إحدى رحلاتـــه إلى باريس وسمعته يتكلم عن الأممية الجديدة بسلبية. وكان يبدو واضحا أنه إذا كان الحزب الاشتراكي الإيطالي قد وافق على الانضمام إلى الأممية الثالثة فذلك لأن قيادته لم تستطع أن تقاوم الاندفاعة القوية التي جاءت من قاعدة الحزب، من العمـــال والفلاحين. بقي سيراتي وحده يتلقى الضريات بعد أن تركه الجميع. كان هنالك أيضا اتجاها آخر انما غير ممثل في المؤتمر، وتتكلم الموضوعة بالضبط عن هذا الاتجاه الذي يمثل عبر كتاباته ونشاطه مفاهيم الأممية الشيوعية. إنه اتجاه مجموعـة «Ordino nuovo» في تورين، وأبرز مناضليه غرامشي وتاسكا. عندما وصلنــا إلى الفقر الخاصة بإيطاليا لاحظنا عدم وجود أي مندوب إيطالــــي، لم يشأ أحدهم أن يأتي وذلك بسبب الخلافات في وجهات النظر، إذ أن كل واحد منهم لا يعتبر نفسه مخولا الكلام باسم الحزب. طلب من بورديغا أن يأتي ليعرض ويحدد موقف Ordino nuovo، ففعــل ذلك بأمانة رغم أنه باشر العرض بإيضاح افتراقه عن هذه المجموعة. أكدت التحديدات التي قدمها موقف كاتب الموضوعــة في رغبته «بتنصيب» الـ Ordino nuovo ، ووافقت اللجنة بالإجماع على ذلك.

جاء أخيرا دور إنكلترا وحزب العمل. قال لينين بوجــوب انضمام الشيوعيين إليه إلاّ انه اصطدم بالعدائية العامة والمطلقة للبريطانيين. أيده زينوفييف، وكذلك بول ليفي بلهجة تعبر عــن احتقار ألماني لبريطانيا الرجعية والمنهارة ولشللها الشيوعية الصغيرة وكذلك أيده بوخارين بودية وتفهم. لم تنفع كل هذه الهجمات في زعزعة موقف البريطانيين الذين وجدوا في الأميريكيين والهولندي ويجنكوب دعما لموقفهم. وكان علي كرئيس للجنة، أن أتكلم في الأخير، إلاّ أني لم أضف شيئا لأن الحديث استعاد مرات عديدة الحجج نفسها. قلت أني أقبل التضحية على أن ننتقل مباشرة إلى التصويت. «كلا، قال لينين، لا يجب على أحد أن يضحي بــدوره» عند ذلك لخصت الحجج التي قدمها البريطانيون، وكانت هي حججي أيضا. كانت الأغلبية الواضحة في صف لينين، إلاّ أنه أحس أن الاتجاه المعارض لوجهة نظره بقي جديا، فطلب عرض المسألــة على المؤتمر، وطلب مني، رغم أني عارضت هذه النقطة الخاصة في موضوعاته، أن أتكفل بتقديم تقرير عن اللجنة في الجلسة العامة.

تابع المؤتمر النقاش باهتمام كبير وبفضولية خاصة لأن البريطانيين قرروا الدفاع عن وجهة نظرهم بواسطة سيلفيا بنكورست. إنها واحدة من الفتيات اللاتي أثرن – تحركـــــا - «ثوريا» من أجل انتزاع حق المرأة في التصويت، إلاّ أنها الوحيدة بين عائلتها التي انتقلت من «النسوانية» إلى الشيوعية. كانـــــــت تدير مجلة أسبوعية، وتصدر كتيبات، وقد برهنت أنها نشيطة جدا ومحرضة ممتازة. كان الخطاب الذي ألقته جديرا بمهرجان لا بمؤتمر، انه خطاب محرضة. تكلمت بحماس، وتحركت بشكل خطر على المنصة الضيقة. لم نجد فيها مدافعا جيدا عن ارائنا، إذ أنها أغرقت في الخطابة حتى الذريعة العاطفية حول رفض الدخــــــول في حزب مشوه في نظر العمال، في حزب ارتكب قادته خيانة أثناء الحرب. وأخيرا انتصرت موضوعة لينين، رغم أن الأقلية برهنت على وجودها.

لم أقل حتى الآن شيئا عن مسألة سوف نتكلم عنها كثيرا لاحقا، إنها مسألة «شروط القبول في الأممية الشيوعية». ثمة واحد وعشرون شرطا. وقد صاغها الشيوعيون الروس بعناية فائقـــــــة وقد أرادوا بهذا الشكل استباق الانتقادات الموجهة ضد الطريقــــة التي اتبعوها لتشكيل الأممية الشيوعية، تشكل هذه الشـــــروط الرهيبة سدا منيعا لا يستطيع الانتهازيون إطلاقا تجاوزه. إلاّ أنه سرعان ما اكتشف أن الأمر وهم. فهم يملكون، بكل تأكيــــد، معلومات جيدة عن الحركات العمالية في بلدان أوروبا، ويعرفــون قادة هذه الحركات، ويقابلونهم في مؤتمرات الأممية الثانيـــة. إلا أن ما لا يعرفونه، وما لن يستطيعوا معرفته هو المدى الذي يمكـــــــن أن يصل إليه هؤلاء الرجال في تلاعبهم، وهم الذين تربوا على ممارسة البرلمانية الديموقراطية. يملك هؤلاء الرجال عددا من الأحابيل لا يمكن للروس تصوره. فقد قام سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي، فروسار، وطيلة سنتين، بتلقينهم درسا في فن التهرب. وكانت روزا لوكسمبورغ، التي تعرفهم عن كثب لأنها أمضت حياتها في النضال داخل الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية حيث استطاعت أن تتابع حياة أحزاب البلدان المجاورة، قد كتبت، منـــــذ 1914، مقالة منشورة في الإيسكرا (بالروسية) وفي النيوزايت (بالألمانية) وكان بوسعها أن تحذر كاتبي موضوعات الواحد وعشرين شرطا لو أنهم تذكروها. فقد كتبت تقول: «إن الفكرة التي هي في أساس الوسطية المبالغ فيها: الرغبة في قطع الطريق على الانتهازية بواسطة نصوص تشريع ما، هي خاطئة جذريا... تستطيع مواد تشريع ما أن تضبط حياة طوائف صغيرة أو ندوات مغلقة، إلاّ أن التيار التاريخي ينفذ من ثقوب الفقرات الأكثر دقة». وهذا انتقاد سوف تؤكد الحياة اللاحقة للأممية الشيوعية صحته.

أثناء واحدة من جلسات المؤتمر، اقترب مني صبي كبير في العشرين من عمره. كان فرنسيا وصل لتوه إلى موسكو، ويريــــــد أن يكلمني. إنه دوريو. قص علي قصته. وهي تتلخص بكلمـــات قليلة: لقد لوحق وحكم عليه بالسجن لعدة أشهر بسبب مقال معاد للنزعة العسكرية. وقد قرر أن يهرب عوضا عن أن يرضــى بالسجن، ففضل الإقامة في موسكو على الإقامة في زنزانة في السجن. كانت ثقافته السياسية سطحية إلى حد ما، إلاّ أنــــــــــه كـــــان متحفظا، متواضعا، ومثابرا. أمضى في موسكو سنتين كاملتين، وعاد بعدهما إلى فرنسا ليصبح سكرتيرا للشبيبــــة الشيوعية، وينتخب نائبا عام 1924. لقد قطع من جانبه مع الأممية الشيوعية – رفض أن يتبع ستالين في «انعطافه اليساري» في «المرحلة الثالثة للأممية الشيوعية» - وكاد ذلك يسمح له بتشكيل وتنظيم معارضة سليمة. إلاّ أنه تعلم في وقت قصير أن يناور، وتحول بسرعة إلى سياسي باهر، وأصيب بعدوى الستالينية حتــــى لم يعد بوسعه القيام بمهمة لا مصلحة له فيها، لقد أراد أن يصبح «قائدا» وكان سهلا عليه أن ينتقل مثل كثيرين غيره إلى الهتلرية.



--------------------------------------------------------------------------------

15- البيان الختامي


انهى المؤتمر بالأبهة نفسها التي ميزته في البدايـــة، إلاّ أن الجلسة كانت هذه المرة في موسكو، حيث اجتمع المؤتمر في جلسته النهائية في المسرح الكبير. احتشد المندوبون على المسرح الذي تقطعه طاولة كبيرة جلس وراءها زينوفييف وأعضاء اللجنة التنفيذية. كانت القاعة واسعة طافحة بجمهور فرح ومنتبه: بمناضلي الحزب، والنقابات، والسوفييتات. فالاجتماع هو، في النهاية، لهم. كانت النقاشات تدور، في الكرملين، بالألمانية والانكليزية، والفرنسيـــة، وقد حان الوقت للكلام بالروسية. ألقى تروتسكي الخطــــــاب الختامي. إنه بيان المؤتمر، إلاّ أنه مختلف عما نعنيه عادة بكلمـــة بيان. كان مقسوما إلى خمسة أقسام كبيرة. وصف تروتسكي أولا الوضع العام في العالم، والعلاقات العالمية بعد معاهدة فرســـــاي: إنها لوحة قاتمة إلاّ أن ضحايا الحرب العديدين كانوا قد بــدأوا برؤيتها. ثم انتقل إلى الوضع الاقتصادي حيث تجري محاولات إصلاح الفقر والفوضى العامة بواسطة تدخل الدولــــة. إلا أن تدخلات الدولة في الاقتصاد، لم تكن تؤدي في الواقع، إلاّ إلى المنافسة الشديدة مع المضاربين، فيزداد بذلك اضطراب الاقتصاد الرأسمالي في فترة انحطاطه هذه. لقد تخلت البورجوازية تمامــــا، في فترة الانحطاط هذه، عن فكرة كسب البروليتاريا بالإصلاحات. ولم يعد ثمة موضوع واحد مهم يجري حسمه بواسطة الاقتراع الشعبي، كما أن آلة الدولة تعود شيئا فشيئا إلى حالتها البدائيـــــــة. إلى فرق الرجل المسلحين، يجب القضاء على الإمبريالية للسماح للبشرية بأن تعيش.

وقد برهنت روسيا السوفياتية، في مواجهة هذا النظـام، المحتضر كيف تكون الدولة العمالية قادرة على المصالحة بين المتطلبات القومية ومتطلبات الحياة الاقتصادية وذلك بتلخيص الأولى من شوفينيتها، والثانية من الإمبريالية. كان تروتسكي يلخص بهذا العرض النقاشات، ويشرح القرارات، خاتما خطابه بهذه الكلمـــــــات: «في كافة مجالات نشاطه، كقائد لإضراب ثوري، أو كمنظم لمجموعة سرية، أو كسكرتير لنقابة، وكنائب أو محـــرض، أو تعاوني، أو محارب على المتراس، يبقى الشيوعي مخلـــص لنفسه، وعضوا منضبطا في حزبه، وعدوا لا يلين للمجتمــع الرأسمالي ونظامه الاقتصادي، ودولته، وأكاذيبه الديموقراطية، وديانته، وأخلاقه. انه جندي متفان في سبيل الثورة البروليتارية زمبشر لا يكل بالمجتمع الجديد.. أيها العمال والعاملات! لا يوجد على هذه الأرض الا علم واحد يجدر بالمرء أن يعيش ويموت تحته انه علم الأممية الشيوعية». تضافر الرجل، وكلماته، والجمهــور الذي يسمعه لإعطاء هذه الجلسة الختامية عظمة مؤثـــرة. دام الخطاب أكثر من ساعة بقليل. والقاه تروتسكي بدون ملاحظات مدونة، وقد كان رائعا أن يرى المرء كيف نظم الخطيب هذا الموضوع الواسع، وحركه بوضوح فكره وقوته، وأن برى الانتباه الشديد مرتسما على الوجوه التي تتابع الخطاب. جاء إلي أحد الفرنسيين، باريجانين – وهو يعيش في روسيا منذ اثنتي عشر سنة – وقال لي، وهو مأخوذ ومنفعل، : «عسى أن يترجم الخطاب جيدا» معبرا بذلك عما يتجاوز الاهتمام بالترجمة الأمينة: عن الخوف من أن يضيع شيء من هذه العظمة.

اجتمعت اللجنة التنفيذية غداة المؤتمر. فقد كان عليهــا أن تتدارس النتائج العملية للقرارات المتخذة، وأن تأخذ التدابيــــر المتعلقة بتطبيقها، كانت النقطة الأولى على جدول أعمالها، تعيين الرئيس والسكرتير. لم يكن التجديد لزونوفييف للرئاسة يثير أية مشكلة، الا أن الأمر مختلف بالنسبة للسكريتارية. فقد طالبـــــت البعثة الروسية بإبعاد راديك. كانت السكرتيرة الأولى للأممية الشيوعية انجيليكا بالابانوف، وقد حل راديك محلها منذ بدايــــــــة عام 1920، أي أنه لم يحتل هذا المنصب سوى لفترة قصيرة. إلا أنـــه وجد من يدافع عن ترشيحه، خاصة سيراتي. وابتدأ النقـــاش، إلا أنه كان قصيرا لأنه لم يفعل سوى ترديد نقاش جرى في اللجنة التنفيذية قبل بضعة أيام من اجتماع المؤتمر.

كان الأمر هاما، وأساسيا، إذ أن السؤال الذي وجد نفســه مطروحا فجأة هو التالي: مع من نشكل الأممية الشيوعية؟ مع أية أحزاب؟ أية تجمعات؟ اية اتجاهات ثورية؟ من نقبل ومن نرفـض؟ هل نقبل الأحزاب الاشتراكية وحدها التي وافقت على الانضمــام رغم أنها تحتفظ بداخلها أعداءا للأممية الشيوعية؟ أم التجمعات الجديدة وحدها، تلك التي تأسست أثناء الحرب وفق قواعــــد الانضمام للأممية الثالثة؟ تبنى الحزب الشيوعي الروسي موقفا وسطا: فموضوعاته حول الانضمامللأممية الشيوعية تتضمن 21 شرطا تشكل ضمانة ضد الانتهازيين، وسدا يمنع عليهم الدخول، وتسهل عملية الاختيار الضرورية بين أعضاء الأحزاب الاشتراكية القديمة.

فاجأ راديك الجميع بطرحه سؤالا كان الجميع قد اعتبروه محسوما، ووقف موقفا مناقضا بوضوح لقرار الحزب الشيوعي الروسي، قال: سينعقد المؤتمر، فمن يستطيع أن يشارك فيــــه؟ بالطبع ليس التنظيمات الجديدة التي تضم نقابيين وفوضويين فقــط ولو أنها مؤسسة وفق قاعدة الانضمام إلى الأممية الثالثة، بـــل مندوبو الأحزاب الاشتراكية أو الشيوعية فقط. أيده في ذلـــــك سيراتي وبول ليفي، وبدا أن العملية مدبرة بلا شك، فالحزب الاشتراكي الشيوعي الإيطالي والحزب الشيوعي الألماني هما، باستثناء الحزب الشيوعي الروسي، أهم أحزاب الأممية. كـــــان بوسع راديك أن يعتبر تدخلهما لصالحه حاسما. إلاّ أنه أخطــــأ الحساب فقد ذكره بوخارين بالموقف المتخذ من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، وبنص النداءات الموجهة من الأممية الشيوعية إلى عمال كافة البلدان. وقال بوخارين ما جوهره: إننــــــا لا نملك شيئا مشتركا مع الإنتهازيين، أمّا مع الثوريين المخلصين والمندفعين الذين صوتوا لصالح الانضمام إلى الأممية الثالثة فنريـد أن نناقش بصراحة ومحبة، لقد راجعنا، حيث أصبح ذلــــك ضروريا، برنامجنا، وتخلصنا، حسب تعبير لينين، من سخافة الاشتراكية-الديموقراطية، من أجل بناء الشيوعية على قاعـــــدة جديدة، ونريد أن نتابع جهودنا لقيادة النقابيين والفوضويين للقيام بالعملية التي تسمح لهم بلقائنا في الأحزاب الشيوعية الجديدة الجاري تشكيلها. وختم بوخارين قائلا انه لا يستطيع أن يفهم لماذا أعــاد راديك طرح القرارات التي كان الحزب الشيوعي الروســـي، والأممية الشيوعية، قد حسمها. وماذا يفعل المندوبون البريطانيون هنا shop Stewards Workers Committees ؟ ماذا يفعل بيستانا؟ واذا يفعل روسمير؟ لماذا دعوناهم إذا كنا سنقفـــل في وجههم أبواب المؤتمر؟» وكان الأمر واضحا إلى حد أن راديك لم يجد مؤيدا جديدا لمناورته المتأخرة: فبقي مع ليفي وسيراتي. لقد تكلمت عنهم، وأظن أن ما قلته يشرح موقفهم خاصة فيما يتعلــق ببول ليفي الذي يحتقر الفوضويين والنقابيين جملة، باعتبارهم عناصر معارضة لا تكف عن تحديه، أمّا دوافع سيراتي فمختلفــة، فهو يجد أنه ليس من المقبول أن تستقبل الأممية الشيوعية بود التجمعات النقابية والفوضوية في حين أنها تصر على صياغة فروض مختلفة حيال حزب هام مثل حزبه.

كانت جلسة اللجنة التنفيذية ستتوقف عند ذلك الحد، لو لم يكن ثمة استنتاج يجب استخلاصه من هذا النقاش، وكان الاستنتـــاج حسب البعثة الروسية إلى الأممية الشيوعية إبعاد راديك عن السكرتارية، فقد أكدت النقاشات حتمية ذلك. واقترحت البعثــــــــة أحد الشيوعيين الروس، كوبياتسكي، للحلول محل راديك. لــــــــم نكن نعرفه، فطلب جون ريد إرجاء القرار قائلا أنه تلقى معلومات يجب التأكد منها، فقد يوجد في ماضي كوبياتسكي شبهات تجعله شخصا غير مرغوب فيه خاصة في مركز بمثل هذه الأهمية. لـــم يكن صعبا معرفة مصدر معلومات جون ريد. فراديك يتمسك بمركزه. إلاّ أن زينوفييف قال أن الترشيح من قبل البعثة الروسيـــة هو ضمانة، وسويت القضية. إذ أنه بعد تجربة راديـــك في السكرتارية كان من الضروري اختيار رجل أقل شهرة إنما أكثــــر ثقـــة.

واتخذ قرار هام آخر في ذلك النهار. بمبادرة من البعثــة الروسية، فقد طلب من كل بعثة أن تعين ممثلا يبقى في موسكو ليشارك مباشرة في أعمال الأممية الشيوعية، وهكذا يتحقق الإتصال المباشر الذي يضمن حسن الإطلاع المتبادل بين الأممية الشيوعية وفروعها. وقد أيدت هذا الاقتراح. فلقد جئت لا لأذهب إلى المؤتمر، بل لأدرس الثورة البلشفية، والنظام السوفياتي الذي أقامتـــــــه – وهذا ما لم يسمح لي المؤتمر بأن أفعله، أمّا اعتبـــارا من الآن فسيكون بوسعي فعل ذلك. بالإضافة إلى ذلك، كنت أتمنى متابعـة عمل المجلس العالمي المؤقت للنقابات الحمراء، ففي هذا المؤتمر أشعر بالراحة وأكون واثقا من أني سأقدم عملا مفيذا. يمكـــــن للتكتيك الذي يدافع عنه لينين بحرارة ضد «اليساريين» في«مرض الطفولية»، والذي يؤيده أغلبية المؤتمر، أن يبدو متناقضا، فهــو يطلب من الشيوعيين والعمال الثوريين أن يبقوا في النقابات الإصلاحية، في حين يتم التوجه نحو أممية نقابية حمراء. لم يتأخر القادة الاصلاحيون للاتحاد النقابي العالمي في أمستردام عن قـول ذلك ومن المجاهرة به، يؤيدهم في ذلك الصحافة البورجوازية، لقد اتهمنا بالانشقاقية.

غير أن التناقض كان ظاهريا فقط، فالانشقاقيون لم يكونوا بجانبنا وهذا ما أثبتته الأحداث بسرعة، فقد حدث انشقاق إلا أن القــادة الاصلاحيون هم الذين كانوا يحدثونه في كل مرة يحسون فيها بخسارتهم للأكثرية، فهم، ومهما كان الثمن، لا يريدون السماح للمنتسبين إلى النقابات أن يعبروا عن رأيهم، وان يقرروا بحرية ووفقا للقواعد الديموقراطية، خاصة إذا ما أحسوا أنهم يخســرون قيادة التنظيم النقابي. لم تكن «خطاباتهم» ضد «كل الديكتاتوريات»، ومن أجل الديموقراطية، سوى كلمات، فلقد قرروا، في الواقع، الاحتفاظ، بكل السبل، بالمراكز التي لم يستطيعوا الوصـول والمحافظة عليها لولا الحزب. لقد سنحت لي الفرصة لأبين المدى الذي وصل إليه لينين في التمسك بهذا التكتيك النقابي، يجب النضال والبقاء حيث العمال موجودون، أي في كافة النقابات الاصلاحيــــة إذ أن القادة الاصلاحيون نجحوا في الاحتفاظ بقيادتهم رغم موقفهم أثناء الحرب العالمية. غير أنه هنا، كما في الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية، حاربت أقليات كبيرة إلى هذا الحد أو ذاك إنمــــــا هامة دائما، تحت علم الأممية الثالثة لكسب المنظمة بجعل أكثرية اعضائها توافق على المفاهيم التي يدافعون عنها علنا.

إذا لم يجر نشاطنا دائما بالشكل الذي نريده فذلك بسبب نوغين من المسؤوليات. فقد كان يوجد داخل الأقليات، بعض المتلهفين و«المنظرين» المزعومين الذين يستعجلون الحصول على تنظيمهم النقابي المستقل. ولم يفد سوء تصرفهم سوى في تسهيل لعبة الاصلاحيين الذين انشرحوا لوجود مثل هؤلاء الأعداء. هذا مــن جهة. أمّا من الجهة الأخرى فإن قيادة الأممية الشيوعيــة لم تكـــن تفهم دائما ماهية مهمتنا بالضبط، ولم تكن تدرك أهميتها، لذا كانت توجه كل الاهتمام نحو تطوير الأحزاب الشيوعية الشابة. غير أن الزعماء الاصلاحيين في النقابات لم يكونوا محترمين إلا لأنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، ولأنهم ذوو حيلة ودهاء. ولذا لا يجوز الاكتفاء بتوجيه الشتائم اليهم، رغم أنهم يستحقونها، لأنها بــــــدون أية فعالية. وقررت اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية والمجلس العالمي المؤقت، بمناسبة اجتماع المجلس العالمي النقابي العام لأمستردام في لندن، توجيه نداء إلى عمال كل البلدان وإلى العمال البريطانيين خاصة. كلفنا، أنا وزينوفييف، بإعداد مشروعيـن يساعدان في صياغة النص النهائي. إلاّ أن مشروعينا كانا من الاختلاف في المضمون والشكل بحيث لم يكن بد من اختيار أحدهما على حساب الآخر. ففي حين ركزت أنا على جميع المآخذ العماليـة في شكل يمكنها من التأثير والإقناع، مذكرا بالنشاط السابق لزعماء أمستردام، مشيرا إلى لا أممية هذا الاتحاد – حيث تعيـــــــث الشوفينية إلى حد ترتيب الأمم المنضمة إليه على أساس الصداقة والعداء كما في زمن الحرب – اكتفى زينوفييف بإطلاق مجموعة من الشتائم، غير مختارة بدقة أحيانا، ضد «السادة الزعماء الصفــر»، الخ. يجب على المرء أن يكون جاهلا بالحركة العمالية والعمال البريطانيين ليتصور ولو للحظة أن نداء من هذا النوع يستطيـــع كسب مؤيدين، أو مجرد متعاطفين، وتسهيل عمل الأقليـــــات الثورية. اقترح زينوفييف محاولة مزج النصين، إلاّ أن ذلك كان مستحيلا، فاعتمد إذ ذاك على نصه ووجدت نفسي أوقع عليه مكرها.

لم يكن عملي في الأممية الشيوعية يستغرق كل وقتي، رغـــم أني مكلف بتمثيل بلجيكا وسويسرا لأنهما لم يستطيعا ترك مندوب دائم في موسكو. كنت قد أقمت اتصالات أثناء انعقاد المؤتمر مع هاتين البعثتين. أن أبرز اللمندوبين فيهما هو، بالنسبة لبلجيكـــــــا، فإن اوفرستراتن، وهو إنسان جدي، كفوء، واحد مؤسســــــــي الحزب الذي أبعدته عام 1927 عن الأممية الشيوعية «البلشفية» الزينوفييفية لها، وبالنسبة إلى سويسرا، همبرت - دروز الـــــذي أساء إلى الثقة التي وضعناها فيه، كان كاهنا في بريطانيــــــا في بداية الحرب العالمية، وقد اضطهد هناك بسبب معارضته للحرب، فعاد إلى سويسرا حيث اسهم في تجميع الزيمفرالديين، ونظــــم الدعايو لصالح الأممية الثالثة، وأدار مجلة رائعة، إلاّ أنه خلافـــــا لكل ما هو منتظر أيد لا «البلشفة» فحسب، بل الستالينية بكاملهــــا، بما فيها «محاكمات موسكو» ولم ينفصل سوى في الحرب العالمية الثانية عن الحزب المختلف جدا عن ذاك الذي أسهم في خلقه.

كان للأممية الشيوعية، مثل كافة المؤسسات السوفياتيـــة، النقابية والسياسية، منزل يرتاح فيه العمال. وهو منزل واســـــــــــع – كان يملكه الدوق الكبير سيرج، حاكم موسكـــــو – يقع في ايلينسكوي على بعد عشرين فرست من المدينة، على طريق كلين. كان البناء الرئيسي مهيبا من حيث أحجامه، انما مبتذلا، وتنتشر البيوت الأخرى الصغيرة في الحدائق. كانت أعمال المؤتمر والنقاشات الطويلة قد انهكت المندوبين، لذلك ذهب الباقون معهم للاستجمام في ايلينسكوي. أمضيت فيه بدوري فترة قصيرة سمحت لي بإجراء ملاحظات هامة. أولا، هناك التناقض بين الخارج والداخل، فكل شيء في الداخل بسيط وفقير حتى، فقد أخذ كـــــل شيء إلى الحرب، كان السرير مثلا مؤلفا من كمية من القـــش ممدودة على لوحات خشبية، في حين كان الغذاء، كالعــــادة، مختصرا جدا...

ذات صباح التقيت بالسيد «م» الذي لم أكن قد رأيته بعـــــــــد منذ وصولي إلى الأرض السوفياتية بعد هذه الرحلة من ايامبــورغ إلى بتروغراد والتي حاول خلالها أن يقنعني أنه يجب استخدام البرلمان من أجل الدعاية الشيوعية. لحقت بنا امرأته، وهي المرأة الثانية بعد كولونتاي في شعبة العمل بين النساء، فهي إذا شخصية هامة في «التراتب» السوفياتي. غير أنها لم تكن مستعدة لتجد كل شيء على أفضل ما يكون في جمهورية السوفييتات، على العكس، فهي تكثر من النقد غير الرحوم، إنها معارضة تقول ما تعتقده صحيحا. وليس في الأمر ما يدهش، فالكلام الحر ممكن بلا أية مضايقة، وبرفاقية تامة. غالبا ما التقيت أثناء إقامتي في موسكــو بالسيد «م» وزوجته، فهما يملكان غرفة في فندق متربول، ومهما تأخرنا ليلا في العودة من اجتماع أو من المسرح فأننا نرى غرفتهما مضاءة ونكون واثقين من أنهما سيقدمان لنا كأسا من الشــــــاي – ولو كان خفيفا – وأحيانا قطعة ملبس لتحليته، إلاّ أن ما يتردد باستمرار هو التشهير الدائم بنواقص النظام: إنه منزل لا يجب على الشيوعي المتذبذب أن يرتاده، إلاّ أن شيوعيي تلك الأيام كانــوا صلبين جدا.
أنبأني هاتف من تروتسكي بأنه تلقى الترجمة الفرنسية لبيان المؤتمر، وكان هذا البيان موضوع كتيب نشر في بتروغراد وباريس معا. وكانت الترجمة أمينة كما بدا له، إلاّ أنه أحب أن يعيـــــــد قراءتها معي. استغرقت المراجعة سهرات بكاملها، وكان، فــــــي تلك الأيام، يبقى بعد العشاء في الكريملين عوض أن يعود للعمل في مكتبه. هذا ما وفر لي إمكانية استجوابه مجددا، غير أن الأسئلـــــة هذه المرة طالت مواضيع أكثر تحديدا كنت أود تعميقها، ومن الطبيعي أن تكون حول المؤتمر نفسه. سألته أيضا عن الرجـــــال، فأنا أعرف جيدا بعضهم غير أني لا أعرف عن الكثيرين أكثر من الإسم. قدم لي وصفا عن حياة هؤلاء وهو وصف وجدته مليئـــا بالمدح عندما تسنى لي اختباره، إنه يعرف جيدا كل الذين يعمل معهم، في اللجنة المركزية للحزب، وفي المؤسسات السوفياتيــــة. وإذا كان يوجد الكثيرون من الذين لا يحبهم والذين يحكم عليهـــم بقسوة فذلك ليس لأسباب شخصية أبدا بل لأنهم دون مستـــوى مهمتهم أو أنهم يضطلعون بها بطريقة جد مسيئة. سألتـــــــه ذات يــوم «ألم تقلق أبدا حول المصير أثناء الحرب الأهلية الطويلــــة؟ وما هي اللحظة الأكثر قساوة؟» أجاب بسرعة: «بريســـت – ليتوفسك لقد كان الحزب مضطربا، «مخضوضــــــــا». وكـــان لينين وحده تقريبا عندما قبل توقيع المعاهدة بلا نقاش. كان بإمكاننا أن نخاف الانشقاق، والصراعات الداخلية الحادة وأثارهــــــــــــــا المدمرة على روسيا السوفياتية في ذلك الوقت... تمثل الحـــرب الأهلية أخطارا من نوع آخر، عندما وجدنا أنفسنا محاصرين من الشرق والغرب والجنوب معا، عندما كان دينيكين يهدد تـــــــولا، فمن المؤكد أننا تساءلنا بقلق عما إذا كان جيشنا سيصمـــــــــد أمام هذا الهجوم المثلث. فيما يختص بي، لم تغادرني الثقة إطلاقـــــــــا. فقد كنت في موقع خاص يسمح لي بتقدير الوضع: كنت أتابــــــــع بدقة ما يطب منا جيشنا، وكنت أعرف، بفضل رحلاتي الدائمــــــة إلى الجبهة وعبر البلاد، ما تمثله جيوش الثورة المضادة، فهـــي أفضل تسليحا من جيوشنا. حتى أن ايودينيتـــــــــــش كان يملك دبابات لدى هجومه على بتروغراد، إلاّ أني كنت أعرف مكان ضعفها الأساسي: فخلفها يرى الفلاحون ملاكي الأراضي التي استولوا عليها. وحتى الذين لم يكونوا متعاطفين معنا تحولوا إلى حلفاء يمكن الاعتماد عليهم.»



--------------------------------------------------------------------------------

16- شعوب الشرق في مؤتمر باكو


بعد أن وجهت الضربة إلى المتدخلين، وبعد تدمير كولتشاك، وايدونيتش ودينيكيين، هزمت الثورة المضادة، ولم يعد متبقيـــــا سوى ورانجل Wrangel الذي يحاول تجميع بقايا جيـــــش دينينكين، وكان بالإمكان إهماله. كان المؤتمر قد حدد، بعــــــد نقاشات عميقةـ المفاهيم التي يجب أن تخدم كقاعدة لتأسيـــــــس أحزاب شيوعية، كما أن مهام ودور الأممية حددت بدون التبــاس، كما أنه أعطى قيمة هامة للمسألة القومية، لظروف الشعوب المستعمرة والشبه المستعمرة. لقد كان لثورة 1905 مضاعفات خطيرة لدى هذه الشعوب، في تركيا، وإيران، والصين خاصة. وعلمتهم ثورة 1917 بشكل أكثر تحديدا التكتيك الواجـــب عليهم إتباعه للتحرر. لقد علمتهم موسكو كيف يستطيع شعب ضعيف التصنيع نسبيا، ومؤلفا في غالبيته الكبـــــرى من الفلاحيــــن، أن يقلب نظامه الأوتوقراطي ويصمد بنجاح أمام تدخل القوى الامبريالة. وقررت اللجنة التنفيذية، كاستمرار منطقي لما سبق، دعوة ممثلي كافة الشعوب الخاضعة إلى مؤتمر واسع. وكان المكان المختــــار لهذا التجمع هو باكو، في تقاطع أوروبا وآسيا. سيمثل زينوفييف وراديك وبيلادون الأممية الشيوعية، وسيصحبهم مندوبون عن البلاد التي تملك مستعمرات: توم كلش عن الامبراطورية البريطانيــة، جانس عن هولندا، جان ريد وأنا. لم تكن الرحلة، كما قــال زينوفييف، خالية من المخاطر، فالمسافة طويلة، ويتوجب علينا أن نجتاز بلاد كلها، ويمكننا أن نصطدم في الطريق ببعض العصابات، رغم أن المقاومة المنظمة لم تعد موجودة. صرفنا خمسة أيــام للوصول إلى باكو، توقفنا يوما في روستوف ثم في عدد كبير من مدن القوقاس. فمن الأفضل استخدام هذا الانتقال الاستثنائي إلــــــــــى الحد الأقصى.

كانت الرحلة مفيدة وخالية من الخطر، وسمحت لنا أن نرى على الطبيعة الأضرار التي سببتها الحرب الأهلية، فقد دمرت أكثر المحطات، وامتلأت الخطوط الحديدية ببقايا العربات المحروقة، فالبيض، ما أن يهزموا حتى يحرقوا أثناء انسحابهم، كل شيء ويدمروه. كانت محطة لوزوفيا، وهي المحطة الأكثر أهمية في أوكرانيا، قد هوجمت قبل مدة قصيرة، وكان بوسعنا أن نرى الأضرار التي تسببها الهجمات العديدة حتى الآن في هذه المناطق. ويمكننا بواسطة هذا الشيء، قياس صعوبة المهمة الواقعـــة على عاتق النظام السوفياتي. إلاّ أن التموين كان شديد التنوع، فعلى رصيف المحطة قدم لنا الفلاحون البيض وحتى بعض الدجاج المحمر وأشياء أخرى نادرة أو حتى مجهولة في موسكو. على امتداد القفقاس يوجد جبال من الفواكه مثيرة للقابلية: عند، إجاص، تين، تمر، وكل أنواع البطيخ الأصفر والأحمر. كان جون ريــــــــــد جارنا، وغالبا ما كان يأتي لتمضية الوقت معنا. وما أن يتوقف القطار حتى يسرع بالخروج ليعود محملا بالفواكه. كما أنه، اعتبارا من بيتروفســك حيث تحاذي الطريق البحر، كان يسرع ليغطس في البحر، لقد كان يستمتع بالراحة كما يستطيع أي شاب أميركـــــي أن يفعل. وذات مرة، وفيما كان يسرع في ارتداء ملابسه مزق بنطلونه. إنه وضع مأساوي إذ أنه لا يملك غيره بالطبع.

ذهبنا من المحطة إلى المسرح حيث يعقد اجتماع واسع. كان القطار قد تأخر في نهاية الرحلة، ولذا كان المسرح طافحا منذ ساعة عندما وصلنا. كانت القاعة مثيرة للاعجاب، فاثواب الشــرق المجتمعة ترسم لوحة غنية بالألوان. كما أن الخطب التي ترجمــت إلى أكثر من لغة كانت تستقبل بتصفيق حاد، ويصغي إليها الجميع باهتمام زائد...
كان البحر شديدا جدا. ولم نكن معتادين، لأننا أمضينا مثل هذا الوقت الطويل في موسكـــــــو، على هذه الحرارة المرتفعة، والرطبة. حدثت تظاهرات عديدة على هامش المؤتمر. لعل أهمهــا هو تشييع جثث 26 مفوضا للشعب كان الانكليـــز قد أخذهم إلى الضفة الأخرى من البحر لإعدامهم. حمل المناضلون المشيعون التوابيت، ورافقهم بلا توقف «نشيد الأموات» الجميل والمؤثر.

كانت آبار البترول بحالة يرثى لها، ولم يكن قد توفر للثــــــورة لا الوقت ولا الإمكانية لإصلاحها، كما أن ما تركته القيصرية كان بعيدا عن أن يكون منشآت حديثة، فالعمال – إيرانيون في غالبيتهم – يعيشون في أكواخ بائسة. الطريق التي تقود إلى الآبار محفورة، ومغبرة، ولا يوجد سوى بعض هذه الآبار في حالة جيدة وعاملــة، كان كل شيء يسهم في جعل هذا المصدر الاستثنائي للثروة مشهدا محزنا بالمقابل، كانت المدينة، الجميلة جدا، جذابة، فالشمــــــس ترسل أشعتها بين الأزقة: ويختلط الأسود والأبيض الكثيفـــــان بصورة متساوية. اكتشف جون ريد محلات تبيع حريرا رائعا. فنصحنا قائلا: «يجب أن تشتروا منه، يوجد هنا قطع فريـــدة.» «لكننا لا نحمل الدراهم معنا.» اطلبوا بعض الروبــلات من زينوفييف، إذ يجب أن تحصلوا على بعض منها باعتباركم أعضاء في اللجنة التنفيذية». ما كانت نتائج هذا المؤتمر، وهو بلا منازع الأول من نوعه من حيث نجاحه في جمع ممثلين عن كافة البلدان، وكافة الأعراق والشعوب في الشرق؟ لم يعط مباشرة النتائج المتوقعة، إذ لم يحصل في الأشهر التي تلته أية تمردات هامة يسعها أن تقلق وتشغل القوى الامبرياليــــــــة جديا. كان التحرك عميقا الا أن نتائجه ظهرت متأخرة، فقد كان من الضروري انقضاء بعض الوقت قبل أن تعطي النقاشات والقرارات ثمارها، وقبل أن تتجمع القوى التي تعي النضال الواجب خوضه ضد اسياد أقوياء جدا حتى هذه اللحظة.

خلافا لما أكدته الصحف المعادية للسوفيات، لم يشترك أنفــر باشا Anver pacha في المؤتمر. لقد سمح له فقط، تلبية لطلــب منه، أن يصدر بيانا يكتفي فيه بالتعبير عن تعاطفه مع المبادرة التي اتخذتها موسكـــــو. غير أن لعبته انكشفت بسرعة. لقد نظم استعراض في الأيام الأخيرة للمؤتمر، وكان ثمة موكب سيشتــرك فيه مندوبو التنظيمات المحلية والمنطقية. حاول أنفر الاستفــادة من ذلك ليجعل من نفسه بطل التظاهرة. فامتطى حصانه، ووقف علــى تلة على زاوية الساحة التي ينعطف فيها الموكب، وأثار بعض التحيات وحتى بعض الهتافات. وبدت مناورته واضحة، فدعــــــي إلى الذهاب. منذ ذلك الوقت وقف صراحة ضد الجمهورية السوفياتية، وحاول إقامة جمهورية إسلامية في تركستان حيث مات في آب 1922. تلقى البعض نبأ موته بنوع من الشــــــك، الاّ أن شاهدا عيانيا كتب يوم 11 أوكتوبر في البرافدا: «إنه لا يمكن الشك في صحة موته.» وقدم التدقيقات التالية: «يوم 4 آب حاصـــرت قوات الجيش الأحمر، وعلى بعد 12 فرست من مدينة بال جوان، وحدة مسلحة صغيرة من «المتمردين المسلمين» يوجد فيها أنفــر باشا ومساعده الزعيم الاسلامي دافييــــت – مين بك. وقتل المتمردون بعد معركة ضارية. ورفع من حقل المعركة جسد رجل يرتدي ملابس إنكليزية ويعتمر طربوشا. ووجدت في جيوبه أشياء كثيرة منها خاتمان شخصيان، ومراسلاته من امرأته، ورسائل من ابنه في برلين، وبعض الصحف الهندية بالانكليزيــة، وبرقيات مرقمة. وتعرف السكان على أنفر. وأكد المتمردون الأسرى هذا التعرف.»

في طريق العودة، حدث استنفار. فقد أيقظونـــا فجــــأة ذات صباح فيما كان القطار يجتاز القوقاس. لقد حدث هجوم علـــــى الخط: لقد انتزعت الخطوط الحديدية مما سبب انحراف القاطـــرة التي تسبقنا. كما أن المحطة التالية التي توقفنا فيها، ناروسكايـــا، كانت قد هوجمت أيضا.. توقفنا. إلاّ أن العصابة التي نظمــــت الهجوم لم تكن تملك الوسائل الكافية لاستغلال هذا الانحـــــراف جيدا، والا لكان الوضع حرجا جدا بالنسبة إلينا. فصلت القاطــــرة عن قطارنا بغية الذهاب لمعاينة أهمية الأضرار. وعندما عـــادت مقلة الرجال الذين ذهبوا للتقصي لم نفاجأ برؤية جون ريد بينهم. لقد كان ذلك بالنسبة إليه مغامرة فريدة.
قبل قليل من وصولنا إلى روستوف فوجئنا بلقاء بلومكين، الاشتراكي – الثوري الذي أسهم في الهجوم ضد سفير ألمانيا في موسكو، الكونت ميرباخ، هذا الهجوم الذي خلق مباشرة صعوبات خطيرة أمام الحكومة السوفياتية، فقد كان من الواجب تقديـــم اعتذارات إلى حكومة برلين التي تهدد بمضاعفة الشروط الوحشية التي فرضتها في بريست – ليتوفسك. انضم بلومكين فيما بعد إلى البلشفية، وعندما التقيناه كان عائدا من مهمة كلفته بها الحكومـــــة كان قد عاش فترة قصيرة في باريس، وهو يتكلم الفرنسية قليلا. سألني عن الحركة الاشتراكية في فرنسا، وعن القادة الذين يعرف بعضهم، خاصة جان لونغه، الذي يريد بإصرار إرساله إلــى المقصلة، وقد كان يقطع كلامه فجأة قائلا: «لونغـــــات»، ويقلـــد بيده حركة شفرة المقصلة الواقعة – كما يتصور – على عنق هذا السيء الحظ حفيد كارل ماركس، الذي لا يستحق مثل هذا المصير السيء – إلاّ أنه سرعان ما ينفجر ضاحكا. يجسد بلومكين جيدا هذا المزيج من البطولة والطيش الموجود لدى الاشتراكيين الثوريين.

لم نتوقف هذه المرة في روستوك إلاّ للمشاركة في تظاهرة انتهت بمهرجان. ملأت الجماهير ساحة واسعة أقيمت فيها بضعة منصات. جاء بلومكين معي إلى المنصة التي كنت سأتكلم منها راغبا ومصرا على ترجمة خطابي. امتنعت عن الكلام عن لونغـــــــــــــه، كما أنه لم يدخله في ترجمته، بيد أني اعتقدت أنه جعلني أطالب ببضعة رؤوس.

كان ينتظرنا في موسكو نبا محزن، لقد انتقل جون ريد إلى المستشفى لإصابته بالتيفوس (كان قد عاد قبلنا). بذلت كـــــــل الجهود عبثا لانقاذه، إلاّ أنه مات بعد بضعة أيام. عرض جثمانــــــه في القاعة الكبرى في بيت النقابات. ويوم الدفن، كان الثلج قد بدأ يتساقط. لقد فجعنا، إذ أن الرحلة إلى باكو سمحت لنا بمعرفتــــــه جيدا. لقد قرأت وترجمت المقالات التي كان يرسلها من بتروغراد، في ظل كيرنسكي، إلى المجلة الأميركية الرائعة «الجماهير» التي يديرها ماكس ايستمان، وكان ذلك قبل أن ألتقي به. وكانت هذه الرسائل بالنسبة إلينا بمثابة معلومات استثنائية من الدرجة الأولى، عاجلة، بصيرة، وجذابة. إلاّ أنه كان قد وصل إلى روسيـــــا، وإلى كل أوروبا، أثناء الحرب الامبريالية، برفقة الرسام بوردمان روبنسون. كانت رحلاته، باعتباره صحافيا خارج أي إطار، مغامرات غالبا ما تنتهي في السجن، خاصة في بولونيا وبتروغراد. كان يملك الكثير ليقصه علينا، فأعاد علينا الكتابات التي نشرها في لندن عام 1916 بعنوان «الحرب في أوروبا الشرقية». إلاّ أنه حدثنا أكثر عن أيام أوكتوبر، عن هذه «الأيام العشرة التي هزت العالم» التي كان شاهدا متحمسا لها، ورواية مخلصا لها في الكتاب الذي كتبه لدى عودته إلى نيويورك عام 1919 دون أن يكلفه ذلك، كما قال لي ذات يوم صديقه ماكس ايستمان، أكثر من عشرة أيام، لقد امتنع عن استقبال أي زائر واعتزل في غرفـــــة Green wich village وراكم وثائق هامة، ولم يخرج غلاّ لتناول الأكل بسرعـــة. لقد شاهدناه أثناء الرحلة مليئا بالحماس، والشباب، الذي يتخللــــــــه بعض الحزن فجأة، وقد خلق موته أول فراغ في صفوفنا. لقد جعلته مداخلاته الصريحة، وحتى القاسية أحيانا، صديقا للجميع في المؤتمر... أفسح لجثمانه مجالا أمام حائط الكريملين، في الجزء المخصص للأبطال الذين سقطوا في المعركة الثورية. وألقى كلمات الوداع بوخارين عن اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي الروسي، وكولونتاي عن رفاقه في اللجنة التنفيذية. وكانت لوزيز بريانت التي إنما وصلت لتراه يموت موجودة، ومثقلة بالألم. كان حزنها بـــلا حدود.

كانت هذه العودة إلى موسكو مطبوعة بالموت والقلق. ومـــــا كاد المؤتمر يبدأ حتى وصل ثلاثة فرنسيين معروفين بجديتهم وقيمتهم. ريمون لوفافر، صحافي وكاتب موهوب، تحــــــــــــــول إلى الشيوعية، وفريجا، عامل ميكانيكي، وهو نقابـــي، وليبوتي Lepetit من نقابة الحفارين، وهو فوضوي: كان الاختيـــــــار رائعا، فهذه البعثة، على قلتها، تمثل جيدا اتجاهات الحركــــــة العمالية الفرنسية. كان ريمون لوفافر الأكثر حماسا، فقد شارك بحماس شاب في النقاشات بين المندوبين، متسائلا ومستعلمــــــا. وقال لي ذات يوم «يجب استعادة كل ما قمنا به حتى الآن»، هـــذه هي خلاصة ما رآه وعرفه طيلة إقامته. أمّا فريجا، فهو أكثـــــر تحفظا من حيث مزاجه أم من حيث بقائه خارج الحزب، انه مناضل صلب لا يتخذ موقفا قبل أن يفكر مليا. انه أحد هؤلاء النقابيين، المخلصين تماما للثورة الروسية، انما المحتاجين للتداول والتدارس حول المشكلة الهامة التي يطرحها الانضمام إلى حزب سياســـي، ومن الطبيعي أن يكون لوبوتي، بين الثلاثة، الأكثر انتقادا، الاّ أن الرسائل التي كتبها من موسكو ونشرت في «الفوضوي» لا تمس تعاطفه مع النظام الجديد.

لقد تركتهم في موسكو عندما ذهبت إلى باكو، واثقا من أني سأعود فأجدهم فيها، وأستعيد معهم النقاشات التي حرمتني منها أعمال المؤتمر. إلاّ أنهم متلهفين جميعا للعودة إلى فرنســــــــا لمعاودة نشاطهم كمناضلين. كانت طريق العودة في ذلك الوقـــت، عبر مورمانسك، ومنها تتوجه السفن إلى مرافئ الغرب. وعندما وصلوا إلى مورمانسك حدثت عاصفة واهتاج البحر. إلاّ أنهـــم أبحروا في سفينة ذاهبة. ومنذ ذلك الوقت لم نسمع عنهم أخبــارا، وكان يزيد في قلقنا أن المندوبين الذين ذهبوا من مورمانسك بعدهم وصلوا إلى باريس. تعلقنا بأمل أن نجدهم، وباشرنا التفتيش عنهم في كل مكان: بلا جدوى. وأصبح من الواجب القبول باختفائهـــــــم. وكان ذلك بالنسبة للحركة العمالية الفرنسية بمثابة ضربة فادحـة دفعت للثورة.

كان بيار باسكال قد عبر حيال اثنين منهما، فريجا ولوبوتي، عن تعاطف خاص، فياعدهما وأرشدهما طيلة إقامتهما في روسيا وجعلهما يستفيذان من معرفته بالرجال، والنظـــــام، والبــــــــلاد. كتب من موسكو: «ترك فريجا ولوبوتي روسيا متغيران. لقــــــد تعلما هنا حقيقة كبرى كانت تنقصهما في فرنسا. لقد كانا يتصوران، إلى هذا الحد أو ذاك من الوعي، انه يمكن للمجتمع الجديد الذي يتخيلانه، المجتمع الخالي من الطبقات ومن الاستغلال، أن يتأسس بين ليلة وضحاها، وأن يخلف مباشرة النظام الرأسمالي غداة الثورة فتعلما في روسيا أنه، على العكس، يجب خلق هذا المجتمع بالعذاب والجهود وطيلة سنوات... بالإضافة إلى ذلك تولى لينين بشخصه تنشأتهما، شفاهيا وكتابة. وكان لهما معه حوار طويــــــــل وودي، كما أنهما قرأا الترجمة الفرنسية لكتابه حول الدولة والثــــــورة وكانت هذه القراءة بالنسبة إليهما اكتشافا فعليا... لقد كـــــان شعورهما بالواجب سبب موتهما. لقد ماتا ضحية رغبتهما في الإسراع في نقل كلمة الشيوعية إلى فرنسا».



--------------------------------------------------------------------------------

17- النقابات الروسية


ما أن عدنا إلى فندقنا في دييلوفوي دفور حتى قيل لنا أننا سننتقــل إلى فندق لوكس Lux كان دييلوفــــــوي دفــــــور مناسبا إلى حد أن فكرة تركه كانت مزعجة، وأصبحت أكثر ازعاجا عندما أتيح لنا زيارة مقرنا الجديد. يقع هذا المقر في منطقة ضاحية تفرسكايا، وهو كناية عن عمارة لا ذوق فيها إطلاقا، إن كان مــن حيث واجهتها، أم أثاثها، أم بقايا هذا «اللوكس» الذي أعطـــــــى اسمه للفندق. يوجد فيه صالونات لا تستعمل إلاّ أيام المؤتمــــرات حيث يكون ضروريا وضع الأسرة في كل مكان. عندما مان أميدي دونوا Amedee Du nois يقضي فترة تدرجه في موسكــــو، التقيته مقيما في واحد من هذه الصالونات الذي جعلته يزيد من تحفظاته وهو الذي جاء إلى موسكو في حالة روحية انتقادية. وكان يتساءل: «أين هي الأممية الشيوعية؟ يبدو أن زينوفييف يأخذها معه عندما يذهب إلى بتروغراد».

أمضيت في لوكس عاما كاملا حتى أكتوبر 1921، وعدت فأمضيت فيه فترات قصيرة متقطعة كل مرة كنت أستدعى إلى موسكو. وكنت أجده باستمرار منفرا، بيد أنه لا يشبه في شيء الحالـــة التي أصبح عليها عندما أقامت الستالينية الاشتباه، والدسيســـة والممارسات البوليسية. لكن إذا كان الديكور قد تغير فـــإن حياتنا بقيت على حالها: اجتماعات، مناقشات، تحضير تقاريــر، قراءات، وكانت الصحف قد بدأت بالوصول ولو بغير انتظـــــام.

كنت أذهب يوميا إلى مكاتب الاتحاد العمالي العام الروسي، حيث احتفظ بمقر للمجلس العالمي المؤقت للنقابات الحمــــــراء. فهناك لا وجود للرفاهية والأبهة بأي شكل من الأشكال: كل ما هو موجود هو الفقر الشديد، واللحد الأدنى المطلوب للتمكن من العمل. ولا وجود أيضا لأية تدفئة، في حين تملأ رائحة حساء السمك الكريهة البناء بأكمله. يبدو أن الحساء هو النوع الوحيد الذي يقدمه هذا المطعم. إن النقابات هي، رغم كل شيء، بمثابة الأهل الفقــــــــراء، لا لأنه لا يعلق عليها أية أهمية (فهي ستكون قريبا محور أحد أهم النقاشات داخل اللجنة المركزية والحزب) بل لأنه احتفظ لها بأكبر المهام في بناء المجتمع الشيوعي. إلاّ أن التشديد بقي على الحزب، فهو الذي يحصل على حصة الأسد من موارد الجمهوريــــة، من حيث الرجال أم الوسائل. ويبدو واضحا أن ثمة نقصا في الرجـــال، فقد أودت الحرب بحياة الكثيرين من خيرة العناصر، ولا يكفي الذين بقوا، رغم الأيام المتعبة التي يقضونها، للقيام بكل شيء، كــــان الخيار واجبا ولهذا كانت النقابات تأتي بعد الحزب (يجب أن نذكر أن التمييز – وحتى التناقض – بين الحزب والنقابة ليس معروفا لدى الشيوعيين الروس). كنا نصاب بنوع من الحذر بعد أن نمضــي النهار بكامله في هذه المكاتب المثلجة، ولذا كنا نسر بالخروج إلى الهواء الطلق ولو أن ميزان الحرارة يشير إلى الخامسة والعشرين تحت الصفر، وكنت أستمتع بإطالة العودة وذلك بأن أسير في البولفارات حتى نصب بوشكين، في الوقت الذي تحتفظ فيه الشمس الهابطة وراء الأشجار السوداء بقليل من حرارتها.

التقيت صدفة، في هذه المكاتب، بشابة بولونية كانت قد درست في فرنسا، وتعرف عددا كبيرا من أصدقائي، عرضت علي أن تقــــوم بالترجمات التي قد تفيدني، وأضافت قائلة «يجب علي أن أقول لك أنني منشفية» فأجبتها: «الأمر سيان بالنسبـــــــة لي، شــــرط أن تعملي بإخلاص..» كنت واثقا أنني لن أجهل شيئـــا، نتيجة وجودها، عن الوجه الآخر للصورة: فهي لا تكف أبدا عن الإشارة إلى النواقص، ونقاط الضعف في النظام، وكانت تنفجر لاعنة، وعندما يقع بين يديها نص للترجمة يهاجم المناشفة، وتصرخ: «هذا خطأ! هذه أكاديب!» كانت تسكن في دييلوفــــــوي دفــــــور، مسكننا السابق الذي أعطي للموظفين والسكرتيريين النقابييــــن. وذات مساء حملتني ترجمة ملحة للذهاب إلى هناك. فشاهـــــدت منظرا مؤلما: كان كل شيء مهملا. لم يكن بالإمكان التعرف على المنزل الذي عرفناه نظيفا، مرحا، لقد كفى وجود مسؤول غير كفـــوء أو مهمل لتسبيب مقل هذا الخراب، كان السقف مشققا في بعض الأماكن، والجدران ملطخة، والمسارب مقفلة ومسدودة، وأجهزة الإضاءة ناقصة، ليست هذه هي «أوروبا» بل «الشرق» حيث عمل الصيانة اليومي مجهول. إن هذا الإهمال الشرقي هو واحـد من السمات السلبية في الشخصيـــة الروسيـــة الجذابــــة في أكثر من ناحية.

كنت أعمل منذ أشهر مع هذه السكرتيرة عندما أخبرتني إحدى صديقاتها، ذات صباح، أنها أعتقلت. فذهبت مباشرة عند لوسوفسكـــي للاستعلام. فأكد لي أن الأمر يتعلق ببضعة أسئلة تطــرح عليها وأنه لا يتعدى كونه تحقيقا بسيطا. أطلق سراحها في اليوم التالي، فجاءت إلي تروي قصتها. لقد التقت عدة مرات ببولونيين منتمين إلى البوند (تنظيم اشتراكي يهودي) لا يمكن اعتبارهم أصدقاء للجمهورية السوفياتية، وارتدت اجتماعاتهم طابعا سريا وحتى تآمريا. عند ذلك قامت الشرطة التي كانت تراقب هـــؤلاء البولونيين، ببعض الاعتقالات. وبدا من خلال لهجتها الهادئة فوق العادة، ومن أنها تتكلم عن اعتقالها بدون غضب، أن تدخل الشرطة مبرر في رأيها.

كان اسم المندوب الهولندي إلى اللجنة التنفيذية جانســــــــن. وهو صديق كبير لغورتر ومعجب به. وغورتر هو المدافع المتحمس عن مفاهيم الحزب الشيوعي العمالي الألماني، وقد تكلمت عنه أكثر من مرة. التقيت بجانسين في برلين، عندما كنا نبحث سويا عن طريــق نحو موسكو. لقد أمن الاتصال بين أمستردام وبرلين أثناء وبعد الحرب، وهو يعرف جيدا الحركة العمالية الألمانية ورجالها الذين لا يحبهم أبدا، ويحكم عليهم بقسوة. لم يكن هذا صحيحا كل الصحة، إذ أن شيئا من كره الألمان يشوه. هذه التقديرات. كنا نلتقـــي، ونتبادل الملاحظات، ونتناقش أثناء نزهتنا في ليل موسكو.

ذهبنا ذات مرة في زيارة إلى مصنع يرافقنا شيوعي شــــاب عمل في بلجيكا مدة من الزمن. أوصلنا الترام إلى مكان بعيد جدا فـــي الضواحي، إلاّ أنه بقي علينا أن نمشي مسافة لا بأس بها كانــــت السماء ملبدة، غلا أن الرياح ضعيفة، كما أننا كنا مثقلين بالثياب. في الطريق صادفنا سلسلة من العربات المتوقفة أمام متجر فقررنا الدخول سعيا وراء الحصول على قدح من الشاي، بالاضافة إلى اهتمامنا بالتعرف إلى هذا الإطار وهؤلاء الأشخاص (ولذا لم نذهب إلى مقاه اخرى في المدينة، رغم أنها كانت لا تزال تتقبل الزبائن). جاؤوا إلينا بالماء الساخن، الملون قليلا، وكانت الأقــــــــداح والاناء مشرومة ومكسرة، إلاّ أنه كان بوسعنا أن نشعر بالدفء على الأقل. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها الشاي إلى مجرد ماء مغلي.

لا فائدة من القول أن دخولنا أثار الفضول بين الزبائن فأصبحوا، متلهفين لسؤالنا: من نحن؟ وإلى أين نذهب؟ باشر رفيقنا الشــاب حديثا مع جاره، وخطرت له الفكرة المزعجة بأن يكشــــــــــف عــــن مناصبنا العالية: أعضاء في اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية فأجابه محادثه بلهجة ملؤها الاحتقار: «إذا، إنهم يهـــــــــــود!». «كلا، إنهم ليسوا يهــــــــــــــودا!». فوجئ أول الأمر وأخذ ينظر إلينا بإصرار، إلاّ أنه كان من المستحـيـل، في النهاية، إقناعـــه، مـــــع رفاقه الذين هبوا لنجدته، بتبديل رأيه: كل القادة السوفيات يهود، وهو لا يتحرج عن انتقاد النظام وبفظاظة أحيانا. كان هذا معبرا جدا، فحوادث من هذا النوع تشكل وسيلة ثمينة لقيــــــاس الرأي الشعبي، وثمة مهمة شاقة أمام الثورة لتحرير هذه العقول الخشنة من السم الذي بثته فيها القيصرية.

خلفت فينا زيارتنا إلى المصنع، ولو لأسباب مختلفة، انطباعا مماثلا فيما يتعلق بصعوبة المهمة، إلاّ أن هذه الصعوبة لا تتعلق هنـــا بالأشخاص، فالعمال والمسؤولون شديدو التعاطف والاندفاع أمام النظام، وقد عرضوا لنا بتوسع مآخذهم والصعوبات التي يصطدمون بها، كان العمل منظما بدقة إلاّ أن ما ينقص هو الوسائل والأدوات التي لا يمكن الحصول عليها.

كنا منهكين بشكل لا يسمح لنا بالعودة مشيــــــــا على الأقدام، وبدت لنا فكرة العودة بواسطة الزلاجـــــــات جذابة. وفي الواقــــع كان ذلـــك لذيذا في البداية إذ كان الهواء الطري يصفح وجوهنــــا، الا أن ذلك لم يدم طويلا. فقد كنا متدثرين بالملابــــــس، غير أن ذلك لم يكن كافيا لمثل هذه الرحلة، لذلك قررنا سريعا البقاء حيث كنا مكتسبين تجربتنا الأولى عن الزلاجات.

بدا أن النقاشات والاختلافات حول برنامج الحزب الشيوعي العمالي الألماني – حزب الجماهير لا القادة، ضد البرلمانية والنقابات، - قد استنفذت، وكانت قد وصلت إلى ذروتهــــا في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية. إلاّ أن هرمان غورتر، الشيوعي الهولنـــــــــدي الذي منظر هذا التيار، وجه «رسالة مفتوحة إلى الرفيق لينيـــــن» يستعيد فيها النقاش، مما دفع الأممية الشيوعية لدعوة غورتــــــر إلى موسكو من أجل نقاش جديد. تم التحضير لجلسة استثنائية للجنة التنفيذية. كان غورتر شاعرا، وشاعــــرا كبيرا، لذا كان النقاش معه يأخذ بالضرورة طابعا أدبيــــــا. وهكذا فإن رسالته المفتوحة تنتهي بهذه الخلاصة:

«في النهاية، وبغية وضع تقديراتي في شكل مخلص أمـــــام أعين العمال الراغبين في تصور واضح عن التكتيك، فإني ألخصها بالموضوعات التالية:

1- يجب أن يكون تكتيك الثورة في الغرب مختلفا تماما عن تكتيك الثورة الروسية.
2- لأن البروليتارية هنا هي وحيدة.
3- إذا، يجب على البروليتارية أن تقوم وحدها بالثـــورة ضد كافة الطبقات الأخرى.
4- إن أهمية الجماهير البروليتارية هي نسبيا أكبر، وأهمية القــادة أقل منها في روسيا.
5- يجب أن تمتلك البروليتارية هنا كافة الأسلحة المثلى للثـــورة.
6- بما أن النقابـــات هي أسلحة ناقصـــة فيجب إلغاءها أو تحويلها جذريا، واستبدالهــــــا بمنظمات للمؤسسات، وجميعها في تنظيم عام.
7- بما أنه يجب على البروليتارية وحدها أن تقوم بالثورة. بدون أية مساعدة، يجب عليها إذا أن ترفع من وعيها وشجاعتهـــــــــا. ومن المفضل وضع البرلمانية جانبا في الثورة»

كان هذا، كما نرى، البرنامج الكامل للحزب الشيوعي العمالي الألماني. إلاّ أن الاهتمام الرئيســــي لغورتـــــــــر هو المسألة النقابية. وعندما التقينا، قال لي بحرقة: «أتمنى أن تراجع موضوعاتــك حول النقابات». وقد بدا مدهوشـــــــــــا عندما علم أن النقابيين يؤيدون موضوعات الأممية الشيوعية لا موضوعاتــــــه التي زاد عليها هذا الإعلان ضد الاضرابات: «لقد بقينا قليلين، إن قوانا في الحزب الشيوعي العمالي الألماني محدودة إلى حد يوجب علينا أن نركزها على الثورة، لا أن نبعثرها في الاضرابات».

حصل الاجتماع في 24 تشرين الثاني. وقدم فيه غورتر عرضا طويلا. كانت النقاشات السابقة من الغزارة بحيث لم يكن ممكنــــا تقديم حجج جديدة، لقد قال الجانبان كل شيء. لكن شيئا جديدا حصــــل من جهة غورتر: شكل العرض الذي قدمه. كان الشكل جديرا بالاهتمام، إلاّ أن المضمون لم يكن صلبا، وكان ذلك واضحا وعندما نعيد اليوم قراءة خلاصة «رسالتـــــه المفتوحة» لا يمكننا إلاّ أن ندهش من سذاجتها. استطاع تروتسكــــــــــي – وهو المكلف بالرد – أن يرفض، بطريقة لامعة أيضا، تأكيدات غورتــــر الهشة، وأن يشير إلى تناقضاته، ولعل أكثرها وضوحا تلك المتعلقة «بالجماهير». وهي تعود باستمرار في عرضه الذي يجعل الجماهيــر متعارضة مع القادة في حين انه يأخذ على الأممية الشيوعية «ركضها وراء الجماهير». لم يكن يحكم بنفي أن الثورة في الغرب ستحصل بطريقة مختلفة عنها في روسيا: لقد قال لينين ذلك وردده، ولكن لا يجب تبعا لذلك تقسيم أوروبا، كما فعل غورتــــر، إلى عالمين مختلفين تماما، فثمة نقاط مشتركة بين روسيا والغرب.

كانت هيلين بريون ذلك الوقت في موسكو حيث تمضي فترة قصيرة. وهي مناضلة نشيطة في اتحاد نقابات التعليــــم، وقد ساهمت، في فرنسا، في الحركة النقابيــــــــة الأقلية، وقد كلفها نشاطها أثناء الحرب المطاردة والحكم. لقد تابعت هذه النقاشات باهتمام حاد وعبرت، لدى الانتهاء، عن سرورها لتمكنها من حضور مناظرة بمثل هذا المستوى العالي.



--------------------------------------------------------------------------------

18- الفوضويون – موت ودفن كروبوتكين


كان الفوضـــــويون الروس منقسمون إلى عدة تجمعات واتجاهات – وقد زادت الحرب من هذه الانقسامات - ، من الفوضـــــويين الشيوعيين إلى الفرديين. وهذا الانقسام موجود في كافة البلدان، وإن كان في روسيـــــــا أكثر منه في البلدان الأخرى كما بين ذلك فيكتور سيرج في المقالات التي خص بها الفوضـــويين الذين يعرفهم جيدا. عندما وصلت إلى موسكو، في حزيران 1920 كان أحد هذه التجمعات، تجمع الفوضـــويين – العالمييـــن، يملك مقرا واسعا في قمة تفرسكايـــا يعقد فيه الاجتماعات. لم أكن أعرف أحد بينهم، إلاّ أني كنت أعرف جيدا اسكندر شابيرو المنتمي إلى تجمع الفوضـــويين النقابيين. وكنت قد التقيته أكثر من مرة في لنــدن، خاصة 1913، في المؤتمر النقابي العالمي، فقد كان يعيش آنذاك في لندن ويقيم اتصالات مع «الحياة العماليـــة» ذهبت لرؤيته في مقر تجمعه «صوت العمال» وهو عبارة عن مخزن مجاور للمسرح – الكبير. يركز شابيـــــــرو وأصدقاؤه، مثلهم مثل غالبية الفوضويين، كل جهدهم على النشر، فهم يملكون مطبعة صغيرة تسمح لهم بطبع نشرة وبعض الكراسات، وأحيانا قليلة بطبــــــع كتاب. قدم لي عدة نسخ عن كراســـات نشرت منذ مدة قريبة: نصوص بقلم بيللوتييه، وباكونين، وجورج ايفوتو، وفهمت أنهم يطمحون إصدار طبعة روسية عن «تاريخ بورصات العمل» الذي كتبه بيللوتييه. إلاّ أن وسائلهم ضعيفة باعتبار أن الورق مفقود.

كان شابيرو مطلعا بصورة خاصة على ما يجري في العالـــم لأنه يعمل مع تشيتشيرين في الشؤون الخارجية. فهو يرى ويترجم البرقيات في المفوضية. طلب مني بعض التحديدات حول الحركة النقابية في فرنسا، وحول أصدقائه، وتكلمنا من ثم عن النظام السوفياتي. لم يكن يؤيد كل شيء وكانت انتقاداتـــــــه عديدة وجدية، إلاّ أنه يصوغها بدون خشونـــة، غير أن استنتاجه هو إمكانية وضرورة العمل مع السوفيات إلاّ أن رفيقه الذي حضر النقـــــاش كان أكثر خشونة، فهو غاضب على الطريقة السخيفة التي يتصرف بها البلاشفـــــــــة في الريف، إلاّ أنه وصل على الاستنتاج نفسه. اتفقنا على موعد لندرس سويا مشاكلهم وعلاقاتهم بالنظـــــام، وخاصة بالحزب الشيوعي، والشروط التي يمكنهم من خلالهـــا متابعة مهمتهم، وذلك بعد أن يتم تحديد الأمور بوضوح وصراحــة من قبل الطرفين.
كان حوارنا وديا جدا، وبدا لنا الحــــــل سهلا إلى حد اعتقادنا معه أن المشكلة قد حلت. فقد كان الفوضـــويين حيال النظام مواقف مختلفة مطابقة للاتجاهات المختلفة، بدءا بالذين يحاربون الشيوعية والنظام بالاغتيال والقنبلة وصولا إلى الذين وافقوا على البلشفية ودخلوا إلى الحزب الشيوعي – وبينهم الفا، بيانكــــي، وكراسنوتشيكو، في حين يحتل البعض منهم مناصب رفيعة – مثلا بيل شاتوف العائد من أميركا في سكك الحديد – ورغم بقائهم خارج الحزب فالاندفاع والمؤهلات تجد دائما ما تبذله في العمل على إعادة بناء البلاد. فالفوضوي الموجود على رأس مؤسسة ما يملــك إمكانيات هائلة واستقلالا كبيرا، فالسلطة المركزية تدع المبادرات تأخذ مجراها لسرورها برؤية المؤسسات وقد أحسن قيادتهــا. ويعرف الفوضـــويون النقابيون ذلك، إلاّ أنهم يريدون أكثر منه: الاعتراف بتجمعهم وضمان إمكانية الاستمرار وتطوير عملهم في النشر. وتوصلنا في نهاية النقاش إلى أنهم سيكتبون بيانـــا يحددون فيه موقفهم حيال النظام، ومطالبهم، على أن أعرضه على اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية.

باشرت هذا الموضوع بمبادرة خاصة مني، وعندما رويت لتروتسكي ما قمت به، عبر عن سروره وطلب مني بالحاح متابعة جهودي لتحقيق الاتفاق. كنت واثقا جدا ومسرورا بأي اتفاق تكون له نتائج حسنة على الحركة النقابية في كافة البلدان. إلاّ أن أحدا لم يحضر إلى الموعد. ففي الساعة المحددة قيل لي عبر الهاتف أن شابيرو وصديقه لن يحضرا. وكانت ساشاكروبوتكين هي التي قالت لي ذلك على الهاتف دون أن تزيد كلمة. لماذا تكلفت هي بهذه المهمة؟ لم أكن أعرفها، ولم يسبق لي أن رأيتها. إلاّ أنه لم يكن من الصعب تصور ما حدث. لقد نوقش الأمر، واصطدمت وجهات النظر والاتجاهات المختلفة، وكان للأصدقاء المقربين من كروبوتكين مآخذ مدعومة إلى هذا الحد أو ذاك، وفي النهاية انتصر رأي الجماعة الأكثر محدودية، والأكثر شراسة، والأكثر حقدا. وهذا القرار سخيف لأن الفوضـــويين النقابيين هم أكثر بعدا من الفردانيين منهم على البلاشفة. و‘ذا كان هؤلاء، وهم الأقرب إلى الشيوعيين رغم كل شيء، والذين يفهمون أنه من مصلحتهم الخاصة بذل الجهود في البناء السوفياتي، يتهربون، فلا مجال إذا لتمييزهم عن الفردانيين والمجموعات الأخرى التي تبشر بالصراع الذي لا يلين ضد النظام. لقد حرم موقفهم الثورة من مساعدة ثمينة في أكثر من مجال، إلاّ أنه أضر بهم أكثر، فلقد هزموا مسبقا في المعركة، وبدون أن يحمل ذلك أية فائدة لأي كان. مات كروبوتكين يوم 8 شباط 1921. كان قد عاد إلى روسيا بعد ثورة شباط ليقدم دعمه الكامل إلى الحكومة المؤقتة، إلى نظام كيرنسكي، ولو أن كورنيلوف معه. ويشكل هذا بالنسبة له تتمة منطقية للموافقة الكاملة التي أبداها، في بداية الحرب العالمية، حيال أحد التجمعات الإمبرياليية، تجمع الحلفاء الذي يخوض حربا مزعومة عادلة ضد العسكرية البروسية. أمّا الآخرون، وعلى رأسهم مالاتيستا فقد فضحوا كروبوتكين وجماعته باعتبارهم «فوضويي الحكومة» وهكذا أصبح كروبوتكين، نتيجة هذا الموقف أو بحكم أنه انخرط إلى حد بعيد في تأييد حكومة كيرنسكي المؤقتة، عدوا حازما للنظام السوفياتي.

كان غيلبو قد ضرب، في اليوم نفسه، موعدا مع لينين في الكرملين. فاقترح علي مرافقته. عرض غيلبو أولا قضيته الشخصية وتشعب النقاش العام إلى أن وصلنا إلى كروبوتكين. تكلم لينيـــــن عنه بدون أية قساوة، بل على العكس، امتدح كتابه عن الثورة الفرنسية (المنشور في فرنسا بعنوان: الثورة الكبرى) وقال لنــــا: «لقد أحسن فهم وتبيان دور الشعب في هذه الثورة البورجوازيــة. ومن الأسف أن يكون قد غرق في نهاية حياته في شوفينية غير مفهومة».

قبل أن نذهب، سألنا لينيـــــــــــــن بلهجة فيها بعض اللوم، لماذا لا نرسل مقالات إلى «الإنسانيــــــــة»، وتوجه إلي قائلا: «تعال لرؤيتي من وقت لأخر، فحركتكم الفرنسية محيرة فعلا، كما أن المعلومات عنها ناقصة». فأجبته بأني أخذ الوقت الكثير من الرفيق تروتسكــــــــي، فأجابني بقوله: «حسنا، ستأخذ بعضا من وقتي أيضــــا».

عرض جثمان كروبوتكيــن في القاعة الكبرى لمقر النقابات – كما كان قد عرض جثمان جون ريد – وقام الفوضويون بالسهـــر عليه وعين الأحد المقبل موعدا للدفن. وعشية ذلك اليوم. جــاء سكرتير الأممية الشيوعية ليقول لي أني مكلف بالكلام باسم الأممية الشيوعية. بدأ لي الخبر غير واقعي، فذهبت لأرى كروبيتسكــــي الذي أكد لي القرار، وعندما قلت له بأن نقاشا سابقا هو ضـــروري أو على الأقل تبادلا في وجهات النظر، أجابني بأنهم اعتبروا ذلك بدون فائدة. واكتفى بأن قال لي: «إنهم يثقون بك».

وقعت في حيرة: الكلام باسم الأممية الشيوعيــــــــــة عن رجل لم يكف البلاشفـــــــة عن محاربته، ولم يكن هو، من جهته، سوى عدو لا يهادن لثورة أوكتوبــــر، إنها مهمة دقيقة فعلا. إلاّ أن اعتبارين جعلاني أرى مهمتي أقل صعوبة مما كنت أرى في البداية. تذكرت حواري مع لينين – المناسب فعلا -، واللهجة التي تكلــــــم بها عن كروبوتكيـــــــــن، مديحه «للثورة الكبرى»، وشيئا آخر كان قد فاجأني أثناء الأيام الأولى لإقامتي في موسكـــو. يمكننا أن نقرأ على نصب عمودي مقام في مدخل حدائق الكرملين، أسماء ممهدي الشيوعية، والمدافعين عن الطبقة العاملة، وقد صدمت «بالانتقائية» التي حكمت اختيار هذه الأسماء، «فالطوبائيــــــون» كانوا جميعا هنا، وحتى بليخانوف كان موجودا (وهذا ما يثير العجب أكثر من غيره)، يبدو أن عنف السجالات ومرارة الخلافات لم يحولا دون الاعتراف بدعم ومساعدة الأعداء النظريين، هذا الدعم الذي قدموه في سبيل التحرر الانساني. ويوجد أيضا مثال آخر على هذا «التسامح» غير المتوقع من البلاشفة الشرسين ففي بداية الثورة ظهرت الحماسة الثورية بمختلف الأشكال وفي كل المجالات، وخاصة في مجال الرسم والنحت. ويمكننا أن نرى حتى عام 1920 صورة الثوريين الكبار محفورة على الجدران، وكانت صورة كروبوتكين موجودة في مكان محترم، في جوار المسرح الكبير. تشكل، بعد ظهر يوم الأحد، موكب كبير في مقر النقابات، لمرافقة الجثمان إلى مدفن نوفوديفيتشــي Novodievitchi الموجودة في أحد أطراف المدينة. كانت الأعلام السوداء تخفق فوق الرؤوس، والأغاني المؤثرة تتلاحق. وجرى في المدفن حادث سريع إنما حاد، وذلك منذ الخطابات الأولى. فقد كان أحد فوضويي بتروغـــــراد يتكلم عندما ارتفعت الاحتجاجات العالية والمنفعلة: «كفى! كفى!» يبدو أن الأصدقاء الأكثر قربا من كروبوتكين لا يتحملون أن يذكرهم أحد في يوم الحداد هذا بما تعتبره غالبية الفوضوييــــن، أو كلهم حتى، ارتداد كروبوتكيـــــن عام 1914.

هل اللحظــة غير مناسبة، وهل السكوت واجب؟ كانت هذه مسألة يتوجب على الفوضويين حلها فيما بينهم، كما كانت إنذارا بالنسبة لي إذا ما حاولت الإشــــارة إلى هذه الفترة الحرجة إلاّ أني كنت قد أعددت خطابي القصير استنادا إلى ذكريـــــــات شخصية، إلى ما كانه كروبوتكيـــــــن بالنسبة لرجال جيلي، في أوروبا وأميركا والعالم قاطبة، وإلى مساهمته الهامة في نظرية التطور في «العون المتبادل»، وإلى شخصيتــه التي لا يمكن للمرء إلاّ أن يشعر حيالها بود مخلص. مرت كلماتي بدون موانع رغم أني احسست أن ثمة تعاطفا يحيط بها، وقد كتب فيكتور سيـــرج فيما بعد قائلا: «إنه خطاب صلـــــــح». ويمكننا الاستنتاج من هذا أنه قد كان للكلمات التي ألقيتها معنى سياسي محدد، كما لو أن مضمونهــــا قد نوقش داخل اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. وظهـــــــر فيما بعد أن ذلك لم يكن صحيحا، إلاّ أن تقديره يبقى غير شخصي لأنه نتيجة الملاحظات التي جمعها من حوله.



--------------------------------------------------------------------------------

19- مؤتمر الحزب الاشتراكي الفرنسي. الأكثرية تؤيد الانضمام إلى الأممية الشيوعية


تكلمت في فقرة مخصصة للمؤتمر الثاني للأممية الشيوعيـــة عن الحزب الاشتراكي الألماني المستقل، وعن أهميته العددية، والاتجاهات الموجودة بداخله. فداومينغ وستوكر يدافعان عن الانضمام إلى الأممية الشيوعية في حين يطالب ديتمان وكريسبيين ببعض «الضمانات». وسببت التقارير التي قدموها لدى عودتهـــم إلى ألمانيا نقاشات حادة داخل الحزب، وبدا أن لا مجال للمساومـــة بعد ذلك وأن الانشقاق محتوم. فدعي إلى عقد مؤتمر استثنائــــي. انعقد المؤتمر في هال من 12 إلى 17 أوكتوبر. وطالب مؤيدوا الانضمام من زينوفييف المجئ والكلام باسم الأممية. وأعطته الحكومة الألمانية تأشيرة دخول تصلح لأيام قليلـــــة، فجاء وجلب معه سكرتير أممية الشبيبة الشيوعية، ولوفوسكي عن النقابات، وكانت هذه المرة الأولى التي خرج فيها أعضاء في الأمميــة الشيوعية من روسيا للمساهمة في مؤتمر اشتراكي، وكان من الضروري الاستفادة حتى الحد الأقصى من هذه المناسبة وكانت النقاشات رائعة ومحتدمة. تلقى هيلفردينــــغ الذي يقود المعركـــة ضد الانضمام دعم مارتوف وأبراموفيتش، إلاّ أن زينوفييف أجاد وانتصر، فقد كان يعرف ويحس أن أغلبية الحزب الكبرى تريد الذهاب إلى الأممية الثالثة، وهي تجد مشقة في تحمل الموقف المتذبذب والمتردد للقيادة، ولدى التصويت فاز زينوفييف بـ 236 صوتا في حين لم يجمع المعارضون سوى 156 صوتا. عاد زينوفييف إلى موسكو مكللا بالغار، وسرعان ما أصدرت الأممية الشيوعية كراسا غنيا يتضمن خطاب زينوفييف «اثنا عشر يوما في ألمانيا». استطاع زينوفييف أثناء إقامته القصيرة في هال الاهتمام بالحزب الاشتراكي الفرنسي. فهذا الحزب موجود في وضع مماثل لوضع المستقلين في ألمانيا: ضغط قوي من القاعدة للانضمام إلى الأممية الشيوعية، ومقاومة عنيدة من القيادات، إلاّ أنه كان من الواجب على مصيره المرتبط بمصير المستقلين أن يتبعه. وما أن علم اللونغيون برحلة زينوفييف حتى أرسلوا بعثة إلى ألمانيا لتخطط معه فهم يروا أن الواحد والعشرين شرطا التي فرضها المؤتمر الثاني للدخول إلى الأممية الشيوعيـــــة، هي شروط قاسيــــــة، وهي قد تمنع أي تصويت كثيف لصالح الانضمام. وافق زينوفييف على التوفيق، ووقع معهم عقدا.

عقد مؤتمر الحزب الاشتراكي في تور من 25 إلى 31 كانون الأول، لم يكن بوسع زينوفييف هذه المرة أن يحلم بالرحلة إذ أن الحكومات الفرنسية لا تطيق كل ماله علاقة بالبلشفيـــة، إلاّ أن الأممية الشيوعية وجدت في كلارا زيتكين أفضل من ينقل رأيها. ذهبت هذه سرا إلى فرنسا، وأثار ظهورها على منصة المؤتمر حماس غالبية المندوبين. وتكرر التصويت الذي جرى في دريد. وحصلت فكرة الإنضمام إلى الأممية على 3028 صوتا، في حين حصل أعداؤها على 1022 صوتا. كانت معرضة الانضمام قوية خاصة في وسط المندوبين البرلمانيين، كما أن جان لونغه، حفيد كارل ماركس، انفصل بعد طول تردد عن غالبية أصدقائه الذين صوتوا للإنضمام.

وبدت النتيجة في موسكو، ملائمة جدا، ساد الارتياح رغم أن أحدا لم يكن يعلق على الحزب الاشتراكي الفرنسي وعلى فرنسا الأهمية المعلقة على الحزب الألماني وعلى ألمانيا. فيما يتعلق بي، وأنا الذي أعرف جيدا بعض الأشخاص الذين دافعوا عن الإنضمام فقد بقيت متشككا في إخلاصهم، فهم يسبحون مع التيار ليبقوا في قيادة الحزب. إلاّ أن هذا الحزب الجديد، المتخلص من ثلاثة أرباع برلمانييه، ومن غالبية الذين ساوموا أثناء الحرب الامبريالية، يقدم إمكانية فعلية: فالطريق حـــــرة أمام العناصر الجديــــــدة، أمام الشباب الذين وصلوا إلى القيادة، وليس متبقيا عليهم سوى البرهنة على كفاءتهم.

نتيجة تأسيس الحزب الشيوعي الفرنســـــي، وهو فرع من الأممية الشيوعية ، دعتني اللجنة التنفيذية إلى «المكتــــــب المصغر» الذي يشكله زينوفييف، وبوخارين، وراديك، وبيلاكون كان هذا المكتب موضع انتقادات عنيفة، في المؤتمر الثالث، وخاصة فيما يتعلق بحركة أذار الفاشلة في ألمانيــــــــا. واعتبر بؤرة تحاك فيها المؤامرات غير الموجهة لا ذد الحكومات الرأسمالية فحسب، بل، وفي بعض المناسبات، ضد فروع الأممية الشيوعيــــة، إلاّ أن هذا ليس صحيحا. فمهمة هذا المكتب الرئيسية تحضير عمل اللجنة التنفيذية. فزينوفييف يسكن في بتروغراد ويأتي إلى موسكــــو بصورة دائمة. ما أن يعلن عن مجيء زينوفييف حتى يبدأ العمل: اجتماع المكتب المصغر، اجتماع اللجنة التنفيذية، نقاشات، قرارات، واجتماعات مفتوحة.

كانت لهجة النقاشات في المكتب المصغر، كما في اللجنة التنفيذية، ودية جدا، إلاّ أن جو المكتب كان حميما أكثر، كما أن الساعات التي كنا نقضيها فيه كانت أكثر بهجة. كان راديـــك جيدا، أي كما يكون دائما عندما يعتبر الرجال الذين يخالطهم مساوين له، كما أن بوخارين لم يتخل أبدا عن لطفه، وكان يرسم مازحا أثناء اجتماعاتنا، وقد رسم أكثر من صـــورة لراديك وهو يرتدي التنانير. كنا قد عقدنا اجتماعا طيلة بعد الظهر في لوكس، وكان من الواجب أن نعود فنلتقي في الكريملين بعد العشاء، في مسكن زينوفييف، لاستكمال جدول أعمالنا. عندما وصلت وجدت زينوفييف ممدودا على أريكة، وبوخارين نائما على الأرض... إنهما، مثل بقية القادة الشيوعيين، يقتنصان ساعة نوم حين يستطيعان.

كانت حياة لينين وتروتسكي أكثر انتظاما بالتأكيد، باستثنـــاء فترة الحرب الأهلية. كنت أجد فائدة في النقاشات حتى عندما أكون معارضا للموضوعات المطروحة والقرارات المتخذة: ففي موسكو ذلك الوقت، يمكن للمرء أن يطلع أفضل اطلاع على الحركة العمالية في العالم كله، وعلى السياسة العامة للحكام، وذلك بفضل التقارير، والصحف، والاتصالات الشخصية بالزوار العديدين من كافة أنحاء أوروبا والعالم.



--------------------------------------------------------------------------------

20- إلى المجموعة الشيوعية الفرنسية في موسكو


كان دريدزو- لوسوفسكــــــــــي، الباريسي العتيقـ يأتي أحيانا إلى لوكس ليثرثــــــر معي. وذات يوم قلت له بينما كان ذاهبا: «سأنزل معك، فأنا ذاهب إلى اجتماع المجموعة الفرنسيــــــــة. – وأنا أيضا قال لي.» كانت المجموعة الشيوعية الفرنسيــــــة تجتمع في منزل من نمط غربي قريب من فندق لوكس. وكان هذا المنزل مسكنا سابقا لقنصل اسكندينافي، وكان غليبو وزوجته ومهندس فرنسي يسكنون فيه، ويتضمن المنزل قاعة واسعة، مكتب القنصل بلا شك، تصلح للاجتماعات. كانت المجموعة غير متجانســــــــة، فغالبية عناصرها المختلفة الأصول كانت موجودة في روسيا أثناء انتفاضة أوكتوبر وقد انضمت إلى الشيوعيـــة. فالليوتنانت بيار باسكال هو من البعثة العسكرية، وهو كاثوليكــي مؤمن وممارس انتقل إلى صف الثورة بسبب كاثوليكيته لا رغما عنها – مما يكفي لمعرفة أنه لم يكن كاثوليكيا عاديا، فلقد اعجب بالطابع الاسبارطي للنظام. عمل مع تشيتشيريـــن بدأب دون أن يشتكي أو يطلب شيئا. وقد أتيحت لنا فرصة رؤيته، أثناء المؤتمر الثالـــث، فوجدناه منهكا إلى حد جعلنا نعتقد أنه مريــــض وغير طبيعي. ماذا؟ لا يجب الاعتماد عليه لمعرفة ماذا في الأمر، إلاّ أن الأسئلة التي طرحناها على زملائه جعلتنا نعرف أن الذين وزعوا بطاقات الغــــــذاء نسوا أن يعطوه منها. وقد نشر له في بتروغراد وباريس مقالات و«رسائل من روسيا الحمراء»، وهي ذات فكر وأسلوب جديرين بالإعجاب.
أما رينيه مارشان فكان مراسل الفيغــارو في روسيا عندما اندلعت الحرب. ويمكن التصور أنه م حيث أصوله – ابن أحــد القضاة – ومهنته بعيدة جدا عن الشيوعية والثورة الاشتراكيـــة. فلماذا انضم إليها؟ لقد قدم حججه في كراس عنوانه: «لمـــاذا انضممت إلى صيغة الثورة الاجتماعية» وهو عنوان غريب وحذر. لقد جعلته المؤامرات والمناورات والاغتيالات المدبرة في سفارات الحلفاء في بداية الثورة – وغالبا أمام ناظريه – جعلته يشمئز وساهمت بالتأكيد في دفعه إلى الجهة الأخرى من المتــراس. كان يعمل كثيرا هو أيضا. طلب مني أن أحصل له على اذن للتفتيش في أرشيفات وزارة الخارجية للحصول على المراسلات الديبلوماسية المتعلقة بالحلف الفرنسي-الروسي، وخاصة رسائل وبرقيات ايسفولسكي السفير في باريس من 1910 الــــــى 1916. ونشرت هذه الرسائل التي ترجمها في باريــس (نشرناها بواسطة مكتبة العمل) تحت عنوان «الكتاب الأسود» وكان ذلك بلا شك مساهمته الأكثر أهمية في الثورة الروسية وفي التاريخ، وقد حاول بعد عشرة سنوات أن ينكرها عندما انظم تبعا إلى «صيـغ» أخرى رغم أني كنت أملك الترجمات التي كتبها بخط يده. ولا يمكن تصور رجل وكاتب متناقض إلى هذا الحد مع باسكال مثله. لم يكن جوعه الكبير خرافة، وكان يسمح لنفسه بالاحتفاظ بكلب كبير في غرفته بالمتروبول.

كان يجب علي بلا شك أن أقارن بين الكابتن سادول وباسكال، ليس التناقض أقل من ذلك الا أن طابعه مختلف تماما الا أني قلــت عن سادول ما يكفي لأنه يعامل المجموعة الفرنسية باحتقار ولا يأتي أبدا إلى هنا. وسرعان ما غادر روسيــــا السوفياتية حيث لم يجد عملا بمستواه.

كان هنري غليبو قد اقترب من مجموعة «الحياة العمليــــــة» في بداية الحرب العالمية الأولى. وما أن سرح حتى ذهب إلى سويسرا حيث وجد له رومــــــــــــان رولان وظيفة في الوكالة العالمية لسجناء الحرب. كان جزءا من فرنسا «الرولاندية» كما قلت، الا أنه، تحت تأثير الاشتراكيين الروس الذين قابلهم في جنيـف، تطور بسرعة نحو البلشفية. شارك في مؤتمر كيينتال واوقف ونفي في حين كانت محكمة فرنسية تحكم عليه غيابيا بالاعدام. وقد روى ذلك في كتب مختلفة مكتوبة بين 1933 - 1937 وهي كتب يجب قراءتها بدقة. لم اعطه حق تمثيلنا في المؤتمرات العالمية رغم أنـه ألح علي من أجل ذلك، كنت أعترف مختارا بحسنات مجلة «الغد» التي يديرها ويصدرها في جنيف فهي تحمل في كل شهر معلومات استثنائية كثيرة النفع، كما أنه كان يبدي الكثير من الشجاعة ضد تكالب المخبرين والاستفزازيين الذين يضايقونه بلا رحمة. الاّ أننــــا لم نكن نستطيع اعتباره واحد منا، وقد برهن تطوره على أنـــه لــم يكن أهلا للثقة.

كان المهندس الذي أشرت إليه سابقا غير مسيس، كما كان سكرتير باسكال جاهلا من وجهة النظر السياسية. وكان يوجد، بالإضافة إلى هؤلاء، بعض الأشخاص الثانويين الذين ينتظرون فرصة العودة إلى فرنسا.

عندما دخلنا أنا ولوسوفسكـــي إلى قاعة الاجتماعات، بدا لنا الجو متوترا، والوجوه منقبضة إلى حد لم يعد من الصعب معـه تصور خشونة النقاش الدائر هذه الليلة. سرعان ما قفل لويوفسكي عائدا: «تصبحون على الخير.. إنها قصص المهاجرين التي أعرفها جيدا.» وكان علي أن أبقى طيلة هذه السهرة المضنية. وكـــان اختلاف الأمزجة، عدا عن اختلاف المفاهيم السياسية، يجعل من مجرد التعايش مسألة مستحيلة، وكان كل شيء يسبب في نشوب خلاف حول قضية قديمة. وفي اتهام باسكال بسبب كاثوليكيتـــه. وكان باسكال، الجدير بالاحترام، يكتفي بقراءة نص يعتبره النص الذي جعله يجهر بعقيدته. نقل الخلاف لى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، فالمساومة التي اعدت لحسمه أو على الأقل للتخفيف منه بدت عند الاستعمال غير نافعة. واعتقد أن هــذا الاجتماع كان الاجتماع الأخير للمجموعة الشيوعية في موسكو، وعلى كل حال، لم يجر أي نوع من النشاط.

كانت المجموعة الشيوعية الفرنسية في موسكو كما وصفتها لتوي، لاّ أنها استمرت وعاشت. عرفت هذه المجموعــــــة في بداياتها ساعات مجيدة: فلقد اعتقلت الثورة المضادة اثنين من أعضائها. وسأستعيد هنا جزءا مما كتبه باسكال عن تاريخهـــــا كي لا أدع القارئ تحت تأثير نهايتها المؤسفة:

«نشرت أسرة الازفيستيا، يوم 30 آب 1918، النبأ التالي: كل الرفاق الذين يتكلمون الفرنسية أو الانكليزية والمتعاطفــون مع الحزب الشيوعي مدعوون لحضور اجتماع يعقد نهار السبــت 31 آب الساعة السابعة مساء. وجدول الأعمال هو التالــــــي: 1- تقرير عن الوضع بالانكليزية يلقيه الرفيق بريس، مورغان فيليبس، وبالفرنسية تلقيه الرفيقة جانيت لابورب، 2- تنظيم مجموعات انكليزية- فرنسية.

«كانت جانيت لابورب من الرواد. وكانت راعية مواشـــــي أثناء شبابها في قريتها في بورغونيا، ثم دخلت في الخدمة في المدينة إلى اليوم الذي وفرت لها فيه رسالة من احدى رفيقاتها فرصة السفر إلى روسيا. استقرت عند عائلة بولونية، وقامت بالدور المضني للمربية ونصف – الخادمة مما سمح لها باستكمال دراستهــا أثناء تلقين تلميذها لغة الأم. وعندما اندلعت ثورة 1904 دفعها قلبهــا الكبير وشجاعتها وإخلاصها لكل القضايا العادلة، إلى الحركة التحريرية. فانصرفت إليها بكليتها، وقد عرفنا من خلال معايشـتـنـا لها أنها لا تعيش إلاّ من أجل المجموعة والشيوعية. ونعرف كيف ماتت في 2 آذار 1919، مقتولة ليلا بجبن، في ضاحية خالية من أوديسا، وعلى يد مجموعة من الضباط الفرنسيين والروس يرئسهم الجنرال بوريوس.»

وفي منطقة أوديسا، حيث ساعدت القوات الفرنسية البيض سقطت الضحية الثانية. كتب مرسيل بودي «ذكريات عن الحرب الأهلية»:
«حوصرت أوذيسا بحرا، وبرا.. ولم يعد ثمة خبز ولا ماء ولا وقود في المدينة، وبالمقابل كان أعداء الثورة في كل مكان، وكان الوضع يزداد سوءا. وفي اللحظة التي كنت أتكلم فيها، دس أحد الرفاق بطاقة في يدي قرأت فيها: «من المنتظر احتلال المدينة هذه الليلة، فاستعد للاختباء في مكان سري.» وبعد لحظات رأيت هنري باربري يدخل القاعة مسلحا، وكان قد القى خطابا رائعا بالروسيــة قبل لحظات. كان عمره، إن لم أكن مخطئا، ثمانيــــــــة عشر عاما، إلاّ أن هذا لم يمنعه من أن يكون بمعتقداتـــه رجلا كاملا، إنه أحد أوائل الفرنسيين الذين انضموا إلى الثورة. وقد أرسلته المجموعة الشيوعية الفرنسية هو وجانيت لابورب، في بداية التدخل إلى جنوب روسيا للنضال هناك، إن شجاعته تصل إلى حد التهور. وقد لعـــب في سيباستوبول حيث كان موجودا أثناء ثورة البحارة الفرنسيين العاملين في أسطول البحر الأسود، دورا هاما في هذه الأحداث الحاسمة. لقد تنكر في زي بحار وذهب إلى بواخر الحرب الفرنسية ليساعد تحركا أعطى ثماره. – وفي ليلة 30 -31 تموز ذهب هنري باربري على رأس فرقة صغيرة من المتطوعين الفرنسيين لمحاربة المتمردين الذين يقومون بتذبيح الشيوعيين واليهود في جوار أوديسا. وحارب بشجاعته المعهودة، وحاول بعض رفاقه عبثا تهدئته في بعض اللحظات. تقدم الجميع وحده ليستطلع، فأسر أمام أعيـــــن رفاقه العاجزين عن إنقاذه. ولم نعد نراه منذ ذلك الحين.»



--------------------------------------------------------------------------------

21- «قطار تروتسكي» ورانجل – نهاية الحرب الأهلية


يوجد في الروايات الجزئية التي وصلتنا عن عمليات الحرب الأهلية إشارات عديدة إلى «قطار تروتسكي»، فقد كان يرى هنا وهناك، على الأورال أو في أوكرانيا، ملهبا حماس الجنود الحمر ومثبطا، لمجرد ظهوره، عزائم مرتزقة الثورة المضادة، كانت الانتصارات الخارقة تتجدد باستمرار، وتحول «القطـــار» إلى شيء ما خرافي.

ويروي الكس بارمين الذي شارك في أحد هذه الانتصارات القصة التالية: «سمح هجوم جديد لهالر Haller (جنرال بولوني) بالاستيلاء على ريتشيستا واجتاز النهر. وكادت غومل تقع تحت سيطرة الأعداء عندما وصل تروتسكي. كانت قوافل الإخــــــلاء، هذه القوافل المسكينة الملأى بالصناديق والأوراق، وبقايا المخزونات، تسير على امتداد طريق نوفوزيبوكوف، وكان رئيسا اللجنة التنفيذية والتشيكا ينسحبان بالسيارات – ولم يكن باقيا في المحطة ســوى القطار الأخير المصفح، قطار المعارك الخاسرة الذي يقوده بحارة حانقون – عندما تغير كل شيء وشهدنا الأحداث تتغير. فقد وصل تروتسكي، ومعه مجموعات مستعدة من المنظمين المنضبطين، والمحرضين والتقنيين، تحكمهم جميعا إرادة لا تليـــــــن. كانت الفرقة الخامسة المتحولة إلى بضعة مئات من الجنود قد فرت أمام البولونيين. ذهب أيكوك في الفجر واتخذ مواقع أمام ريتشيستــــا. كانت المعركة حامية. هاجمنا العدو المختبئ خلف الحاجز بالسلاح الأبيض. وكنا بقيادة ضابط شجاع يحمل مسدسا في يده. اجتاز الحاجز في الطليعة. وإذا بنا نحارب جنود الحرب الكبرى المدربين في فرنسا وألمانيا. وكانت هذه أسوأ معاركنا. فسقط منا حوالــــــي مئة من أصل 240 وتراجعنا. إلاّ أن مشاة الجنرال هالر لم يمروا، وكانوا قد أقسموا على الوصول إلى موسكو! وأخذ الأحياء بيننا يرددون «لن يصلوا ولا حتى غومل!» ... زار تروتسكـــــــي الخطوط الأمامية. وخطب فينا. ونقل إلينا هذه النفخة من القــــــوة التي يحملها إلى كل مكان في اللحظات الحرجة. وهكذا تم ترتيب الوضع الذي كان مأساويا في العشية، وكان الأمر بمثابة معجــزة. وفي الواقع كان الأمر معجزة التنظيم والارادة. وقد احتفظت حتى وقت قريب بخطاب تروتسكي في المدرسة العسكرية.»

لقد جعلت تروتسكي يتكلم حول هذه المواضيع إلاّ أنه لم يرو لي قصصا طويلة أبدا. عندما جئت إلى روسيا في حزيران 1920 كانت الحرب الأهلية قد انتهت في الظاهر، وكان القطار في المحطة. ولم يكن بوسعي سوى أن أسر لذلك، وأن أندم لوصولي متأخرا.

بدا أثناء الخريف أن فلول جيش دينيكين ليست ثانوية وقليلة الأهمية بقدر ما اعتقدنا أول الأمر، فلقد نجح أحد قادة الثورة المضادة، ورانجل، في جمعها وتجهيزها بمساعدة فرنســا. لقد رفضت انكلترا وأميركا نهائيا التدخل، إلاّ أن فرنســـا أصرت. واستمر ميلليران وبوانكاريه وبرلمان «الكتلة الوطنية» في إرسال الأسلحة والعتاد ومنح الاعتمادات والاعتراف بورانجل، دون أن تنجح البروليتارية الفرنسية في إحباط هذا العدوان الجديد. أقام ورانجل مقر قيادته العامة في كريمه حيث يسهل عليه الانطلاق للقيام بغارات على المناطق المجاورة، مستفيدا من عنصر المباغتة، وكان جماعته يستطيعون، بعد الهجوم، الاختفاء في شبه الجزيـــــرة. وأصبح التهديد مقلقا إذ يمكن التخوف من أنه سيتجرأ وينتهي بالهجـوم على حوض الفحم الحجري في دونتر.
قررت اللجنة المركزية بعد الدراسة والنقاش الانتهاء من بقية الثورة المضادة، مقدمة بذلك درسا إلى البورجوازية الفرنسيــة العنيدة. كان القطار سيذهب إذا في رحلة جديدة، واقترح على تروتسكي مرافقته مستبقا في ذلك تعبيري في هذه الرغبة.
كنا صياح 27 أوكتوبر في المحطة، وكان القطار مستعدا، وسرعان ما انطلق بعد تفتيش قصير. كانت قاطرة مفوض الشعب هي قاطرة وزير سكك الحديد القيصري، وقد عدل فيها تروتسكي لتناسبه، فحول الصالون إلى نوع من المكتب – المكتبـــة، ويضم القسم الآخر الحمام ومكانين يكادان لا يكفيان لوضع أريكـــة. والمكتبة، وغرفة اللعب، والمطعم، وقاطرة الأكل والمبوسات الاحتياطية، ومواد الإسعاف، وأخيرا قاطرة مخصصة للسيارتين، وكل ما يلزم للعمل، للدفاع، حتى للهجوم...

كان القطار دائما مثل خلية نحل نشيطة، وهو يملك صحيفــة «في الطريق»، وهي صحيفة تعلق على الأحداث، وتنشر «آخر الأنباء» ما أن يقف القطار حتى يوضع في اتصال مع موسكو ويسجل الراديو والإذاعات الأجنبية. وكان تروتسكي يقول لي: «إن أجهزة الإرسال عندكم غبية تماما، فبرلين ولندن يبتان أخبارا هامة، أمّا إذاعتكم فلا تبث سوى سخافات.» كان تروتسكي يملك باستمرار عملا قيد الإعداد، وعندما تسمح له العمليات العسكرية كان يحرك سكرتيره، فينص ويراجع الأوراق المطبوعــــــــة. «لقد اكتسبت عادة الإملاء أثناء الحرب» كان يقول ويضيف أن ما كان ينقصه في السابق هو بعض السكرتيرين. لا يجب الاستنتاج من ذلك أن العمل كان مهملا، فما من أحد أكثر تطلبا من تروتسكـــــــي حيال نفسه، فهو يكره أشد ما يكره الإخمال أكان ذلك بخصوص الأسلوب أم بخصوص التصرف والسلوك، وكان يستعيد الصفحـــات، فيقرؤها من جديد ويصلحها ويعدل فيها، وهكذا يصبح من الضروري طبع نسخة ثانية وثالثة. إلاّ أن العدو لم يكن يترك في بعض الأحيــان الوقت الكافــــــي لهذا العمل، لذا تحتفظ النصـــوص بلهجــــة خطابيــــة.

تحتل طاولة العمل القسم الأكبر من إحدى الجهـــات، حيث علقت خارطة كبيرة لروسيا، في حين يوجد في زاوية الجهتين الأخريين رفوف من الكتب، والموسوعات، والأعمال التقنية. وثمة كتب متنوعة المواضيع تشهد على الفضول الكوني للحاكم الجديد. ويوجد أيضا زاوية فرنسية وجدت فيها الترجمة الفرنسية للدراسات الماركسية لأنطونيو لابريولا، كما أني فوجئت برؤية كتاب مالارميه «الشعر والنثر» الصادر عن مكتبة بيران الأكاديمية.

بقينا يومين في كاركوف حيث يوجد مقر القيادة العامة للجيوش السوفياتية، وكان فرونــــزه، مفوض الحربيــة فيما بعد، هو الذي بدير العمليات. تمت زيارتنا الأولى لراكوفسكي رئيس مجلس مفوضي الشعب في أوكرانيا. كان هذا هو الصديق الأكثر قربا من تروتسكي، فالرجلان التقيا أيام حرب البلقان عندما كان تروتسكي يتابع العمليات كمراسل حربي، ثم التقيا في زيمرفالد، ثم في روسيا بعد ثورة اوكتوبر خصص هذان اليومان لاجتماعات مطولة درست فيها كافة أنواع الأسئلة. استفاد راكوفسكي من وجود عضو في المكتب السياســـــي لحسم المسائل الصعبة المعلقة. وعندما كان يرافق تروتسكي إلى القطار ليودعه قال لي: «لقد استطعنا تذليل عقبات كثيرة.»

سار القطار مجددا نحو الجنوب. كان تروتسكي قد عقد اجتماعات مع فرونزه، وعرض لي باختصار خطة العمليات التي دخلت مرحلتها الأخيرة. كان الجيش الأحمر قد احتل نيكوبول على الدنيبر، وهو مركز أساسي. سيحاول من هذا الموقع الذي جرب ورنجل عبثا مهاجمته، أرغم العدو على إعادة قواتـــه إلى كريمه، وما أن يعبر الجيش الأحمر برزخ بيريكوب حتى يذهب في مطاردة هذه القوات لرمي من يقاوم فيها إلى البحر. ستكون هذه المرة الأخيرة، فالبرزخ عبارة عن قطعة أرض لا يزيد عرضها على أربعة كيلومترات، وسيكون من السهل على العدو تنظيم مقاومة يصعب تحطيمها.

توقف القطار في محطة الكسندروفسك حيث كان أحد قواد الجيش الأحمر بانتظار تروتسكــــــي، قدم له تقريرا عن الوضع وكان بالامكان الوصول في السيارة حتى مقر القيادة العامة للجيش فالطريق خالية رغم أنه يوجد بعض الوحـــدات العدوة في هذه النواحــــي.

كان الطقس باردا، والليل يهبط، والسيارة تسير عبر السهل المغطى بالثلج: لم يكن بالامكان رؤية الطريق وكنت أتساءل كيف يستطيع السائق اكتشاف طريقه. وعدني تروتسكي بفنجان شـــــاي في منزل الكاهن، «لماذا عند الكاهن؟» سألته متعجبا، - «لأنه يصعب وجود منزل آخر يمكن المبيت فيه بالنسبة لقيادة عامــــة.» بيد أنه ما أن وقفت السيارة حتى وجدنا أنفسنا أمام منزل شديد التواضع، اختلى تروتسكي بالقائد الأحمر ومعاونه الضابط في غرفة ملأى بالأثاث، ومدت خارطة على الطاولة، وكان النور الوحيد هو نور شمعة. اختلف الرجلان. عرض الأول وجهة نظره بحماس متلهف يشبه الغضب، في حين كان الضابط أكثر هدوءا. سرعان ما سويت القضية، فتروتسكي كان قد تعرف على أمثاله بالمئات: إنه الصدام المعهود بين القائد المرتجل والتقني. وهنا كان الضابــط الشاب عاملا من بتروغراد مليئا بالحماس والشجاعة، كالعـــــادة، إنما متلهف وغير قادر على احتمال ملاحظات ضابط هيئة الأركان الواقع في صعوبات مهمات التموين. «إنه الخلاف الكلاسيكــــــي، قال لي تروتسكي، وهي العقبة التي يتوجب علينا باستمــرار تجاوزها، غير أنه لم يكن بامكاننا أن ننتصر بدون هذا التعاون بين الحماس الثوري وتقنية المحترف.». إن هذا هو تجسيد محدود للمشكلة الخطيرة التي طرحت عند تأسيس الجيش الأحمـــر. لقد جوبه تروتسكي الذي دعا إلى استخدام ضباط الجيش القيصــري الذين يعدون بالخدمة الشريفة، بمعارضة تزداد حدة بقدر ما يقــدم أحد هؤلاء الضباط على الخيانة.

عدنا إلى السيارة، وكان البرد القارس والهـــــدوء يهددان بالتسلل إلى داخلنا. قلت لتروتسكــــــــي: «حسنا! لقد وعدتني بالمنزل المريح وبفنجان شاي – فأجابني: هذا صحيـــــح، إلاّ أنه يجب توقع المفاجآت في الحرب.» عدنا إلى الكسندروفسك حيث وجدنا القطار. تلقى تروتسكــي البرقيات التي وصلت في غيابه، وعدنا على طريق موسكو بدون توقف هذه المرة. كلمني تروتسكي مطولا عن المعركة التي لم يخضها حتى الآن، فقال: «يجب مباشرة المعركـــــــــة الآن، ستكون رهيبة، يجب إقامة موقع يسهـــل الدفـــاع عنها. إن الحرب أمر فظيع حقا!» زأشار من ثم إلى بعض مراحلها، وبينما المعركة أمام كازان التي قررت مصير كولتشاك. طال الحصار، وقرر القائد أنه من الضروري القيام بمناورة لخداع العدو وتدمير أسطوله البحري الصغير ليلا، ومجابهة مدافعه على الشاطئ وإيجاد حالة رعب في صفوفه. قرر تروتسكي المساهمة شخصيا في العمليات التي يقودها راسكولنيكــوف. نجحت الخطة تماما رغم كونها مجازفة كبيرة! لم أستطع منع نفسي من توجيــــه هذا اللوم إليه: «هل كان من حقك أن تعرض نفسك هكــــذا؟» فأجابني مباشرة وبسرعة: «عندما نطلب من الرجال أن يجازفوا بحياتهم، يجب أن نريهم أننا لا نخاف المجازفة بحياتنا...». كان القطار يسير بانتظام ولو ببطء. فهو يحمل حملا ثقيلا، وتلزمه قاطرتان لجره. عندما وصلنا إلى موسكو علمنا أن الجنود الحمر دمروا الدفاعات الأخيرة التي تسد برزخ بيسيكوب. كما علمنا أن ورانجـــل هرب متخليا عن الرجال الذين قادهم في مغامرته. لقد لعبت فرنسا بوانكاريه ورقتها الأخيرة، وخسرتها، وهكذا انتهت الحرب الأهلية.



المناضل-ة



#جوزيف_سماحة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - جوزيف سماحة - موسكو في ظل لينين - القسم الأول 1920