أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - أقــنـعـــة الـفـــرهـــــود















المزيد.....



أقــنـعـــة الـفـــرهـــــود


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 473 - 2003 / 4 / 30 - 04:53
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


 

 

أثارت اعمال السلب التي حدثت في العراق دهشة العالم أجمع، ليس فقط لسعتها، وإنما لطابعها الخطير، ولما تسببت به من معان انسانية واخلاقية يصعب تفسيرها، كسرقة أسرّة المرضى ونهب الامصال وإحراق مركز المخطوطات، اضافة الى نهب المتحف الوطني والجامعات ووزارة التخطيط. فما هي الدوافع الحقيقية الكامنة وراء ذلك؟

 

 

المرحلة الراهنة، لأمين الباشا.

 

... اسوج

عزا المفسرون ذلك الحدث الجسيم الى عوامل عديدة، نفسية واجتماعية وتاريخية وسياسية. وقد أشاروا، في معرض تشخيص الاسباب، الى اتجاهين مختلفين: الاول، المجتمع العراقي. والثاني قوات الاحتلال. فالذين ينسبون اسباب الحدث الى المجتمع العراقي يرون ان ما جرى هو فعل طبيعي. فمثل هذا السلوك ينبع من خصائص المجتمع المعني، وهو فعل قد يحدث في اي مجتمع. وقد شاع هذا الرأي بشكل صريح او مستتر في الاعلام الاميركي والاوروبي والاسرائيلي وحتى العربي المشارك في الحرب على العراق.                                     من أقنعة  الفرهود: النهب بسبب الفقر، لأمين الباشا.

ويفسر هذا الفريق الامر قائلاً بأن شدة فترة الاضطهاد، التي عانى منها المجتمع العراقي، أعقبها انفجار شعبي، سمّاه وزير الدفاع الاميركي "الشعور بالحرية". اما اعمال النهب فهي التعبير الوطني عن هذه الحرية: "الناس يعبّرون عن هذه الحرية بطريقتهم الخاصة"، فما حدث هو "حرية غير منظمة" لأن "الشعب الحر له حرية ارتكاب الاخطاء"، على ما قال رامسفيلد (سي ان ان 12/4/2003). ومن هذه الزاوية، فالنهب عملية طبيعية، بل جزء عضوي من واقع الشخصية العراقية، وجزء من ضريبة الحرية، التي لم يتذوقها العراقي من قبل. انه هنا ظاهرة صحية في الجوهر، رغم شكلها المخالف للقانون او الجارح للمشاعر و"غير المنظم".

ويعتقد كثيرون ان هذا التفسير يشي بحقيقة شعور الاميركيين وبعض الاوروبيين حيال الشعوب الاخرى، التي ليست سوى قطعان من البرابرة. ويرى آخرون ما هو أبعد من هذا، حيث يقولون ان ما حدث ليس أكثر من محاولة للتستر على الاحتلال نفسه وما رافقه من صفقات داخلية بتوجيه الانظار ناحية اخرى. وهناك من يرى ما هو أبعد من هذا ايضاً معتقداً ان هذا الحدث هو مؤشر ليس الى ما جرى او ما يجري، وانما الى ما سيجري. فالاميركيون يعدون أنفسهم والعالم أجمع نفسياً واعلامياً لمواجهة البرابرة، بعدما فرغوا من محاربة قصور صدام وجيوشه.

اما الفريق الثاني، الذي ينسب الامر الى الاحتلال، فقد اعتبر الاحداث جزءاً من سياسة القوى الغازية، التي تريد اشاعة الفوضى، او على أقل تقدير لم تهتم بإيقاف الفوضى. وفي هذه التفسيرات تظهر بقوة النزعة التبريرية التنزيهية، التي تحاول الصاق تهمة السرقة باللصوص الذين جرى اطلاق سراحهم من معتقلاتهم، في فترة صدام او عند الاحتلال. ويلقي هذا الاتجاه بتبعية السلب القانونية والاخلاقية على عاتق المحتلين، منزّهاً المجتمع العراقي من مسؤولية الحدث.

ما حقيقة الامر؟ من يتحمل مسؤولية ما حدث؟ وما هي الجوانب الخفية، النفسية والاجتماعية والسياسية التي تقع خلف قشرة الحدث؟

قبل الاجابة عن هذه الاسئلة، لا بد أن نشير مسبقاً الى ان التفسيرين المتعارضين السابقين يحتويان على شيء من جزئيات الحقيقة، لكنهما لا يكوّنان صورة متكاملة وواقعية لما حدث. لذلك سنحاول رسم صورة اكثر تفصيلية لما جرى، ساعين من خلالها الى كشف الآلية الداخلية، النفسية والثقافية والاخلاقية والسياسية، المحركة الاحداث.

 

الجوانب التاريخية الاجتماعية

تعني كلمة فرهود في العامية العراقية: نهب ممتلكات الغير في حالة الفوضى العامة. وهي كلمة شائعة التداول، لها دلالة أشد خصوصية من السلب والسرقة، تنطبق انطباقاً تاماً على المشاهد التي نقلتها الينا وسائل الاعلام. اما الاصل القاموسي الفصيح لكلمة فرهود، فلا صلة له بالمعنى العامي المذكور، رغم ان العراقيين ما انفكوا يستخدمون المعنى الفصيح ايضاً، خاصة في اسماء الاعلام، بمعنى الحادر الغليظ، أي الحسن السمين، او ولد الوعل والاسد. كما جاء في "لسان العرب".

ومن الناحية التاريخية فإن عمليات النهب لها اساس في التاريخ العراقي. فقد وردت اخبار النهب في تاريخنا غير مرة، ولكنها جاءت على هيئة أخبار عن انتهاب القبائل البدوية القادمة من الصحراء للقوافل او المدن. اما اشهر حادثة انتهاب لبغداد فتلك التي رواها جيمس فريزر وكان شاهداً على وقوعها، حينما انتهبت بغداد عام 1834 على يد القبائل البدوية وأضحت ميداناً للقتل والتخريب والسلب. وتكاد تكون اعمال الغزو القبلية ضد الحكومة العثمانية ومواقعها شأناً عضوياً في تكوين القبائل العراقية، التي عرفت بكرهها العميق المتبادل مع الحكم التركي. والذي كان يرافقه اعمال نهب ايضاً. وشهدت بعض مدن العراق خلافات محلية بين فريقين متخاصمين من ابناء المدينة الواحدة، كما هي الحال في النجف وكربلاء والسماوة في العهد العثماني. وقد وقعت اعمال نهب في بعض تلك الخلافات. وقد ذكر ابن بطوطة بعض تلك الخلافات المحلية، لكنه لم يشر الى حوادث النهب. وحتى بعد قيام الدولة العراقية جرت معارك واعمال نهب محلية في اماكن متفرقة من العراق، منها معارك البزون والازيرج في العمارة عام ،1937 وقد حدث مثل هذا عام 1941 بين البوعلي والبو محمد، ورافقتها اعمال قتل ونهب. وأشهر عمليات الفرهود في تاريخنا الحديث حادثة نهب يهود بغداد عام ،1941 التي بالغ فيها اليهود المتطرفون مبالغة كبيرة وجرى تهميشها تهميشاً مخجلاً على أيدي المعادين لليهود. الا أنها رغم ذلك تظل نقطة سوداء في تاريخ المدينة، رغم اختلاف دوافع الحدث واسبابه وحجمه. بيد أن أوسع اعمال النهب العفوي الجماعي هي تلك التي وقعت عقب حرب الكويت، ابان الانتفاضة الشعبية .1991 وكجزء من الاستعداد للحرب مع ايران تم الاستيلاء بطرق تشبه الفرهود على ممتلكات العراقيين المسفّرين الى ايران، والذين عرفوا بالتبعية او الاكراد الفيلية، في اشراف السلطة العراقية نفسها. ومن المعروف تاريخياً ان عملية النهب والسلب فعل يرافق الحروب دائماً. وقد تتغير اساليب الفرهود على مر العصور، بيد أن جوهره، السلب، يظل محتفظاً بمحتواه. فاذا كان الاستيلاء على ممتلكات القوى المغلوبة امراً شائعاً في ثقافات الشعوب كافة، فإن هذا الفعل يكتسب خصوصيات معينة ضد بعض الشعوب في مراحل تاريخية معينة. ففي الحروب القديمة كانت الممتلكات العامة والخاصة، حتى نساء القادة المغلوبين تقع ضمن امتيازات القوى المنتصرة. ولا يزال بعض الاصوليين الاسلاميين المسلحين يحتفظون حتى اليوم بمثل هذا الحق، كما كشفت احداث متفرقة في الجزائر. وربما تكون اكبر اساليب الفرهود التقليدي، ذات الطابع السياسي والعسكري، هي تلك التي رافقت دخول القوات العراقية أراضي الكويت. فقد جرى نهب واسع ومنظم للكثير من الممتلكات الكويتية الخاصة والعامة لصالح قادة النظام العراقي.

بيد ان هذه الاعمال ليست وقفاً على شعب ما، او على درجة معينة من درجات التطور الاجتماعي. فالسلب الاستعماري في مراحل الاستعمار المباشر كان فرهوداً رأسمالياً منظماً، مغلفاً بغلاف حضاري، او تجاري، ولم يكن في جوهره اكثر من نهب وسطو لا مشروع. وفي مرحلة سيادة القوة الواحدة فإن عمليات الفرهود تتم بطرق اكثر تمويهاً، من خلال تسديد اقرارات مالية عبر مناقلات مصرفية، لا أحد يراها او يسمع بها، وتلك هي ذروة الفرهود الحضاري. فما اصغر وأتفه سرقة كرسي مكسور مقارنة بسرقة مخزونات النفط في بقعة تعد أكبر احتياطي للنفط في العالم! بيد ان جوهر السرقة واحد في الحالتين، لأنه ينبع من المبدأ ذاته: الحق في أخذ ما للآخرين عنوة. ولذلك لم يكن غريباً ان يقوم الجنود الاميركان والانكليز بحماية آبار البترول العراقية والمصارف التي تحتوي على ودائع بالعملة الصعبة فقط. ولم يترددوا لحظة واحدة في اطلاق النار وقتل كل من سعى الى الاقتراب من هذه الاماكن. فهذه الاماكن لا يحق للشعب ان "ينفس عن حريته" فيها، ولا يحق له "ممارسة الاخطاء" فيها ايضاً. وقد شاعت على ألسنة سكان بغداد تهمة "فرهود المعارضة"، وهم يعنون عمليات الاستيلاء على مقار الصحف والنوادي والمؤسسات، التي تحولت الى مقار للعشرات من احزاب المعارضة العربية والكردية. ويشير البغداديون الى ان هذا الاستيلاء يشبه عمليات السطو، التي قام الغوغاء بها. ويرى بعضهم ان ذلك ربما يكون مؤشراً الى ظهور طريقة جديدة لممارسة حق الملكية بالاغتصاب، طالما ان الوطن مغتصب بأجمعه.

 

الجانب النفسي

قبل ظهور مشاهد الفرهود بأسبوعين، أصيب الكثير من المشاهدين الاوروبيين بصدمة قوية حينما رأوا بعض العراقيين المغتربين في اوروبا يهللون من على شاشات التلفزيون لعمليات قصف بلادهم وشعبهم. ولم يكتف اولئك بالتهليل بل قرنوه بإعلان مشاعر الفرح الغامر والراحة النفسية العالية. وقد أثارت تلك المشاهد تساؤلات ذات صبغة سيكولوجية، منها السؤال الآتي: هل يمكن الفرد السوي ان يمتلك شعوراً كهذا؟ وكان الجواب: لا. وقد برّر هذا النفي بحجج شتى، ابرزها طغيان مشاعر الكبت والحرمان السياسي التي عاشها المواطن العراقي، بيد ان ذاك التبرير لم يجب اجابة كاملة عن مكمن الجانب المرضي في هذه المشاعر. فمثل هذا الشعور - الفرح بالقتل - حتى وإن كان ناتجاً من الكبت، فهو من الناحية النفسية تعبير مرضي عن نوازع سوداء، أي تعبير غير سوي كفاعلية عاطفية، اضافة الى نبوه اخلاقياً وانسانياً. فقد يكون المرء راضياً عن الحرب، لكنه لا يمكن ان يكون مستمتعاً علناً بالقتل الى حد الفرح، خاصة اذا كان هذا القتل يشمل قطاعاً واسعاً من ابناء الشعب الابرياء. فهذا الفرح هو الصورة الانتقامية المكبوتة، التي امتلكها واختزنها الوعي الباطن لافراد عديدين من جراء عمليات التهجير القسري ونهب الممتلكات وهتك الاعراض التي عانى منها عديد من ابناء الشعب العراقي بقومياته وطوائفه المختلفة، لذلك فهو رد عاطفي ونفسي مباشر وفوري نابع من مشاعر القهر. لكنه رد فعل مرضي، يحمل في داخله جرثومة الانتقام والكره والثأر النفسي والمعنوي، الموجه ليس ضد مسببي الكارثة فحسب، وانما ضد الجميع. وفي درجة اساسية ضد المواطن المسالم (غير القادر على حماية نفسه)، او ضد الحق العام (الممتلكات العامة غير المحمية عسكرياً)، التي لا تربطها صلة عضوية بنشوء عملية الكبت النفسي. اما في العراق نفسه، في المدن العراقية، فاضافة الى ما ذكرناه، اتحد عنصران اساسيان في خلق هذه الظاهرة نفسياً واجتماعياً. الاول هو اطلاق يد اللصوص من مرتادي السجون، الذين اقتبلوا الفرصة فراحوا يصرخون من على شاشات التلفزيون: "نحن اميركان، نحن نحب بوش". والثاني اطلاق يد الجماعات الفقيرة، التي تسكن اطراف المدن، والتي تشكل أحزمة بؤس تطوق المدن. وينطبق هذا على بغداد في درجة رئيسية، حيث يضم حزام الفقر البغدادي اكثر من نصف سكان العاصمة. ويكنّ سكان هذه المناطق، الذين هم في الغالب فئات رثة من الفلاحين الجنوبيين المهاجرين، اضافة الى المهاجرين الاكراد، عداء تاريخياً حيال المدينة الكبيرة، التي هي رمز للرخاء والسلطة، اللذين يحتكرهما الآخرون. اما في تكريت وكركوك والموصل فقد استخدم الطوق الكردي للاغراض ذاتها، ضد القوميات الاخرى.

إن قلق الشخصية العراقية الناتج بسبب تعقيد الموقف: سلطة محلية ظالمة في مواجهة سلطة اجنبية محتلة، قد حلل الشخصية من بعض قواعدها الاخلاقية. فلا الذاهب مقبول ولا القادم مرحب به. وقد شاع بين الناس مبدأ الوقوف على الحياد، من منطلق وقائي شائع يقول: "كلبان مسعوران يتعاركان، فما دخلنا نحن". وقد شجعت بعض المرجعيات الدينية هذا الاتجاه، حينما دعت الحاجة الى ما عرف بالانتظار السلبي. وهو أمر فيه قدر كبير من الحكمة السياسية والدراية بشؤون الناس وطباعهم وحقيقة الموقف الناتج من شدة تعقيد الازمة وطابعها القدري. حيث اعتبر البعض أن ما يحدث بمثابة قدر، لا يقوى "بيت القصب السومري" على مواجهة شدة عصفه.

إن طول الازمة العراقية وشدة القهر السياسي، ولّدا اليأس والأنانية المفرطة، اللذين عزّزا مشاعر التحلل من القيم الاخلاقية والسلوكية، وأضعفا الاهمية الاعتبارية لمفهوم الوطن والجماعة الكبيرة، التي هي أبعد من حدود الطائفة والقبيلة والمنطقة والقومية. كل ذلك منح الفرد جرعات من الانفصال النفسي عن القيم الكبرى جعلته يغرق في المشاعر الانانية الحسية الضيقة وردود الافعال المباشرة. إن الفرهود ارتداد وارتكاس اجتماعي في السلوك، يتم فيه تغليب النزوع الفردي العفوي الآني، الذي هو جوهر الفوضوية الاجتماعية، وجزء من بقايا العقلية القبلية، الذي وجد تأييداً تاماً في الدعاية السياسية الاميركية، التي حرصت على اللعب بالمشاعر القومية والطائفية والمناطقية والقبلية، في سبيل تهيئة الارض لتحقيق الانتصار العسكري، ومن بعده تحقيق الانتصار السياسي.

 

الجانب الثقافي

هل كانت اعمال السطو من صناعة رجل الشارع الفقير، المكبوت، المتدني في مركزه الاجتماعي وثقافته؟

من غير شك. هكذا يكون الجواب للوهلة الاولى. فلا يتوانى كل من شاهد الصور، وكل من يحاول تنزيه العراقي من جوانبه السلبية والقاء تبعياتها على عاتق المحتل، او كل من يؤيد المحتل ويريد القاء اللوم على عاتق السلطة السابقة او التكوين البربري للشعب، ان يكون جوابه: نعم، وربما نعم كبيرة جداً، لا تقبل الشك.

ولكن، عند إنعام النظر في تلك اللوحة، نجد امرين يطعنان في صدق تلك الاجابات الواثقة. فالذين يجيبون بنعم يغفلون امراً اساسياً يمس بالقاعدة العقلية والثقافية والاخلاقية التي جوّزت الحدث، وذلك بخلطهما أمرين مختلفين من الناحية الاجرائية. الخلط بين التنفيذ والعقل المشرع للتنفيذ. وهما جانبان مختلفان من حيث الدور والوسائل، متشابهان في المغزى والمحتوى النفسي والعقلي، متباينان في حجم المسؤولية القانونية والاخلاقية.

 

ما هو دور المثقف في صناعة الحدث؟

كان للأدب دور عظيم الاهمية في تصوير ظاهرة الفرهود. فقد سجلت رواية الاديب اليمني محمد عبد الولي تلك المشاهد المفجعة في قصته الطويلة "صنعاء مدينة مفتوحة". كان نظام الحكم اليمني في زمن الإمامة المتوكلية يعطي القبائل حق سلب المناطق المتمردة. وبعد فشل حركة عام ،1948 إبان ما عرف بثورة الاحرار اليمنيين، أعطى الإمام احمد بن حميد الدين القبائل الموالية له حق استباحة صنعاء. وفي ذلك المشهد المرعب أخذ النهب طابعاً سياسياً سلطوياً، ممنوحاً لبعض فئات المجتمع كمكافأة، وموجهاً للسكان المحليين كنوع من العقاب.

وقد شغل الفرهود حيزاً مهماً من صفحات الأدب اليهودي العراقي. فظهرت أخباره عند سمير نقاش ونعيم قطان. وقد لعبت موضوعة الفرهود دوراً مركزياً في عدد من اعمال نقاش القصصية والروائية، أما قطان فقد رفع الفرهود في "وداعاً بابل" الى مستويات خرافية.

وفي الادب العراقي المكتوب في المنفى سجلت رواية "ذبابة القيامة" مشاهد الفرهود الذي رافق قيام الانتفاضة الشعبية، كما استخدمت الرواية موضوع نهب الممتلكات الكويتية كجزء من رموز الحدث. وقد سعت هذه الرواية الى كشف الجوانب النفسية والسياسية والاجتماعية التي تقف خلف ظاهرة السلب، وجعلت منه أفقاً مفتوحاً يختتم المنازلة بين الاميركان والسلطة. وربما لهذا السبب تعرضت هذه الرواية الى هجوم عنيف من كتّاب السلطة ومن بعض كتّاب المعارضة المؤيدين للحرب. كما ان وزارة الاعلام الكويتية خصتها ايضاً بعطفها فوضعتها ضمن قائمة ممنوعاتها لعام ،2000 ويبدو هنا ايضاً، انه ليس كل فرهود يباح عرضه.

وفي مذكراته التي كتبها عن الانتفاضة، تحدث الشاعر العراقي عبد الخالق كيطان، عن حادثة نهب مكتبة ميسان المركزية، التي هي واحدة من أثمن مكتبات العراق العامة. وصوّر لنا، متباهياً، دوره الشخصي في عمليات النهب، معللاً الامر بأنه عائد الى رغبته في المحافظة على الارث الثقافي الذي نهبته الغوغاء (المؤتمر: 28 مارس 2003). ولم يكتف كيطان بذلك الماضي الكالح، بل واصل دفاعه عن اعمال الفرهود الجديدة التي عمت شوارع بغداد، محاججاً الصحافيين العرب الذين أذاعوا الخبر بالقول: إنهم كذابون فالناس "لم يسلبوا سوى مبان حكومية بحتة". وهو يعني ان الناس استردوا ممتلكاتهم من المتحف الوطني ومركز المخطوطات والمكتبة الوطنية والجامعات. جاء هذا في مقال اسمه "اللحظة التي انتظرناها طويلاً" (ايلاف 9 نيسان 2003).

لم اشأ سوق هذه الواقعة للتدليل على أن شاعراً، وعضواً قيادياً في اتحاد أدبي، وعضواً في هيئة تحرير مجلة ثقافية هو أحد لصوص الفرهود وممجّديه. لا، الغرض أبعد من ذلك، يتمثل في إثارة سؤال ما بعد الفرهود: كيف يجرؤ امرؤ ينتمي الى الوسط الثقافي على المجاهرة والتباهي بما لا يجرؤ عليه حتى اللصوص المحترفون؟

من يتأمل خطاب مؤيدي الحرب يعثر على جوانب غريبة وشاذة من الممارسات العقلية التي يندر وجودها عند شعب آخر. ومما لا شك فيه أن تأييد الاحتلال امر عرفته شعوب العالم كافة، من فيتنام الى فرنسا المتحضرة. وهناك عمالقة كبار في تاريخ الأدب أيدوا الاحتلال. منهم النروجي كنوت طامسون والانكلوسكسوني ازرا باوند. لكن صيغ الترويج للاحتلال اختلفت من مكان الى آخر. وفي العراق وحده اكتسبت هذه الصيغ حدوداً دونية نفسياً وعقلياً واخلاقياً، تعكس حجم الاذلال والانكسار الذي تعيشه شرائح واسعة من المجتمع العراقي. ولنتأمل هذه النماذج:

يقول الشاعر جمال جمعة أنه لم يرف له جفن حينما رأى القتلى والجرحى العراقيين يعرضون على شاشات التلفزيون، لكنه ارتجف هلعاً وأسى حينما شاهد منظر الجنود الاميركيين القتلى والجرحى! ومما لا شك فيه، أنه لم يحدث من قبل البتة ان تغزل شاعر بجثث الجنود الاميركان قبل جمال جمعة، رغم ان الشاعر العراقي حميد سعيد سبقه، حينما صوّر من قبل منظراً رومنسياً "أخاذاً" لجنود ايرانيين قتلى ينتشرون على ضفاف الاهوار، جثة بعد جثة، مثل قوس عظمية.

ما الذي يجمع بين هذا وذاك؟

موقع "ايلاف" للانترنت ينشر موضوعاً بتاريخ 5 نيسان 2003 يحمل العنوان الآتي: "سلاماً ايها الاستعمار، مرحى ايتها الخيانة"، فيرد عليه موقع آخر اسمه "كتابات" بموضوع يقول: "أهلاً بالحرب والاحتلال"، وفوراً يتم إغناء الموضوعين بنشر مقابلة للمسؤول الثقافي في الموقع نفسه، الشاعر عبد القادر الجنابي، يقول: "شراسة هذه الحرب محكومة بشراسة نظام الاستبداد العراقي"، ويشرح الجنابي فلسفة الموازنة بين الشريرين الشرسين على هذا النحو: "إن شراسة القوات الاميركية مهما بلغت من العنف تظل محكومة بضوابط اخلاقية عسكرية تردعها من ارتكاب كل الجرائم".

وفجأة يتذكر القائمون على موقع ايلاف، مقالاً سابقاً للقاص ابرهيم احمد، نشره في صحيفة "المؤتمر" المناصرة للحرب، قبل ثلاثة اشهر، في 23 كانون الثاني ،2003 فيعاد نشره. فضيلة المقال انه يمتدح خصال رئيسة الادارة البريطانية في العراق "مسز بل"، ويصل الى خلاصة مفادها ان حروب اميركا أخف وطأة من حروب صدام. والكاتب نفسه، الذي يفاضل بين شرور صدام وشرور اميركا لمصلحة الحرب الاميركية، كان قد نشر، في الفترة نفسها، موضوعاً معادياً للحرب الاميركية، ولكن في كراس أصدره الشيوعيون العراقيون، المعارضون للحرب والاحتلال، جاء فيه: "الامبرياليون قادمون ليستبدلوا عملاءهم بطواقم افضل"! (راجع: مثقفون ومواقف، ص7).

ومن هنا نرى ان لدينا كتاباً يلبسون بدلة المارينز حينما يكتبون في الصحافة التابعة لاميركا ويلبسون ريش حمامات السلام المعادية للاميركان في صحافة المعادين للامبريالية. ومثل هذا الاضطراب النفسي والعقلي، وهذه الشيزوفرينيا الثقافية نجدها عند قاص آخر هو برهان الخطيب، الذي كرر تأكيده لاهمية الحرب وضرورتها للشعب العراقي، ولكونها خياراً وحيداً انسانياً لا غنى عنه (التلفزيون الاسوجي قناة 2 والاذاعة الاسوجية وجريدة داغسنيهيتر)، بينما ينشر الكاتب نفسه في صحيفة "القدس العربي" الموالية للنظام العراقي قائلاً "أنه لم يكن يقصد تأييد الحرب وانما تأييد السلام" (القدس 5 نيسان 2003). أما الشاعر فوزي كريم فيجتهد اجتهاداً مضنياً كي يثبت لنا ان سلطة صدام كانت "سلطة احتلال" وان حكام العراق هم من "الاجانب" و"الغرباء"، وهو الامر عينه الذي دأبت عليه جريدة "المؤتمر". حينما نعتت حكام العراق بـ"الاغراب" و"الوافدين" و"غير الاصلاء". والذي يعني ان الاميركان والبريطانيين ليسوا وحدهم الغرباء! (المؤتمر: 28 مارس 2003)، وعند مطابقة هذه الحجج بخطاب السلطة الاستبدادية، وبالحجج التي خلقها كتّاب الحرب (حروب صدام وحروب بوش) نجد انها الحجج العقلية والاخلاقية والعرقية والسياسية ذاتها التي لصقها صدام بأعدائه يعاد استخدامها، ولكن لتبرير مجيء الاجنبي والغريب والمحتل الحقيقي. إن تلك الفئة من المثقفين شريك حقيقي في عملية احتلال الوطن، وهي شريك في عملية نهب الوطن مادياً على يد اللصوص. انطلاقاً من القاعدة العقلية ذاتها: فساد الجانب الروحي والاخلاقي وخواؤه. فالمفاضلة التي أقامها ابرهيم احمد بين حروب صدام وحروب اميركا، والمفاضلة التي أقامها فوزي كريم بين المحتلين الصداميين والمحتلين الاميركان، والمفاضلة التي اقامها برهان الخطيب بين الحرب باعتبارها سلاماً والسلام باعتباره حرباً، والمفاضلة التي أقامها الشاعر جمال جمعة بين حيادية اجساد العراقيين القتلى وجاذبية اجساد الاميركان، والمفاضلة التي أقامها الجنابي بين عنف السلطة المطلق وعنف الاميركان "الاخلاقي"، هي النواة العقلية التي تربط بين لصوص الثقافة ولصوص الشارع، وهي الترجمة الحرفية لشعار المفاضلة الذي رفعه لصوص المتحف الوطني العراقي: "سرقات صدام من المتحف الوطني اكبر من سرقاتنا". إنه التسابق التقليدي في النهب، الذي يسمّيه العراقيون الفرهود: الفرهود المادي والروحي.

لذلك أرى ان ظاهرة الفرهود ليست معزولة عن العقل الثقافي العراقي، وهي ليست ظاهرة تخص الأميين والفقراء، كما يزعم كثيرون. انها ظاهرة مشتركة لدى فئة معينة، متعددة الثقافات والتخصصات، يوحدها جوهرياً مرض فقدان القيم الوطنية، والانانية المفرطة، وموت الضمير وتقاليد الانتهازية المستديمة، وانعدام القيم الاخلاقية، والشعور الدائم بالاذلال والامتهان.

ولهذا كله، لم يندهش أحد حينما تنادت بعض المنظمات السياسية والثقافية، التي تدّعي العراقية، وتداعت الى تجميع العراقيين لغرض الذهاب الى السفارة الاميركية في استوكهولم لتقديم التعازي الى أسر القتلى الاميركان.

إن المفاضلة بين الاشرار، وتقاسم مائدة الشر، هما اللذان يوحدان بين لصوص المتحف الوطني وكتّاب الاحتلال وسياسيي الحرب، المدافعين عن حروب "خاطفة"، مكثفة في درجة تركيزها الدموي والاعلامي.

 

الجانب السياسي

اذا كان بعض المواطنين البسطاء يعبّرون عن مشاعرهم بهذه الطريقة المباشرة والمشينة، فانهم يتحملون المسؤولية القانونية الفردية والشخصية عن افعالهم. اما المسؤولية الاخلاقية والروحية فتقع على عاتق القيادات السياسية والثقافية التي روّجت وشرعت مفاهيم الحقد وأججت بأطماعها الذاتية مشاعر الانحلال الروحي في لحظة سيخلدها التاريخ على أنها احدى كبريات وقائعنا القومية والوطنية. إن التهليل لسقوط القنابل على بغداد، من مغتربين عراقيين، يشبه من حيث الجوهر، نفسياً وأخلاقياً سرقة أسرّة المرضى على ايدي لصوص الداخل. ولو قيّض لهؤلاء المغتربين والكتّاب أن يكونوا في بغداد فلربما فعلوا ما فعله اللصوص.

إن هذه الخلاصة ليست انشاء بلاغياً، وانما هي حقيقة أكدتها الاحداث. فبعض هؤلاء المهللين للحرب توجه، في يوم الفرهود الاول، نحو السفارة العراقية في استوكهولم لنهبها ايضاً. والأنكى من ذلك ان الرؤوس المخططة لعملية النهب اعلنت جهاراً أنها "البديل الديبلوماسي" من طاقم السفارة. فهل كان الفرهود عملية منظمة؟ من هي الجهات التي قامت به وغذته ودفعته الى ذلك المدى؟

ان تبرئة العراقيين مما حدث والقاء المسؤولية على عاتق اللصوص المحترفين، يشبهان الى حد كبير عمليات الاعدام التي مارسها صدام ضد الجنود العراقيين البسطاء، الذين سرقوا بعض الممتلكات الكويتية الصغيرة، تحت مظلة السرقات الكبرى التي نظمها قادة صدام للكويت المستباحة. إن ما يحدث في العراق هو في بعض جوانبه رد ثأري لما حدث هنا وهناك، لهذا الفريق او ذاك، لتلك الدولة وتلك الملة وتلك القومية وتلك الفئة. رد ثأري. لكنه موجه الى حضارة العراق وثقافته وانسانه، لا الى رموزه الشريرة ولصوصه الكبار.

فمن يتتبع عمليات النهب بروية ويقوم بتحليل جوانبها الاساسية بالتزامن مع تطور انتشار القوات المحتلة يصل الى نتائج مثيرة حقاً.

فالفرهود لم يبدأ مع بداية الغزو. لماذا؟ لا احد يعلم. فالمدن العراقية التي سقطت في يد المحتلين: أم قصر وصفوان والزبير، ظلت جائعة، عطشى، لكنها لم تستجب النهب. ويرد البعض سبب ذلك الى امر مهم، هو ان الاحتلال المبكر لهذه المدن كان متزامناً مع الفكرة الاميركية القائلة بأن العراقيين سيستقبلونهم بالزهور. وحينما لم يجد الاميركان هؤلاء المستقبلين تم اختراع مستقبلين نشطاء ومتحمسين على عجل.

ويميل الى هذا التفسير كثيرون ممن تابعوا الاحداث بدقة، ممن هم اقرب الى فهم مزاج الشارع العراقي. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الريسان، وهو أحد قادة انتفاضة ،1991 وشيخ حقيقي وليس مصطنعاً، إنه على خلاف مع اعضاء المعارضة العراقية كافة، أكد في اجتماع عقد في عمان قبل الحرب ان العراقيين لن يخرجوا مرحبين بالاميركان.

ورغم رجاحة هذا التفسير من المشكوك فيه ان يكون سبباً وحيداً لما حدث. فالمراقبون لاحظوا ظاهرة اخرى لها صلة بما حدث، تمثلت في وصول "قوات العراق الحر" الاميركية، بعد الاستيلاء على المدن. وهذا يوضح ان اميركا لم تستمع الى صوت من سمّوه "سارق النار" و"مهندس الحرب على العراق" كنعان مكية، الذي نادى بإشراك المقاتلين العراقيين في عمليات "التحرير". وقد أكد مكية هذا بالقول ان القوات الاميركية "لم تسمح قبل كل شيء للمراقبين بالدخول وتنظيم السكان، وهو ما يؤكد استعدادها وعزمها على القيام به" (صحيفة الشرق الاوسط 31 آذار 2003). بيد أن الاميركان لم يفعلوا ما اعتزموا القيام به من حفظ للأمن. وربما يكون للاميركان رأيهم العسكري الخاص في مسألة المشاركة العسكرية لقوات عراقية محدودة العدد والتدريب. لكن ما تم تسجيله هو ان قوات الجلبي دخلت بالتزامن مع عمليات النهب. وهذا يثير سؤالاً جدياً: هل كان دخول هذه القوات مخططاً كي تظهر بمظهر المنقذ من الفوضى؟ واذا كان الامر كذلك، فهل تكون صناعة المنقذ ممكنة بدون صناعة الفوضى؟ ذلك سؤال سيجيب عنه التاريخ وقادة المعارضة الموالون لأميركا.

لكن الظاهرة الاقل مدعاة للشك هي دعوة جهاز الامن والشرطة العراقية، بما في ذلك محافظون من بقايا صدام، الى مسك زمام الامور، كبديل من الفوضى. وكان دخول الخوئي والخزرجي ومشعان وتعيين "الشيخ" مزاحم التميمي (وهو جنرال بعثي طبعاً) في البصرة دليلاً جدياً على أن هذه النقطة اقوى من غيرها في حساب الاميركان. فجنوب افريقيا أرسلت رجالها لحماية حدائق الحيوان، التي تسلى جنود المارينز بها في حفلات جنونية لصيد الوحوش في الاماكن المقفلة، وأرسلت بريطانيا مساعدة لحماية المتاحف بعد نهبها، وأمنت اميركا آبار البترول والمصارف المتعاملة بالعملات الاجنبية. اما ما تبقى فترك للنهب، ثم لرعاية القادة الجدد. هل هو تخطيط وتدبير؟

إن من يؤيد فكرة وجود عقل مخطط، يستند في حججه الى نقاط قوية عديدة، منها ان المواقع الاجنبية التي نهبت هي: الملحقيات والمراكز التي تخص الصين وفرنسا والمانيا. اما المركز التجاري السوري فقد احترق بفعل صاروخ، والموكب الروسي تعرض للنار. الى أي حدّ تجيد المصادفة قراءة الخطط السياسية للمحتلين؟ ربما يقول قائل إن عقل الشارع، اي اللصوص، ساير عقل الاميركان وتابع الخريطة السياسية للمحتل بدقة. وهذا ممكن ايضاً، فللصوص الشوارع موقفهم السياسي ايضاً، بيد ان السؤال الاكثر اهمية هنا: ماذا سيكون رد المارينز لو ان اللصوص هاجموا السفارة البريطانية او الاميركية؟

لا أحد يملك جواباً، لأن ذلك لم يحدث. فاللصوص، كما يبدو، كالمارينز، لهم نواميسهم الاخلاقية ايضاً واتفاقاتهم الضمنية وفطنتهم السياسية.

بيد ان العراقيين الذين شهدوا الحدث، تكلموا عن مكبرات للصوت يتحدث فيها عرب بلهجة كويتية وفلسطينية (المرجح لبنانية) كانوا يحثون الناس على الاسراع لأخذ ممتلكات صدام حسين. ولا أحد ينسى صورة "العراقي القبيح" الذي هز الكلاشنيكوف في وجه المصوّر وهو يصرخ "نحن اميركان"، وذلك الذي رفع دشداشته امام المصورين وتظاهر بالتبوّل علناً، او ذاك الذي راح يضرب صورة صدام بالحذاء، بينما تمسك يده الاخرى حزمة زهور بلاستيكية رخيصة مسروقة من أحد البيوت. هذه المشاهد صوّرتها أياد صديقة للمحتلين، وبحمايتهم، في الساعات الاولى من الفرهود في بغداد، قبل أن تتم منتجة الحدث. فهل تم ترتيب ذلك الاستقبال في الوقت الذي كانت تجري فيه عملية التنازل السرية عن السلطة؟

ذلك ممكن، لكن المؤكد ان قوات البيشمركة الكردية قامت بمفردها او باتفاق مع مواطنين اكراد بتطهير القرى المحيطة بالموصل وكركوك ونهبها، في واحدة من اكبر عمليات الفرهود في المنطقة. كما قامت هذه القوات بالسماح لعدد كبير من السيارات، المزودة عربات مسحوبة، بالدخول الى كركوك والموصل لنهبها وتوجيه انذارات الى السكان من غير الاكراد تهددهم بترك منازلهم. ووصل الامر أنهم راحوا يضعون علامات على بعض البيوت القريبة بغية مهاجمتها واستباحتها. لقد أنكر القادة الاكراد ضلوعهم في اعمال التطهير العرقي وتحريضهم لشعبهم في الخارج والداخل على النهب والتهليل للقصف اليومي، لكن الصور التي نقلتها وكالات الانباء وكذلك جثث القتلى البيشمركة الذين جرت مقاومتهم، أرغمت القيادات الكردية على الاعتراف جزئياً ببعض ما حدث. فقد اضطر الطالباني الى  القول "البيشمركة ليسوا وحدهم وراء عملية السرقة" (ايلاف 12 نيسان 2003)، اما البرازاني فأكد انه "علم بمزيد من الاسف والاستياء الشديد والمرارة بقيام بعض الافراد الاكراد (يعني قوات البيشمركة) بالاعتداء على السكان الآمنين في بعض القرى ومراكز المدن" وحاول التقليل من خطورة ما حدث (الزمان 16 نيسان 2003).

خلف كل هذه الحقائق يبرز سؤال مصيري كبير: هل يدرك القادة الاكراد خطورة اللعبة القومية والوطنية التي يلعبونها؟ وهل يدركون حجم المسؤولية الاخلاقية والقانونية والسياسية التي يتحملونها بسبب إعلائهم الخطاب القومي، لا الوطني، في وقت يتعرض الوطن بأكمله للحرب والاحتلال؟ واذا كان تقويمهم للاحتلال شأناً يخصهم وحدهم، لأنه تحرير في نظرهم، او هو فرصة تاريخية نادرة لن تحدث الا كل ألف عام، فكيف يجرؤ القادة الاكراد على ان يرشحوا أنفسهم لمنصب قيادة لأعلى منصب في وطن لعبوا فيه دور الطليعة والمرشد للمحتل؟ وكيف يستطيع السيد البرازاني او السيد الطالباني مثلاً إقناع المواطن العراقي بعراقيتهما وهما يهللان لقصف ابناء الشعب ويضعان علماً قومياً على البنادق المساندة لقوات الاحتلال؟ ماذا سيجيبان لو ان مواطناً بسيطاً سألهما: الى أي وطن تنتميان؟

إن التناقض الذي يعيشه القادة الاكراد هذا هو ذاته الذي يعيشه الذين صنعوا معادلات المفاضلة بين المحتل وصدام من الكتّاب، وهو التناقض عينه الذي عاشه المواطن البسيط الذي أثارته الدعاية القومية الشوفينية فنسي مشاعره الوطنية وغرق في موجة من التحلل العاطفي والنفسي والاخلاقي، قادته الى الفرهود.

امران صغيران يعززان ذلك كله: هل كان عبثاً ان تحرق وتدمر ملفات مديريات التسجيل والاحصاء والتخطيط والأمن العامة؟ من صاحب المصلحة في ذلك؟ لص الشارع أم لص الحكم؟ لص متشرد أم سياسي موعود بزعامة؟

امر آخر: لقد تم نزع السلاح الشخصي من مواطني تكريت، بعدما صدّوا عدداً من الهجمات الكردية التي استهدفت نهب المدينة، والسؤال: أهي اشارة استباحة باسم مسقط رأس صدام؟ أم هي اشارة اذلال جماعي باسم نظام فاسد جرى بيعه سلفاً؟

إن محاولة التبرير وغض الطرف عن الاعمال الشريرة كالنهب او الاضطهاد او تمجيد الحروب والفساد الاجتماعي والروحي باسم الوطنية والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، لا اكثر من محاولات يائسة للتستر على الجرائم نفسها. إن الخراب واسع وعميق روحياً ومادياً. لذلك فالسلام والتصالح الاجتماعي يتطلبان فضح الجوانب المتعفنة والشريرة والضارة فضحاً لا مساومة فيه. من اجل ان يكون التسامح عادلاً، ومن اجل ان لا يعاد مجدداً انتاج دورة الشر. لذلك يجب ان نكون شجعاناً ولو لمرة واحدة. فتلك اسئلة تبيّن ان الفرهود او النهب كان حقيقة واقعية نابعة من ارض العراق، قام بها عراقيون. بعضهم لصوص وآخرون عدّوا كذلك حال قيامهم او مشاركتهم او معاضدتهم لذلك. بيد ان هذه الحقيقة لا تخدم اللصوص جميعهم. فلصوص الشارع، المغلوبون على أمرهم، سيعودون كما كانوا مغلوبين. فالواح شاعرة البشرية الاولى انهدوانا لن تغادر بغداد وطوق الدبابات الاميركية يحاصر العاصمة من كل جانب. الواح انهدوانا الشعرية والنفط والاستقلال الوطني سيتم أخذها، بمساعدة جيش المتسترين على الشر، وعلى يد قوات المارينز، التي ستتحمل مسؤولية نقلها باخلاص وطني اميركي، الى ما وراء البحار.

إن الفرهود، كحدث سياسي وليس كمشاهد تلفزيونية، يتطابق في أبعاده العقلية والنفسية تطابقاً تاماً مع اهداف المرحلة الراهنة، المتمثلة في استباحة الوطن والسيادة على أيدي غزاة اجانب، والنهب العلني لثرواته (النفط). اما من الناحية السياسية، فإن الفرهود، والذي يعني ظهور اللصوص علناً في الشوارع، فهو التعبير الامثل لطابع المرحلة السياسية الراهنة، الموقتة، والتي قوامها ادارة اجنبية بالتعاون مع فئات من اللصوص السياسيين وبقايا البعث والساقطين من الشيوعيين والقادة القبليين والقوميين المتطرفين. اما من الناحية الثقافية فهو مؤشر لقيام عهد ثقافي جديد، له تحالفاته الثقافية وخصائصه الروحية المحددة، المعروفة. إنه اتحاد لأسوأ ما انتجه المجتمع العراقي على مر العصور. لكنه الاتحاد الاكثر تلاؤماً مع مرحلة نهب الوطن واستباحته علنياً بالقوة المسلحة، ومرحلة ثقافة الاحتلال.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل استقر مهد الحضارات في بطون الدبابات؟
- ســقـط الـديـكــتـاتـور صـعـد الـيـانـكـي: تهـانـيـنـا
- المسألة العراقية بين خيار أسوأ الاحتمالات و خيار المبدئية ال ...
- الرهينة - من القصة القصيرة الى الرواية-


المزيد.....




- -بعد فضيحة الصورة المعدلة-.. أمير وأميرة ويلز يصدران صورة لل ...
- -هل نفذ المصريون نصيحة السيسي منذ 5 سنوات؟-.. حملة مقاطعة تض ...
- ولادة طفلة من رحم إمرأة قتلت في القصف الإسرائيلي في غزة
- بريطانيا تتعهد بتقديم 620 مليون دولار إضافية من المساعدات ال ...
- مصر.. الإعلان عن بدء موعد التوقيت الصيفي بقرار من السيسي
- بوغدانوف يبحث مع مدير الاستخبارات السودانية الوضع العسكري وا ...
- ضابط الاستخبارات الأوكراني السابق يكشف عمن يقف وراء محاولة ا ...
- بعد 200 يوم.. هل تملك إسرائيل إستراتيجية لتحقيق أهداف حربها ...
- حسن البنا مفتيًا
- وسط جدل بشأن معاييرها.. الخارجية الأميركية تصدر تقريرها الحق ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - أقــنـعـــة الـفـــرهـــــود