أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منهل السراج - احتشمي بيروت














المزيد.....

احتشمي بيروت


منهل السراج

الحوار المتمدن-العدد: 1624 - 2006 / 7 / 27 - 00:41
المحور: الادب والفن
    


باغت أمي تتأمل من وراء نظارتها في صورة لها مع أبي. تبدو في غاية السعادة تلوذ بكتفه وذراعه التي أحاطت خصرها.
قالت:
ـ كان علي أن أمزقها مثلما فعلت بغيرها.
ـ لماذا؟
ـ الله يعفي عنا.
معطف أمي في الصورة سماوي اللون، مشمور الكمين، وعلى رأسها إيشارب خفيف يكشف عن غرة شقراء وبقية شعرها يطل من تحت هذا الغطاء الخفيف. عيناها تضحكان بحرية. مكتوب على قفا الصورة "بيروت- تشرين 1949". قالت دون أن أسألها:
ـ كنت جهلانة.
كانت الصورة للعروسين في بيروت.
وظلت رحلة بيروت هدية أبي لأمي كل عام.
في كل صيف كانت لنا زيارة لبيروت. أرتدي ثوبي الحموي السموكن البني، ذا الجيوب والثنيات الكثيرة والمكوي بدقة. جوارب بلون البيج تصل حتى الركبتين، كي لا تظهر أي مساحة من اللحم، وحذاء بنياً مغلقاً رغم الحر.
تأتي السيارة في السادسة صباحاً.
صمت مطبق طوال الطريق. عند الحدود السورية، ننتظر الخلاص بحذر. وحين يدير السائق محرك السيارة: خلصنا. نعرف أننا نجونا. مم نجونا؟ لا أحد يستطيع الإجابة. وما هو ذنبنا لا أحد يستطيع الإجابة. كنت حين أسأل أبي عن سبب اصفرار الوجوه لا يجيب. وأحياناً أسمعه يقول لأمي: أخاف أن يتبلّونا.
الآن تجاوزنا الحدود السورية. تقول أمي وهي ترخي غطاء رأسها: فرفح قلبي. كان الذهن يدوخ، والوجوه تتنهد، ما إن يظهر بحر بيروت. يدير السائق المسجلة. يفتح أبي قبة قميصه قليلاً مرخياً ربطة عنقه. ويبدأ حوار بينه وبين السائق ولا مانع أن تشاركهما أمي أيضاً. حرية وصفح ونشوة غامضة. وحين ندخل أوتيلنا المعتاد في الحمرا، كان أبي يضحك مع موظف الاستقبال ويداعب المسؤولة عن تنظيف الغرف، قائلاً:
ـ يا لينا إنت ست الكل.
وأمي تبتسم بتسامح. فكنت أفرح وأهرع إلى نافذة الغرفة، كي أطل على السوق. محلات الفاكهة وأناقتها، رواد المقاهي وثرثراتهم، وكنت أجفل من قهقهاتهم العالية، يأتيني صوت نصري شمس الدين ودبكة الميجنا ويتراءى لي دلع بنات دبكة لبنان وقامات شبابها. وفيما أراقب كنت أرمي من قدمي حذائي وأسحب جواربي الطويلة وأخلع ثوبي السميك، متباهية أمام النافذة بأن كتفي أنا أيضاً عار. تفتح أمي الحقيبة، فأتناول الثوب الأزرق الرقيق ذا التنتنة، والذي كنت أسميه: ثوب بيروت.
لبيروت أثواب غير أثواب حماه. هكذا اعتدنا. بيروت تعني لي ثوباً قصيراً متحرر الركبتين، أرتديه وفي كل قفزة تفرح ركبتاي وقدماي.
أغمس الخبز في اللبنة وأقول:
ـ ماما لبنة بيروت أطيب من لبنة حماه. تضحك أمي موافقة. وزعتر بيروت أطيب، وكمان المكدوس والجبنة. إلى أن اكتشفت متأخرة أن عدة الفطور كانت أمي تحضرها معنا من حماه.

أتمشى على الشاطئ وأبتهج بأمي وأبي المتحررين لأن ذراعيهما متشابكان، وكم تمنيت لو يفعلان هذا في حماه شديدة الرصانة.
في الليل أراقب الفتيات الصغيرات بعمري، يخطفن خرطوم الأركيلة من أمهاتهن كي يشاركن جلسة المساء، وأنا في الغرفة، لاتعنيني أصوات المتفجرات التي بدأت حينها، لأن دفء التلصص على هذه الحياة أقوى بكثير من أي صوت خارجي وهذه الغبطة تقدر أن توفر أمني.
بيروت حبة الشوكولا، الشط الذي يذوب، والهواء السكران.
إلى متى تظلين هكذا؟ يلزمك ثوب من الجوخ السميك ومنديل أسود يغطي وجهك وحسنك، وكفاك مغريات، فقد بالغت في حبك للحياة الدنيا. وافقي على الزواج، طلاب الزواج كثر وكلهم يريدونك محجبة. وافقي، ألم تهلكي؟

غداً يغادرونك بعد أن يتأكدوا أنك هلكت من الموت والخراب. نعم ستبدين لعيونهم الشرهة أنك تحتضرين، ولكن ما إن ينشغلوا بأمور أخرى حتى ترجعي لعاداتك المضرة، ترتدين ثياباً شفافة وتتبخترين. شمس قريبة وخافتة وشط ذائب، ولون سماء قريب وحنون، غبش أبيض طيب، وما إن يأتك زائر حتى تمدي ذراعيك، تلفلفينه بغطاء حنون وتضمينه كأنه عشيقك الوحيد، تهدهدينه وتلاطفينه حتى يتعلق بك، ومن بعدها كيف يقبل أن يتخلى عنك بعد ما أغريته بكل هذه المحاسن؟

السلايف والضراير أصابتهن الغيرة، وضعن الغطاء منذ زمان وأنت ما زلت المدللة، إرمي ستاراً عليك وكفى.
أو انزلي إلى السوق وابحثي لك عن ثوب ينجيك. إذا نويت، لدينا من الأغطية الكثير، تلقفي مني هذا، واعملي بنصيحتي.



#منهل_السراج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دونية ومسحوقة أيضاً
- مي شدياق .. أنا أنا لم أتغير
- اعترافات عن عارف دليلة
- كما ينبغي لنهر
- تمرين صعب من اجل السلام
- بين الضفتين
- حقيبة فاتح جاموس
- وصفة لشهرة. وصفة للسترة
- جمعيات سقط عتب
- ترى... من هو عريس الليلة!
- أما أنا فأفهمك يانجيب
- بترحلك مشوار؟
- بأي حق يغتالون الصداقة


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منهل السراج - احتشمي بيروت