أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالخالق حسين - ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 6















المزيد.....



ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 6


عبدالخالق حسين

الحوار المتمدن-العدد: 1614 - 2006 / 7 / 17 - 11:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الفصل السادس
ثورة 14 تموز وموضوعة الوحدة العربية

نبذة تاريخية عن حركة القومية العربية في العراق
لعب الرعيل الأول من التيار القومي العربي بقيادة الملك فيصل الأول دور الريادة في تأسيس الدولة العراقية الحديثة وبمساعدة الإنكليز المحتلين بعد الحرب العالمية الثانية. وكما بينا آنفاً، إن استجابة الإنكليز لتأسيس الدولة العراقية، كانت نتيجة لثورة العشرين التي قامت بها العشائر العراقية وخاصة في مناطق الفرات الأوسط، وقادها رجال الدين وسياسيون مدنيون وشيوخ العشائر.
ومهما اختلفت الآراء، فالعراق بلد عربي تاريخياً وجغرافياً وطوبوغرافياً، أي من ناحية أغلبية السكان. ولكن في الوقت ذاته، يجب أن لا ننسى أن العراق بلد يتكون شعبه من مختلف الأعراق والأجناس والديانات والمذاهب واللغات وله خصوصياته التي تميزه عن بقية البلدان العربية الأخرى.
ونظراً لظروف التجزئة التي أوجدها الإحتلال الأجنبي للبلدان العربية لعدة قرون ومنذ سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م، فقد خلقت التجزئة أوضاعاً جديدة في هذه البلدان مما جعلت لكل بلد عربي خصوصياته التي لا يمكن نكرانها أو التغلب عليها أو التخلص منها بين عشية وضحاها أوبقرار حكومي فوقي. لذلك واجهت الحكومات العربية التجزئة في القرن العشرين بعد تحررها من الإستعمار، بعين الرضا واعترفت بها كسياسة الأمر الواقع وصبت جل اهتمامها في بناء الدولة الوطنية بدلاً من الدولة القومية الواحدة من المحيط إلى الخليج.

إضافة إلى ذلك، فالعراق يختلف عن بقية الأقطار العربية الأخرى بخصوصيات كثيرة تتعلق بمكونات الشعب العراقي في تعدد الأعراق والأديان والمذاهب والطوائف. وقد ذهب الملك فيصل الأول إلى حد الإعتقاد بأن أهل العراق ليسوا شعباً، بل مجموعات بشرية متنافرة مازالت في طور تكوين شعب، فيقول: "وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتقاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي… "
وقد لعب المثقفون المسيحيون في سوريا ولبنان في نهاية القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين، دوراً كبيراً في انبعاث الشعور القومي العربي والحاجة إلى الوحدة العربية، كبديل للشعور الديني الإسلامي الذي كان سائداً خلال الحكم العثماني التركي الذي حكم العرب بإسم الإسلام و الخلافة الإسلامية والذي عانى المسيحيون منه كثيراً بسبب التمييز الديني. لذا أراد هؤلاء بديلاً قومياً دون التمييز الديني بين أبناء القومية الواحدة.
ولاقى الشعور القومي ترحاباً من لدن الشباب العربي سواء من الرعيل الأول، المتمثل بالضباط الشريفيين (وهم الضباط العراقيون الذين خدموا مع شريف مكة وإبنه فيصل في سوريا) جميعهم من خريجي المدرسة العسكرية العثمانية، أو قادة ثورة العشرين العراقية، وكذلك الرعيل الثاني من السياسيين المدنيين والعسكريين العراقيين من خريجي المدرسة العراقية خلال الحكم الوطني.
وقد حصل خلاف بين الرعيل الأول والثاني من التيار القومي العربي فيما بعد، في الموقف من القضايا العربية الكبرى والنفوذ البريطاني في العراق وقضية فلسطين. فقد وجد الرعيل الأول ضالته في التحالف الإستراتيجي مع بريطانيا حتى ولو على حساب القضايا الوطنية كالإستقلال السياسي، والقومية كقضية فلسطين. بينما أراد الرعيل الثاني من القوميين ومعه التيار الوطني العراقي، الإستقلال السياسي التام والتخلص من أي نفوذ غربي وخاصة النفوذ البريطاني والإمريكي. وقد بلغ الخلاف إلى حد القطيعة بعد أحداث حركة مايس 1941، (حركة العقداء الأربعة) وانحياز العائلة المالكة العراقية وأانصياعهم، مثل نوري السعيد وجماعته، إلى بريطانيا مما أدى إلى الإحتلال البريطاني الثاني للقضاء على تلك الحركة وإعدام قادتها، وعلى رأسها العقيد صلاح الدين الصباغ ورفاقه الآخرين.
كذلك من أخطاء النظام الملكي وربما لسوء حضه وحض العراقيين، أن العهد الملكي السعيدي لم يكترث برأي الشعب ولم يحاول تحسين صورته خاصة بعد مجيء قائد قومي كارزماتي وخطيب مؤثر مثل الرئيس جمال عبد الناصر يقود النضال ضد النفوذ الغربي بإسم القومية العربية والوحدة، ونيله شعبية واسعة بسبب مواقفه الوطنية والقومية ضد الإستعمار وخوضه الحرب ضد العدوان الثلاثي بعد تأميم قناة السويس عام 1956، وموقف الحكم الملكي-لسعيدي المنحاز علناً للعدوان وضربه المظاهرات الشعبية في العراق المناصرة لمصر . كل ذلك ساعد على تنشيط حركة الضباط الأحرار وتصعيد العداء في الشارع العراقي ضد النظام الملكي-السعيدي، وبالتالي التعجيل في إسقاطه في ثورة 14 تموز 1958.
كان الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 14 تموز 1958، عبارة عن خليط من الوطنيين الذين كان جل همهم هو تحرير العراق من المعاهدات الجائرة وتحقيق إستقلاله السياسي وبناء ركائزه الإقتصادية وحل مشاكله الداخلية أولاً، والقوميين العروبيين، الذين كان البعض منهم يركز على الأهداف القومية الوحدوية قبل الوطنية.

الوحدة العربية الفورية
بادئ ذي بدء، يجب أن نشير إلى أن هناك سوء فهم لدى البعض عن تاريخ الدولة العربية-الإسلامية. يعتقد دعاة الوحدة العربية الإندماجية أن الأمة العربية كانت تحكمها دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج في وحدة إندماجية. وهذا خطأ، خاصة إذا ما أخذنا بالمفهوم العصري للوحدة والدولة. فكان الحكم أيام الخلافة بإسم الإسلام وليس بإسم القومية العربية التي لم يكن الشعور القومي معروفاً آنذاك بمعناه اليوم. وكل ما كان أيام حكم الخلافة الإسلامية، سواءً في العهد الراشدي أو الأموي أو العباسي وحتى العثماني، كانت العلاقة بين هذه الأقطار (الولايات) ومركز الخلافة، (المدينة المنورة، الكوفة، الشام، بغداد، إسطنبول) علاقة هلامية. وهذه الولايات كانت عبارة عن شبه دول مستقلة. وكانت سيطرة المركز على الولايات تتلخص بأن يقوم الخليفة بتعيين الولاة، ويقوم هؤلاء بإرسال ما يرتئيه من الضرائب إلى عاصمة الخلافة، وذكر إسم الخليفة في خطب صلاة الجمعة في المساجد. وفيما عدى ذلك فالوالي شبه مستقل عن الحكومة المركزية وحتى في بعض الحالات كانت وراثية. وقد ضعفت سيطرة الخلافة العباسية في القرن التاسع الميلادي ودب فيها الضعف، ففي بداية القرن العاشر الميلادي تأسست الدولة الفاطمية في تونس مستقلة عن سلطة الخلافة العباسية وبالتالي سيطرت على كل أقطار شمال إفريقيا واتخذت القاهرة عاصمة لها. ثم سقوط بغداد على أيد المغول عام 1258. ومنذ ذلك التاريخ غاصت البلاد العربية في ظلام دامس وكانت مجزأة تحت حكم الأجانب وحتى النهضة العربية الحديثة في القرن العشرين التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية.
أما في الوقت الحاضر، فقد أصبحت الدولة معقدة بأجهزتها ومسؤولياتها وواجباتها وعلاقاتها مع الشعب ومع العالم الخارجي. وعليه فالوحدة الإندماجية كما أرادها دعاة الوحدة العربية أيام عبد الناصر، أو في آيديولوجية حزب البعث العربي الإشتراكي، لم تكن موجودة في أية مرحلة من مراحل التاريخ، وفي رأينا غير ممكنة لا في الوقت الحاضر ولا في المستقبل المنظور. فمن غير الممكن فرض حكم متشدد في المركزية، كما في الوحدة المركزية، على دولة واسعة مترامية الأطراف تشمل البلاد العربية من المحيط إلى الخليج أي 22 بلداً عربياً. لأن لكل بلد عربي ظروفه الإقليمية الخاصة. لذلك انهارت الوحدة العربية بين مصر وسوريا بعد أعوام قليلة لأنها تأسست بإجراءات فوقية ودون أخذ رأي الشعب من جهة أو الظروف الموضوعية لكل بلد من جهة أخرى.
أما ما نلاحظه من دول كبيرة واسعة مترامية الأطراف مثل الولايات المتحدة الإمريكية ، فهي عبارة عن إتحاد فيدرالي طوعي بين 50 ولاية، وكل ولاية تتمتع بحكومة محلية منتخبة من شعبها، ذات صلاحيات واسعة، وما دور الحكومة المركزية الفيدرالية في واشنطن سوى القيام بواجبات الدفاع المشترك والسياسة الخارجية والميزانية العامة وبعض القوانين المشتركة التي تعطى الأولوية فيها لحكومة الولاية المعنية. وكذلك الحال بالنسبة للهند. لذلك، يمكن القول أن دعاة الوحدة العربية الإندماجية كانوا يطالبون بالمستحيل، ولا غرابة أنها فشلت بعد سنوات قليلة من قيامها بأوامر فوقية بين مصر وسوريا.

ثورة 14 تموز والوحدة العربية
كانت الوحدة العربية لدى أغلب الضباط القوميين مجرد شعور رومانسي يراودهم لإعادة المجد التليد، على أساس هدف يسعى إلى تحقيقه في المستقبل وعندما تنضج لها الظروف. ولم تكن الوحدة العربية الإندماجية الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة (ج.ع.م) من أهداف ثورة 14 تموز، كما هو واضح من البيان الأول الذي أذاعه عبد السلام محمد عارف نفسه من دار الإذاعة العراقية صبيحة يوم 14 تموز 1958 . إذ لم يكن فيه أي ذكر للوحدة العربية، بل كان هناك تأكيد على الوحدة الوطنية العراقية ، وكلما ذكر فيما يخص العلاقة مع البلدان العربية هو التأكيد على التضامن العربي أسوة بالتضامن مع العالم الإسلامي ودول عدم الإنحياز. كذلك ما ذكره عدد من أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار في مذكراتهم ومؤلفاتهم مثل الضابط القومي اللواء محسن حسين الحبيب الذي حدد أهداف الثورة بعشرين هدفاً في كتابه (حقائق عن ثورة 14 تموز في العراق) ولم تكن الوحدة الإندماجية الفورية من هذه الأهداف إلا في حالة تعرض الجمهورية العراقية إلى هجوم خارجي لإعادة النظام الملكي.
ولكن بعد أيام قلائل من الثورة، والقوى الإستعمارية ما زالت تتهيأ للإطاحة بها ووأد الجمهورية الفتية، جاء ميشيل عفلق إلى بغداد يوم 24 تموز، واجتمع بقيادة حزب البعث في فندق بغداد وطرح شعار الوحدة الفورية كهدف أساسي وملح للتيار القومي العربي. وقد أثار هذا الشعار مخاوف الأحزاب الوطنية، الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي والديمقراطي الكردستاني، لأن عبد الناصر كان معروفاً بعدائه للحياة الحزبية والتي ألغاها في عهده سواءً في مصر أو في سوريا خلال فترة الوحدة. وأثار شعار الوحدة الفورية مخاوف الشيوعيين خاصة والذين لم يفيقوا بعد من هول الضربة التي تعرض لها الحزب الشيوعي السوري على يد عبدالناصر بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا وكذلك ما حصل لسكرتير الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو الذي قتل تحت التعذيب على أيدي المخابرات الناصرية وإعدام شهدي عطية أحد زعماء الحزب الشيوعي المصري. وبالمقابل، كان الزعيم عبدالكريم قاسم مع حرية الأحزاب وهو بالأساس من التيار القومي العروبي، ولكن دون اندفاع وعواطف شرقية. وكذلك قوى التيار الوطني مثل الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي وحزب الإستقلال بقيادة الشيخ محمد مهدي كبة كانوا ذا التوجه القومي العربي، ومع فكرة الإتحاد الفيدرالي وليس الوحدة الإندماجية الفورية.
وكما يقول المفكر الكويتي أحمد الربعي: " الوحدة ـ أية وحدة ـ هي مشروع تنموي متدرج يقتله التسرع، وعدم دراسة الواقع، وكان أول حلم عربي بالوحدة بين مصر وسورية انتهى بالانفصال غير مأسوف عليه، لأنها وحدة انفعال وحلم مشروع ولكنها تفتقد إلى فهم الواقع الاقتصادي والسياسي، ولا يمكن أن تستمر وحدة مصر وسورية على طريقة «أنا قاعد فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام»، فبين بساتين دمشق، واهرام القاهرة مشروع تكامل مطلوب، ووحدة قوانين وأنظمة، وتقارب في مستويات المعيشة، ودمج متدرج للمؤسسات، وعملة موحدة، وتوحيد جمركي، وتسهيل انتقال البضائع والافراد وقائمة أخرى مطلوبة في أية وحدة جادة يطلب لها الاستمرار."
نعم أراد القوميون العرب، بمختلف فصائلهم، ناصريين أو بعثيين، حرق المراحل وعدم الرجوع إلى رأي الشعوب العربية والإكتفاء بتحقيق الوحدة عن طريق إصدار قرارات حكومية فوقية والقفز على الواقع، فسقطت الوحدة كنتيجة حتمية لهذا التسرع والعمل غير المدروس، تلك السياسة التي حذر منها الزعيم عبدالكريم قاسم عندما قال: "وأحب أن أؤكد لكم أن العراق جزء من الأمة العربية .. وإن هذا الوطن (العراق) شراكة بين العرب والأكراد … وإذا تأمنت مصالح العرب في كل دولة وتحررت ، فهذا معناه التحرر، وإذا تحررت الشعوب العربية كلها في منطقتها فمعناه اتحاد عام والاتحاد لا يقره شخص واحد وإنما تقرره شعوب الدول العربية والتي لها أن تقرر نوع الحكم." كما أكد على عدم التسرع بصدد الوحدة العربية، إذ يجب أن تتم خطوة فخطوة لأنها هدف الجميع..
"لم يكن قاسم والشيوعيون وحدهم الذين يقولون بمنهج تدرج الوحدة وبالإتحاد الفيدرالي أو البدء بتضامن عربي فعال وعملي مدعوم بإتفاقات عسكرية وثقافية واقتصادية، أو بوحدة يسبقها التهيئة الداخلية وحل المشكلات المعيقة لكل قطر بما في ذلك بناء المؤسسات الحكومية والشعبية الملائمة، بل إن ناصر نفسه وصل إلى هذا الرأي حتى قبل سقوط قاسم، وقد أبلغ به قيادة البعث بعد أيام من حركة 8 شباط في معرض تقييمه لإنتكاسة الوحدة المصرية السورية قائلاً: "الوحدة الإندماجية سابقة لأوانها، وهذا ما عبرت عنه بكلامي في ضرورة مراعاة العوامل الإقليمية.."
وغداة ثورة 14 تموز، راح عبد السلام عارف يتجول في المدن العراقية ومعه فريق كامل من جوقة الإعلام المصري مشدداً في خطبه الدعوة إلى الوحدة الفورية ومردداً إسم "الأخ الأكبر" جمال عبد الناصر متجاهلاً كل التجاهل قائد الثورة عبد الكريم قاسم، كما لو كان العراق محافظة من المحافظات المصرية. وبعمله هذا، أراد عبد السلام أن يجعل من نفسه في الثورة العراقية كعبد الناصر في الثورة المصرية ويضع عبد الكريم قاسم في دور اللواء محمد نجيب بحيث يمكن إزاحته بضربة عِكسية تماماً كما أزاح ناصر اللواء نجيب!!.
لعل من أكبر أخطاء عبد الكريم قاسم هو حسن نواياه بعبد السلام عارف، وكما تقول الحكمة (الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة)، فهو الذي فرضه على اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار. وكما قال مصطفى علي وزير العدل في حكومة الثورة: "عبد الكريم قاسم جاء بثورة عظيمة، ولكن جاء بفنائها معها، جاء بعبد السلام عارف".
لقد كان لدى عبد السلام عارف إستعداداً شخصياً للتآمر والتخلص من قاسم منذ الأيام الأولى للثورة. فقد أبلغ جمال عبد الناصر في دمشق أمام الوفد العراقي المرافق له، بعد خمسة أيام من ثورة 14 تموز 1958، بأن العراق سينضم سريعاً إلى العربية المتحدة. وعندما سأله ناصر عن مصير قاسم أجاب: "سيكون مصيره كمصير محمد نجيب" وأضاف أنه ليس أمام قاسم سوى الإستسلام أو السقوط . وأن قاسم لا يعدو أكثر من قلم حبر في جيبه. ووصل حديث عارف إلى عبد الكريم قاسم حتى قبل عودة الوفد إلى بغداد، ولم يكن عبد الكريم قاسم لئيماً ليخبئ الأمر، بل واجهه به فور عودته ولامه عليه وطلب منه عدم تكراره، فأنكر عارف الأمر بصورة قاطعة. حصلت تلك الحادثة بين عارف وناصر وقاسم قبل إندلاع الخلاف حول شعار الوحدة العربية وطريقة تحقيقها (الإندماجية أم الإتحادية أم الفيدرالية)، بل كانت ثورة تموز 1958 ما زالت تحتفل بانتصارها مما يؤكد سريرة عبد السلام المستعدة للتآمر.
لم يكن التيار القومي جاداً في رفعه لشعار الوحدة الفورية وإنما كانت الغاية منه إحراج موقف عبد الكريم قاسم واتخاذه ذريعة لإسقاطه والإستيلاء على السلطة من جهة وضرب الأحزاب الوطنية الأخرى في العراق كما حصل في مصر وسورية بعد الوحدة الفورية. وقد تأكد ذلك فيما بعد، حيث أصبحت الوحدة العربية من الممنوعات إبان حكمهم خلال ما يقارب أربعة عقود ولحد الآن.
ثم قام عارف بمحاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في مكتبه بوزارة الدفاع وبحضور الضابط الكردي فؤاد عارف، وعاتبه الزعيم في لحظة الجرم المشهود عتاب الصديق للصديق! وتوسل إليه أن يقبل مؤقتا منصب سفير في بون. وقد نكر عارف في محكمة الشعب محاولة الإغتيال، ثم عاد وأكدها متبجحاً في مذكراته التي نشرتها له مجلة روزاليوسف بعد إنقلاب 8 شباط/فبراير 1963 و استلامه السلطة. وفي يوم 5 تشرين الأول 1958، عاد عبد السلام عارف إلى بغداد دون مراجعة قاسم. فتم إعتقاله.
ورغم جميع الأعمال التي قام بها عارف ضد قاسم فيما بعد، وصدور حكم الإعدام بحقه، لم ينفذ قاسم الحكم، بل اكتفى بفرض إقامة شبه إجبارية عليه في منزله يستلم رواتبه كاملة.

حملة الإعلام المصري
في الأيام الأولى من الثورة وقفت العربية المتحدة بجانب الثورة وبحماس منقطع النظير. ولكن، وكما تبين فيما بعد، كان ذلك مقابل ثمن، ألا وهو المطالبة بانضمام الجمهورية العراقية الفتية إلى العربية المتحدة في وحدة اندماجية وإلغاء الجمهورية العراقية وحتى دون الرجوع إلى رأي الشعب العراقي. لذلك لم يدم شهر العسل طويلاً، بل بدأ التوتر بين الجانبين بشكل مفاجئ. ترافق ذلك مع حملة إعلامية عاطفية ضارية من قبل الإعلام المصري بقيادة محمد حسنين هيكل وأحمد سعيد والأخوين علي أمين ومصطفى أمين، والثلاثة الأخيرين قد سجنهم عبد الناصر فيما بعد لإثبات أدوارهم التجسسية لحساب المخابرات الأمريكية. وما حصل في تلك الفترة التي يسميها هيكل بحق بفترة الغليان من المهازل في تضليل الرأي العام العربي والتلاعب بمشاعر الجماهير العربية بإطلاق الأناشيد الثورية مثل (الله أكبر وغيرها) وكأنه بالإمكان تحقيق النصر على العدو والوحدة العربية بالأناشيد ودون الرجوع إلى رأي الشعب وأخذ الظروف الموضوعية بالحسبان، فأرادوها وحدة تتم بين الرؤساء لا الشعوب مع إنكار كل عوامل الوحدة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية ودون أي إعتبار لدور الشعوب. لذلك انهارت الوحدة بين سوريا ومصر. وبات دور العربية المتحدة واضحاً في ضرب الثورة العراقية وتدميرها حتى صار معروفاً لدى الجميع.
وحتى عبد الناصر نفسه قد شارك في هذه الحملة ضد عبد الكريم قاسم وتشويه صورته والتأليب عليه، فقد كان يذكره في خطبه ب "قاسم العراق" وأحياناً ب"آثم العراق". بينما لم يذكر قاسم إسم ناصر في خطبه مطلقاً وحتى خصومه يعترفون بأنه كان عفيف اللسان. وقد بلغ هجوم الإعلام المصري على الثورة العراقية حد الإسفاف والإبتذال في تضليل الرأي العام العربي آنذاك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت إحدى المجلات المصرية بمناسبة رأس السنة الجديدة (نهاية 1959) على غلافها الأول كاريكاتيراً عبارة عن صينية فيها رأس عبد الكريم قاسم وتحتها عبارة "هدية رأس السنة للشعب العربي"! (كذا).
يقول ذنون أيوب، وكان مديراً للإذاعة والتلفزيون في عهد قاسم: "كانت إذاعة مصر تقذف حمماً في وجه قاسم وحكمه. ولم يطلب قاسم منا رداً أو هجوماً معاكساً. وقد تحرشت أنا به حول هذا الموضوع. فقلت له أنه إذا لم يرد الرد فلدينا من الأجهزة ما يشوش على تلك الإذاعة. فأجاب " إخواننا هؤلاء يكذبون علينا كثيراً، وسيرجعون إلى جادة الصواب، فدعهم والناس هنا يدركون الحقيقة، بدون رد."

دور القيادة المصرية في ضرب الثورة العراقية
إن قادة الحركة القومية العربية، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، ولمصالحهم الذاتية والأنانية وقصر النظر السياسي، انساقوا وراء المخطط الغربي وخاصة ذو الواجهة الأمريكية لتدمير الثورة العراقية بحجة مكافحة الخطر الشيوعي، وكانت نتائج سياساتهم تلك وبالاً ليس على العراق فحسب بل وعلى أنفسهم أيضاً، كما ثبت ذلك لاحقاً.
ومن المفيد أن أستشهد هنا بما أدلى به اللواء الركن عبدالوهاب الأمين، وكان يشغل منصب الملحق العسكري في القاهرة بعد ثورة 14 تموز 1958، أنه قدم تقريراً إلى الزعيم عبدالكريم قاسم ضمنه ما اطلع عليه خلال وجوده في القاهرة من تقديرات حول الثورة العراقية. وأكد الأمين الإشارة إلى تقريره في وثيقة نشرت في دراسة ذات وجهة ناصرية، ذكر فيها:
"عدت إلى العراق في 30 تشرين الأولـ [1958] وقدمت تقريراً يحتوي على النقاط التالية: إن الرئيس عبدالناصر بعد عودته من موسكو[في 16 تموز 1958] جمع مجلس قيادة الثورة وبحث ثورة العراق ... وكان رأي عبدالناصر أن العراق قام بثورة لم تجارها ثورة مصر 23 يوليو ويعني ذلك إن قادة الثورة رجال أكفاء .. وبإمكانياتهم ونجاح ثورتهم بهذا الشكل الخاطف، فالإحتمال أنه سيقوم في العراق -لإمكانياته الكبيرة- ويقود الأمة العربية وتصبح مصر في الخلف ، وإذَاً يجب تدمير الثورة العراقية بأي ثمن" . ويقول اللواء الأمين انه حصل على هذه المعلومات من مسئول مصري كبير يحمل رتبة عميد ذكر إسمه لمؤلف كتاب ثورة الشواف ثم عاد وطلب عدم إدراج إسمه في الكتاب.

حركة الشواف:
كان العقيد عبد الوهاب الشواف من أعضاء اللجنة العليا النشطين لتنظيم الضباط الأحرار وكان قبل الثورة أقرب إلى اليسار و إلى الحزب الوطني الديمقراطي تحديداً، منه إلى القوميين، وكان طموحاً جداً في المناصب العالية. وبعد الثورة تم تعيينه آمراً لحامية الموصل. واعتبر ذلك دون طموحه وإبعاداً له عن مسرح الأحداث. ومعروف عنه بالتسرع والتطير، وقد حاول أن يسبق غيره في القيام بالثورة لوحده على النظام الملكي ولكنه فشل، وهذا هو سبب كراهيته لقاسم وعارف. وكان هذا واضحاً حين قال لقاسم بعد نجاح الثورة مهنئاً: "لقد تقاسمتم الثورة وحدكم". وكان كره الشواف للبعثيين لا يقل عن كرهه للشيوعيين. فلو قدِّر للشواف أن ينتصر في محاولته في الموصل، لسحق البعثيين كما سحقهم عارف فيما بعد.
يقول إسماعيل العارف عن موقف الشواف من الثورة: وقد أثيرت حفيظة العقيد الشواف أحد البارزين في اللجنة العليا عندما عيِّن حاكماً عسكرياً عاماً للعراق أول يوم الثورة ثم ألغى عبدالسلام عارف الأمر وعينه آمراً للقوات العسكرية المرابطة في مدينة الموصل لعدم توافق مزاجه معه فتأثر من هذا التدبير واعتبره إجراءً مقصوداً لإبعاده عن مركز السلطة. وكان المنصب الأخير برأيه أقل مما يستحق فامتنع عن الإلتحاق بمركزه ولكن بعض الضباط أقنعوه بالإذعان ولو بصورة مؤقتة آخذين في الإعتبار ما كان يتعرض له العراق من أخطار محتملة بعد إنزال الأمريكان والبريطانيين في لبنان والأردن واحتمال تحرك دول حلف بغداد لضرب الثورة في العراق."
كما يصفه إسماعيل العارف كالآتي: "كان العقيد عبد الوهاب الشواف عصبي المزاج سريع التأثر، صريحاً، متهوراً في أكثر الأحيان، يشتم ويسب معارضيه علناً وينتقدهم بلا خوف أو وجل. و كان قليل التروي قصير الأناة ينفذ ما يعتقد به فوراً وبلا تردد. من جهة أخرى فقد كان الشواف مثقفاً يؤمن بالديمقراطية ويميل إلى اليسار، إلا إن تعيينه في هذا المنصب الثانوي (آمر حامية الموصل) دفعه إلى الوقوف بعدئذٍ ضد القوى اليسارية.."
واستاء الشواف من مسيرة أنصار السلام في الموصل يوم 6 آذار 1959 وقابل قاسم بأيام ملحاً عليه إلغاءها ، ولكن قاسماً رفض ذلك. لذلك غادر وزارة الدفاع في منتهى العصبية وهو يولول ويشتم. وقامت مسيرة السلام في الموصل دون ما يعكر الجو، وغادر أنصار السلم الموصل في اليوم التالي7 آذار . وبعد الظهر من ذلك اليوم بدأت مناوشات بين القوميين واليساريين. وقام الشواف بحركته في الموصل يوم 8 آذار 1959 بدأها بإعتقال اليساريين وقتل عدد منهم مثل كامل القزانجي وضابط معروف بولائه لقاسم وهو العقيد عبد الله الشاوي، وانتهت المحاولة بالفشل وبمقتل الشواف وأعمال فوضى مؤسفة كرد فعل شديد لتلك المحاولة.
وفي الحقيقة، كانت محاولة الشواف الإنقلابية خطة ذات أبعاد واسعة شارك فيها عدد من الضباط القوميين للإطاحة بحكومة 14 تموز حتى ولو لم تحصل مسيرة السلام في الموصل كما تبيّن ذلك فيما بعد من محاكمات الضباط القوميين أمام محكمة الشعب، ومن مذكرات قادة الجمهورية العربية المتحدة بعد سنوات. ومن الجدير بالذكر أن هدف الضباط القوميين لم يكن تحقيق الوحدة العربية كما كانوا يعلنون، وإنما إسقاط حكومة قاسم وتسلمهم المناصب.
فيذكر أكرم الحوراني في مذكراته عن إتصالات ناظم الطبقجلي ومدحت الحاج سري بعبد المجيد فريد (الملحق العسكري المصري في بغداد آنذاك)، طلبا منه مساعدة العربية المتحدة وأوضحا له أنهما إذا ما استلموا السلطة سوف لن يسلموا العراق إلى حكم عبد الناصر. كما اتصل الشواف بعبد المجيد فريد ووعده بالوحدة الفورية إذا قدمت العربية المتحدة له المساعدة. لذلك حرَّض عبد المجيد فريد الشواف ليسبق زميليه في الحركة وبذلك يحرج موقفهما، فسيضطر الضباط الآخرون للإلتحاق بحركته، وستكون القيادة للشواف.
بعد فشل محاولة الشواف ، كانت هناك إذاعة في سورية في قرية خرابو بغوطة دمشق، وبأمر من عبد الحميد السراج بدأت تبث الأسماء الصريحة للضباط القوميين في العراق، الطبقجلي والحاج سري وغيرهما قبل أن يعرف أحد عنهم . أقتبس مقطعاً، ولو مطولاً مع الإعتذار، من مذكرات أكرم الحوراني ليصف لنا ما دار في إجتماع القيادة المصرية وبحضور عبد الناصر في دمشق بهذه المناسبة والذي يبين بكل وضوح كيف كانت هذه القيادة تتدخل بشكل سافر في شؤون العراق لضرب الثورة العراقية والتآمر عليها، يقول الحوراني :
" ولم أكن أعلم آنذاك شيئاً عن تفاصيل الإتصالات السابقة التي أجراها عبد المجيد فريد وعبد الحميد السراج مع كل من الشواف والطبقشلي والحاج سري وعلاقتهما بهذه الثورة. قلت للسراج محتجاً أمام عبد الناصر: "هل تقصد يا عبد الحميد بنداءاتك المتكررة من محطة خرابو للطبقشلي والحاج سري ورفاقهم أن تشي بهم لعبد الكريم قاسم ليلقي القبض عليهم ويعدمهم مع رفاقهم من الضباط الآخرين؟ كيف يجوز لك ذلك؟
أجابني السراج بحقد: " إن هؤلاء يجب أن يعدموا، نعم إنني أقصد ذلك! إن الطبقشلي لم يزحف بفرقته لمساعدة الشواف في الموصل، وإن عبد الكريم قاسم كان في قبضة يدي، لأنني كنت على إتصال مع حرسه الخاص، فلماذا لم يتحرك الحاج سري في بغداد؟"
قلت للسراج: عجباً كيف يجوز لك أن تبدأ الثورة في الموصل طالما أن عبدالكريم قاسم في قبضة يدك في بغداد؟ ألم يكن من البديهي أن يقضي على قاسم بواسطة حرسه في بغداد أو أن تبدأ الثورة فيها فتتبعها بعد ذلك الموصل وكركوك؟ "
ويضيف الحوراني: "كان عبد الناصر يستمع إلى هذا النقاش فلم يتدخل وظل صامتاً. بقي لغزاً محيراً بالنسبة لي السبب الذي جعل السراج يذيع النداءات بأسماء الضباط من إذاعة خرابو في الغوطة ، وإصرار السراج أمام عبد الناصر بأنه يقصد من ذلك إعدامهم من قبل قاسم لأنهم لم ينجدوا ثورة الشواف، بل شاركني في ذلك كثيرون وكان التأويل أنه ربما كان الطبقشلي والحاج سري ومجموعة من ذكرت أسماؤهم من الضباط قوميبين من حزب البعث ولذلك أجاز السراج لنفسه الوشاية بهم ولكن الذي تبين أن هؤلاء الضباط كانوا ذوي إتجاه قومي عربي وكانوا ناقمين على ما يرتكبه الحزب الشيوعي من هيمنة وتسلط وإجرام. وهذا ما تبدى إثناء محاكماتهم.".
وإكمالاً للموضوع، يقتبس الحوراني من مذكرات عبد اللطيف البغدادي فيقول: وفيما يتعلق بهذه القضية فقد ورد في مذكرات عبد اللطيف البغدادي التي نشرت أواخر السبعبنات ما يلي (ص80 ج2): "كان السراج قد سبق وأبلغ جمال كذلك إثناء تواجدنا في مدينة حلب وقبل أن نتوجه منها إلى مدينة اللاذقية، إن الزعيم ناظم الطبقجلي قائد القوات العراقية في كركوك شمال العراق قد أرسل إليه ضابطاً من ضباط أركان حربه وإسمه عبد العزيز وطلب هو الآخر مساعدته في القيام بثورة ضد قاسم. وأنه في حاجة إلى مدد بقوات من الجمهورية العربية المتحدة ذلك بالإضافة إلى بعض الأسلحة ومحطة إرسال متنقلة . وقد وافق جمال على مدهم بما يحتاجونه من السلاح وعلى محطة الإرسال كلك. ولكنه أبدى تعذر إمدادهم بقوات عسكرية. واتفق على أن توضع هذه الأسلحة ومحطة الإرسال المطلوبة في نقطة قريبة من الحدود العراقية عند بلدة تلكوتشك السورية لتكون تحت تصرفهم الفوري عند تحركهم."
كذلك يذكر الحوراني، أن القيادة الناصرية اقترحت بعد فشل حركة الشواف، تسليح عشائر البدو على الحدود السورية العراقية للقيام بأعمال تخريب في داخل العراق. ووافق عبد الناصر عليها، ولكن تم التخلي عن الفكرة فيما بعد. ويستحسن الحوراني فكرة إلغاء خطة تسليح العشائر لأنها كما يعتقد كان مآلها الفشل والكارثة كما حصل لحركة الشواف الفاشلة.
ومن حقنا أن نتساءل، أية وحدة هذه التي كان عبد الناصر يرجوها للشعوب العربية عن طريق تنظيم أعمال تخريب في بلد عربي مثل العراق يعمل جاهداً للتخلص من تخلف العهود السابقة واللحاق بالنهضة الحديثة؟
نستنتج من مذكرات أكرم الحوراني ما يلي:
1-دور القيادة المصرية في التدخل الفض في شؤون العراق وحبك المؤامرات ضد ثورته وقيادته وتخريب ركائزه الإقتصادية وقتل الأبرياء وتدمير ثورته.
2-عدم رغبة ناظم الطبقجلي ومدحت الحاج سري والضباط القوميين الآخرين بقيام أي شكل من أشكال الوحدة مع ج.ع.م. وكلما أرادوا من العربية المتحدة هو الدعم فقط للتخلص من قاسم وحكومته. وحتى العقيد عبد الوهاب الشواف، ولمعرفتنا عن مزاجيته وميوله السياسية التي كانت أقرب إلى الحزب الوطني الديمقراطي، كما هو معروف عنه قبل الثورة كما أسلفنا، لم يكن جاداً في تحقيق الوحدة، بل كان إجراءً تكتيكاً مرحلياً لجر العربية المتحدة لمساعدته وليتنصل عنها كما فعل عارف فيما بعد.
3-أن وسائل الإعلام في العربية المتحدة وبإيعاز من عبد الناصر نفسه شنت حملة شديدة ضد قاسم تتحداه وتحرضه على إعدام الطبقجلي والحاج سري والضباط القوميين الآخرين الذين أفشت بأسمائهم عمداً بعد فشل حركة الشواف في الموصل، ونعت قاسم بالجبن إن لم ينفذ حكم الإعدام بهم، وذلك لخدمة هدفين: الإنتقام من هؤلاء الضباط القوميين الذين أقسم ناصر أنهم يستحقون الإعدام لعدم نصرتهم للشواف من جهة ولأخذ إعدامهم ذريعة لتحريض وتأليب الجماهير العربية ضد قاسم أكثر فأكثر في العراق والشارع العربي من جهة أخرى تمهيداً لإسقاط حكمه. أما قاسم فكان يعرف أنه إذا ما ذهب، فسيتمزقون شذر مذر. وهذا ما حصل.

دور العميد ناظم الطبقجلي في ثورة 14 تموز
يحاول بعض الكتاب القوميين من خصوم الزعيم عبد الكريم قاسم أن يصوروه وكأنه كان طارئاً على ثورة 14 تموز 1958 وليس قائداً لها. لا بل ذهب بعضهم إلى أنه كان مدسوساً من قبل الإنكليز في صفوف الضباط الأحرار!.. وأن المرحوم الطبقجلي هو الذي كان الرجل الأول والأخير في تفجيرها. وهذا الإدعاء يجافي الحقيقة، لأن الطبقجلي لم يكن عضواً في اللجنة العليا للضباط الأحرار أصلاً، كما هو واضح من كتاب محسن حسين الحبيب وغيره.
وفي حوزتي مداخلة من شاهد عيان، النقيب هادي الحافظ بعثها لتقديمها في الندوة الفكرية في لندن مساء 14/7/2000، بمناسبة الذكرى الثانية والأربعين لثورة 14 تموز، ويقول فيها الحافظ: ".. وللحقيقة أقول كنت شاهد عيان وسامع للحوار الذي دار بين العقيد الركن خليل سعيد في مقره بلواء الملك غازي في أربيل صبيحة 14 تموز 1958، الساعة الثامنة صباحاً وناظم الطبقجلي (في الموصل) حوار على التلفون، حيث أخبر خليل سعيد الطبقجلي أنه سيتحرك من أربيل إلى بعقوبة لتسلم مهام قيادة الفرقة الثالثة متسائلاً عن وصول الطبقجلي لتسلم مهام منصبه كقائد للفرقة الثانية . وحسبما فهمت من الحوار وبما قاله خليل سعيد للحضور في مقره حيث كنت مع آخرين، أجاب الطبقجلي: "لا يمكن المغادرة في الوقت الحاضر حيث المظاهرات تعم الموصل وبقية المدن والقصبات التابعة لها وأخشى أن تحصل انتهاكات وحوادث سلب ونهب، لذا فإني لا أستطيع مغادرة الموصل قبل أن يستتب الأمن". أجابه خليل سعيد: "إن كنتَ لم تنفذ قرارات الثورة وأنا لم أنفذها كذلك، فالثورة ستفشل حتماً.. أنا سأتحرك حالاً.."
ويضيف الحافظ: "الطبقجلي لم يلتحق إلا بعد أكثر من 24 ساعة (وشهادة أخرى بعد ثلاثة أيام) أي بعد أن تأكد من نجاح الثورة وبعد أن أعتقل ضباط مقر الفرقة الثانية قائدهم عبد الوهاب شاكر. وهذا السلوك نفسه الذي سلكه الطبقجلي تحسباً لإنجلاء الموقف، وفعلاً كسلوكه عندما فشلت محاولة الشواف " .
فالطبقجلي كان متورطاً بحركة الشواف، حيث كان هو المخطط لها ولكن الشواف سبقه في التنفيذ، وفي هذه المرة أيضاً، سلك الطبقجلي نفس السلوك، ولم يتحرك لدعم الشواف، بل فضل التريث حتى يتأكد من نجاحها، ولما فشلت، تنصل عنها وادعى المرض ودخل المستشفى وأعلن براءته منها وبعث ببرقية إستنكار لها وتأييده للزعيم عبد الكريم قاسم وأصر على إذاعتها من راديو بغداد.
وكما أرادت القيادة المصرية، حيث اتخذت من إعدام الضباط القوميين ذريعة للتأليب على قاسم. ولم يكن قاسم ذو نزعة دموية أو محباً للإنتقام ، بل اتصل بهم واحداً واحداً، متوسلاً إليهم أن يقولوا الحقيقة في المحكمة ويبينوا دور العربية المتحدة في حركة الشواف، ذلك الدور الذي بات معروفاً لدى الجميع، ولم تنكرها وسائل إعلام العربية المتحدة نفسها، فمجرد اعتراف هؤلاء الضباط ما كان يضيرهم شيئاً إلا إنهم أصروا على نكران تلك الحقيقة.
ومن المفيد أن ننقل ما ذكره جاسم كاظم العزاوي عن حافظ علوان الذي رافق الزعيم عبدالكريم قاسم في تلك المقابلة التي جرت بين قاسم والطبقجلي ورفاقه إثناء إعتقالهم. والعزاوي من التيار القومي العروبي وظهر فيما بعد أنه كان مع إنقلاب 8 شباط 1963، وكافئوه بتعيينه سفيراً في عهد البكر-صدام وقد ذكر الحقيقة في كتابه فيقول:
{ حينما دخل عبدالكريم قاسم وقف الطبقجلي وخاطب عبدالكريم مشيراً إلى يديه المربوطتين:
" كرومي، هذه هي النتيجة ؟ أيرضيك هذا لي ؟ " فأجابه عبدالكريم : " لم أكن أنا السبب، ولم تكن هذه رغبتي، وإنما أنت الذي تآمرت علَيّ، ووضعت نفسك بهذا الموقف" ثم أردف قائلاً : "شوف ناظم، أنك ارتكبت الخيانة مرتين، الأولى خنتني بإشتراكك مع الشواف ، والثانية كانت للشواف حينما ورطته بإعلان تمرده ومن ثم تنصلت عنه ودخلت المستشفى دون علة ، ومن ثم أرسلت برقيتك لشجب عملية الشواف وتأييدي ، وقد أُعلِنَتْ هذه البرقية من الراديو والتلفزيون حسب طلبك ، شوف ناظم لا أريد أن ترتكب خيانة ثالثة .. أقول لك، قل الحقيقة في المحكمة بتفاصيلها وكما حدثتْ .. أكرر قل الحقيقة كلها وبتفاصيلها، وما علاقة ج.ع.م وأجهزة جمال عبدالناصر بتحريضكم وتقديم العون لكم وكل شيء ، قل كل ذلك وخذ مني وعداً بأنك ستخرج من المحكمة إلى دارك رأساً، مع إسقاط كل التعقيبات القانونية ضدك ونرجع أصدقاء غافرا لك كل إساءاتك لي..
"وهنا سمعت صوت الطبقجلي يجهش بالبكاء عاليا يسوده الألَم والأسى وبعد لحظة صمت لم تدم طويلا أجاب الطبقجلي : " أنك يا كريم تطلب مني المستحيل، وقد حكمتَ عليّ بالإعدام من الآن".
قارن بين إخلاقية الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع خصومه وإخلاقية خصومه من القوميين في تعاملهم ليس مع الشيوعيين الذين قتلوا تحت التعذيب أيام حكمهم فحسب، بل و حتى مع رفاقهم من فرسان 8 شباط فيما بعد. وعلى سبيل المثال لا الحصر أذكر ما فعلوه بطاهر يحيى الذي ادعى أنه كان يخاطب عبد الكريم قاسم يوم 8 شباط 1963 (نريد رأسك) ، بعد أن اعتقله رفاق الأمس، كانوا يرغمونه على خلع ملابسه والرقص عارياً في ساحة معتقل قصر النهاية على دق الطبلة، وهم يضحكون عليه للإمعان في إذلاله. كما كانوا يرغمونه على تنظيف مراحيض السجن.
ومن الجدير بالذكر أن نقارن موقف قاسم من أقارب خصومه بما يفعله القوميون بخصومهم وأقارب خصومهم إلى الدرجة الرابعة. فبعد فشل محاولة الشواف، قال الزعيم عبد الكريم قاسم في إحدى خطبه، لقد خسرنا شوافاً وكسبنا شوافين. حيث كان في حكومته المرحوم اللواء الطبيب محمد الشواف وزيراً للصحة والسياسي والإقتصادي المرحوم عبد اللطيف الشواف وزيراً للإقتصاد، فالأول أخ عبد الوهاب الشواف والثاني إبن عمه. وبقي المرحومان وفيان لقاسم إلى آخر لحظة من حياتهما.

حول الإعدامات
لتبرير المجازر التي ارتكبها الإنقلابيون يوم 8 شباط 1963، وبعده بحق الشهيد الزعيم الكريم قاسم وصحبه الشهداء الأبرار ، والآلاف من الوطنيين الآخرين يحاول بعض الكتاب القوميين، تبرير ذلك بأنه كان رد فعل لما حصل أيام ما سمي بالمد الأحمر. والإنتهاكات الذي حصلت في حوادث الموصل وكركوك. فيستشهدون بالحديث الشريف (وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين). وهذا يذكرني بقول أبو بكر إبن العربي قاضي الأمويين في الأندلس، في دفاعه عما ارتكبه يزيد في مجزرة كربلاء قائلاً: "أن الحسين قتل بشرع جده" ويعنى بذلك أن الحسين خالف حديث جده في وجوب الطاعة لإمام زمانه وما كان على الحسين أن يتمرد على يزيد فيفرق شمل المسلمين. علماً بأن إبن العربي هذا كان يدافع عن خروج معاوية على إمام زانه علي بن أبي طالب (ع). وهكذا نرى كيف يستغل وعاض السلاطين الأحاديث النبوية الشريفة لتمرير الجرائم التي يرتكبها أسيادهم وأولياء النعمة من الطغاة.
ولكن من الذي بدأ القتل؟ أهو قاسم أم الضباط القوميون والشواف في محاولتهم الإنقلابية في الموصل؟ ومن قتل عبد الله الشاوي وكامل قزانجي وغيرهما من الأبرياء ومَنْ بدأ في إشعال فتيل الفتنة والإضطرابات في الموصل؟.. وما الذي سيفعله شيراك، أو غيره من القادة الاوربيين، لو أن عقداءً في الجيش أغاروا على قصر الاليزيه، أو البيت الأبيض وقصفوه بالصواريخ، في تمرد عسكري يهدد بحرب أهلية ضارية وكان من نتيجته مئات الضحايا؟.
لم يكن قاسم هو البادئ بالقتل؟. وقد دفع قتلته الثمن باهظاً فيما بعد وعلى أيدي رفاقهم. فمن المعروف عن قاسم أنه كان مسالماً ويدعو إلى التسامح وسياسة اللاعنف وتوسل بهؤلاء الضباط الذين تم إعدامهم أن يقولوا الحقيقة في المحكمة عن دور العربية المتحدة في حركة الشواف والتي كانت معروفة لدى الجميع ودون أن تنكرها وسائل الإعلام المصرية نفسها حيث كانت تعلنها متبجحة بذلك الدور. ولكنهم أصروا على مواقفهم واعتبروا قول الحقيقة تخاذلاً منهم. ومع ذلك يقول أريل دان في كتابه (العراق في عهد قاسم): (لقد مارس قاسم الحد الأدنى من العنف في مرحلة كانت تتطلب الكثير".
لم يتطرق أحد إلى الإعدامات التي قام بها جمال عبد الناصر بحق عدد من الوطنيين المصريين مثل شهدي العطية وغيره من الشيوعيين وسيد قطب (من الإسلاميين) رغم التماس العديد من رجال الدين من جميع الطوائف الإسلامية في العالم مثل الإمام السيد محسن الحكيم وغيره؟ علماً بأن سيد قطب كان رجل دين إضافة إلى إنه كان يقود حركة سياسية وليس ضابطاً يقود تمرداً عسكرية كما كانت الحال في العراق وما قام به الضباط القوميون في العراق ضد قاسم. فلماذا لم يتحدث أحد منهم عن الإعدامات في مصر أيام عبد الناصر.. وإنما يركزون فقط على ما حصل في العراق؟

هل كانت الوحدة العربية ممكنة عملياً؟؟
لقد أعدَمَ الضباط القوميون عبد الكريم قاسم ورفاقه بعد نجاح إنقلابهم يوم 8 شباط 1963، بإسم الوحدة العربية، وبتهمة إنحرافه عن أهداف ثورة 14 تموز والمقصود بالإنحراف أنه تنكر لهذه الوحدة. فكما بينا أعلاه، لم تكن الوحدة العربية من أهداف الثورة ولم يكن قاسم منحرفاً عن تلك الأهداف.
ويؤكد د.علي كريم سعيد (قومي عربي) ذلك في نفي إدعاء ناصر وعارف وغيرهما بأن خلافهما مع قاسم كان يدور حول ديكتاتوريته. بل هما أقاما ديكتاتورية مؤلدلجة ووقفا في مفاوضات الوحدة عند الحصص أكثر من الأفكار والشعارات التي قسموا المواطنين العرب بسببها. وليس صحيحاً إتهام قاسم بالتخلف عن الوحدة لأنه لم تكن هناك وحدة ليلتحق بها، بل اختصرت الوحدة المصرية السورية إلى حكم المباحث المصرية السورية. ولم يقيموا الوحدة بعد مقتل قاسم بأربعة عقود من حكمهم، ولم يكن قاسم على قيد الحياة ليعيقهم.
يقول طالب شبيب (وزير الخارجية في حكومة إنقلاب 8 شباط/فبراير 1963) : "مثلما حوصر عبد الكريم قاسم بمطالب غير قابلة للتحقيق، واجهتنا وواجهت عبد الناصر موجة عظيمة من المزايدات في كل مكان في الوطن العربي." وهذا ينفي تماماً تهمة إنحراف قاسم بعدم تحقيق الوحدة العربية.

حركة القومية العربية والديكتاتورية
لعل من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها قادة الحركة القومية العربية من الرعيل الأول والثاني في القرن العشرين، هو الترجمة الحرفية للحركتين القوميتين الألمانية والإيطالية وربطها بالدكتاتورية، والقائد الرمز، ومحاربة الديمقراطية دون أي إعتبار للإنسان العربي وكرامته ودوره في تحقيق الأهداف القومية.
ويؤكد ذلك آخر دراسة قامت بها مؤسسة الأهرام القاهرية عن القومية العربية ومسئوليتها لما آل إليه الوضع في المنطقة العربية فتقول الدراسة: "إن القومية العربية تتحمل مسؤولية كبرى، بل مسؤولية أولى، عن التدهور الذي آل إليه النظام الإقليمي العربي في نهاية القرن العشرين، فهذا يرتبط بالأساس اللاديمقراطي، بل المعادي للديمقراطية، الذي قامت عليه."
أما في العراق، فلم يكتفوا بربط حركة القومية العربية بالدكتاتورية فحسب، بل أضافوا إليها المذهب (الطائفية) أيضاً، علماً بأن قادة ثورة العشرين، وأغلبهم من الشيعة العرب، كانوا يؤكدون على عروبة العراق وعروبتهم بالفطرة ودون أن يتلقوا أي "درس أو تزكية" في عروبتهم من ساطع الحصري ومشيل عفلق وغيرهما من المنظرين القوميين.
ومن المؤسف حقاً أنهم ربطوا القومية العربية بالمذهب في العراق ومارسوا الطائفية بشكل واضح ضد الشيعة الذين يشكلون الأغلبية العربية من الشعب العراقي، رغم أن رئيس حزب الإستقلال (القومي) الشيخ محمد مهدي كبة كان شيعياً. وكذلك أغلب أعضاء القيادة القطرية من المدنيين لحزب البعث في الخمسينات وبداية الستينات كانوا من الشيعة. ولكن بعد ثورة 14 تموز 1958 حيث تبني قائدها عبد الكريم قاسم سياسة عدم التمايز الطائفي لأول مرة في التاريخ العراقي في التعامل مع العراقيين، أعتبر ذلك من قبل غلاة الطائفية، خروجاً عن المألوف والموروث التركي. لذلك انقسم العراق جغرافياً إلى مؤيد لقاسم (المحافظات ذات الأغلبية الشيعية) ومعاد له في المحافظات ذات الأغلبية السنية. كذلك من الملاحظ أن الجماهير الفقيرة من مختلف الطوائف كانت مع قاسم بينما الأغنياء والموسرين من ذات الطوائف ضده.

القومية والعروبة
يجب التمييز بين القومية العربية كحركة سياسية والعروبة كإنتماء. ونعود إلى دراسة الأهرام المشار إليها أعلاه التي تقول: "فالمقصود بالقومية كآيديولوجيا ومذهب سياسي مغلق، بينما العروبة كثقافة وهوية ومشاعر. فقد حاولت الايديولوجيا القومية إستغلال العروبة لتحقيق مآرب سياسية سلطوية. وليست المسافة بين الحركات القومية العربية والعروبة إلا أبعد من المسافة بين حركات الإسلام السياسي والدين الإسلامي. ولكن بينما تقر أهم الحركات الإسلامية السياسية بأنها ليست هي الإسلام، تزعم الحركات القومية العربية عادة أنها والعروبة صنوان لا يفترقان، في حين أن بالإمكان أن يكون ليبرالي أو إسلامي أو يساري عربي مثلاً أكثر حرصا على العروبة وخدمة لها من بعض القوميين."

وتنتقد الدراسة مواقف بعض القوميين فتضيف: "ولكن الأفدح من ذلك التوجه الإنقلابي الأكثر وضوحاً من أي وقت مضى منذ عقد السبعينات هو الكشف عن نزعة عنصرية صريحة كان كثير من القوميين العرب يسعون إلى مقاومتها، بينما كان العنصريون منهم حريصون على إخفائها.
وتزداد درجة التعصب كلما تطرفت النزعة القومية أو تشددت لتكتسب طابعاً عنصرياً يقصد به الإعتقاد في أن العنصر الذي تنتمي إليه أفضل وأسمى من غيره."
وتضيف الدراسة: "وكان للإسلام فضل كبير في كبح التعصب القومي العربي والحيلولة دون تحوله إلى عنصرية بغيضة في كثير من الأحيان بالرغم من الطابع العلماني وشبه العلماني الغالب على حركة القومية العربية أو حركاتها. غير أن هذا الطابع ترك مجالاً يمكن أن تنمو فيه النعرة العنصرية، لدى قطاع من أنصار القومية العربية بدرجة أو بأخرى. ومع ذلك فقد بقي هذا المجال ضيقاً، خصوصاً وأن الهزائم التي تسببت فيها القومية العربية أدت إلى تراجع في الشعور بالفخر القومي بل وإلى إحساس بالهوان والمذلة في بعض الأحيان.
ولكن هذا الإحساس السيئ يؤدي في ظروف معينة إلى نوع من العنصرية البغيضة تعويضاً عنه. والأرجح أن هذا هو ما يفسر ما بدا من مظاهر لهذه العنصرية لدى قطاع من القوميين العرب كان أبرزها خلال العام 1999 عندما زَعم مسؤولون ومثقفون بعثيون عراقيون أن صلاح الدين الأيوبي كان عربياً ولم يكن كردياً.
فقد وقف نائب مجلس قيادة الثورة العراقي عزة إبراهيم أمام مؤتمر عقد في بغداد في آخر سبتمبر عن (صلاح الدين الأيوبي وقضية القدس) وزعم أن صلاح الدين كان عربياً يعود نسبه إلى قبيلة عربية "استكردت" وأيده في ذلك آخرون في حضور بعض أنصار النظام العراقي من القوميين العرب من بلاد مختلفة.
ولم يجد هذا التزوير العنصري للتاريخ من يصححه بين الحاضرين، ولا من يقول للمزيفين أن قبيلة صلاح الدين تدعي "شيركوه" وهي كلمة كردية تعني الأسد ولا توجد أي تأويل لها في اللغة العربية على أي نحو. كما لم يجدوا من ينصحهم بأن يكفوا عن التخريب وأنه من الخير لهم محاولة إصلاح ما أفسدوه في العراق الذي يعيش شعبه إحدى أعظم مآسي العرب والمسلمين منذ سقوط بغداد في يد المغول قبل نحو سبعة قرون ونصف. ولم يسألهم أحد عن ما فائدة هذا التزييف لأصل زعيم إسلامي نذر حياته دفاعاً عن الأمة الإسلامية بعيداً عن أي نزعات قومية لم يكن لها مكان في ذلك الوقت. ولا يمكن فيهم مثل هذا التزييف إلا في ضوء الميراث السلبي شديد الوطأة لايديولوجية القومية العربية، والذي مازالت تداعياته مؤثرة على مسار النظام الإقليمي العربي."

الدولة الوطنية
ثم تثني الدراسة على ما أجزته الحركات الوطنية في البلاد العربية في نجاحها الكبير في تكوين دولها الوطنية وليست الدولة القومية من المحيط إلى الخليج. فتقول: "بالمقابل فإن أهم الإنجازات العربية على الإطلاق خلال هذا القرن (القرن العشرين)، تركزت في مجال إنشاء وتدعيم الدولة قواعد الدولة الوطنية الحديثة، التي اعتاد الفكر القومي الراديكالي على تسميتها بالدولة القطرية، وعلى إعتبارها كياناً ناقص الشرعية صنعه الإستعمار ومصيره إلى الزوال. ومن الملفت للنظر أن الدولة القطرية والهويات الوطنية المرتبطة بها، والتي لم تحظ سوى بإهتمام محدود، غلب عليه الطابع السلبي، من الجانب الفكري القومي العربي كانت هي نفسها أهم الإنجازات العربية في القرن العشرين، الأمر الذي قد يشير إلى أن الطبقة السياسية العربية الأخرى، بما قد يعني الأجندة الرسمية للعمل العربي المشترك كانت في أغلب الوقت أجندة مصطنعة لا تعبر عن الإهتمامات الحقيقية للدول العربية.
إن التناقض بين الفعل والقول وبين الأجندة الرسمية، وتلك الفعلية في المجال العربي، يشير إلى ما يمكن إعتباره مستوبين ومجالين للسياسات العربية، مجال النطاق العربي العام، ومجال الدولة الوطنية، وقد عبر الفكر القومي عن هذه الثنائية في تناوله لإشكالية العلاقة بين القومي والقطري. غير أن إدراك وجود هذه الإشكالية لم يعصم القومي العربي من معالجتها بشكل خاطئ. وربما يرجع ذلك إلى التحيزات الايديولوجية للفكر القومي العربي لم تتح له الفرصة لإدراك قوة جذور الدولة الوطنية، وبالتالي فإنها لم تمكنه من إدراك طبيعة العمليات السياسية في الواقع العربي. "

تهمة الشعوبية
كذلك أدمن القوميون العرب في العراق على توجيه تهمة الشعوبية إلى كل من لم ينتم إلى حركتهم أو معارضاً للوحدة العربية لاعتقاده بعدم إمكان تحقيقها. لقد وجهت هذه التهمة للزعيم عبد الكريم قاسم والشيعة والأكراد والتركمان والصابئة والآثوريين والأرمن والشيوعيين والديمقراطيين وكل من لا يؤمن بتعاليم ميشيل عفلق وساطع الحصري، حتى بلغ بهم الغلو إلى استخدام هذه التهمة ضد بعضهم البعض من داخل التيار القومي. لذا نرى عبد السلام محمد عارف في بيانه الأول في إنقلابه على البعثيين يوم 18 تشرين الثاني 1963، يصف قيادة البعث بالشعوبية. والمقصود بهذه التهمة طبعاً أعضاء القيادة البعثية من الشيعة.
أما خير الله طلفاح (خال صدام حسين)، فكان أكثر "عدالة" في توزيع تهمة الشعوبية ضد الخصوم وكل من عارض حزب البعث الحاكم. فيتهم بالشعوبية في كتابه الموسوم (نضالي) كل من بكر صدقي وعبد الكريم قاسم وعلي صالح السعدي وحتى عبد السلام عارف .

الدروس المستخلصة
لقد أثبتت الحياة ومن خلال الكوارث، أن الوحدة العربية لم تكن ممكنة في تلك الظروف والتي مازالت قائمة، مهما حاول دعاتها والمتحمسون لها، لأن الواقع أقوى من العواطف، كما بات ذلك واضحاً من فشل الوحدة بين سورية ومصر في عهد عبد الناصر . كذلك فشل الوحدويون تحقيق هذه الوحدة رغم إستلامهم السلطة في العراق وسوريا ومصر وغيرها، بل أصبحت الوحدة في عهدهم أصعب منالاً مما كان في عهد عبد الكريم قاسم أو أي وقت مضى.
لقد أثبتت التجارب المريرة صحة موقف الزعيم عبد الكريم قاسم من الوحدة العربية . فالوحدة لا يمكن تحقيقها بقرارات فوقية عاطفية مرتجلة ومستعجلة، بل يجب أخذ خصوصيات كل بلد عربي بنظر الإعتبار.
وفي ظل الأوضاع القائمة التي تعيشها المنطقة العربية، فإن الوحدة العربية تبدو بعيدة المنال ومتروكة للأجيال القادمة. ولكن يمكن للقوميين العرب الإستفادة من تجربة الوحدة الأوربية. فالوحدة الأوربية بدأت بين دول ذات أنظمة ديمقراطية منتخبة من قبل شعوبها لا عن طريق إنقلابات عسكرية كما الحال في البلاد العربية.
لذا فقبل أي تحرك نحو الوحدة العربية، يجب تحقيق الديمقراطية في كل بلد عربي على حدة أولاً، ثم تحقيق الشروط الأخرى في التضامن العربي، والتقارب والتكامل السياسي والإقتصادي والثقافي والإجتماعي..الخ. كذلك البدء بالتقارب التدريجي وعلى مراحل وأخذ رأي الشعوب العربية عن طريق الإستفتاء الشعبي في كل مرحلة وإعطاء فرصة كافية لهذه الشعوب لطرح كل خطة وخطوة تقاربية على الرأي العام العربي للمناقشة والسجال، ثم الإستفتاء عليها، تماماً كما هو جار الآن في عملية الوحدة الأوربية التي بدأت بمعاهدة روما في الخمسينات.
وإذا تقرر السعي نحو هذه الوحدة، فيجب أن تكون نوع من الإتحاد الفيدرالي يقر الحفاظ على خصوصيات كل بلد واللامركزية ذات الصلاحيات الواسعة، تماماً كالوحدة الأوربية. وهذا يأخذ وقتاً طويلاً وأسلم عاقبة للجميع.



#عبدالخالق_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 5
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 4
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم - 3
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم - 2
- ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم - 1
- لماذا معظم الإرهابيين مسلمون؟
- ثورة 14 تموز العراقية وعبدالكريم قاسم
- هل الإسلام دين التسامح؟ (3)
- هل الإسلام دين التسامح؟ (2)
- حول المصالحة الوطنية العراقية
- هل الإسلام دين التسامح؟
- الحكومات العربية والإرهاب
- هلاك الزرقاوي.. دروس وعبر!
- حوار مع القراء - 2
- نصر الله يدق طبول حرب أهلية جديدة في لبنان!
- الخراب البشري في العراق 3-3
- الخراب البشري في العراق 2-3
- الخراب البشري في العراق 1-2
- الوصايا العشر - إلى الحكومة العراقية الجديدة !!
- المجتمعات العربية والشيزوفيرينيا


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالخالق حسين - ثورة 14 تموز وعبدالكريم قاسم 6