أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مركز الدراسات الاشتراكية - الثورة على عالـم كريه















المزيد.....



الثورة على عالـم كريه


مركز الدراسات الاشتراكية

الحوار المتمدن-العدد: 474 - 2003 / 5 / 1 - 03:54
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    




إذا أردنا تلخيص المشروع السياسي الاشتراكي الثوري في كلمة واحدة، فإن هذه الكلمة هي:
الثورة.

فماذا نعني حين نقول إننا نستهدف الثورة؟
نعني بادئ ذي بدء أننا نرفض الأوضاع القائمة لا في مصر وحدها وإنما في العالم بأسره، ونريد تغييرها جذرياً.
ولا يحتاج المرء لبلاغة مفرطة لكي يدافع عن هذا الموقف ويبرهن على صحته. إننا نحيا في عالم كريه بحق.
في عالمنا يستحوذ ما بين 300 و400 من الأثرياء على ثروة تعادل الأجر
السنوي لنصف سكان الأرض (أي حوالي 3 بلايين إنسان).
وبينما حقق العلم والتكنولوجيا نجاحات باهرة وفتحا آفاقاً رحبة أمام الإنسانية، فإن هذا التقدم المذهل يستخدم في تعميق التفاوت داخل المجتمعات وفيما بينها، وفي ترسيخ الاستغلال والقهر. وفي حين ينفق العالم ما يزيد على مليون دولار في الدقيقة الواحدة على التسلح، يتراجع في كل مكان الإنفاق على الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم، بسبب ادعاءات الحكومات عن "ندرة الموارد"!
ولا تقتصر كارثة النظام الرأسمالي على ما يسببه من ظلم وتفاوت مرعبين، وإنما يعاني هذا النظام كذلك ـ وقد شاخ وتعفن ـ من إهدار وعدم كفاءة مزمنين يدفع ثمنهما غالبية البشر من فقراء ومستغَلين. فعلى مدى ربع القرن الأخير، يعيش العالم في كساد اقتصادي شبه دائم تتخلله فترات قصيرة من الانتعاش المصطنع.
يعني ذلك انخفاض الاستثمارات (بسبب انخفاض معدل الربح الذي يجنيه الرأسماليون من استغلالنا) وتزايد البطالة وركود الأسواق. والأسوأ أن هذا الكساد ـ على عكس ما يقوله "علم الاقتصاد البرجوازي" (!!) ـ يقترن بارتفاع رهيب في الأسعار. هكذا يجد غالبية البشر أنفسهم معتصرين بين مطرقة الكساد والبطالة وسندان الأسعار الملتهبة!
وإذا كانت أزمة الرأسمالية العالمية تعني في الغرب المتقدم معدلات مرتفعة من البطالة وتنامي جيوب الفقر المطلق واضطرار العمال للعمل أكثر مقابل أجور أقل، فإنها في العالم الثالث ـ حيث يعيش قرابة 85% من سكان العالم ـ تجعل ما يزيد على بليون شخص في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يعيشون على حافة المجاعة، بينما يموت بالفعل بضعة ملايين سنوياً تحت تأثير الفقر والجوع والمرض.
ومع تزايد التداخل بين الاقتصاد والسياسة ـ وبين رأس المال والدولة ـ فإن المنافسة بين رؤوس الأموال تتخذ شكل الصدام بين الدول.
والنتيجة الحتمية هي الحرب.
شهد القرن العشرون حربين عالميتين مدمرتين فضلاً عن عدد لا يحصى من الحروب الإقليمية والداخلية. ومع انهيار الكتلة الشرقية بفعل الثورات ضد الستالينية في أوروبا الشرقية قبل عشر سنوات، شاع القول بأننا على أعتاب عصر جديد من السلام والرخاء.
واليوم يتضح بجلاء مدى سخف هذه المقولة.
ولا يحتاج المرء لأكثر من نظرة خاطفة لجريدة الصباح لكي يتبين له أن عالمنا صار بمثابة سلخانة يتم ذبح البشر فيها على قدم وساق حفاظاً على مصالح الأقوياء والأغنياء.
الفارق فقط هو أن حروب اليوم ـ من العراق إلى البوسنة وكوسوفو إلى الشيشان وفلسطين وأفغانستان إلى العراق مرة أخرى ـ "ذكية" يتم فيها القتل بخسة غير مسبوقة!
بلغت الرأسمالية في عصرنا الدرك الأسفل من الانحطاط.
إنها تبشر بديانة الليبرالية الجديدة والسوق الحرة، وتعد معتنقي هذه الديانة بالرخاء في مستقبل بعيد سعيد لا يأتي أبداً.
وفي خضم ذلك يتواصل السعي الحثيث لتسليع كل شيء وتجريد البشر من إنسانيتهم بتحويلهم إلى حيوانات تنتج وتستهلك من أجل ربح الأسياد.
ويتواصل أيضاً القهر بأنواعه من عنصرية وسحق استعماري وطغيان سياسي واضطهاد ديني وعرقي وقهر وامتهان للمرأة وقسوة مفرطة في التعامل مع الأطفال (حرمانهم من طفولتهم وبراءتهم بتشغيلهم في ظروف قاسية، تجنيدهم في الحروب والنزاعات المسلحة، استغلالهم جنسياً، الخ.).

 

ثورة لا إصلاح
يتمثل رد الثوريين على كل ذلك في النضال من أجل تجاوز هذا النظام العفن وطرح البديل الاشتراكي:
سيطرة البشر جماعياً وديموقراطياً على موارد العالم ووسائل إنتاج السلع والخدمات، واستخدام هذه السيطرة من أجل رخاء الإنسانية وتلبية الحاجات الأساسية للبشر.
ويمثل ذلك العنصر الأول من مشروعنا الثوري.
غير أننا لا نرفض الرأسمالية ونناضل من أجل البديل الاشتراكي فحسب، لكننا نرى أيضاً أن هذا البديل لا يمكن أن يتحقق سوى عن طريق الثورة.
أي أننا نرفض ما يسمى الطريق الإصلاحي نحو الاشتراكية.
على امتداد القرن العشرين، كانت هناك تجارب عدة لأحزاب وقوى سياسية كبرى ـ في الأغلب في البلدان الرأسمالية المتقدمة ـ حاولت أو زعمت أنها تحاول الوصول للاشتراكية من خلال إصلاح النظام القائم لا الثورة عليه.
والفكرة الكامنة خلف تلك الإستراتيجية السياسية بسيطة للغاية. يرى الإصلاحيون أنه مهما كان التفاوت في القوة بين الرأسماليين والعمال لمصلحة الرأسماليين، فإن العمال لديهم سلاح مؤكد هو الأصوات الانتخابية.
فالعمال بطبيعة الحال أكثر عدداً من الرأسماليين، فإذا ما اتحدوا فيما بينهم وصوتوا لصالح الاشتراكيين الإصلاحيين في الانتخابات، فإنهم يكونوا قد أمسكوا بالسلطة السياسية، ويحدث من ثم انتقال سلس للاشتراكية على يد البرلمان الاشتراكي، دون عنف أو إراقة للدماء.
إنها فكرة جذابة بلا شك. وقد اعتنقها بالفعل الملايين من العمال على امتداد القرن، وشهد عالمنا ـ في الدول الديموقراطية ـ محاولات كثيرة لوضعها موضع التطبيق.
فلماذا رغم ذلك لازلنا اليوم بعد مائة عام من التجارب أبعد ما نكون عن الاشتراكية؟
ولماذا كان دور الحكومات الإصلاحية (أو الاشتراكية الديموقراطية، حسب التسمية الشائعة) يكاد يقتصر في كل مرة على إدارة عجلة الاقتصاد والمجتمع البرجوازي على نحو لا يختلف سوى في التفاصيل غير الجوهرية عما تفعله الأحزاب البرجوازية التقليدية؟
الإجابة السهلة على هذا السؤال تشير إلى تنكر الاشتراكيين الإصلاحيين لمبادئهم عندما يصلوا لمقاعد الحكم، وتواطؤهم مع الأغنياء والأقوياء على حساب وعودهم الانتخابية.
تتضمن هذه الإجابة بالفعل بذرة من الحقيقة.
إلا أن جوهر الأمر سياسي لا أخلاقي.
حيث يتمثل مأزق الإصلاحيين في الأغلب لا في استعدادهم الفطري لخيانة الجماهير التي أوصلتهم لمقاعد السلطة، وإنما في وضعهم الطبقي وفي طبيعة الضغوط الموضوعية التي تواجههم عندما يشرعون في تحقيق الاشتراكية من خلال البرلمان، أو بعبارة أخرى الاشتراكية من أعلى.
تخبرنا التجارب العديدة أنه ما أن يتم انتخاب برلمان اشتراكي وقيام حكومة اشتراكية تطرح برنامجاً لتغيير المجتمع بشكل عميق ـ كما حدث مثلاً في شيلي في أوائل السبعينات ـ فإن ضغوطاً هائلة تعمل على الفور على عرقلة هذا المسعى.
تأتي هذه الضغوط من جهاز الدولة البيروقراطي غير المنتخب، ومن الرأسمال المحلي والعالمي.
فكبار موظفي الدولة هم الجزء البيروقراطي من الطبقة الرأسمالية ويرفضون بالطبع أي تغيير يمس البنية الطبقية للمجتمع.
وهم بحكم نفوذهم الهائل وخبرتهم ودورهم في إمداد البرلمان بمشروعات القوانين ثم تنفيذها بعد إقرارها، يكونون في الأغلب قادرين على احتواء وتخريب التوجهات الجذرية للحكومة الاشتراكية.
كما أن الرأسمال المحلي والعالمي، وهو "جبان" كما نقول، سرعان ما يشتم رائحة السياسات التي تشكل خطراً على مصالحه ويعمل على وأدها في المهد من خلال تهريب الأموال والامتناع عن الاستثمار ومعاقبة الحكومة بتخفيض قيمة عملتها ومقاطعتها اقتصادياً.
والأرجح أن يرضخ الاشتراكيون الإصلاحيون لتلك الضغوط ويخففوا من غلوائهم إزاء ما يتعرضون له من لي ذراع من جانب الرأسمال، وذلك لأن الإصلاحيون في نهاية المطاف يمثلون قوة سياسية وسطية ترفض الثورة ولا تقبل أي مواجهة حقيقية مع الرأسمالية ودولتها (هذا بالضبط هو ما حدث مثلاً لحكومة الرئيس ميتران في فرنسا في أوائل الثمانينات).
أما إذا افترضنا جدلاً أن الحكومة الاشتراكية الوليدة كانت بالغة الصلابة والمبدئية، وأصرت رغم كافة الضغوط على المضي في الطريق الذي عاهدت الجماهير على سلوكه، فإنها حينئذ تصطدم بالجهاز القمعي للدولة الذي يعد، حتى في أعرق الديمقراطيات، الحصن الأخير للمجتمع البرجوازي.
ونحن هنا نضع أيدينا على أحد أهم نقاط القصور في الإصلاحية.
إن الإصلاحيين، بانتهازية مفرطة، يفترضون الحياد في جهاز الدولة ويتناسون أن جوهر الدولة هو العنف الطبقي المنظم ضد الجماهير.
ومن هنا فإن أي مشروع جاد لتغيير العالم يجب أن يتضمن شل هذا الغول الشرس من خلال تدمير جهاز الدولة البرجوازي، لا استخدامه لإنجاز التغيير!

 

العمال والثورة
من بين كافة فئات الجماهير المسحوقة، هناك "طبقة" من الناس (أي مجموعة لها الوضع ذاته داخل نظام وعلاقات الإنتاج) قادرة على لعب الدور الرئيسي، دور رأس الحربة، في المعركة ضد الرأسمالية. هذه الطبقة لا يمكن أن تكون سوى العمال الذين ينتجون السلع والخدمات التي نستخدمها جميعاً.
نعم هؤلاء العمال نجدهم أغلب الوقت في حالة قبول بالواقع القائم (لا حباً فيه ولكن بسبب عدم ثقتهم في قدرتهم على التغيير).
لكن هذا الأمر لا يجب أن يخفي عن أعيننا حقيقتين مهمتين:
أولاً إن العمال هم صناع الحياة بما فيها.
وإذا كان عملهم يحقق الربح للرأسماليين اليوم، فإن امتناعهم عن هذا العمل غداً يمكن أن يشل النظام الاقتصادي برمته.
إنهم إذاً يملكون السلاح الفعال الذي يمكنهم من التأثير.
وثانياً، إن ظروف عمل وحياة هؤلاء العمال تدفعهم دفعاً للنضال من أجل تحسين واقعهم.
صحيح أن أغلب هذا النضال يتخذ طابعاً اقتصادياً ضيقاً (تحسين الأجر الإضافي تارة، وتقليل ساعات العمل قليلاً تارة أخرى، الخ.)
إلا أن كل معركة يخوضها العمال تتضمن دروساً يتعلمونها. إن المعارك الطبقية هي المدرسة الحقيقية التي يتشرب فيها العمال الوعي الطبقي.
هل يمكن أن تتطور معارك العمال إلى حد الثورة الشاملة على مجمل الأوضاع القائمة؟
لا حاجة بنا لإعطاء إجابة نظرية، لأن واقع معارك العمال طوال القرن العشرين وحتى اليوم كفيل بالرد على السؤال.
يخبرنا تاريخ الطبقة العاملة مراراً وتكراراً أنه مع احتدام الصراعات الطبقية وتنامي ما يسمى بالإضراب العام أو الإضراب الجماهيري تندلع الثورات.
وفي هذه الظروف ينشئ العمال بطريقة عفوية مؤسسات ذات طابع فريد تسمى المجالس العمالية.
تبدأ هذه المجالس عادة في صورة مندوبين من مختلف لجان الإضراب في منطقة أو مدينة بعينها تحاول التنسيق بين حركة العمال عبر مواقع متعددة.
ومع تصاعد وتيرة الحركة، توجد تلك المجالس العمالية على المستوى القومي المركزي وتمثل تهديداً فريداً للسلطة البرجوازية.
فهي من جهة مؤسسات تحمل القوة الاقتصادية الجماعية الهائلة للعمال في وقت ذروة النضال.
وهي في الوقت ذاته مؤسسات سياسية بامتياز، إذ أنها تمثل مجمل الطبقة العاملة وتطرح نفسها على الصعيد العام، لا على صعيد هذا المصنع أو الموقع أو ذاك.
ما الذي تخبرنا به تجارب المجالس العمالية هذه خلال القرن العشرين؟
إنها تخبرنا بعدة أمور مهمة. أولاً:
إن قيام تلك المجالس يمثل ذروة في مستوى الصراع الطبقي في المجتمع، وهي تتخذ على الفور مظهر البديل المحتمل والتهديد الحقيقي لمراكز السلطة الطبقية في المجتمع، وهو ما يخلق ما نسميه بالـ "حالة الثورية" في المجتمع، وهي حالة تتضمن وجود المجالس كجنين لسلطة تنافس سلطة الدولة البرجوازية.
ثانياً، إن هذه الحالة الثورية ليست هي الثورة الظافرة.
الثورة الظافرة أو المنتصرة تعني انقضاض المجالس العمالية على جهاز الدولة الرأسمالي وتدميرها له وحلولها محله.
لكن وعي العمال في بدايات الحالة الثورية يظل يحمل عناصر من الماضي.
فهم يميلون للوثوق في القيادات الإصلاحية "المحترمة" التي طالما قادت نضالهم في الماضي، والتي تعمل على استخدام المجالس العمالية للضغط على السلطات البرجوازية لا للقضاء عليها. ثالثاً، إن الحالة الثورية هي بطبيعتها حالة مؤقتة.
إنها غير قابلة للاستمرار طويلاً (أي لسنوات) تحديداً لأن "ازدواجية السلطة" التي تخلقها تتسم بقمة عدم الاستقرار:
فإما أن يحسم العمال أمرهم، وينقضوا على عدوهم الطبقي انقضاضاً ويخلقوا لأول مرة "دولة الأغلبية لصالح الأغلبية"، أو تقوم أجهزة القمع البرجوازية، وقد استوعبت صدمة الحالة الثورية، بسحق المجالس العمالية سحقاً في حمام دم بشع، وإعادة الأمور مرة أخرى إلى "سيرها الطبيعي".
ورابعاً وأخيراً، تخبرنا دروس التاريخ الحديث أن العامل الحاسم في تحديد مصير الحالة الثورية (أي تحديد ما إذا كانت هذه الحالة ستتحول إلى ثورة منتصرة أو ستنتهي بمجزرة وحشية للمقهورين) هو وجود أو عدم وجود حزب ثوري يضم ويمثل أقلية ذات شأن بين العمال وقت اندلاع الحالة الثورية.
فمن شأن وجود مثل هذا الحزب أن يخلق بؤرة جذب سياسية تدفع العمال نحو استكمال الثورة للنهاية وتحارب التأثير القاتل للأفكار الإصلاحية.
أما في حالة غيابه، فإن فراغاً سياسياً رهيباً ينشأ ويسمح في نهاية الأمر بتسرب الإحباط إلى صفوف الجماهير إلى أن تحين الفرصة المواتية وتضرب الدولة البرجوازية ضربتها الساحقة.
على مدى القرن العشرين، تكررت الحالات الثورية عشرات المرات، بدءاً من روسيا 1917، ومروراً بالمجر 1956، ووصولاً إلى إيران 1979، هذا إضافة إلى الأوضاع شبه الثورية والثورية التي شهدتها دول كإندونيسيا والأرجنتين في السنوات الأخيرة.
وبينما كان غياب الحزب الثوري يمثل في كل مرة نقطة ضعف الحركة الذي يتم القضاء عليها من خلاله، فقد احتفظ لنا تاريخ الطبقة العاملة النضالي بنموذج واحد ظافر هو ثورة أكتوبر 1917العظيمة في روسيا.
ففي الفترة بين فبراير وأكتوبر 1917، زمن الحالة الثورية في روسيا، استطاع البلاشفة الروس بقيادة لينين إقناع غالبية العمال والجنود بضرورة استيلاء مجالسهم على السلطة وإقامة الدولة العمالية، كما استطاعوا أيضاً أن يقودوا الانتفاضة المسلحة التي أقامت في أكتوبر سلطة العمال والجنود.
أما في الحالات الأخرى ـ وهي عديدة يصعب حصرها ـ فإن غياب الحزب الثوري المتماسك أوجد المناخ المناسب للثورة المضادة التي رسخت مرة أخرى عبودية رأس المال بعد أن كانت على حافة الهاوية.
لم تكن المشكلة في كافة تلك الحالات أن الثوريين لم يكن لهم وجود على الإطلاق، بل كانت المشكلة أنه لم تتوفر لهم الخبرة والحنكة والتأثير الفعال، وهي كلها عوامل لا يمكن اكتسابها ما لم يتواجد الثوريون على نحو منظم في حزب لفترة طويلة قبل الحالة الثورية.

 

 

وماذا عن ثورات التحرر الوطني ؟

وإلى جانب عشرات الحالات الثورية التي شهد القرن العشرون خلالها تهديداً حقيقياً للمجتمع الرأسمالي، بما في ذلك الثورة العمالية المنتصرة في روسيا، شهدت بلدان عدة بالعالم الثالث ثورات من نوع آخر، هي ثورات التحرر الوطني.
وهي ثورات اكتست أهمها وأشهرها، مثل الثورة الصينية 1949 والكوبية 1949، باللون الأحمر الماركسي.
فكيف نفهم هذه الثورات؟
وقعت هذه الثورات في ظل وضع فريد اتسم بسمتين رئيسيتين:
الحاجة الماسة في المجتمعات المستعمرة لتغيير يحقق الاستقلال والتنمية ويلبي طموحات الحرية والعدالة، والضعف الشديد للطبقتين الأساسيتين ـ الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية ـ في المجتمع.
كانت البرجوازية ضعيفة بسبب نمط التطور الرأسمالي الذي لعب الرأسمال الأجنبي والدولة الدور الأساسي فيه، كما أن برجوازيات العالم الثالث نمت في وقت انحطاط الرأسمالية عالمياً فكان خوفها من الجماهير أقوى من أية رغبة لديها للتغيير.
وكانت الطبقة العاملة ضعيفة أحياناً لأسباب هيكلية تتعلق بصغر حجمها في المجتمع وغالباً لأسباب سياسية تتصل بضعف تأثير اليسار الثوري.
في ظل هذه الأوضاع نشأ فراغ سياسي استطاعت أن تملأه في أحيان كثيرة شرائح من مثقفي الطبقة الوسطى الحضريين الوطنيين الذين وصلوا للسلطة في انتفاضات ثورية قادوا خلالها جيوش فلاحية.
حققت هذه الثورات بعض الإصلاحات الاجتماعية المهمة، كما وجهت ضربة موجعة للإمبريالية واستحقت الدعم النقدي للثوريين.
بيد أنها لم تكن ثورات اشتراكية.
كان الهم الأساسي لهذه الثورات هو تحقيق التنمية واللحاق بالعالم الرأسمالي المتقدم.
وكان معنى ذلك بعيداً عن الرطانة الثورية هو بناء رأسماليات دولة تستغل العمال والفلاحين من أجل "التنمية".
كان المعنى التاريخي لتلك الثورات هو إزالة المعوقات أمام التراكم الرأسمالي من خلال القضاء على العلاقات الاجتماعية السابقة على الرأسمالية (بالأساس من خلال الإصلاح الزراعي الذي قضى على طبقة كبار الملاك وأسرع من وتيرة دمج الريف في بنية الاقتصاد الرأسمالي) وتعبئة الموارد لتحقيق التصنيع من خلال ملكية الدولة والتخطيط المركزي.
وبهذا المعنى نستطيع أن تعتبر تلك الثورات ثورات برجوازية.
إذ أن مضمونها الاجتماعي كان قريباً من مضمون الثورات البرجوازية الكلاسيكية مثل الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر والثورتين الإنجليزية والأمريكية قبل ذلك بنحو القرن.
الثورات البرجوازية الكلاسيكية وجهت ضربة قاصمة لبقايا المجتمع الإقطاعي وتوجت سياسياً الصعود الاقتصادي والاجتماعي للطبقة البرجوازية كما مهدت لدفع عجلة التصنيع الرأسمالي.
وبالمثل، فإن ثورات التحرر الوطني (التي نسميها في تراثنا الاشتراكي الثوري "الثورات الدائمة المنحرفة") قضت على الإمبريالية وبقايا العلاقات السابقة على الرأسمالية وخلقت في بعض الأحيان مراكز جديدة مهمة للتراكم الرأسمالي.
وقد برهنت العقود الثلاثة الماضية على أن مرحلة التنمية المستقلة التي رفعت لوائها ثورات التحرر الوطني كانت مقدمة للاندماج مرة أخرى في الاقتصاد الرأسمالي العالمي عندما صار ذلك ملائماً وضرورياً لمصالح برجوازيات العالم الثالث (ومصالح الرأسمالية العالمية أيضاً).
مغزى ما سبق هو أن العالم بأسره اليوم أصبح عالماً رأسمالياً.
فالنصف قرن الأخير شهد عملية تحول رأسمالي هائل في العالم الثالث، سواء من خلال الثورات الدائمة المنحرفة أو حتى من خلال التطور الرأسمالي التدريجي في البلدان التي لم تشهد مثل تلك الثورات (وهو ما يسمى أحياناً "الثورة البرجوازية السلبية" ولعل أبرز الأمثلة على ذلك التطور تتمثل في الهند والنمور الآسيوية ككوريا الجنوبية وبعض بلدان أمريكا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين وشيلي).

 


معضلة الثورة اليوم
حتى الآن، طرحنا في هذا المقال على نحو وجيز أربع أفكار أساسية هي:
(1 العالم الذي نحيا فيه كريه ينبغي تغييره؛ 2)
هذا التغيير لا يمكن أن يأتي بإصلاح النظام السائد من الداخل وإنما بالقضاء عليه ثورياً؛
(3 الثورة الاشتراكية ممكنة وقابلة للتحقق؛ 4)
الثورة البرجوازية لم يعد لها مجال في عالم أصبح رأسمالياً بالفعل بما في ذلك أجزاءه الأقل تقدماً.
لكن المتأمل في مسار الأحداث خلال السنوات التي بدأت بتسعينات القرن العشرين وحتى اليوم، قد يلحظ أن هذا المسار، وإن كان قد أكّد الفكرتين الأوليين، إلا أنه ألقى بظلال من الشك على الفكرتين الأخيرت
ين. فقد شهد هذا العقد أربعة حالات مهمة قامت خلالها حركات جماهيرية ثورية بإسقاط أنظمة عاتية بدا لفترة طويلة أنها عصية على السقوط.
حدث هذا في أوروبا الشرقية حيث انهارت النظم الستالينية تحت وطأة حركات جماهيرية من أسفل، وفي جنوب أفريقيا حيث تم القضاء على نظام التفرقة العنصرية على يد حركة جماهيرية كان في قلبها الطبقة العاملة المنظمة، وفي إندونيسيا حيث سقطت دكتاتورية الجنرال سوهارتو بفعل انتفاضة شعبية قادتها حركة طلابية بالغة التسيس، وأخيراً في الأرجنتين التي تشهد اليوم حالة من الغليان الجماهيري المتواصل.
أكدت هذه الأحداث العظيمة الفكرتين (1و 2) ، ولكن ماذا عن الفكرتين (3 و 4):
إمكانية الثورة الاشتراكية، وتجاوز الثورة البرجوازية؟
ألم تنتهي الثورات الأربعة المذكورة إلى شكل من أشكال الديموقراطية الليبرالية جنباً إلى جنب مع اقتصاد السوق وترسخ العلاقات الاجتماعية البرجوازية؟
لا يسمح المقام هنا بتحليل ثورات أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والأرجنتين، ولكننا نسجل باختصار ملاحظتين.
أولاً، لا يمكن أن نعتبر الثورات المذكورة ثورات برجوازية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر الماركسي لتلك الثورات.
فالثورة البرجوازية في الفكر الماركسي هي ثورة تحدث لكي تقضي على العلاقات الاجتماعية السابقة على الرأسمالية وتخلق وضعاً سياسياً يدفع قدماً عملية التراكم الرأسمالي.
أما في أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والأرجنتين فإن النظام القديم كان رأسمالياً بالفعل ولم تكن هناك علاقات إنتاج قبل رأسمالية يتعين القضاء عليها. وبالفعل فإن إحدى أهم سمات التسوية التي "انتهت" إليها تلك الثورات هو تحديداً عدم وقوع تغيير في نمط الإنتاج.
في أوروبا الشرقية تغير النظام السياسي، كما تخلت الطبقة الحاكمة عن طريقة لتحقيق التراكم الرأسمالي (رأسمالية الدولة المغلقة نسبياً) لصالح طريقة أخرى (خليط من رأسمالية الدولة والملكية الخاصة الاحتكارية والاندماج في السوق العالمية)، إلا أن الطبقة الحاكمة ذاتها لم تتغير كما أن نمطاً جديداً للإنتاج لم يحل مكان نمط قديم.
وفي جنوب أفريقيا تم القضاء على النظام العنصري، إلا أن الطبقة البرجوازية البيضاء والسوداء احتفظت بسلطتها الاقتصادية.
أما في إندونيسيا والأرجنتين، فإن سقوط سوهارتو أو دوهالدي لم يمس بنية الاقتصاد، بل احتفظ أغلب كوادر النظام القديم بمواقعهم سواء في جهاز الدولة أو في إدارة الاقتصاد.
أما الملاحظة الثانية والأكثر جوهرية فهي أن التغيير الذي حدث في أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والأرجنتين لم يحل القضايا الملحة التي حركت الجماهير.
نعم كان سقوط الشمولية الستالينية والنظام العنصري البغيض ودكتاتورية سوهارتو البشعة انتصاراً رائعاً. إلا أن علاقات القوة الأساسية في المجتمع لم تتغير.
ولا يزال العمال والفقراء في أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والأرجنتين يعانون ويلات رأسمالية مأزومة يدفعون وحدهم سبب تأزمها.
وبهذا المعنى يتعين علينا أن ننظر للتغيير الذي حدث في الحالات الثلاث على أنه بداية لا نهاية.
ولن تنتصر الجماهير حقاً ما لم يتبع الخلاص من رأسمالية الدولة البيروقراطية في أوروبا الشرقية الخلاص من الرأسمالية بكافة أشكالها، وما لم يتبع الخلاص من العنصرية البغيضة في جنوب أفريقيا الخلاص من الاستغلال بغض النظر عن لون بشرة الحكام والملاك والمديرين، كما أن إندونيسيا والأرجنتين لا تزالان أمام خيارين تاريخيين: فإما السقوط في مستنقع رأسمالية السوق الحر أو تكملة العملية الثورية بالقضاء على القوة الاقتصادية لتلك الطبقة.

 

عالم جديد ممكن
البروفات الثورية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، جنباً إلى جنب مع صعود حركة مناهضة الرأسمالية، يشيران إلى أن الثورة العمالية صارت اليوم أقرب مما كانت عليه في أي وقت مضى خلال العقود الثلاثة الماضية.
فقد أثبتت هذه السلسلة من الأحداث المتتابعة عدداً من الأمور شديدة الأهمية بالنسبة للثوريين.
أولاً أثبتت أن الرأسمالية ـ ممثلة في سياسة الليبرالية الجديدة والسوق الحر ـ تمر بحالة من عدم الاستقرار غير مسبوقة على مدى عقود. ذلك أن الأزمات الاقتصادية، وتوحش الإمبريالية، واتساع هوة الفقر، هي الأسباب الأساسية وراء اندلاع هذه الثورات والحركات ذات الأفق الجماهيري.
ثانياًتكشف هذه التطورات الأخيرة أن الجماهير ضاقت بوعود السوق الحر واكتشفت الخدعة ورائها، وبدأت تبحث عن بدائل جذرية.
ومن هنا تصاعدت حالة الاستقطاب في الصراع الطبقي العالمي، فأصبحت الفاشية خطراً ماثلاً، كما ازدادت قوة الحركات والقوى اليسارية التي تطرح البديل الإنساني التحرري للتخلص من ذل الرأسمالية.
ثالثاً وأخيراً تؤكد هذه التطورات أن الطبقة العاملة هي ـ بدون شك ـ القوة المؤهلة لقيادة نضال الأغلبية من أجل التغيير الثوري. ففي أسبانيا، واليونان، وإيطاليا، وكوريا، وعدد من بلدان أمريكا اللاتينية، تبرز الطبقة العاملة، كالطبقة الأكثر تنظيماً وفاعلية في مواجهة عسف وجور الرأسمالية في مرحلتها الهمجية الراهنة.
لا أحد اليوم يمكنه أن يتحدث عن موت الطبقة العاملة. ففي كل بؤرة من بؤر النضال الجماهيري تتبدى فيها قوة الطبقة العاملة، ينتقل الصراع إلى آفاق أعلى وأكثر تأثيراً بما لا يقاس.
الخلاصة إذن أن الثورة الاشتراكية ضرورية وممكنة.
فبالرغم من أن تلك الثورة ليست حتمية، إلا إن شروطها الموضوعية قائمة وناضجة في عالمنا:
التطور الرأسمالي، الأزمة الرأسمالية، الطبقة العاملة الكبيرة والقادرة على النضال والراغبة فيه.
إلا أن درس التاريخ البالغ الأهمية يؤكد أن هذا لا يكفي، وأن الشرط الذاتي المتمثل في وجود يسار ثوري قادر على التدخل في الحالات الثورية والهيمنة عليها وإقناع جموع العمال والمقهورين بأن طريق التحرر من كافة أشكال القهر هو طريق الثورة الاشتراكية.



#مركز_الدراسات_الاشتراكية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطلقوا سراح معارضى العدوان الأمريكى على شعب العراق .....وقائ ...
- اختطاف كمال خليل مدير مركز الدراسات الاشتراكية - القاهرة
- القبض على إبراهيم الصحاري فجر اليوم من منزله - القاهرة
- ندوات مركز الدراسات والبحوث الاشتراكية


المزيد.....




- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 550
- بيان اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- نظرة مختلفة للشيوعية: حديث مع الخبير الاقتصادي الياباني سايت ...
- هكذا علقت الفصائل الفلسطينية في لبنان على مهاجمة إيران إسرائ ...
- طريق الشعب.. تحديات جمة.. والحل بالتخلي عن المحاصصة


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مركز الدراسات الاشتراكية - الثورة على عالـم كريه