أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبدالخالق حسين - ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم (12) موقف الجواهري من قاسم















المزيد.....



ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم (12) موقف الجواهري من قاسم


عبدالخالق حسين

الحوار المتمدن-العدد: 1626 - 2006 / 7 / 29 - 08:26
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


لقد خصص شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري أكثر من مائة وعشرين صفحة من مذكراته (ذكرياتي) في الطعن بالزعيم عبدالكريم قاسم وبدون إنصاف، ذلك الزعيم الذي، بإعتراف الجواهري نفسه، كان يلبي له كل طلباته ويعتز أن بيته كان الوحيد الذي زاره قاسم مرتين دون غيره، تقديراً لمكانة الشاعر ودوره في تحريض الشعب للثورة على النظام الملكي، وكانت ابنته (ظلال) ولم يكن عمرها قد تجاوز التاسعة كانت تستدعي على الهاتف عبد الكريم قاسم في أكثر من مناسبة فيهرع إليها ملبياً كل طلباتها.. وغيره كثير مما يؤكد مدى خلوص نيات الزعيم وتعلقه بالشاعر وتقديره له. ونظراً لما لشاعر العرب الأكبر من مكانة متميزة في قلوب أبناء شعبنا العراقي خاصة والعرب عامة، وما حصل فيما بعد من تعقيدات، وما اتخذ شاعرنا الكبير من مواقف سلبية مؤسفة من الثورة وقائدها الزعيم عبدالكريم قاسم لم تكن في صالح الطرفين، وقد اتخذها خصوم الطرفين وسيلة للطعن بالزعيم، لذلك أفردنا فصلاً خاصاً لمناقشة تلك المواقف والآراء وذلك توضيحاً للرأي العام ولوضع حد لخصوم الثورة من إستغلال آراء الجواهري للطعن بالثورة وقائدها وكدليل على تذبذب الجواهري وعدم ثباته على موقف معين طيلة حياته. وحبذا لو اكتفوا بأقوال الجواهري نفسه ضد الزعيم قاسم، بل أضافوا إليها وأطنبوا فيها من أجل تشويه التاريخ والصيد بالماء العكر.
لذلك وحماية للتاريخ من التشويه، رأيت من المفيد كتابة هذا الفصل، معتمداً، غالباً، على مصدر واحد في المعلومات الواردة هنا، ألا وهو كتاب الجواهري نفسه الموسوم ب(ذكرياتي) الجزء الأول والذي خصص الفصل الثالث منه بصفحاته المائة وخمسة وعشرين التي ملأها بالهجوم على الثورة وقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم دون إنصاف وفق مبدأ: "من فمك أدينك".
والملاحظ من قراءة الكتاب المذكور أن الجواهري قد اعترف بخصال الزعيم الحميدة ونقاءه ووطنيته ومحاسنه الكثيرة التي ليس بإمكانه نكرانها، ولكنه ما أن يذكر حسنة من حسنات الرجل إلا وحاول إلغاءها بإلصاق الكثير من المساوئ به دون إثبات وأغلبها مبنية على سوء الظن كما سنرى.

بدءً أؤكد إني من المعجبين بالجواهري كشاعر عظيم وأعتقد أن عظمته في شعره فقط. فشعره في دواوينه أصدق من نثره في كتابه (ذكرياتي). لأن شعره وطني وسياسي في أغلبه، و نتج في ظروف الحدث السياسي، وقت كان يتمتع شاعرنا بالحيوية والنشاط الجسدي والعقلي، فكان مشحوناً بالمشاعر الوطنية الصادقة لتأليب الجماهير على حكومات العهد الملكي. فكان بحق، محرضاً للثورة، وهو القائل:
أنا حتفهم ألج البيوت عليهم أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
أما (ذكرياته)، فقد بدأ في كتابتها بعد أن بلغ السابعة والثمانين من العمر، وبعد أن حلت الكوارث بالبلاد بسبب دكتاتورية وحروب النظام الفاشي وبعد أن أصيب بالخيبة والإنتكاسة النفسية، فأوعز، كغيره من بعض المثقفين في هذا الزمن الأغبر، أسباب تلك الكوارث إلى ثورة 14 تموز وصب جام غضبه عليها وعلى قائدها، بدلاً من أن يصبها على المسبب الحقيقي وهو التيار القومي المتمثل بحزب البعث وخاصة ذلك الجناح الذي تسلط عليه الثنائي بكر-صدام. ففي مذكراته، لم ينتقد العهد الملكي إلا نادراً وخفيفاً، أما النظام البعثي الفاشي في العراق فلم يذكره بما يستحق.
يقول الجواهري فيما كتب عن الثورة: "… إن الكثيرين كانوا قد كتبوا عن هذا الإنقلاب (الثورة) وإن كل واحد من هؤلاء كان إنما يكتب وفق أهوائه ومصالحه من هذه الثورة وزعيمها..!!".
لنرى إذن بأي دوافع كان يكتب هو عن الثورة. فيذكر الجواهري أن حكومة العهد الملكي قد أقطعته قطعة أرض زراعية في (علي الغربي) ليزرعها. وقد وصف نفسه بأنه كان مزارعاً فاشلاً. وهو الذي مدح الزعيم وغنى للثورة في قصائده في السنة الأولى من عمرها ولم يستطع نكران ذلك لينقلب في شتاء حياته على تلك الثورة، وبعد الإنقلابات المضادة التي طالت شرورها الشاعر نفسه، فانضم إلى جوقة خصوم ثورة 14 تموز لتحميلها ما حل بالبلاد.
فيقول انه أصيب بخيبة أمل من الثورة من يومها الأول(كذا) وخاصة عندما بعث له الزعيم سيارة خاصة لنقله من مكان سكناه في مدينة (علي الغربي) إلى بغداد في اليوم الثالث من الثورة وعندما وجد صور قادتها ملصقة على السيارة، تشاءم منهم من البداية!! فيقول عن الثورة:
"ولأنني واحد من شهود العيان فيها والقلة في هذا المجال لا سيما وإنني عشت وشاركت وتفاعلت مع أحداثها وبخاصة مع زعيمها إبان الثورة وقبلها بعشر سنوات وأكثر من ذلك فقد كنت الوحيد الذي قرأ الفاتحة عليها وأنا أسمع أسماء الوزراء في وزارتها لأعود بعد قليل وأكون أحد المهوسّين والمهووسين لها.."
ويؤكد كلامه هذا في مكان آخر فيقول: "ولكن الحقيقة أني شخصياً حين سمعت أسماء الحكومة والوزارة وزعماء الجمهورية وقادة الثورة… وأستطيع أن اقسم على ذلك.. قرأت الفاتحة على هذه الجمهورية وبقيت مستمراً في تلاوتها أياماً وليالياً."
إذاً فمنذ اليوم الأول قرأ الجواهري الفاتحة على الثورة. أية موضوعية هذه التي يعتمد عليها شاعرنا الكبير في نقده للثورة وهي في يومها الأول؟ وهل من المنطق أن يصدر رجل بوزن الجواهري تلك الأحكام على ثورة وهي مازالت في أيامها الأولى، ساهم هو في التحريض على تفجيرها عشرات السنين؟
ويضيف: "ليتني بقيت في علي الغربي وأجوائها المشحونة بالمتاعب في منجاة من محاكمة الضمير التي عاودتني بعنف بعد هذه المرحلة وأنا الذي لم يخلص بعد من الهاوية الأولى وتبعاتها النفسية.."
والجواهري يناقض نفسه بنفسه حين يقول أنه قد تشائم من الثورة من يومها الأول وهو الذي مدح الثورة وقائدها في العديد من قصائده وعلى سبيل المثال لا الحصر قصيدته العصماء التي يقول فيها عن قاسم:
عبد الكريم وفي العراق خصاصة ليدٍ، وقد كنت الكريم المحسنا
أسديتها بيضاء لا منتفجاً بالنعمة الكبرى ولا متمننا
غامرتَ بالدم تبتغي منه دماً شأن المقامر مَربحاً أو مَغبَنا
فمن نصدق الجواهري الشاعر أم الجواهري الكاتب؟
وفي مجال المحاسن التي يذكرها الجواهري عن الزعيم ولا يستطيع نكرانها فيقول:
".. صحيح إن الذي يجمعني بعبد الكريم قاسم "الزعيم" وما فيه من رباط شخصي قوي يمتد إلى عشر سنوات خلت وما كان بيننا في لندن من وطادة علاقة عميقة الدلالة رغم قصر فترة المعرفة..
وصحيح أيضاً أن الرجل نفسه كان صادقاً معي كل الصدق وأميناً كل الأمانة ونظيفاً كل النظافة في حفاظه على تلك العلاقة وصحيح كذلك أنه لم يصل مدني واحد في العراق إلى هذه الثقة والوطادة والعلاقة واستثني هنا العسكريين بعلاقاتهم الغامضة وظروف تكتيكاتهم الإنقلابية.. وحرفتهم المرتبطة بالمغامرات والمطامح الشخصية والإنقلابات حتى وصل الحد به إلى انه أعلن وهو يفعل ما يقول: أنني لا أرد طلباً (لفلان). "
ويضيف: "والحقيقة إن طلباتي كثرت من أجل الناس إلى هذا الرجل وأن كل تلك طلبات كانت تلبى.. ولا أجد هنا بداً من الإعتراف بأن ذلك كان مدعاة فخر واعتزاز ولكن ومع هذا فقد كان هناك مدعاة أسف لي ومدعاة ندم مني على سوء تصرفي إذ لم أفكر يوماً أن أطلب من هذا الرجل طلباً شخصياً لي.. وأي طلب لي سيكون مستجاباً حتماً ممن لا يرد له طلباً... وعلى سبيل المثال لم أطلب منه وظيفة تخلصني من واقعي كصحفي فاشل حقاً ولم أطلب منصباً ينسيني واقعي السابق كمزارع فاشل.. ولم أطلب منه أي طلب يرتقي بمكانتي عند نفسي أو يرتفع بمستواها لديه.".
"وأتساءل لماذا لم أطلب منه بيتاً وأنا أعيش بيتاً مستأجر… لماذا لم أطلب لأولادي أن يكونوا شيئاً يليق بمكانتهم ويساعدهم على مستقبلهم وهم في ريعان الشباب… ولماذا ولماذا.. وكان بميسوري أن أطلب شيئاً من هذا إن لم يكن كل هذا وكيف لا والطلب من الزعيم لم يزر في بغداد سوى بيتي… كيف لا وابنتي (ظلال) وهي أصغر بناتي ولم يكن عمرها قد تجاوز التاسعة كانت تستدعي على الهاتف عبد الكريم قاسم في أكثر من مناسبة فيهرع إليها ملبياً كل طلباتها.. كيف لا.. ومعرفة هذه الوطادة في العلاقة تجاوزت حدود العراق لتقول جريدة (اللوموند) الفرنسية العالمية والشهيرة في أحد أعداها وفي الإسبوع الأول أو الثاني من قيام الجمهورية ما يكاد يكون بالحرف الواحد أن أقوى شخصية لها الكلمة المسموعة لدى الزعيم عبد الكريم قاسم هو (الجواهري).."
ويؤكد الجواهري على الخصال الحميدة للزعيم قائلاً: حقيقة كان (عبد الكريم قاسم) من أكثر أقرانه نظافة ومن أكثرهم وطنية ومن أشدهم انتماءاً للفقراء وهو من بيئة فقيرة انسحبت جرائر بؤسها على كل مراحل حياته.. كما انه عدو الإستعمار بكافة أشكاله والبريطاني منه بخاصة.. وكان متوقد الذكاء.."
ولكنه وكعادته في كل هذا الفصل، ما أن يذكر الجواهري شيئاً من حسنات الزعيم حتى ويتبعها بمساوئ دون إثبات. فبعد ذلك المديح يأتي دور الذم لإبطال المحاسن فيضيف في نفس الفقرة: "…إضافة إلى إنه يتمتع بشخصية قوية يتستر خلفها دهاء يعتمد في باطنه على تصفية الخصوم وتحطيم مراكز القوى بهدوء وذكاء وإحتيال أيضاً."
يتهم الجواهري الزعيم بالدهاء والإحتيال على تصفية الخصوم. هذه التهمة لا يمكن لها أن تصمد أمام أية مناقشة منصفة، لأنها تتناقض مع ما هو معروف عن تاريخ عبدالكريم قاسم، وخاصة نظافته ووطنيته اللتين أكد عليهما الجواهري نفسه. فالنظافة والإحتيال لا يجتمعان في شخص واحد. فهناك أناس يتهمون الزعيم بالتساهل مع خصومه ويعتبرون هذا التساهل سبباً في نهايته ونهاية جمهورية 14 تموز، إذ كان شعاره المعروف عفا الله عما سلف والعفو عند المقدرة والرحمة فوق القانون وقد عفا حتى عن الذين قاموا بمحاولة إغتياله.
يقول السيد ظاهر حبيب عن كره الزعيم للعنف في مواجهة الخصوم: "إنني إذ أنسى فإنني لا أنسى وقفة الزعيم الشهيد يوم اجتمعنا في ذلك الحشد الكبير في سينما الخيام في الباب الشرقي وكان الحضور يهتفون بشعار: [ "إعدم إعدم"، وإذا به ينهض كالأسد الهصور ليصرخ: "اطلبوا أي شيء إلا الإعدام." نعم أرادوه أن يكون دموياً ] . في الحقيقة كان الزعيم حمامة سلام بثوب مسر.." على حد تعبير الأديب العراقي ذوالنون أيوب. فقاسم معروف بأنه أول حاكم عراقي يبشر بروح التسامح وعفا الله عما سلف.
أما فيما يخص طلبات الجواهري لنفسه، فإن المسؤولية تقع عليه هو، لأنه لم يقدم طلباً للزعيم بهذا الخصوص، ومع ذلك يحاول إلقاء اللوم على الرجل في ذلك. ومن طلباته التي لم يسأل الزعيم عنها أهمها كما يقول: "وأتساءل لماذا لم أطلب منه بيتاً وأنا أعيش بيتاً مستأجراً… لماذا لم أطلب لأولادي أن يكونوا شيئاً يليق بمكانتهم ويساعدهم على مستقبلهم وهم في ريعان الشباب… ولماذا ولماذا..".

أود أن أعلق على بعض الطلبات التي لم يقدمها الجواهري ويحاول إلقاء اللوم على الزعيم في ذلك:
أولاً البيت: يشكو الجواهري من أنه كان يسكن بيتاً مستأجراً ويعاتب قاسم على ذلك. ولكن هل كان قاسم نفسه يملك بيتاً لنفسه؟ ألم يسكن هو مع عائلة أخيه حامد وفي بيت مستأجر؟ وهل كان بإمكانه أن يهب البيوت كما فعل البكر وصدام حسين فيما بعد، يهبون البيوت وسيارات المرسيدس والأموال والمناصب للأقرباء والمقربين والإنتهازيين ولكل من ابتذل في مدحهم، ويسمونها من "مكرمات الرئيس"؟.
ثانياً لم يطلب شيئاً لأولاده: كان لحامد قاسم، أخ الزعيم عبد الكريم قاسم، عدد من الأولاد، أكبرهم عدنان. وكان في العشرين من عمره آنذاك. وكان يبحث عن عمل ولم يسأل عمه الذي كان رئيساً للوزراء، عن وظيفة ولم يستغل هذا العم (الزعيم) منصبه، لمنفعة أولاد أخيه حتى ولو بتعيينهم في أبسط الوظائف. وبعد عامين من الثورة حصل عدنان على عمل ميكانيك في أحد الكراجات في بغداد وبدون أي توسط من عمه الذي كان رئيساً للوزراء وقائداً للثورة. فهل هذا الموقف في عدم التوسط وعدم التمييز بين أولاد أخيه وأولاد الآخرين من أبناء الشعب صفة تدل على النزاهة أم اللامبالاة وتستحق الثناء أم الذم؟
ثالثاً، كذلك ذكر الجواهري أنه لم يطلب من الزعيم منصباً: لو طالب الجواهري الزعيم بذلك أو حتى لو قدم إشارة خفيفة عن رغبته بذلك، فكان من المؤكد أن الزعيم الذي أجزل في تحقيق جميع طلباته لمساعدة الآخرين، كما يعترف بذلك الجواهري نفسه، لاستجاب له في ذلك الطلب أيضاً ومنحه المنصب الذي يريد.
ولكن هناك حقيقة تاريخية تستحق الذكر. كان للزعيم أخ أكبر منه إسمه عبد اللطيف قاسم الذي كان برتبة (نائب ضابط) في هندسة القوة الجوية. وبقي عبداللطيف نائب ضابط إلى أن تقاعد ودون أن يستغل منصب أخيه كرئيس وزراء وقائد ثورة والقائد العام للقوات المسلحة، في الترفيع أو منصب أرقى كما حصل في عهد عارف والبكر وصدام حيث منحوا أنفسهم رتبة مشير ومهيب، والكل يعرف أن صدام حسين لم يخدم يوماً واحداً في الجيش. كما وتم منح عرفاء فاشلين من أقرباء صدام مثل حسين كامل وعلي حسن المجيد رتبة فريق لكل منهما. أما الزعيم عبد الكريم قاسم فقد طبق العدل حسب القدم حتى على نفسه ولم يقفز يوماً واحداً في الترفيع.
وهنا يطرح السؤال المهم: لماذا اتخذ الجواهري هذا الموقف المعادي من الثورة ومن الزعيم بالذات.. وكما يقول، ومن يومها الأول أو الثالث وخاصة عندما ألقى نظرة على أسماء الوزراء؟؟.
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نتجرد من العواطف والمبالغة في تعظيم الأفراد مهما كانوا، إلى حد التأليه والعياذ بالله. فالجواهري رغم عظمته في الشعر إلا إنه بشر مثلنا، يكره ويحب، يخطأ ويصيب، بمعنى أنه غير معصوم ولا يمكن أن نجرده من صفات البشر في أحكامه وطموحاته الشخصية ولا يمكن أن يؤخذ كقياس للعدالة في إصدار الأحكام على الآخرين. فهو شاعر والشاعر عاطفي أكثر من غيره بطبيعة الحال.
والحقيقة التي لا يريد الجواهري ذكرها وهي أن الجواهري كان يطمح في أن يكون وزيراً في حكومة ثورة 14 تموز وكان يتوقع أن يكون إسمه في قائمة الوزراء. ولما وصل بغداد من علي الغربي في اليوم الثالث من الثورة، ألقى نظرة على قائمة الوزراء فتشائم منها وقال: "فقد كنت الوحيد الذي قرأ الفاتحة عليها وأنا أسمع أسماء الوزراء في وزارتها…".
ويضيف الجواهري: غير إن ما تحدثت به عنها أستطيع أن أترجمه الآن وبعد ثلاثين سنة على قيام تلك الجمهورية وملخص "إن علاقتي بتلك الجمهورية كانت منذ ولادتها ولادة بائسة فاشلة مقهورة بل ومسحوقة كولادة زعيمها..".
وأخيراً، وجدنا الجواب حول عقدة الجواهري من الثورة والزعيم قاسم بالذات، عند أديب عراقي معروف ومحترم من قبل جميع الإتجاهات السياسية والثقافية العراقية، وكان صديقاً مقرباً للجواهري وإبن مدينته النجف الأشرف، يعيش الآن في السويد والذي كشف لنا السر وراء حقد الجواهري على الزعيم وألحّ في البداية بعدم ذكر إسمه إلا بعد وفاته. ولكنه غيَّر رأيه وسمح لنا بذكر إسمه متمنين له العمر المديد، وهذا الأديب هو الأستاذ عبدالغني الخليلي الذي أخبر الصديق الدكتور عقيل الناصري، انه عندما وصل الجواهري إلى بغداد في سيارة خاصة بعثها له الزعيم لنقله من محل إقامته في علي الغربي، ألقى نظرة على قائمة الوزراء التي كان يتوقع أن يكون إسمه من بينهم، ولما لم يجده، أصيب بخيبة أمل وغضب بشدة وقال بإنفعال شديد: (ألا تعساً لحكومة لم يكن فيها الجواهري وزيراً ) ويقول أنه بصق على القائمة!!. ومنذ ذلك الوقت ضمر الجواهري في نفسه مشاعر العداء ضد الزعيم عبد الكريم قاسم كما هو معروف في مذكراته رغم تودد الزعيم له واستجابته لكافة طلباته، كما يعترف هو بذلك. إذن فموقف الجواهري السلبي من ثورة تموز وقائدها يعود إلى أسباب ذاتية عاطفية بحتة وليست موضوعية وحتى دون أن يعرفها الزعيم.
والحقيقة عندما نقرأ ذكريات الجواهري، نحتار من موقفه من الثورة وقائدها.. فهل هو يمدح الزعيم بصيغة الذم أم يذم بصيغة المدح!!. فمشكلة الجواهري أنه يقوم بمهمة شاقة جداً، مهمة تشويه سمعة زعيم نظيف على حد قوله لإلصاق أبشع المساوئ به دون أن يستطيع إثباتها. لذلك وليحصل على ثقة القارئ، يحاول الجواهري إظهار نفسه كمؤرخ منصف لا يغمط حق أحد لذلك نراه لم يبخل بذكر محاسن الرجل في مناسبات وهي كثيرة، ولكن ليتبعها بعد قليل، بسيل من المساوئ لإلغاء المحاسن. وهنا أقتبس بعض الفقرات على سبيل المثال لا الحصر من ذكرياته فيقول:
" …غير إني أستطيع التأكيد ثانية أن عبد الكريم قاسم كان يملك ضميراً حياً ونزاهة نادرة، وبساطة في اللباس والحياة والمأكل، مما جعله يضاف إلى قائمة المترفعين عن المظاهر والمكاسب وجاه الثورة وهو ما أغفله الكثيرون من الكتاب والصحفيين والمؤرخين… وأراها مناسبة للقول أن الكثيرين من هؤلاء لم يتعاملوا مع التاريخ ولا بأمانة مع واقع حال هذا الرجل وكثيرون منهم كتبوا إما بدوافع سياسية أو بدوافع شخصية أو بدوافع مصلحية… الأسباب التي جعلت أكثرهم يبتعد عن الحقيقة… ولذلك لم أعتمد أحداً منهم وأنا أكتب تاريخ هذا الرجل إلا القلة النادرة ".
وبعد هذا الثناء الجميل على الزعيم وذم من كتب عنه بدوافع شخصية ومصلحية، نراه يختار بعض النماذج من هؤلاء الذين كتبوا عن الزعيم وممن حاولوا الإساءة إليه وفي ظروف صعبة تحت حكم من ساهم في محاولة اغتيال قاسم. فيستشهد مثلاً بجاسم كاظم العزاوي الذي قال عن الزعيم: "إن ثقافته كانت محدودة ولذلك كان يشطح أحياناً في خطاباته وتعليقاته وكان يسد هذا النقص من ذكائه وتحمله المشاق، وهو شخص كتوم وحذر جداً لا يختلط بأحد قبل الثورة. لا يدخن لا يشرب الخمر ولا توجد عنده جوانب خلقية سيئة كما يدعي البعض.. وكان زاهداً في المال فلم يستغل منصبه لاقتناء الأموال والعقارات وإنما جاء بملابسه العسكرية ومات بها ولم توجد له عقارات أو أموال في البنوك سواء داخل العراق أو خارجه سوى دينار ومائتي فلس في مصرف الرافدين.."
إن الفقرة التي استشهد بها الجواهري لم تكن كلها ضد الزعيم ما عدا ما يخص ثقافته. كان على الجواهري وهو شاعر العرب الأكبر أن يسأل نفسه، هل كان جاسم العزاوي أنسب شخص لتزكية الزعيم من الناحية الثقافيه؟. وهل بإمكان العزاوي فهم ما تعنيه كلمة الثقافة ويقدم تعريفاً مقبولاً لها؟ ألا يعتقد أن العزاوي كتب ذلك ليسلم جلده من بطش النظام الحاكم الذي ساهم رئيسه في إغتيال الزعيم؟. وقد جئنا على ما قاله آخرون من المثقفين الحقيقيين الذين شهدوا في صالح الزعيم عن ثقافته مثل حسن العلوي ومحمد حديد وغيرهما في مكان آخر من هذا الكتاب.

التشكيك في ولاء قاسم للعروبة
ثم تأتي الطامة الكبرى عندما يعتمد الجواهري على نموذج آخر ممن يثق بصدق كتاباتهم في الطعن بموقف الزعيم من العروبة والقومية العربية فيقول: ومثل ذلك وبعيداً عن التحيّز ما كتبه (نعمان ماهر الكنعاني) سكرتير عبد الكريم قاسم لشؤون الصحافة حين كتب يقول: "عبد الكريم كان يحقد على القومية العربية منذ البداية، وإن ما قيل إن إذاعات القاهرة ودمشق أثارت فيه هذه النزعة قول مردود فإنه لا يميل حتى إلى سماع إسم العروبة" (كذا) ويطنب الجواهري في مدح الكنعاني فيقول: "فهو من القلائل الذين أحترم نزاهتهم وأعرف خلوص نياتهم..".
ويفسر نعمان ماهر الكنعاني، الذي يثق الجواهري بنزاهته كثيراً، سبب عداء قاسم إلى العروبة، حسب زعمه، فيقول: "ويبدو لي أن السبب ناتج عن عاملين: الأول-عامل شعوري بأنه منحدر من أصل غير عربي (كذا). الثاني- عامل ذاتي نتيجة مقتل ابن عمته اللواء محمد علي جواد قائد القوة الجوية في عهد بكر صدقي ثم قتله مع بكر صدقي على يد القوميين العرب في مدينة الموصل".
من قراءتنا لسيرة عبد الكريم قاسم نعرف أن والده عربي من عشيرة الزبيد وهي من عشائر شمَّر، ووالدته من عشيرة السواكن التابعة إلى تميم. وكلتا العشيرتان عربيتان أصيلتان ولم يستطع أي إنسان مثقف أن يشكك في أصالة وعروبة هاتين العشيرتين إلا من كان في قلبه مرض مثل الكنعاني والذي يثق به الجواهري كثيراً. فأي جزء من قاسم كان منحدراً من أصل غير عربي؟ أما السبب الثاني وهو إن إبن خالته اللواء محمد علي جواد قتل على يد القوميين في الموصل لذلك حقد قاسم على القوميين، فقول مردود وبلا معنى، لأن قاسم قد خدم حركة التحرر العربية أكثر من غيره وقرب إليه أبناء الشهداء الضباط القوميين من حركة 1941 ورد الإعتيار إليهم كما مر بنا. ويرد المرحوم محمد حديد (وزير المالية في عهد قاسم) على هذه التهمة فيقول: "أرى إن عبدالكريم قاسم قرَّب الشيوعيين بسبب ضغط القوميين عليه رغم أنه كان وحدوياً بلا اندفاع."
نعم كان قاسم قومياً بلا عواطف شرقية ووحدوياً بلا إندفاع، ويشهد بذلك القوميون أنفسهم وعلى رأسهم الرئيس الأسبق الفريق عبدالرحمن محمد عارف.
والجواهري هو آخر من يحق له توجيه تهمة معاداة القومية العربية والعروبة لعبد الكريم قاسم، وأن يزج بنفسه في التشكيك بعروبة قاسم وتوجيه تهمة الشعوبية له. وقد ناقشنا هذه التهمة التي لم تصمد أمام أبسط محاكمة في فصل سابق، خاصة والجواهري نفسه كان ضحية من ضحايا هذه التهمة اللئيمة الخبيثة وقد عانى منها كثيراً في حياته على يد ساطع الحصري الذي خصص الجواهري أكثر من مائة صفحة في الجزء الأول من مذكراته كاشفاً عن هذه المعاناة. ومنذ زمن الحصري إلى يومنا هذا بقيت تهمة الشعوبية ومعاداة القومية العربية وتشكيك في عراقية الجواهري وعروبته قائمة ضده، ومازال أقاربه وكل من يحمل لقب الجواهري في العراق محرومين من شهادة الجنسية العراقية إلا في حالات نادرة، بسبب تلك التهمة الظالمة وما ينجم عنها من تبعات ومعاناة. وإذا كان هذا رأي الجواهري عن قاسم، وهو الذي عانى من تهمة الشعوبية ومعاداة العروبة بدون وجه حق، فماذا نقول عن الذين ساهموا في قتله؟.

دفاع الجواهري عن العهد الملكي
والغريب أيضاَ، أن الجواهري الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وكرّس جل شعره لتحريض الشعب على الثورة ضد النظام الملكي منذ تأسيسه عام 1921 وحتى سقوطه في يوم 14 تموز 1958، ليأتي بعد ثلاثين عاما من سقوطه يشتم تلك الثورة، مدافعاً عن النظام الملكي ويحاول إيجاد المبررات لسياساته التعسفية وهو في الثمانينات من عمره.
فبعد أن يستعرض الوضع الملكي وعلاقته بالشعب وأحزاب المعارضة بإيجاز يقول في مجال تبريره لسلوك الحكم الملكي: "وطبيعي أن تكون هناك كما هو كائن على مدى التاريخ وسواء في هذا النظام أو غيره وبخاصة ففي المناطق المتخلفة أن تكون أهواء وشهوات وفتن وانتفاضات وسجون ومعتقلات ومحاكم عسكرية وأحكام عرفية وحالات طواريء وأن تكون إلى جانب كل سجن أو معتقل أو محكمة مدنية واحدة (بدائياً ثم استئنافياً) ثم تمييزاً وأكثر من بناية في هذه المدينة أو تلك للمحامين لمن يحمون عن هذا المتهم وذاك المعتقل أو ذاك السجين.. هذا الستار الذي مزقه عبد الكريم قاسم .."
إذا كان الحكم الملكي يتمتع بهذه الفضائل، فلماذا شن الجواهري حربه ضده وهو القائل:
سلام على غمرات النضال سلام على سابح ماهر
عنود يصارع لُج الخطوب وصخاب آذيها الزاخر
سلام على مثقلٍ بالحديد ويشمخ كالقائد الظافر
كأن القيود على معصميه مفاتيح غدٍ زاهر
إذاَ لماذا كنتم تحرضون الشعب على الثورة طيلة 38 سنة من عمر العهد الملكي؟ ولماذا يبرئ المحرضون الآن أنفسهم بعد أن سارت الأمور بإتجاه معاكس؟ إذن الجواهري ساهم مساهمة كبرى مع غيره في تضليل الشعب العراقي وتحريضه على النظام الملكي بدون أي مبرر!! وبذلك يكون الجواهر كغيره من المثقفين الذين حرضوا على الثورة ضد العهد الملكي يجب تقديمهم للمحاكمة بتهمة تضليل الشعب والتحريض ضد نظام حضاري وديمقراطي.

هل حقاً كان قاسم جباناً!
وقد ذكرنا آنفاً ما قاله الجواهري عن شجاعة قاسم ونظافته والآن نورد بعضاً مما قاله في وصف قاسم بالجبن ليناقض نفسه بنفسه بهذا الخصوص عن الرجل فيقول:
"أجل لم يكن عبد الكريم قاسم شجاعاً وللشجاعة مفاهيمها ومرادفاتها وكل ما أجمع عليه المتحدثون عن هذه الشجاعة أنه كان واحداً من ضباط الجيش العراقي في فلسطين وفي الجملة من الجيوش العربية عام 1948." لم يذكر الجواهري أن قاسماً قد أبلى بلاءً حسناً بشجاعة نادرة شهد لها العدو قبل الصديق.
وليثبت الجواهري عدم شجاعة قاسم، يردد نفس النغمة التي كررها خصومه من أتباع عبد السلام عارف بان قاسم قد وصل بغداد بعد الظهر من يوم 14 تموز 1958 وبعد أن أتم عبد السلام عارف كل شيء له وبذلك لا يعير الجواهري أهمية لخطة الثورة التي وضعها قاسم ووافق عليها كل من ساهم فيها أن يكون كل منهم في المكان والزمان المحدد وحسب الخطة… وكأن الثورة كانت وليدة تلك اللحظة التي احتل فيها عارف دار الإذاعة. علماً بأن قاسم دخل بغداد قبل الظهر ولم يكن الموقف محسوماً بعد، ويؤكد ذلك الرئيس الأسبق عبدالرحمن عارف، كما سنرى بعد قليل. ثم ليخلص الجواهري إلى القول ويصل إلى بيت القصيد في كل ما ذكره عن عبد الكريم قاسم في أكثر من 125 صفحة من مذكراته أو ذكرياته ليقول: "… وبعد هذا ما لم أجد لي بداً منه وبما يشبه الفلسفة العابرة لكي أضع القارئ في صميم صورة أنا بصددها لعاهة جبن عند عبد الكريم قاسم ومدى قدرته على التحايل عليها بشيء غير قليل من القدرة على المكر والخداع بل وعلى إزاحة الكثير من الغشاوات التي تعتصر نفس وضمير وسلوك وهو يجرر رواسب الفقر والحاجة إلى الناس بل حتى ما بعده كل ذي نفس كريمة مكبوتة مهانة وإذلالاً.. وهذا ما كان من (عبد الكريم) قبل الثورة وخلال أعوامها القصيرة حتى يوم نهايته.".
ومن الطبيعي، إن الثورة قامت بها مجموعة من الضباط وبعد سنوات من العمل السري، وكل منهم قد أنيطت به مسئولية معينة للقيام بها في المكان والزمان المعينين كما ذكرنا أعلاه ودور عبد السلام كغيره من بقية رفاقه الضباط الآخرين مثل وصفي طاهر الذي سيطر على بيت نوري السعيد وضباط آخرون سيطروا على قصر الرحاب وغيرهم على معسكرات الجيش في طول البلاد وعرضها. فلماذا يعتبر الضابط الذي سيطر على الإذاعة هو وحده منفذاً للثورة وقائدها الحقيقي لا لشيء إلا لأنه أذاع البيان الأول؟.
وبخصوص هذا السؤال، لماذا تأخر قاسم (يوم الثورة 14 تموز من دخول بغداد؟) فينفي الفريق عبدالرحمن محمد عارف ما ورد في مذكرات وكتابات بعض الضباط ومنهم الزعيم الركن أحمد حقي محمد علي الذي أشار إلى أن الزعيم عبدالكريم قاسم تأخر عن دخول بغداد حتى يستتب الأمر لعبدالسلام عارف (فإن نجح سينعكس نجاحه عليه مباشرة وإن فشل سيكون الإعدام لعبدالسلام ويبقى هو سالماً؟) فيرد عبدالرحمن عارف على هذه الأقوال: "إن هذا نصف الحقيقة وما جرى صبيحة 14 تموز أن أخي عبدالسلام فاتح آمره أحمد حقي أن يسبقهم إلى مشارف فلوجة وهم في طريقهم إلى الأردن مع عدد من ضباطه وجنوده ومخابراته بحجة أن اللواء الذي سيمر من بغداد ستواجهه (هوسات وربما عراقيل) فوافق وسبقهم إلى فلوجة ووقعت الثورة حسبما خطط لها. وكنا قلقين حتى دخل عبدالكريم قاسم بغداد فاستراحت النفوس وازددنا يقيناً أن الثورة نجحت." ومعنى هذا أن الموقف لم يكن محسوماً إلى أن دخل قاسم بغداد. فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن ينجو بنفسه في حالة فشل الثورة.
ويظل الجواهري يناقض نفسه مرات ومرات ليقول شيئاً عن الزعيم ويناقضه بعد ذلك تماماً. فبعد "خيبة أمله من ثورة تموز وزعيمها" يقول: وللحقيقة والتاريخ أقول: … ونظافة هذا الرجل غير المشكوك فيها وطنياً دفعته لإجراءات وطنية وإصلاحية كبيرتين وبخاصة فيما يدل من حياة الطبقة الفقيرة ورد اعتبارها وكرامتها في العراق كله وبالأخص في العاصمة نفسها ذات (الخصاص والأكواخ) هذه الطبقة التي بلغ حبها ووفاؤها له درجة رفضت معها تصديق خبر موت عبد الكريم قاسم." (ذكرياتي، ص202).

الفقر كفر
وفي مكان آخر، يحاول الجواهري ان يطعن بالزعيم على خلفيته بشكل ملتوٍ ألا وهو انتماءه الطبقي. ويبالغ الجواهري في إبراز خاصية الفقر في عائلة قاسم ويحاول إعطاء انطباع كما لو كانوا أناس معدمين، والحقيقة ليست كذلك. نعم لم يأت قاسم من عائلة أرستقراطية أو ثرية أو إقطاعية، بل جاء من عامة الشعب، وهذه الصفة ليست عيباً بل هي في صالحه أكسبته المزيد من الشعبية، لأن الناس شعروا ولأول مرة أن العراق يحكمه واحد منهم، من عامة الشعب. ولكنه في نفس الوقت لم يكن والده معدماً إلى حد الفاقة. والزعيم لم ينكر وضع عائلته المعيشي، إذ كان بمستوى معدل العائلة العراقية المتوسطة الحال في الدخل. وقد صرح مراراً معتزاً بإنحداره الطبقي بأن والده كان نجاراً. واستطاع هذا الوالد النجار أن يوفر لأولاده معيشة لائقة بكرامة الإنسان وقد أدخلهم المدارس في مرحلة مبكرة في وقت كان العراق غارقاً في ظلام الجهل والأمية الدامس. فقد دخل عبدالكريم قاسم المدرسة الحكومية في بغداد في سن السابعة. وهذا يدل أن العائلة كانت تعطي التعليم أهمية فائقة في تلك المرحلة المتخلفة في العهد العثماني وعهد الإحتلال البريطاني. ومع ذلك استطاع عبدالكريم أن يواصل الدراسة حتى تخرج من الكلية العسكرية. فهل هذا يعني انه جاء من الفقر المدقع؟.
وبهذا الخصوص يخبرنا الجواهري انه استفسر من أساتذة الزعيم وأقرانه قائلاً: " فقد شدد هؤلاء (المعلمون وأقرانه التلاميذ في المدرسة الإبتدائية التي درس فيها قاسم) على خاصية الفقر التي يعيشها… هذا الفقر الذي يكاد يكون كفراً بل قل هو الكفر بعينه.. سينطلق عفريته من قمقمه المسحور بعد خمسة عشر عاماً من سني الدراسة - وقد أصبح هذا الفقير المعدم ذو الثياب المهلهلة حاكماً مطلقاً… ليزحف زحف الذين كفروا على الأكواخ (والصرائف) وعلى كل ما فيها من التعساء وليحيلها شققاً وعمارات وبيوتاً ترى لأول مرة النور والكهرباء والحدائق والشوارع منتقماً بذلك من فقره وماضيه ثائراً على واقع البؤساء." (ص176.). وهذا ثناء من أبي فرات على الزعيم.
نعم ثار قاسم على الفقر ودمر الأكواخ وبنى العمارات والشقق للفقراء وهذه مفخرة لقاسم سيخلدها له التاريخ، ولذلك صار محبوب الجماهير الفقيرة. ولكن مبالغة الجواهري في فقر عائلة الزعيم وطفولته المعدمة وثيابه المهلهلة غير صحيحة. ويحاول الجواهري أن ينصب من نفسه محللاً نفسانياً وهو أبعد من أن يكون صاحب تلك المؤهلات فيقول: " النقطة هنا تتعلق بالتكوين النفسي لعبد الكريم قاسم، هذا التكوين الذي انعكس على قراراته المتسرعة، فيها ما يحمد وفيها ما يذم… فقد كان هذا لرجل فقير البيئة محروم الطفولة السعيدة، حاقداً على الواقع الذي عاشه وحاقداً على الطبقات المستغلة الموجودة على أرضيته.. والفقر داء قاتل قتال تنسحب أوجاعه على كل مراحل حياة المرء وأراه يشكل عقداً في الذات لا يمكن لأي زمن أو حدث أو أية سلطة أن تمحوها…" ( ص205.)
ما قاله الجواهري يمثل نصف الحقيقة. فالتحليل النفسي يؤكد أن الشخص المحروم من الحب والحنان وعومل بعنف في طفولته، يصبح عنيفاً حاقداً على الشعب لا يعرف الحب والحنان كما ظهر في شخص صدام حسين وهتلر، والتاريخ مليء بهؤلاء. كذلك الذي جاء من بيئة فقيرة جداً ومعدماً، ويحتل منصباً فيما بعد، يصبح ناقماً على الآخرين ونهماً جشعاً يجهد لجمع المال لنفسه وليس للآخرين وذلك للتعويض عما فاته في طفولته وصدام حسين مثالاً. وهذا عكس ما عمله قاسم الذي كان زاهداَ في المال عندما كان في موقع القوة. إذ بذل كل ما في جهده لخدمة الآخرين وخاصة الفقراء وأهمل نفسه وعائلته وأقاربه تماماً. وبإعتراف الجواهري نفسه، كانت ملكية الزعيم دينار واحد ومائتي فلساً فقط يوم إعدامه.
وخلافاً لما قاله الجواهري، لم يكن الزعيم حاقداً أو ناقماً على الطبقات الغنية، بل شجع الأغنياء على الإستثمار وزيادة الثروة الوطنية. وكان شعاره: رفع مستوى الفقراء إلى مستوى الأغنياء وليس العكس.

مؤتمر الصحفيين العالمي
تم عقد هذا المؤتمر الذي يصفه الجواهري أنه (كانت البداية لعاشوراء الستينات..). وكان الجواهري نقيباً للصحفيين ورئيس إتحاد الأدباء العراقيين. وحضر الزعيم المؤتمر لإفتتاحه .. وفي كلمته دافع الزعيم عن حرية الصحافة بشكل يبدوا أن الحرية التي دافع عنها تختلف عن الحرية التي يفهمها الجواهري. فكان هناك صراع عنيف وأحياناً دموي بين القوى اليسارية (الشيوعيون وأنصارهم) من جهة، والقوى اليمينية (القوميون وأنصارهم) من جهة أخرى. وبطبيعة الحال كانت الصحافة تمثل ساحة هذا الصراع في أشد عنفوانه. ويا للمفارقة أُعتبِر الجواهري صحيفة (الأهالي) لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة الراحل الأستاذ كامل الجادرجي، صحيفة يمينية ورجعية، كما سنرى.
وكان الجواهري يتوقع من الزعيم ان يتهجم على الصحافة "اليمينية" بما فيها (الأهالي) وحتى حجبها من الصدور بإعتبارها معادية للجمهورية. أما في رأي الزعيم عبد الكريم قاسم، فالحرية للجميع، فدافع في كلمته عن حرية الصحافة وانتقد الصحف التي أساءت لهذه الحرية. وهنا يظهر بجلاء مفهوم حرية التعبير عند قاسم كعسكري وعند الجواهري كواحد من كبار الإنتلجنسيا العراقية.
يبدو أن دفاع الزعيم عن حرية الصحافة لم يرق للجواهري واعتبره هجوماً على صحف اليسار ودعماً للصحف اليمينية، وبهذا اعتبر الجواهري صحيفة الأهالي ضمن الصحف الرجعية كما اتضح ذلك من تبادل الإتهمات والمذكرات حول خطاب الزعيم وكما هو واضح في كتاب الجواهري (ذكرياتي).
إذ يقول الجواهري: "وهنا لم أستطع السيطرة على أعصابي.. والإذاعة تنقل الحفل وخطاب الزعيم على الهواء مباشرة.. إلا أن أجمع أوراقي التي كنت قد سجلت فيها الرد المفترض على خطابه وفيها كانت الكلمات الجميلة عن الثورة… وبحركات عصبية قلت للزعيم قاسم وتلك الأوراق بيدي: "إن هذه كانت رداً على ما كنا نتوقع أن نسمعه منك… أما والحال هذه فإني سأطويها وأرتجل غيرها." .. وفعلاً ارتجلت كلمات.. قلت فيها: كيف يكون منك يا سيادة الزعيم مثل هذا الموقف…" إلى أن يقول: وسألته: أتكون أيها الزعيم قد أستأتَ من كلامي هذا ؟ قال: لا لا.. "وإذا به يقول وبالحرف الواحد: عجيب… الجواهري يعارض الحرية..".
قلت له: يا سيادة الزعيم أهذه هي الحرية؟ أية حرية لهؤلاء الحاقدين على الثورة؟.. وابتدأت وكأني أخطب من جديد.."
ثم يسهب الجواهري في هذا الموضوع ليشمل صحيفة (الأهالي) ضمن الصحف الرجعية التي ما كانت تستحق الحرية كما كان يعتقد، وكما تبين من نشره لبيان نقابة الصحفيين بعنوان (رداً على مزاعم جريدة الأهالي) في اليوم التالي، أقتطف أسطراً من الفقرة الأولى لهذا البيان لإعطاء صورة للقارئ عن موقف كل من الزعيم والجواهري من حرية الصحافة آنذاك وهي ترد بحق على أولئك الذين يتهمون قاسم بالديكتاتورية.
يقول البيان: "طلعت جريدة الأهالي على قرائها يوم أمس بمقال تناولت فيه موضوع الصحافة والصحف بالنقد اللاذع كما تعرضت فيه لنقابة الصحفيين تعرضاً مجحفاً تميّز بطابع الحقد واللجوء إلى تشويه الحقائق وعنونت هذا المقال بما يلي " حول خطاب سيادة الزعيم في مؤتمر الصحفيين… الصحافة العراقية وعوامل فشلها في أداء مهمتها" (ص250).
من هنا نعرف مدى الحيرة التي كان يعيشها قاسم ومعاناته من العقلية السائدة على الإنتلجنسيا العراقية في تلك الفترة. فحرية الصحافة لم تكن بالمعنى الذي نفهمه اليوم، أي حرية واحترام الرأي والرأي الآخر، إذ كان المثقفون، بمن فيهم شاعر العرب الأكبر الجواهري، يعتقدون أنه من الوطنية والديمقراطية بمكان حجب الحرية عن خصومهم والرأي الآخر، بمن فيهم الحزب الوطني الديمقراطي وصحيفته الأهالي. ومن الغريب والعجيب أن هذا الرجل (الزعيم وهو عسكري) كان أقرب إلى مفهوم الديمقراطية الذي نعرفه اليوم من السياسيين المدنيين، إذ كان يحترم التعددية و يريد الحرية للجميع. ولكن هذا الرأي لم يعجب الجواهري وجماعة اليسار مع الأسف الشديد ولم يتراجعوا عن ذلك الموقف الخاطئ حتى بعد مرور ثلاثين عاماً من ذلك الحادث.

ماذا في الميمونة (ص259)
لقد استغلت هذه الحادثة إستغلالاً بشعاً من قبل البعض وأضافوا عليها من عندهم وبالغوا وأطنبوا فيها، لا حباً بالجواهري بل بغضاً للزعيم. وليتهم ذكروا الحادث كما ذكره الجواهري نفسه. وعلى سبيل المثال لا الحصر أذكر بإيجاز شيئاً من هذه المبالغات: كتب السيد أحمد المهنا في عموده الإسبوعي (أحاديث شفوية) في جريدة (المؤتمر) الندنية، في عددها الصادر يوم 28/2/1994، متهما الزعيم عبدالكريم قاسم بحب السلطة وإحتكارها (ماكو زعيم إلا كريم) مستشهداً بمساجلة وصفها بأنها كانت حادة حصلت بين الزعيم قاسم والشاعر الجواهري، مما أثار ردود فعل مختلفة من القراء.
يقول السيد المهنا: "وسأل "أبو فرات" عبدالكريم قاسم: هل يجوز يا سيادة الزعيم أن تعيش ثورة 14 تموز بشرطة نوري السعيد؟...عندها خرج قاسم عن طوره وزعق (كذا) في الجواهري: (أنت من جهاز نوري السعيد!) ويضيف السيد المهنا قائلا: ( صحيح أن المرحوم (الزعيم) كان نزيها من جهة المال. إلا إن النقص الأخطر الذي شاب نزاهته يكمن في إحتكاره المكانة المعنوية: ماكو زعيم إلا كريم!".
مثال آخر: ندوة كندا : عقدت ندوة في مدينة هاملتون الكندية في تموز 1997، وحاضر فيها كل من إبراهيم الحريري وليث الحمداني، وكان موضوع الندوة حول تأثير الثورة على الصحافة العراقية والحريات الديمقراطية. وكما جاء في مقدمة مداخلات المحاضرين، أن الغاية هي (إذكاء حالة الحوار والإجتهاد بحثاً عن الحقيقة.). كما أكد الأخوة على ( شرط أن تتم المعاينة وفقاً للحظة التاريخية للحدث لا وفق معايير ومعطيات مرحلتنا الحالية).
تحدث السيد ليث الحمداني وبعد أن يثني على وطنية الزعيم وصفاء سريرته..، إلا إنه يضيف (ولكنه-قاسم- ظل محكوماً بعقليته العسكرية.. وما كانت تتعرض له الصحافة اليسارية..الخ).
ويتطرق إلى القصة "الخالدة"! (ماذا جرى في الميمونة؟) ومن المؤسف إن السيد الحمداني، كزميله المهنا، لم يتقل القصة كما رواها المرحوم الجواهري نفسه في كتابه (ذكرياتي)، إذ قال: ".. مما حدا بالجواهري أن يترك الإجتماع متحدياً!!" ثم يضيف: "لم تتحمل عقلية العسكري قاسم أي نقد.. الخ". الحقيقة كما ذكرها الجواهري نفسه في الجزء الثاني من كتابه (ذكرياتي) تختلف تماماً عن رواية الحمداني والمهنا وغيرهما. لذلك أرى من المفيد طرح هذه الحادثة كما طرحها الجواهري نفسه، وذلك لأهميتها وكثيراً ما تمت المبالغة فيها مع قسط وافر من التشويه.
يطرح الجواهري الرواية من جانب واحد وهو جانبه وغيُبَ الشباطيون الزعيم دون أن يعطوه المجال للدفاع عن نفسه ويكتب مذكراته كما فعل الآخرون وما أكثرهم. ولكن من قراءة متأنية لما يذكره الجواهري، لا يحتاج القارئ عناءً كبيراً ليكتشف ما بين السطور أن الجواهري الشاعر والصحفي والمدني كان هو الذي وقف ضد حرية الصحافة وليس الزعيم الذي دافع عنها بكل عفوية وبراءة.
يقول الجواهري: "أما بصدد مقال (ماذا في الميمونة) وموضوعه فقد كان عن حادثة عابرة وفي قرية لم أسمع بإسمها… فهي ناحية تابعة لمحافظة العمارة ويبدو أن الحزب الشيوعي العراقي كان له بعض الأنصار أو بعض الشباب لم يشاءوا أن ينزلوا إلى الشارع بأنفسهم فأنزلوا النساء بغية إحراج الشرطة.. (لاحظ أن الجواهري هنا يستخدم الغمز واللمز ضد الحزب الشيوعي الذي أنزل النساء!!)… ومع هذا فلم تنجح جماعة الحزب الشيوعي هناك في ذلك لأن الشرطة تجاوزت تلك الحدود ولأنها أعتبرتهن بديلاً عن الرجال المختفين ورائهن…"
ويضيف: " ففي تلك الإثناء وبرغم هذه الفترة المدللة والمحسودة بيني وبين عبد الكريم قاسم فقد كانت جريدة (الرأي العام) تنظم إلى صفوف المعارضة حتى لو أدى ذلك إلى المساس به وبسياسته بمقالات متتابعة وبكلمات وموارد عديدة وكانت خاتمتها الأسيفة (ماذا في الميمونة). ويقول أنه كتب تلك المقالة بناءاً على طلب من عبد القادر إسماعيل (رئيس تحرير جريدة إتحاد الشعب، صحيفة الحزب الشيوعي العراقي آنذاك). ويستغرب الجواهري لماذا لم تبادر صحيفة إتحاد الشعب نفسها بالكتابة عن الموضوع بدلاً من صحيفته (الرأي العام) وإن إتحاد الشعب نقلت المقالة في اليوم الثاني ومهدت لها أنها مقالة صحيفة الرأي العام (جريدة الجواهري). ولم يخفِ الجواهري إنزعاجه من هذا التصرف.
من هنا يثبت الجواهري أنه -وغيره من بعض المثقفين في تلك المرحلة- كان مدمناً على معارضة الحكومة بغض النظر أن تكون هذه الحكومة صالحة أم طالحة حتى ولو كانت حكومة الثورة التي مهد لها بقصائده الثورية المحرضة.
ويتابع الجواهري قصة ذهابه على رأس وفد إتحاد الأدباء لمقابلة الزعيم وطلب معونة مالية منه لإتحاد الأدباء العراقيين الذي كان يرآسة الجواهري وبإلحاح من الدكتور صلاح خالص (سكرتير الإتحاد)، لأن الجواهري على حد زعمه أراد توجيه إهانة إلى الزعيم بعدم الذهاب إليه وأخيراً استجاب بعد المحاولة الثالثة وقرر عدم المشاركة في الحديث كإشارة لإزعاج قاسم.
ويقول : "ولبيت الطلب وتوجهت مع الهيئة الإدارية إلى مقر عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع وفي طريقنا كانت الغلطة الفادحة التي لا أدري حتى الآن أكانت وليدة تلك الشحنة أم أنها جاءت لتصعد منها وتهيؤها للتفجر أكثر فأكثر، فقد كان مني أن طلبت إلى صلاح خالص ما لا يجوز أن يطلب وهو أنني سألتزم الصمت تجاه الرجل (عبد الكريم قاسم) وأن يتحدث هو عن شؤون الإتحاد وحاجاته وطلب المنحة له-وللقارئ أن يتصور ما معنى هذا الطلب- أنها لا تختلف بشيء عما يشبه الإهانة المدبرة للرجل الأول..". وهنا يعترف الجواهري أنه قد خطط لتوجيه إهانة للزعيم!. إذ إن ما طرحه الجواهري يكشف بمنتهى الوضوح عن مدى روحية الزعيم المتسامحة ومدى سهولة التجاوز عليه أو حتى توجيه الإهانة له من قبل مثقف بوزن الجواهري يتدللون عليه كالأطفال المدللين على أبيهم المتاسمح مستغلين طيبة وتسامح هذا الأب.. والأدهى من ذلك رغم أن سلوكهم هذا قد أدى إلى فقدان هذا الأب الصبور المحب ورغم كل هذه الكوارث التي مرت على العراق، فمازال الجواهري وأمثاله يتباهون بفخر وإعتزاز بتجاوزاتهم على الزعيم ويعتبرونها بطولة خارقة. (صدام حسين إيلوكلنا!!!)
كذلك يعترف الجواهري بغلطته المبيتة عندما يقول: "واستقبلنا الرجل بالألفة المعهودة والترحاب وأجلسني على يمينه وبدت الغلطة المبيتة وتحدث سكرتير الإتحاد بدلاً عني - أنا رئيس إتحاد الأدباء والمقرب إليه حقاً وتصنعاً… وتحمل الرجل ذلك بالرغم من أحاسيسه المرهفة..".
وبعد ثلاثين عاماً من الحادث، يحاول الجواهري إلقاء اللوم على صلاح خالص لأنه قبل "بالخطة المدبرة!".. وتستمر القصة إلى أن يلتفت الزعيم إلى الجواهري ليخرجه من صمته، سائلاً: "وماذا في الميمونة"؟ وهنا يصف الجواهري انه انفجر قائلاً: "يا سيادة الزعيم ثورة وبشرطة نوري السعيد؟".. وإزاء مثل هذا التحدي لرئيس دولة وقائد ثورة، أجابه الزعيم: "أنت من رجال نوري السعيد" فاغتاظ الجواهري متحدياً.
وهنا ذهب الزعيم إلى غرفة مجاورة متظاهراً بجلب الأدلة "الثبوتية"، ثم عاد دون أن يأتي بشيء. ويواصل الجواهري الحديث مشككاً في كل ما يقوله وما يصنعه الزعيم: "واستدعاني إلى جانبه مرة ثانية متصنعاً التسامح والتنازل مبتدراً الحديث قائلاً: "إحسبوها "زوبعة في فنجان" فأنا أهرع إلى الهاتف عندما تستدعيني-ظلال-" وهي أصغر بناتي وفي التاسعة من عمرها آنذاك، وفي كلتا الزيارتين التي زار بيتنا كان يستدعيها ويدللها…".
المهم يسألهم الزعيم عن حاجتهم ويستجيب لكل ما يريدون إلى حد أن الجواهري يندم لماذا لم يضاعف الطلب!. ولم يذكر أن الزعيم أغلق صحيفة الرأي العام كما ذكر السيد ليث الحمداني في ندوة كندا.
بيت القصيد، أن الجواهري يكشف في مذكراته بكل صراحة ونوع من التباهي بأنه قد خطط لإهانة عبد الكريم قاسم أي هو البادئ، ورغم كل ذلك كان الزعيم يتودد إليه كصديق لا كرئيس دولة. فماذا عساه أن يعمل قاسم ليرضي الجواهري وغيره ويسلم من كل هذه التقولات؟ والكل يعلم أن قاسماً كان رجلاً بسيطاً جداً ولا يحتاج الشخص إلى الكثير من الشجاعة والبطولة والعنترية لتحديه، فكانت المظاهرات تخرج في بغداد وهي تهتف (يا بغداد ثوري ثوري خلي قاسم يلحك نوري) وكان يبعث بالشرطة بعد تجريدها من السلاح، لحماية المتظاهرين من الصدام فيما بينهم.

قصة إعتقال الجواهري
ومن قراءة مذكرات الجواهري في مرحلة ثورة تموز يفهم القارئ أنه كان يعيش أزمة نفسية يتصور أن الدنيا كلها كانت تتآمر عليه وبدفع من الزعيم عبد الكريم قاسم بالذات.. إلى حد أنه حتى ولو قدم له الزعيم خدمات واستجاب لجميع طلباته، فكان يفسرها تآمراً واعتبار استجابة الزعيم لطلباته نوع من الإهانة المقصودة. ويذكر كيف تم توقيفه مرة أيام الصراع الدموي بين القوى السياسية، وربما بتخطيط من بعض أعداء الزعيم في دوائر الأمن والشرطة وما أكثرهم يوم ذاك، كما تبين فيما بعد، فيقول الجواهري بهذا الخصوص: "والقدر وحده يعرف كم كان سيطول هذا التوقيف لولا أن تتدخل صغيرتي ظلال، … أنها طلبت عبد الكريم قاسم على الهاتف لتقول له "أمثل أبي رهن التوقيف" .. وليكون منه أن يقول لها: " أنه سيكون عندك بعد ساعة" .
والسؤال هو: في أي بلد ديمقراطي أو دكتاتوري تستطيع طفلة عمرها تسع سنوات أن تستدعي على الهاتف رئيس الحكومة مباشرة ودون أي توسط وتطالبه بإطلاق سراح أبيها الموقوف ويستجيب لطلبها فوراً؟ ومع ذلك كله يقول الجواهري وبعد ثلاثين عاماً من الحادث في ذكرياته: " إن الجبن عاهة نفسية لازمت قاسم طيلة حياته.". قاسم المشهود له بشجاعته حتى من ألد أعدائه، ابتداءً من دوره في فلسطين إلى ساعة استشهاده يوم 9 شباط 1963، حين امتنع هو وصحبه الأبرار عن شد عيونهم لحظة إعدامهم.

عقدة الشك عند الجواهري
يبدو أن الجواهري كان يتوجس الريبة والشك حتى من أقاربه فما بالك بعبد الكريم قاسم. لا شك أنه كان يعاني من أزمة نفسية في تلك الفترة. وبهذا الخصوص يذكر انه كان معرضاً للتصفية من قبل رجال أمن قاسم، كما كان يعتقد وذلك حسب ما أخبره الملحق الثقافي في سفارة ألمانيا الشرقية وابلغه دعوة حكومته لزيارة بلاده والإقامة فيها وان لديه معلومات مؤكدة لإغتياله إذا بقي في العراق. واعتبر الجواهري هذا الخبر مؤكداً دون أدنى ريب. فما كان منه إلا وأن يغادر العراق. وهو يتهيأ لمغادرة العراق، يقوم ببيع ممتلكاته "لسداد دين استحق عليّ لمن استدنته منه وهو يكاد يكون فرداً من العائلة -مهدي بلاسم الياسين- ولم يدر بخلدي ولا يجوز ولا يمكن أن يدور بخلد أي أحد في مثل هذا الموقف أن يصبح هذا الواحد من هذه العائلة مجنداً عليّ بكل إرتخاص وبكل إبتذال أيضاً في جهاز الأمن العام.".
أنا لا أعرف لماذا شخص بمكانة مهدي بلاسم الياسين وهو من شيوخ عشيرة ربيعة من أكبر العشائر العربية في العراق يقبل أن يكون مجنداً في جهاز الأمن العام ليتجسس على الجواهري. إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الجواهري كان ضحية الشكوك بالآخرين. وقد غادر الجواهري العراق إلى ألمانيا ولكن ما أن وصلها حتى توجه إلى براغ التي عاش فيها حتى عودته إلى العراق بدعوة من صالح مهدي عماش بعد إنقلاب البعث الثاني عام 1968.
كم هو مؤلم أن نقرأ لشاعر عملاق ووطني مخلص بوزن وقامة الجواهري وهو يكيل الثناء والمديح لصالح مهدي عماش ولا يذكره إلا ب(أبو الهدى)، ويكيل الشتائم عبر عشرات الصفحات لأخلص زعيم عرفه العراق. هذا ال"أبو الهدى" هو نفسه الذي تبيَّن فيما بعد أنه كان عميلاً للمخابرات الأمريكية بإعتراف رفاقه البعثيين، ولعب دوراً كبيراً في تدمير ثورة 14 تموز والدولة العراقية، كما مر ذكره في فصل أسباب إغتيال الثورة.
مسك الختام!! يقول الجواهري في مذكراته: " ففي صحوة من يوم 8 شباط (1963) كان السيد عزيز الحاج يتصل بي ليفاجئني بأنه قد انتهى كل شيء وقبل أن يتم كلمة مصرع عبد الكريم قاسم وبكل إندفاع وجدتني أقول له وكلمتي تختلط بكلمته : " بشرك الله بالخير سأسرج الشموع " .



#عبدالخالق_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم (11) من هو عبد الكريم قاسم؟
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم (10) أسباب اغتيال ثورة 14 تموز
- النصر من منظور نصرالله!!
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم (9) حوادث العنف في عهد الثورة!!
- الأهداف الحقيقية وراء تدمير لبنان
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم (8) الثورة والحزب الشيوعي العرا ...
- لبنان يحترق ونيرون يتبجح
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم ..الفصل السابع
- السباق نحو الهاوية!
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 6
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 5
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 4
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم - 3
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم - 2
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم - 1
- لماذا معظم الإرهابيين مسلمون؟
- ثورة 14 تموز العراقية وعبدالكريم قاسم
- هل الإسلام دين التسامح؟ (3)
- هل الإسلام دين التسامح؟ (2)
- حول المصالحة الوطنية العراقية


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبدالخالق حسين - ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم (12) موقف الجواهري من قاسم