سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1637 - 2006 / 8 / 9 - 10:30
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
رموز وطنية تنتقى انتقاء حاذقا, يأخذونها بمهارة الصيرفي الى موت مصحوب بفتنة داخلية: زعيم درزي, زعيم سني, زعيم شيوعي مسيحي, لبرالي مسيحي, قائد شيعي.
يضعون أجسادهم أمام صاعق التفجير ويضغطون على زر الحريق, ثم يختفون مثل الجن, مخلفين وراءهم أجسادا متفحمة, وقلوبا محترقة, وعقولا مبلبلة!
فرق الإغتيال الذكية هذه ليست حقيقة, ولم تكن واقعا البتّة, بل هي مجرد وهم, مجرد نظرية, نظرية للمؤامرة.
هكذا يفكر ما يعرف بالواقعيين العرب, الذين هم مجرد امتداد رث, ونسخ مشوهة من واقعيي البنتاغون. ففي زمن الكوارث تستعير الأمم المغلوبة من جلادها أحط مظاهر ثقافته وسلوكه.
وطن يفتكون به على الهوية يسمونه نظرية مؤامرة. نظرية! لنا أن نتخيل: أوطان كاملة هي مجرد فكرة, فكرة خالصة, وأية فكرة! فكرة حمقاء, خاوية, تدور في عقول موسوسة.
أبو غريب نظرية مؤامرة, وليس واقعا.
سجون جماهيرية, تتسع لآلاف المعتقلين, نظرية مؤامرة.
طائرات تلقي حمما ذكية وغبية, نظرية مؤامرة.
أكثر من مئة وخمسين ألف معتقل, أطلق سراح عشرات الآلاف منهم, لعدم ثبوت التهم ضدهم, كانوا نظرية مؤامرة.
بيوت, أحياء, بل مدن كاملة, تطوق, تأسر, ثم تدك تدكا, نظرية مؤامرة.
حروب قارية, تشن عبر المحيطات, نظرية مؤامرة.
مؤسسة دولية, مهمتها الأولى صيانة استقلال الدول, تقر بشرعية "احتلال", في سابقة لم يعرفها التاريخ من قبل, نظرية مؤامرة.
حدود وطن تستباح من الجهات الخمس, نظرية مؤامرة.
اسرائيل ليست في عجلة من أمرها, نظرية مؤامرة.
دولة تملك أكبر خزين نفطي في العالم, تنهب علنا وشعبها يتضور جوعا, نظرية مؤامرة.
جيش جرار يسرّح من الخدمة, ويعاد تأسيسه ملوثا, مدجنّا, مقزّما, نظرية مؤامرة.
رئيس دولة عربية يحاصر مهانا, في غرفة بائسة لعدة أشهر, للاستمتاع بإذلاله أمام مرأى العالم أجمع, نظرية مؤامرة.
طاغية, بلغة البيت الأبيض, يتحول في لمح البصر الى ديمقراطي حنون, حالما يدفع الفدية الدولية, نظرية مؤامرة.
دولة القرون الوسطى تنجو من خريطة بناء الشرق الأوسط الجديد, بعد أن تقدم العربون الكبير: ذبح شعب كامل, نظرية مؤامرة.
شعب يقسّم بالتدريج المنظم: خطوط حظر للطيران شمالا وجنوبا, تتلوها مثلثات سنية, تعقبها مربعات شيعية, ثم سرعان ما تقسّم المساجد الى سنية وأخرى شيعية؛ وتختتم اللامؤامرة بشوارع سنية وشيعية, مقاه سنية وشيعة, أفران خيز شيعية وسنية! وتستقر اللامؤامرة عند حفلات بربرية لقطع الرؤوس السنية والشيعية والمسيحية والصابئة, العربية والتركمانية والآشورية؛ رؤس من كل الطوائف والأعراق والأديان ترمى في المزابل. كل ذلك مجرد نظرية مؤمراة.
ربع مليون جندي, من أكثر من أربعين بلدا أجنبيا, يدنسون أرض وطن جريح, عاث فيه ديكتاتور أحمق لثلاث عقود, نظرية مؤامرة.
نصف مليون بسطال يدوسون وجه مهد الحضارات بأقدامهم ودباباتهم وطائرتهم, ليسوا سوى وهم ونظرية مؤامرة.
جيوش جرارة مرت عبر حدود وموانئ ومطارات دول شقيقة, كانت نظرية مؤامرة.
محطات تلفزيونية وإذاعية وصحافية وإعلام مسموم, تؤكد جميعها بإخلاص براءة العالم ونقاءه من الشر, وتروج لخلو العالم من مؤامرة ومتآمرين, لم تكن سوى نظرية مؤامرة.
أصحاب النظرة الواقعية, المعصومون من مرض المؤامرة, الذين لم يروا ولا يريدون أن يروا كل هذا الضجيج الفتاك, الذي يثيره الموت, لا يريدون أن يفتحوا أعينهم كل صباح ليجدوا جلادهم يسوطهم بحقد وإذلال؛ يريدون أن يعيشون براحة ضمير مع ذواتهم المجلودة. لذلك يفضلون أن يكون العالم, العالم كله, مجرد نظرية, فكرة لا أساس لها من الواقع, محض افتراء, كذبة صنعها عقل مضطرب, عقل نظرية المؤامرة.
أولئك, ليسوا عميّ, كما يتوهم البعض, وليسوا بدعة فريدة غير قابلة للتكرار. أولئك هم تكرار المعادلة المملة, التي تصاحب انهيار الأمم, وانهيار منظومات سلوكها ووعيها, على مر العصور والأزمان.
الذين لا يرون كل هذا الدمار ليسوا بدعة تاريخية. ففي كل العصور كان هنالك من لا يرى: مرّ هولاكو بجيوشه الجرارة ولم يروه, مرت جيوش المستعمرين ولم يروها, مر الطغاة من ديكتاتوريين وعسكريين ودعاة مشاريع استهلاكية ولم يرهم أحد. مرّ التكفيريون, الذبّاحون, زاحفين من شوارعهم, لمحاربة الشيوعية الكافرة في أفغانستان ولم يروهم. أولئك هم التكرار الممل لظاهرة واحد اسمها: ذبول وأفول أمة.
### # ###
اليوم, بعد أن طالت نظرية المؤامرة, واكتظت الشوارع بالرؤوس, وسيّرت الجيوش الى غير اتجاه, ينتقل الواقعيون العرب, وهم خليط عجيب غريب من مخلّفات التاريخ: قرووسطويون ,عسكريون فاشلون, قوميون متقاعدون , معممون وشيوعيون وبعثيون متأمركون, ينتقلون خطوة جديدة في واقعيتهم. فبعد أن استنفد الواقع حجج دحض المؤامرة, ينتقلون الى الواقع, الى المغامرة.
اليوم, تتقدم مجموعة عسكرية اسرائيلة منتقاة, منتقاة كفرق الموت التي جابت شوارع بيروت, تتوغل في حدود ملغومة, حدود محروسة بمقاومة معادية, تزرع وراءها جنديين, يتم أخذ الجنديين كأسرى, تعلن دولتهما فجأة للملأ: احذروا, إنهما درزيان! تقول الدولة الذكية للجميع, بلغة فصيحة صريحة: أخذهما كرهائن ممكن, أما قتلهما فسيكون السم الداخلي القاتل! وبعد أقل من ست ساعات تبدأ نظرية المؤامرة: نيران الإسرائيليين تحرق لبنان.
الواقعيون, الذين قاوموا نظريات المؤامرة, لم يجدوا أمامهم هذه المرة مؤامرة أو نظرية لكي يقاوموها, وجدوا أمامهم مقاومة سعوا بكل السبل الى تجريدها من سلاحها ولم يفلحوا, وجدوا أمامهم شعبا سعوا بكل ما أوتوا من حيلة الى إعادة رسمه على هيئة مثلثات سنية وشيعية ومسيحية ومسلمة, ولم يفلحوا.
الواقعيون العرب اكتشفوا فجأة أن حزب الله "اختطف صبيين إسرائليين" وديعين ومؤدبين ومسالمين. تخبيلوا لؤم المقاومة: يختطفون صبيين! هنا لا توجد مؤامرة. هنا يعود الفعل الى أصله. هنا ينزع الحدث قناع المؤامرة, ويرتد الى جوهره غير النظري, فيصبح واقعا وحقيقة: عصابة مجرمة, مغامرة, عبرت الخط المقدس, الخط الأزرق! إنه "إختطاف" غير شريف, قامت به عصابة من الأشرار, وفعلت ما يفعله القراصة بركاب السفن الآمنة, أو ما تفعله عصابات المجرمين من مختطفي الصبايا العذراوات.
إنها مغامرة!
نعم, مغامرة ضد الجزء الميت من ضمير هذه الأمة.
لو أن حزب الله قتل الجنديين في اشباك, فهي كانت مغامرة؟
لو أن "صبيين" لعدو محتل مسّا حرمة دولة الخروف الأزرق, فهل يغدو " اختطافهما" مغامرة؟
يقول عمر موسى مخذولا: بقانا ماتت الجامعة العربية.
يا عمر! بقانا يريد البعض إماتة وحدة مشاعر الأمة, إماتة مكوناتها التاريخية المشتركة.
### # ###
الثوابت التي يريد الواقعيون تسجيلها على الأرض هي:
الدفاع عن الوطن مغامرة.
حماية واسترداد سيادة شعب مغامرة.
كرامة الوطن وكرامة المواطن مغامرة.
إنه العقل المخدّر, عقل الأمة المحتضرة, العقل المصاب بمرض الإذلال المزمن, ينتقل خطوة ملموسة, جريئة, في مجال موت الثوابت الأخلاقية والعقلية؛ ينتقل من واقعية معاداة نظرية المؤامرة, الى واقعية معاداة أصحاب المغامرة.
إنه ينتقل خطوة أعمق في مجال تفكيك جسد الأمة المفكك.
إنهم ينقلون التفكيك من النظرية الى الواقع.
إنهم يعلنون ويشهرون موت أمّة.
ولكنهم ليسوا الأمّة.
أو على أحسن, أو أسوأ الفروض, ليسوا جميعها!
فكما أسقط الواقع المتناقض والعصي على التهجين, نظرية المؤامرة, سيسقط الواقع نظرية المغامرة.
أما إسرائل فستسقط في كمينها الذي أعدته بإشراف واشنطن وبرعاية واقعيي الأمّة. ستسقط في كمائنها الحاضرة و القادمة. ستسقط, لا محالة, كنسيج إجتماعي. ستسقط كنظرية للمؤامرة أو كحقيقة قائمة على المغامرة.
فلم يقبل التاريخ أبدا من قبل أن يُزرع جسم غريب, قسرا, بالعنف والإكراه, في جسد معاد.
أما السلام, فلا يُشترى بالحقد ولا بالقوة الهمجية القائمة على البغضاء.
ذلك درس على اسرائيل المنتصرة أو المهزومة أن تتعلمه.
وهو درس لا يتشرف أحد بتوجيهه الى عرب النظريات الواقعية. فأولئك قوم يعيشون خارج التاريخ, خارج تاريخهم, وخارج وعي وضمير وشرف وكرامة شعوبهم.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟