أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - زاغروس آمدي - (2) تأريض الإسلام















المزيد.....



(2) تأريض الإسلام


زاغروس آمدي
(Zagros Amedie)


الحوار المتمدن-العدد: 1624 - 2006 / 7 / 27 - 08:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الفصل الأول

الحلقة الأولى
مفهوم التأريض

يعرف التأريض كمصطلح علمي بأنه الإتصال الكهربائي بين جهاز كهربائي أو شبكة من الأجهزة الكهربائية من جهة وكتلة الأرض من جهة أخرى، والقصد من هذا الإتصال هو الحد من إرتفاع الجهد الناتج من تأثير الصواعق أو تلامس موصلات هذه الأجهزة مع موصلات ذات جهد أعلى، كما يساهم التأريض في المحافظة على ثبات الجهد أثناء التشغيل العادي،بحيث يؤمن تشغيلا مناسبا للمعدات والمنظومات الكهربائية، وبالتالي فالتأريض إذن ضروري وهو في غاية الأهمية لتوفير السلامة للمنظومة الكهربائية وللعاملين فيها.

أما التأريض في اللغة فهو تهذيب الكلام وإصلاح الشيء وتسويته ،فقد جاء في معجم الغني: أَرَّضَ، يُؤَرِّضُ، مصدر تَأْرِيضٌ. "أَرَّضَ الأَرْضَ" : اِرْتَادَهَا وَرَعَاهَا. "أَرَّضَ الْكلاَمَ" : هَذَّبَهُ. "أَرَّضَ الشَّيْءَ" : أَصْلَحَهُ، سَوَّاهُ، هَيَّأَهُ.

أما مفهوم التأريض الديني فهو التمهيد لإصلاح فعّال وحقيقي للدين الإسلامي بتخفيف وتنظيم مفعول "المقدس" من خلال وصله بأقنية المعرفة الإنسانية، والقصد من هذا الإتصال أو الوصل هو الحد من "سطوة المقدس المطلقة" على العقل، وكما أن التأريض الكهربائي يساهم في المحافظة على ثبات الجهد ليؤمن تشغيلاً مناسباً للآلات والمعدات الكهربائية ويوفر السلامة لهذه الأجهزة ومستخدميها، كذلك فإن غاية التأريض الديني هو العمل على تهبيط شدة "المقدس" إلى الحد الذي يؤمن للإنسان المؤمن آلية عمل مناسبة توفر لعقله وغرائزه الفطرية وتنظم لها مقداراً ثابتاً من النور لايزيد فيبهر أو يعمي البصر ولاينقص فيضعف أو يعدم النظر، بحيث يمكن للإنسان المؤمن على ضوء هذا النور أن يعيش حياة يكون فيها سيد نفسه على الأرض، ويتمتع فيها بقدر من الطمانينة والراحة النفسية،ساعياً من خلالها تحقيق سعادته في هذه الدنيا والأمل بها في الدنيا الأخرى. وكما أن التأريض الكهربائي يقي من تأثير الصواعق، فإن التاريض الديني يسعى إلى وقاية العقل من الصعق الديني من خلال تفريغ "المقدس" من الشحنات ذات التوتر العالي التي تشكل خطراً على سلامة العقل وآلية عمله ،وذلك من خلال تخفيف شدة التأثيرات الدينية المفرطة والمغالية في مضمونها، والمبالغة في تصوراتها الغيبية والمضطربة في تقديم قيمها ومفاهيمها، والصارمة في فرض قوانينها وتشريعاتها الشمولية، والمفزعة في عقابيها الدنيوي والأخروي، مما يؤدي كل ذلك في النهاية إلى إضطراب الفكر وإختلال التوازن الفكري للعقل والحد من نشاطه،ممايدفعه إلى حمل الراية البيضاء وإعلانه الهزيمة والإستسلام "للمقدس" والخضوع الكلي والتام لنصوصه دون قيد أو شرط، وبذلك تهبط قدرة العقل على الفعل إلى الحدود الدنيا، وينتقل من حالة "الفعل والتفعيل" ـ الحالة الطبيعية للعقل ـ إلى حالة "الإفتعال" وهي الحالة المرضية للعقل والتي تصيبه من خلال حقنه بالمصل الديني المقدس، الذي يسخر العقل ويوجهه طبقاً لمشيئته وخططه مع الإيحاء للعقل بأنه يعيش حالته الطبيعية،بينما يكون العقل في الحقيقة في حالة "إفتعال مطلق". وبذلك يتحول العقل الديني إلى "عقل إفتعالي" وظيفته الرئيسية هي تنفيذ الأوامر والإشارات الدينية بشكل آلوي بإمتياز.

ولكي يستمر خضوع العقل للمقدس، يقوم هذا الأخير بحقن العقل بأمصال متواصلة ومستمرة من الأنزيم الديني، من خلال وسائطه المتعددة والفعّالة،أهمها المساجد والمدارس والجامعات الدينية والحركات الدينية المختلفة التي لم تكتفِ بتسخير وسائطها الخاصة كدور العبادة والأماكن المقدسة لدفع الناس إلى التمسك بالدين، بل وتسخر ودون حرج وبشكل فعال وسائط ومخترعات الحضارة البشرية كالتكنولوجيا الحديثة من إنترنيت وأقنية تلفزيونية فضائية لنشر دعواتها ـ وكأن الله بات بحاجة لإبتكارات العقل البشري في فرض أديانه ـ مما يجعل العقل لا يتغاضى فقط عن عيوب وعورات وتناقضات النص المقدس، وإنما يسخره أيضاً للقيام بكل ما من شأنه ستر وترقيع هذه العيوب والعورات وتجميلها وإظهارها بمظهر الإجلال والتقديس،وتحميله على قبول تناقضاته والسكوت عنها. فعدم قدرة "العقل الإفتعالي" مثلاً على التمييز بين هذه المتناقضات المختلفة في النص الديني والتي تعيق حركتة في التطور والنمو هو أحد تجليات هذه الظاهرة ، وذلك حين نرى أن "العقل الإفتعالي" وأعني به العقل المسلم هنا تحديداً،يضيع أقصى جهوده في مواءمة هذه المتناقضات المتنافرة في عمل عبثى لاطائل منه ،جاعلاً من نفسه مسوداً وتابعاً مطيعاً راضياً بعبوديته لهذا النص وخاضعاً له، لأنه مقدس، أي أن العقل الإفتعالي مسخّر لهذا النص كمجرد آلية يقوم بتفيذ مايملي عليه النص المقدس،بالإضافة إلى ذلك، يتطوع العقل الإفتعالي ليس فقط القيام بمحاولة إيجاد حلول للإشكالات الكثيرة والمعضلات العويصة الموجودة داخل هذا النص مع سبق الإصرار على عدم الخروج من دائرة هذا النص وعدم التناقض معه، وإنما أيضاً البحث في هذا النص وإيضاح قوانينه وأحكامه الشرعية ومنهجتها لتسيير نهج الحياة وفق هذه المنهجية. كما أوكل القرآن "العقل الإفتعالي" بعملية تقصي دائم لإستنباط الحلول للمستجدات التي لم يتطرق إليها القرآن أو السنة بحيث إنها توائم النص القرآني والأحاديث المحمدية ولاتتعارض معهما، وتسمى هذه العمليات الإستنباطية التي تلجأ إلى التاويل والتفسير والإجتهاد بالفقه الديني، الذي يتطلب كما يبدو الإلمام بكامل العلوم الدينية واللغوية والتاريخية.

ومن المهم هنا وقبل مواصلة الحديث عن مفهوم التأريض الديني الإشارة إلى بعض تجليات العقل المسلم في حالته اللاطبيعية، أي حالة "العقل الإفتعالي" وذلك لرسوخ علاقة غير سوية بين الدين والعقل،أفرزت بالتالي ظواهر غير سوية تطبَّع بها العقل المسلم،ومن هذه الظواهر:

ـ "عدم القدرة على الفعل"،الذي بعتبر من أولى تجليات العقل الإفتعالي. ومما يدل على ذلك، أن ممارسته للفعل يتم غالباً على أساس "رد الفعل". أي أنه يقتصر في نشاطه على النظر والتفرج على مايفعله وماينتجه الآخرون من فن وفكر وعلوم مختلفة وكل جديد ،وينأى بنفسه عن المساهمة في عمليات الخلق والإبداع والإبتكار. ومما يؤكد هذا كثرة إستخدام مصطلح "رد الفعل" المقترن بمصطلح "العقل" وندرة إستخدام مصطلح "الفعل" في كتابات المفكرين المسلمين المختلفة. وكنيجة طبيعية لذلك فإن العقل الإفتعالي لايمكن أن يرقى إلى أكثر من عقل مقلد في أفضل حالاته، ولذلك فإن إنتشار التخلف والجهل والأمية وتركز بؤر التوتر بصورة رئيسية في الدول والمجتمعات الإسلامية ليس من قبيل الصدفة، وإنما هو نتيجة طبيعية لهذه اللامبالاة بالمساهمة في الحضارة الإنسانية المعاصرة،الناتج عن التعلق المريض بالحضارة الإسلامية الغابرة.

ـ ثاني تجليات "العقل الإفتعالي" هي ظاهرة الإدعاء الخرافي بأن كل شيء جميل وجيد في هذا العالم إنما هو مأخوذ أو موجود في "القرآن العربي" يقيناً، حتى إن أغلبية الفقهاء والمفكرين المسلمين يصرون بشدة أن مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والعدالة الإجتماعية لاتتناقض مع الإسلام،بل يذهب بعضهم إلى أكثر من هذا ويدعي بأن تلك القيم والمبادئ إنما هي جوهر الإسلام الحقيقي.

ـ ومن تجليات "القعل الإفتعالي" ظاهرة الإستلافية و الإسترجاعية،فالإستلافية تعني الإنبهار المريض بالسلف الصالح وإعتباره القدوة والمثل الأعلى، والإسترجاعية هي العمل بالعودة بالإسلام والمسلمين إلى تلك الفترة الذهبية في الإسلام، في عصر الخلفاء الراشدين،والأمويين والعباسيين.وبفعل هذا الإنبهار المريض تختفي أو تحجم كل سلبيات تلل الفترة.ومن الطبيعي أن يتم إستبعاد إي تفاعل إيجابي مع الفكر لإنساني الحر في ظل التمسك بالفكر السلفي. الذي ينفر من الفكر الآخر ويعتبره فكراً إنسانياً منحلاً منحطاً إباحياً إلحادياً كافراً فاسداً... لايمكن أن يرقى في أرفع درجاته إلى أدنى عتبات الفيض الإلهي الذي ضمَّنه الله "القرآنَ العربي".

ـ ومن إحدي تجليات "العقل الإفتعالي" إفتعاله لإنتاج فكري وثقافي ضخم، وذلك من خلال القيام بعمليات إجترار فكري متواصلة ومستمرة لاتتوقف للمادة القديمة التي تسمى بالتراث، وكأن كل شيء في هذا العالم وفي هذه الحياة كامن في هذا التراث، وذلك كنوع من التغطية على قصوره وعقمه الفكري، والإجترار هذا ماهو في حقيقته سوى عملية إيهام لخداع ذاتي لإشباع نزعته الأنانية الفاقدة القدرة على الخلق والإبداع، ويمكن تشبيه هذا الإنتاج أو الإجترار الفكري إلى حد كبير بظاهرة "التضخم المالي" التي تصيب الإقتصاديات المريضة.

ـ ومن ظواهر "العقل الإفتعالي" السطحية في التفكير والتعميمم في الأحكام والمبالغة والسذاجة والتحيز الكلي إلى الذات وتعليق أسباب تأخره ومشاكله بالآخر، وعدم قدرته على رؤية قبائحه ونقائصه وعوراته والتحسس المفرط من نقد الآخر له.



وإحدى مهام التأريض الديني هو مصارحة "العقل الإفتعالي" ومكاشفته بعلله وبحالته اللاطبيعية، وخضوعه الخالص للنص المقدس.لخلق قابلية تقبله لنقد المقدس، وتخلصه من فكرة أن لاشئ فوق المقدس. وبالتالي دفعه للتفاعل والمساهمة في تأريض الدين، الذي يسعى إلى تعرية المقدس وبيان عدم وجود أي إرتباط للدين بالسماء أو بالإله من خلال بيان أن الطبيعة الإنسانية بكل تناقضاتها هي التي أسست النص الديني الذي هو القرآن هنا ،وأن الله في الحالة الإسلامية ما هو إلا تصور إنساني محض خاص إنبثق من بيئة إجتماعية معينة لها عاداتها وثقافتها الخاصة بها، جعلت للإله الذي هو الله هنا صفات ومواصفات وتصورات ورؤى وأحكام منسجمة مع هذه البيئة و مسايرة لمكونات تلك الثقافة مع احداث طفرة نوعية متقدمة لكن جذورها راسخة ومتأصلة في أرضية تلك البيئة العامة التي تولّد فيها.

وبعبارة أخرى يمكن القول بأن التأريض الديني هو تشخيص مباشر للنص الديني لا إلتفاف وإلتواء فيه ولامراء ولامراعاة فيه لأية مشاعر دينية، ليس بقصد الإيذاء أو الإيلام أو إنتهاك حقوق زيد أو عبيد من الناس ،وإنما توخياً للوصول إلى الحق والحقيقة. ويبدو أنه لامفر من الإساءة إلى مشاعر المسلمين عند تشخيص النص القرآني، ولكن هذه الإساءة تشبه الإساءة التي يشعر بها الرجل المسلم عندما تتعرض زوجته المسلمة للكشف والتشخيص عند طبيب النسائية وتضطر لإظهار عوراتها أمامه، فمن الحماقة في هذه الحالة أن نعتبر أن الطبيب يسيئ إلى مشاعر الرجل المسلم أو المرأة المسلمة؟ إن إمتناع الكثير من النسوة عن التشخيص الكامل يعرضها للأصابة أحياناً لأمراض خطيرة ومميتة أحياناً كسرطان الثدي. وعندما أضطر أنا إلى تشخيص مباشر للنص القرآني فلست أبغي بذلك الإساءة إلى مشاعر المسلمين، تماماً مثل الطبيب الذي لايقصد الإساءة إلى المرأة أو إلى زوجها عندما يقوم بالكشف عن عوراتها وتشخيص مرضها. ولايخفى أن معظم المهتمين بالشأن الديني يتجنبون التطرق إلى ما قد يسيئ إلى مشاعر المسلمين، مثلهم في ذلك كمثل الطبيب الذي يقوم بتشخيص مريضته عن بعد، فكما أن هذا الطبيب سوف لن يقدر أن يصف الدواء المناسب لمريضته لأنه لم يتمكن من التشخيص الكامل، فكذلك المفكرون المسلمون سوف لن يحققوا أهدافهم المرجوة لأنهم يمتنعون عن التعرض لما يسمونه بالقداسة في النص الديني بشكل مباشر، بحجة عدم الإساءة إلى مشاعر جموع المسلمين أو إلى مشاعرهم أيضاً، لكني أجد أننا إذا أردنا فعلاً وصف علاج مناسب للظواهر المرضية في المجتمعات الإسلامية فلابد من تشخيص حقيقي للنص القرآني الذي يشكل الإساس الوجودي لهذه المجتمعات، ولايمكن أن يتم هذا التشخيص ما لم يتم الكشف عن عورات هذا النص، كما يجب أن نعلم جيداً أننا نسبب إساءة بالغة للعقل عندما نمتنع عما يمليه العقل والمنطق، ولاتقل هذه الإساءة للعقل عن تلك الإساءة للمشاعر، بل شتان ما بين الإساءة للعقل والإساءة للمشاعر، فالإساءة للعقل إهانة لجوهر الإنسان وحقيقته ووجوده، قد تصيب الإنسان في مقتل،لأنها تبقي العقل في مستويات مستديمة من الإنحطاط والتخلف الفكري ، كما هو حال المسلمين اليوم، بينما الإساءة للمشاعر لا تعدوا كونها أكثر من التعرض لدخيلات خارجية سطحية مكتسبة إكتسبت أهميتها بقدمها وتعوُّدْ الإنسان عليها، وتأثيرها مؤقت يمكن أن يزول بسرعة ، بينما الإساءة للعقل بخداعه وإبعاده عن قضايا مصيرية للإنسان من المفروض أن يكون العقل أول من يتعرض لها كونها تخصه هو قبل أي أحد آخر، يعتبر جريمة كبرى بحقه وبحق الإنسان وبالتالي بحق الإنسانية جمعاء، لأن هذه الإساءة البالغة للعقل لاتتوقف في حدود الإنسان صاحب هذا العقل، بل تتعداه في نتائجها إلى الإنسان الآخر أيضاً. ويجب في جميع الأحوال آجلاً أو عاجلاً أن نسلم ونعترف بحقيقة يتجاهلها معظم المفكرين المسلمين وهي إساءة الدين للعقل.وبمقارنة بسيطة جداً بين مفهومي إساءة العقل إلى الدين وإساءة الدين إلى العقل في الوسط الإسلامي، ندرك بسهولة مدى السطوة والشدة التي يتحكم فيها الدين بالعقل.

ومن هنا حقَّ علينا أن نبدأ نحن كمسلمين بمراجعة شاملة لجميع المفاهيم والقيم المترسخة في العقل المسلم، وبدون تناول المكون الأساسي وهو النص القرآني المصدر الرئيس لمفاهيمنا وقيمنا وعاداتنا وأعرافنا، ويبدو أنه لايمكننا التعرض لهذا النص ومراجعته وتشخيصه وإنتقاده إلا إذا أزلنا منه قداسته أولاً، ومن ثم التعامل معه كتعاملنا مع أي نص اسطوري أو فلسفي أو فكري أو قانوني. مما يهيء العقل لإمكانية التنصل من إلتزاماته الواهية تجاه النص الإلهي المزعوم، وتحريره من الشروط والقيود والحدود التي وضعتها له هذا النص، والإعتراف له بحق تقرير مصيره بنفسه، وفتح المجال المعرفي الكلي دون حدود أمامه. وبنفس الوقت ترك قناة الإتصال بالدين بعد تأريضه مفتوحة لإشباع وإرواء الظمأ الروحي عند الإنسان المسلم.أما إذا إمتنعنا أو أمتنعنا عن نزع القداسة عن النص الديني لمعاينته، بحجة الإساءة لمشاعرنا الدينية المقدسة، فكأنما نقلد ذلك الرجل الجاهل الذي يترك إمرأته المريضة لتموت من أن يكشف عليها الطبيب بحجة أن إطلاع الطبيب على عورات زوجته يسيئ إلى مشاعره الذكورية. فالتأريض الديني يعتبر أنَّ العقل هو الأساس بإعتباره جوهر الإنسان، وبدون هذا العقل فإن الإنسان لايختلف عن غيره من الكائنات الأخرى ،وبالتالي فهو مقدم على أية إعتبارات قيمية أخرى لم يختبرها العقل المفكر المجرد من أية ميول، سوى الميل إلى معرفة الحقيقة والمعتمد على قوانين صارمة في الحياد الفكري وعدم التحيز. وأكثر ما يلحق الضرر بالعقل هي المسلمات التي تفرض عليه فرضاً بالإكراه منذ نشوئه، ويعتبر الدين بما يحمله من مفاهيم وإملاءات أولى هذه المسلمات.

فالتأريض الديني إذن ليس إلغاءً كلياً للدين وإنما إقصاءً لقداسته المطلقة التي تشكل عبئاً ثقيلاً على العقل وعائقاً صعباً أمام أداء واجبه الذي خلق من أجله وهو التفكير وإدارة شؤونه بنفسه دون وصي سماوي مقدس عليه. أي أن تحرير "العقل المستسلم" من سطوة الدين وتعسفه وتقديمه عليه إحدى النتائج التي يسعى التأريض الديني لتحقيقها. فبدلاً من أن يكون العقل مجرد أداة مسخرة للدين يصبح الدين هنا مسخراً للعقل يأخذ منه مايجده مناسباً ويترك ما لايجده مناسباً أو عائقاً أمام مسيرته الحياتية. ولا سيما حين يتحول الدين من قوة دفع لتطور الإنسان ورقيه وتحقيق السعادة له، وهي الغاية التي على اساسها قام الدين، إلى قوة جذب وربط لإعائقة تطوره ورقيه وإبقائه في حالة من السبات الدائم.

إن عملية فتح أقنية المعرفة الإنسانية على الوعاء الديني، ينتج عنه بالضرورة تغيير مضمون الوعاء الديني، وبتعبير آخر،إن تطبيق تجربه الأواني المستطرقة بين الدين والمعرفة تطبيقاً فعلياً يؤدي بالضرورة إلى تأريض الدين، أي إرجاع الدين إلى وظيفته الأساسية والوحيدة التي تقتصر على تلبية حاجة الإنسان الروحية، ومحاولة إقصائه عن شؤون الإنسان الأخرى التي هي من إختصاص العقل وحده، فالدين إذاً بمفهومه الأساسي يجب أن لايتعدى كونه مجرد أداة أو واسطة أو بوصلة تشير إلى وجود صانع ومدبر لهذا الكون العظيم. والتأريض الديني يسعى إلى تجريد الدين من السلطات الغير شرعية التي يحكم الناس بها، وبها يفرض نفسه عليهم. ومفهوم النبي أو الرسول يجب أن لايتعدى كونه ليس أكثر من شخص يقف على صخرة عالية يشير بيده إلى السماء ويصرخ أن هناك ثمة إله. إلا أن ما يحدث أن النبي وحين يجد أن الناس اجتمعوا حوله يبدون له آيات الولاء والخضوع، يذهب به الأمر إلى تقرير مصائر الناس وطريقة عيشهم. وقد يكون محقاً في ذلك نسبياً، لكن العلة الكبرى عنده أنه يعتقد أنه من حقه أن يتكلم باسم الإله، ولايدري أنه بذلك يرتكب إثماً عظيماً بحق الناس لأنه بذلك يضفي "المطلق" على "النسبي" الذي يقوله. وهنا الخطأ القاتل في الأديان، لأن المطلق غير مدرك إنسانياً، وإعتماد البشر على هذه المعادلة الخاطئة والمختلة في تسيير شؤون حياتهم، يؤدي إلى حدوث إضطراب وإختلال في الموازين والقيم التي يتمسكون بها، مما يؤثر سلباً في النهاية على حياتهم. أما التطور الذي يحدث أحياناً نتيجة الدعوات الدينية، كالتطور الذي حققته الدعوة المحمدية، فلايقوم إطلاقاًعلى المعادلة: (المطلق = النسبي) وإنما يقوم على المكتسبات المادية التي يتم تحقيقها نتيجة التدافع بين البشر والصراع على المصالح المادية، وفيما يخص الدعوة المحمدية فإن جوهر نجاحها يكمن في الغزوات التي كانت تدر ذهباً وفضةً ونساءً على أفراد عصبة محمد، الذين كان أغلبهم من الفقراء المعدومين، سواءً قتلوا أم قُتِلوا، فإن قتلوا سلبوا أملاك المقتول وعائلته كلها، وإن قتلوا نالوا الجنة وأثنين وسبعين حورية، وهذا يسري بالتمام والكمال على الغزوات الخارجية أيضاً، وإغراء محمد أصحابه بحوريات الجنة وعسلها ولبنها والقصور المنيفة فيها، كان لايقل إغراء محمد لهم بالسبايا وبنات الأصفر وقصور الروم وإيوان كسرى. فسرُّ النجاح في توسع الإسلام كانت القيمة المادية التي كان ينالها المسلم سواءً قتل أم لم يقتل، بدليل أنه بعد التشبع المادي والجنسي للعرب المسلمين بحصولهم على السلطة والجاه والمال والقصور والجواري والغلمان، بدأ الإسلام بالتقهقر إلى الوراء عندما صار عنده الوقت لتلبس المقدس وإعتماد المعادلة المختلة أن المطلق يساوي النسبي، وعندما نقوم بتأريض الدين فأننا ننزع "المطلق" عن "النسبي" وبذلك نزيل الخلل من المعادلة المختلة فتصبح: "النسبي" = "النسبي" . فالتأريض الديني لايبغي إلغاء الدين ، وإنما إلغاء "المطلق" في الدين. وهذا يؤدي بنا بالتالي للفصل بين الإيمان والدين، وإنزال الدين من بساط الإيمان الذي في السماء إلى الأرض حيث منبته الأصلي التي نشأ وكبر فيه. فالإيمان بالله شيءٌ كونيٌ يخصّ البشرَّيةَ كلَّها، ولايحتاج الإنسان إلى نبي أو رسول أو مرشد ليؤمن بأن ثمة خالق له وللكون، فالإيمان ليس حكراً لمجموعة من الناس دون غيرها، بعكس الدين الذي يخص مجموعة بشرية بعينها. والإيمان شعور أو إيحاء روحي مصدره الفطرة الإنسانية الخالصة التي لاتحتاج إلى وساطة الأنبياء، فكل شيء من حول الإنسان يدفعه إلى أن يعتقد أن ثمة إله لهذا الكون، بينما الدين وسيلة إتصال أو بوصلة من إنتاج بشري محض تشير إلى مصدر الإيمان، وينتحل إجحافاً صفة "المطلق" الإلهية، والإيمان بهذا المعنى لايتشاكل مطلقاً مع العقل، والعلاقة بينهما ليست تناحرية وتصادمية بل ودية وسلمية ، بعكس العلاقة بين الدين والعقل، اللذان يمارسان عملية شد الحبل بينهما بشكل دائم.أي منشغلان بالصراع على قيادة الإنسان وتوجيهه، هذا الصراع الذي يكلف الإنسان الكثير. هنا يأتي التأريض الديني لينتشل الإنسان من هذ الصراع العبثي ، ليفتح أمام عقله آفاقاً ممتدة وأبعاداً جديدة تتيح له إمكانية التخلي عن المعادلة المختلة، ومن ثم إتاحة الفرصة للعقل للتفرد في تقرير مصيره بنفسه، بدلاً أن يقرر مصيره أنبياء ورسل أموات ألتهم الدود جيفاتهم، تماماً مثلما التهمت جيفات القدسين والملحدين والعاهرات.

والتأريض الديني ليس خروجاً على الدين أوتمرداً عليه، بل هو نسف لـ "إطلاقيات" الدين "المطلق" وتحرير للعقل من سطوته الإستبداية المطلقة،وتمكين العقل من إتخاذ القرارات من موقع الشعور بالمسؤلية، ليصبح هو صاحب القرار، ويمسك هو بزمام الإمور ويصبح هو القائد للدين وليس العكس.

إن أكثر ما يحَّجِر العقل المسلم هو إعتقاده بالمفاهيم والتعاليم الدينية الإسلامية على إطلاقها، دون البحث والتقصي عن الخلفيات والأسس التي نشأت عليها هذه المفاهيم والإملاءات المقدسة، والإعتقاد الأعمى والمطلق للعقل بهذه المطلقات المقدسة، يجعله يتقبل كل مايصدر ويتفرع عن هذه التعاليم والمفاهيم والمصطلحات ذات اللبوس المقدس. فأحد أكبر سلبيات "العقل المسلم" هو تسليم مصيره كلياً وفي كل شيء إلى نص يعتبره مطلقاً غير خاضع أومرتبط لا بالزمان ولا بالمكان، أي لانسبية فيه ، أي أن ما أتى به "الرسول العربي" ـ الذي نصب نفسه كسيد للخلق ـ خلال فترة دعوته من شرائع وقوانين وسنن، هي صالحة للزمن على إمتداده اللانهائي، وبالتالي فإنها شريعة مطلقة ترفض أية نسبية، وتعتبر نفسها على أنها المثل الأعلى، وعلى المسلمين العمل والسعي لتطبيقها في كل الأزمنة والأمكنة. أي أن لانسبية مطلقاً في هذه الشريعة. وتعتبر نفسها أنها أحاطت بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة ، فلا يمكن أن يكون قد حدث للإنسان شيء في الماضي ولايمكن أن يعترض الإنسان شيء في الحاضر ولا يحدث للإنسان شيء في المستقبل إلا ولكل شيء من ذلك حكم في الشريعة الإسلامية "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء". وكذلك أحاديث "النبي الأمي" كقوله "تركتكم على محجّة[1] بيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك."".. وهذا مخالف لطبيعة الحياة والعالم والكون القائم أصلا على مبدأ النسبية. إن سيرورة الحياة تفرض تغييراً مستمراً لنظام حياتنا، شئنا ذلك أم أبينا فالقانون الطبيعي للحياة هو الأقوى في النهاية وبالتالي هو المنتصر سواءً أردنا ذلك أم لم نرد، وسنة الحياة الإنسانية أثبتت وتثبت لنا دائماً أن لاشيء يمكن أن يوقف ذلك. ونحن كمسلمون جرَّدَنا ديننا الإسلامي من كل حق في إختيار غير الإسلام وشريعته، وفرض علينا أن نكون خاضعين لهذه الشريعة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وكل مسلم يخرج عن هذه الشريعة فهو مرتد مطلوب حياً أو ميتاً ،لا يتمتع بحق البقاء حياًعلى أرض الله الواسعة، إن حصر الزمن كله في هذه الشريعة التي إستغرق صدورها حوالي عقدين، هو كمحاولة جمع ما في البحار والمحيطات من مياه ووضعها في بحيرة صغيرة ومغلقة، ولما عجزت هذه الشريعة عن إيجاد المخارج والحلول لصيرورة الحياة إضطر المسلمون إلى إلإلتفاف حول القرآن بما يسمى التأويل أو التأويل الإجتهادي والتعدي على الأحاديث المحمدية بنحل الأحاديث المحمدية أي اللجوء إلى تأليف الأحاديث ونسبها لمحمد[2]، كذلك اللجوء إلى سلاح فقه اللغة في التفسير والتأويل في محاولة للتخلص ماأمكن من الحدود الضيقة التي وضعها وحددها النص القرآني، وكل ذلك يعتبر في حكم التحايل على هذا النص القرآني البسيط والسهل والمبين والواضح تمام الوضوح كما أكد القرآن نفسه على ذلك مرات عديدة[3]، ثم إذا كان أدعياء الفقه والتأويل يعتقدون بغموض هذا القرآن في الكثير من آياته، فإن ذلك يشكل طعناً في القرآن من حيث لايشعرون، فكيف أن الله القادر على كل شيء عجز عن تأليف كتاب واحد واضح ومبين؟. ثم لماذا ينزل الله آيات غامضة يختلف خلقه في تأويلها وتفسيرها لِيُسبب هذا الإختلاف إنشقاقات حادة بين المسلمين أدت إلى سفك دماء عشرات الآلاف بسبب الإختلاف في التأويل على آية أو آيتين فيما بينهم، وتكفير وتحليل دماء بعضهم البعض.

الحقيقة هي أن هذا "القرآن المبين" نص مبين وواضح تمام الوضوح خاصة بعد أن أخذ أصحاب الرسول الأعظم و"المشرع الكبير" التفسير مباشرة من رسولهم وقائدهم وأورثوه للتابعين، أما اللجوء إلى الفقه والتأويل والإجتهاد فيما بعد فيعود لأسباب عديدة أهمها:

السبب الأول: هو أن التطور الطبيعي للحياة وما يجلبه هذا التطور من مستجدات ومستحدثات تَطََلَّبَ أحكاماً جديدة لم يأتي بها القرآن ولا السنة، فاضطر المسلمون إلى تأويل الآيات القرآنية لتناسب وتوافق الأمور المستجدة في حياتهم والتي غفل عنها القرآن ، أي أن القرآن لم ينزل وفيه تبياناً لكل شيءٍ كما زعم، كما أن ظاهرة نحل الحديث المحمدي يدل على أن المسلمين لم يجدو في القرآن والسنة حلولاً لمستجدات حياتهم ومشاكلهم. كما أن إبتداع علم القياس والإجماع يؤكد على أن القرآن والحديث لم يأتيا بكل شيء، ولو أن القياس والإجماع اعتبرا خيراً من التأويل، لكن ذلك لم ينفِ أن القرآن لم ينزل إلا وفيه تبياناً لكل شيء.

السبب الثاني: تطور علوم اللغة العربية كالفقه والقواعد والنحو مع سيبويه[4] والفراهيدي[5] وغيرهما في القرن الثاني الهجري. أدى إلى تشجيع التأويل والإنحراف عن بعض ما جاء في تفسير الصحابة والتابعين.

السبب الثالث: ظهور المذاهب الإسلامية بصورة جليّة مع بدايات منتصف القرن الثاني للهجرة، ساهم إلى حد كبير في إنتشار الفقه والتأويل والإجتهاد.

السبب الرابع: هو الضيق الذي شعر به المسلمون من النص القرآني، الذي لم يعد يجدوا فيه ولافي تفسير الصحابة والتابعين كل مايحتاجونه في حياتهم الجديدة الرغيدة ، فبعد الإستقرار النسبي للدولة العباسية وحدوث حالة الإشباع المادية، وبدء التفعيل الإسلامي الأجنبي ـ أي الموالي ـ في الشأن الإسلامي مع إندماج الجيل الثاني والثالث من الشعوب الأجنبية التي أدخلت في الإسلام في الدولة العباسية وإتقانهم للغة العربية وظهور الفلاسفة والشعراء والفقهاء والإئمة الكبار من بينهم، كان لابد من أن يكون له أثرٌ كبير في توجيه الدفة الإسلامية نتيجة لخلفيتهم الحضارية التي كانوا يتميزون بها عن العرب. وباب العلم الديني كان أحد الأبواب لإدخال بعض التعديل على الحياة العربية الصحراوية الخشنة والمتقشفة، ومما ساعد على تفشي ظاهرة فقه التأويل وقبول العرب المسلمون لها، بل والمساهمة بقوة فيها تلك الأموال الطائلة التي تدفقت على العرب من جراء الإتاوات والجزية والخراج وغيرها ، فبنيت القصور والديار الفارهة والحدائق التي استلزمت الخدم والجواري والمغنين والمغنيات. وبالتالي كان لابد أن يكون لكل ذلك أثر في تفسير وتأويل الآيات القرآنية بما يخدم ويلائم الوضع الجديد للمسلمين،بعكس الجو الغزوي القتالي الذي ولَّد هذه الآيات. ويمكن تلخيص أسباب ظهور وتطور العلم الديني من فقه وتأويل وغيره، كلها في تغير إحداثيتي الزمان والمكان للنص القرآني.

كان من الطبيعي أن يختلف أهل العلم الديني في تآويلهم وتفاسيرهم الدينية وبالتالي كان لابد من وجود خلافات وإختلافات فيما بينهم، وهذا مما ساعد على ظهور إنقسامات في المجتمع المسلم وظهور المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة، التي ساهمت في القفز فوق المعادلة المختلة (المطلق = النسبي) وإختراق الحصار الديني الضيق الذي لايطيقه العقل بطبيعته المنفتحة والممتدة إلى اللانهاية، على عكس الدين المحنط والمحدد بأطر ثابتة مقدسة، والخروج عنها أو تجاوزها خروج عن الدين من الوجهة الدينية، وفي حقيقة الأمر إن تعدد المذاهب والمِلَل والنِّحل الإسلامية هو خروج عن تلك الأطر الدينية، لكنها ليست خروجاً عن الدين إلا في حدود، تفاوتت بإختلاف المكان والزمان لتلك المذاهب،أي أن المذاهب الدينية المبتكرة هي في جانب كبير منها محاولة مقَنَّعة لإخضاع الدين إلى نسبية الزمان والمكان المعاشين آنذاك، أي إدخال نوع من التعديل على المطلق الديني ليتناسب مع الظرف الجديد بكل أبعاده، وبعبارة أخرى فإن ظهور المذاهب والطرق المختلفة في الإسلام بقوة ـ مع بداية إنهيار الدولة الأموية ذات المظهر الإسلامي والمضمون العربي القبلي الجاهلي، ونشوء الدولة العباسية التي خلقت جواً من التفاعل الحضاري فيما بين الشعوب الإسلامية،بإلغاء الكثير من الإمتيازات العنصرية للعرب ـ كانت نتيجة حاجة ماسة للتخلص من الآثار الجانبية الضارة التي سببها الدين ، ولكن مشكلة هذه المذاهب أنها لم تإتي بجديد، فهي ليست سوى إعادة خلطة لنفس المواد ربما فقط بنسب متفاوتة للتخفيف ما أمكن من الآثار الجانبية الضارة للدين ،ولما كانت هذه المِلًل والنحل تختلف فيما بينها زمنياً ومكانياً، فإنها لم تستوعب آنذاك التغيرات أو الظروف التي أدت إلى ظهورها كنتيجة حتمية نسبية، وفي واقع الأمر كان ظهور هذه المذاهب رحمة ونعمة للمسلمين وفتحت أمام المسلم عدة خيارات بدلاً من خيار واحد وقد يبدو هذا قاسياً للمتعصبين دينياً.إلا أن تسييس هذه المذاهب والفرق الإسلامية وإستغلالها من قبل الخلفاء والولاة، حولها من نعمة إلى نقمة على المسلمين، فلجأت هذ المذاهب إلى تكفير بعضها البعض لإثبات كل واحدة من هذه الملل أنها هي على الحق والأصل وغيرها ليست كذلك، لإضفاء شرعية دينية على الخليفة يليها بالضرورة شرعية سياسية. وقد فات أتباع هذه المذاهب والملل أنها بتسيسها وتكفيرها لبعضها البعض أحياناً، قد ابتعدت قليلاً أو كثيراًعن الدين، خاصة أنه لايمكن إلا أن تكون سوى ملة واحدة فقط تمثل الدين الأصلي، وهي الفرقة الناجية التي أشار إليها "صاحب الرسالة" في بعض الأحاديث المنسوبة إليه، لكن في حقيقة الأمر فإن كل ملة من هذه الملل قد خرجت عن الدين في أمر أو أمور كثيرة بعد تسيسها وصارت هي نفسها بحاجة إلى إزالة آثارها الجانبية الضارة، وبذلك ظهرت فرق وتيارات دينية أخرى وما تزال تظهر إلى الآن.

أما في الوقت الحاضر فلا يوجد مذهب إسلامي واحد يماثل ويطابق الدين بالإصل، لإستحالة صد أو وقف حركة الزمن والبقاء في زمن محدد ومكان محدد من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإنحراف الضئيل عن الدين الذي أصاب المذاهب المختلفة في البداية، لم يلبث أن تحول إلى إنحراف كبير رويداً رويداً بفعل "الزمن الحيوي" ـ الذي يمثل الفترة الحركية والتغييرية في حياة الأمم والشعوب والتي ظهرت فيه المذاهب الأساسية في الإسلام ـ وفقاً لقانون المذهب الطبيعي للحياة ، الذي لامرد له لأنه جزء من النظام الكوني. أما إدعاء الحركات الإسلامية الاصولية بأنها الفرقة الناجية وإنها تمثل الإسلام الأصولي، فهو مجرد محاولة بائسة ناتجة عن حالة إحباطية حادة عند بعض المسلمين لتأصيل الإسلام والمسلمين، أي العودة بالإسلام والمسلمين إلى أوائل القرن الأول الهجري، وهي محاولة عبثية لاطائل منها، لأنها مخالفة لقانون الطبيعة والحياة، وتجربة الخميني في إيران وطالبان في أفغانستان واللذان يمثلان المذهبين الرئيسيين في الإسلام، دليلان صارخان على ذلك، بدليل أن أكبر نسبة مدمنين على المخدرات في العالم اليوم هي في إيران، والتعليمات الصارمة التي فرضها الخميني على الإيرانيين والتي هي تعليمات إسلامية محضة،لم تلق تجاوباً حسناً ، وسرعان ما أبدى الإيرانيون تململهم وتذمرهم منها، مما دفع بالكثيرين إلى تعاطي المخدرات كمخرج من الحياة الجديدة التي فرضت عليهم. أما في أفغانستان فكلنا شاهدنا كيف أن معظم الأفغانيين طبَّلوا ورقصوا على هدير مدافع وطائرات الغرب الأمريكي المسيحي الذي خلَّصهم من الأصوليين الطالبانيين. أما المذهب الوهابي الممثل الأصدق للاصولية الإسلامية والأقرب إلى نهج "النبي العربي" فيشكل المنبع الأساسي للحركات الإسلامية الأصولية التي تنعت إما جهلاً أوإجحافاً بالتطرف، إذا كان المقصود بتطرفها بعدها أو إنحرافها عن الإسلام. ومن الأصح أن ينعت الإسلام المعتدل والليبرالي بالتطرف لأنهما أكثر بعداً وإنحرافاً عن جوهر وروح الإسلام.

وأنا هنا لا أزعم حصر أسباب نشأة المذاهب الإسلامية المختلفة في نسبية الزمان والمكان، فثمة أسباب أخرى بالتأكيد، لكن كل هذه الأسباب هي نتيجة مباشرة للتعسف والإضطهاد الديني الذي يمارسه الدين المحنط على العقل الحي والمتغير ويحاول منعه من إختراق الحصار المفروض عليه من خلال الأطر الدينية المقدسة، لإبقائه في "الزمن المعدوم". إن إظهار هذه النسبية الزمانية والمكانية في الدين والإقرار بها وإستيعابها هي إحدى مهام التأريض الديني الذي هو خروج عن الدين وليس خروجاً على الدين. أو لنقل أنه محاولة صريحة غير ملتوية لعقلنة الدين، وبعبارة أخرى يمكننا تلخيص نظرية التأريض الديني بأنها عملية تصالح بين الدين والعقل، والتي تؤدي إلى إنهاء الصراع بينهما، للدخول في حالة سلام بين الطرفين توفر لكل منهما دوراً إيجابياً في دفع الإنسان قدماً إلى الأمام، ويكون دورهما مكملان لبعضهما البعض وليس متضادان متنافران.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] محجة:جادَّة الطريق أيْ وسطُها أو الطريق المستقيم؛ من سلك المحجّة وصل إلى غايته.المحيط.

[2] يذكر البخاري (194ـ256هـ) في مقدمة صحيحه المشهور والذي يأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن عند أهل السنة والجماعة، أنه جمع أكثر من ستمائة ألف حديث منسوب لمحمد من زهاء مائة ألف مسلم..

[3] "َكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ... وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ." الأنعام الآية 105. " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ." النحل الآية 89. "هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ." آل عمران الآية138. "قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ." الزمر الآية 28. "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ." الزخرف الآية 3. "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ." يونس 15. "الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ." الحجر الآية 1. "طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ." النمل الآية 1. "قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُون." الزمر الآية 28. "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ." فصلت 44. المُبِينُ : المتَّضِح والواضح "إِنْ هَذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ." المائدة 110. قاموس المحيط. مُبِينٌ (ب ي ن). 1."نَصْرٌ مُبِينٌ مِنَ الله" : وَاضِحٌ لاَ غُبَارَ عَلَيْهِ. 2."الكِتَابُ الْمُبِينُ" : القُرْآنُ الكَرِيمُ. معجم الوسيط.

[4] سيبويه:هو عمرو الحارثي، كان مولى الحارث بن كعب. الملقب بسيبويه أي (رائحة التفاح ) بالفارسية. إمام النحاة وأول من وضع علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز بفارس وقدم البصرة فلزم الخليل بن أحمد ففاقه وأحاط بأصول النحو وفروعه وحذق في صناعته، توفي على الأرجح 180هـ. ولم يتجاوز عمره الأربعين.

[5] الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 ـ 175هـ)أول من إهتم بعلوم اللغة العربية. انقادت إليه زعامة نحاة البصرة. تتلمذ عليه الأصمعي وسيبويه. كانت له معرفة بالموسيقى ساعدته على ابتكار علم العروض.



#زاغروس_آمدي (هاشتاغ)       Zagros__Amedie#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- سلي طفلك مع قناة طيور الجنة إليك تردد القناة الجديد على الأق ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل ...
- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - زاغروس آمدي - (2) تأريض الإسلام