أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرج بيرقدار - كأس















المزيد.....

كأس


فرج بيرقدار
(Faraj Bayrakdar)


الحوار المتمدن-العدد: 1605 - 2006 / 7 / 8 - 11:17
المحور: الادب والفن
    


فصل من مخطوط: خيانات اللغة والصمت
في جناحنا سجناء سوريّون وفلسطينيون ولبنانيون وأردنيون وعراقيون.. شيوعيّون وقوميّون ودينيّون ولا شيء.
يا إلهي كم يبدو مخجلاً هذا البيان القومي الديمقراطي الفاضح!
في جناحنا أطفال وشباب وكهول وهرمون وموتى في مراحلهم التدريبيّة الأخيرة.
طوبى.. طوبى لمن يستطيع أن يكون، كما لو انه لم يكن أبداً.
في جناحنا أبجديات تمحو ثقافة الحب والموت والألم والصّلوات، وتعيد الطين إلى أميته الأولى. أبجديات لا يربكها الإعلان عن استقالة الزمان من المكان،
والصمت من اللّغة، والشريعة من غاباتها المتنكِّرة للأعراف والتقاليد.
أشرب الآن ولا رغبة لي، في هذه اللّحظة الراعفة، أن أرفع أيَّ نخب سوى العدم .
لا تسألوني من أين الخمر؟
من يتقن عشرين سبيلاً إلى الموت، سيجد سبيلاً ما، إلى إتقان صناعة الخمر.
وأشرب الآن ولا رغبة لي إلا أن أشرب.
أعرف أن بعضكم سيتمطَّق كثيراً بفتاوى هذا الإثم، وينسى أو يتناسى أنهم يشربون دمنا.
حسناً.. اجلدوني أربعين جلدة.
سأضحك من أعماقي على هذه العقوبة الفانتازيَّة الرحيمة.
أبو حسن بمفرده، وبدولاب واحد فقط، عدَّ أكثر من ثلاثمئة جلدة كافرة قبل أن يلهمه الله الإغماء.
لا أريد أن أستفزَّ أحداً، ولكن صدقوني أن أي سجين هنا، يستطيع أن يشتم أي نبي، إذا عرف أن حدَّ شتيمة الأنبياء في تاريخنا القديم هو مئتان
وستون جلدة فقط لا غير.
كم أحاول ضبط هذا التّابوت على إيقاع محدَّد، ولا أستطيع.
لقد نقضوا روحي، رعشةً رعشة، بحثاً عن أسرار الحليب الأول.
لم يكن الموت يعني بالنسبة إليهم أكثر من حروفه الثلاثة، بعد تجريدها من رخامة جرسها البعيد البعيد.
إذن .. دعوني أعيد ترتيب روحي على مهل.
أشعر أحياناً أن لدي من قوة الصمت ما لا أحتاج معه لقول حرف واحد طوال حياتي.
وأحياناً أشعر أن لدي هواجس ملعونة، تستدعي أن لا أتوقف عن الكلام، حتى عندما أكون وحيداً، ولكن..
كيف لي أن أعطي هذا التّابوت صمتي؟
وكيف لي أن آخذ كلامه؟
قرأ صديقي هذا الذي تقرؤونه، فأغمض عينيه، وظلّ صامتاً ما يكفي لأداء صلاة غائب، ثم قال:
بعض النقاط بحاجة إلى مزيد من العمق والوضوح.
وافقته فيما يتعلَّق بالعمق. فأنا أعرف أن الجراحات، التي ينتقِه على ضفافها، أعمق وأبلغ من أي نزف لغوي ممكن. أمَّا الوضوح.. فأنا نفسي
لا أريد أن أكون واضحاً.
قلت لكم، هذه أبجدية العتم والغموض، وخط النار الأول على جبهات الغيب وتقلُّبات الطقس والايديولوجيا والأنظمة وحتى الشعوب.
لا أحد يعرف لماذا كان أبو أحمد “الغاوي”، يشتم نفسه وهو يدقُّ الجدار بقبضتيه. لم يكن واضحاً ما إذا كانت ارتجاجات جسده ناجمة عن الألم
أم الضحك أم النشيج. تعدَّدت التأويلات، واستنفر السجناء حكايات، لها أول ما لها آخر، عن الغاوي وغيره.
سألتُ أحد الأصدقاء، إن كان يعرف السبب، فقال: أنسيتَ قصيدتك عن تاء التأنيث؟
قلت: ما علاقتها بالموضوع؟
قال: لا أقصد ذلك.. ولكن ألا يكفي المسكين أنه منذ ستة عشر عاماً، لم تمسحه تاء التأنيث برحمتها؟
كأني لأول مرة أنتبه إلى هذه الجهنم النائمة في جزيرة من الرجال.
بالطبع تتعدد وجوه المرأة وحضوراتها في السجن على نحوٍ، لايستطيعه الكلام إلا أصداءً، ولا يستطيعه الصمت إلا ظلالاً.
بالنسبة إلي.. وحده الشعر كان يمكن له، أن يشرف على ذلك الفردوس المفقود، ووحدها صلوات الأمل كان يمكن لها، أن تجعل الزرقة أكثر
قابلية لتجلي الرحمة والأنوثة.
السجن ذكورة افتراسية قصوى، والحرية أنوثة رحمانية قصوى.
لا داعي لاستخدام لفظ الشبَّاك إذا كانت لفظة النافذة تنوب.. لاداعي لاستخدام لفظ العتم إذا كانت لفظة العتمة تنوب، وكذلك الأمر بين الليل والليلة،
والخمر والخمرة، والعام والسنة.
باختصار.. تصبح تاء التأنيث الحرف الأجمل في دنيانا.
لم يكن يشغلني كثيراً غياب المرأة أو حضورها كجسد. المرأة هي المرأة، أماً وأختاً وابنةً وحبيبةً وصوتاً وقصائد وملائكة.. وما من قداسةٍ جعلتني
أحتمل الأسر أكثر من اثنتين: أمي وابنتي. واحدة في آخر الغروب والثانية في أول الشروق، وأنا بينهما طائر اليأس والأمل، بمنقاره المحنَّى
وجناحيه الضارعين.
بدون المرأة.. بدون أطيافها وأصدائها أو رائحتها على الأقل، لا يكون الرجل إنساناً. أعني لا يكون إنساناً كامل المعنى.
أجل.. تصبح المرأة في السجن معادلاً رمزياً وانسانياً وفنياً للحرية. بل تصبح الحرية هي المرأة. ولهذا شيئاً فشيئاً يتبدَّد السجين، حتى لا يبقى
منه سوى نص غامض مدروز بالأشواك.
قلت لكم لا أريد، ولا أستطيع، أن أكون واضحاً.
ومع ذلك فإن هذا لا يتعارض مع رغبتي في أن أقول، أو أكتب ما ليس واضحاً، بل ما ليس شيئاً حتى.
أكثر من عامين وثلاث عشرة جلسة غامضة بلهاء، حتى تجشَّأتني محكمة أمن الدولة العليا.
كانت دواليب الحظ تدور بطريقة مجنونة تماماً، وحين أوقفوها، أعلن رئيس المحكمة بصوت خفيض إلى درجة غير لائقة:
“خمسة عشر عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية”.
يا أبناء الدم!
أي جريمة مقدَّسة تلك التي اقترفتها طيور كلماتنا، لتفتكوا بمناقيرها وأجنحتها على هذا النحو الكالح الخسيس!
خمس عشرة بلطة ماجنة لترويض طيور الكلام!
قلت لأمي بطريقة مازحة، تُضمِر اعتزازي بها، وتطمئنها على معنوياتي:
ظللتِ ورائي أكثر من ثلاثين عاماً، وأنت تعلَّمينني أن شرف الإنسان كلمته. فهل أعجبتك النتيجة؟
ظلَّت أمي مطبقة على إيمانها العميق الذي لم يجد إلهاً حليفاً، بينما ابتسمت أختي ملء دموعها، وهي تقول:
المهم يا أخي أن تخرج سالماً مرفوع الرأس.
سالماً؟!
سامحيني يا أختاه.
أعدكِ فقط برأسي مرفوعاً
أعدكِ وأشتهي أن أبكي قليلاً
ليس ضعفاً ولا خوفاً ولا يأساً
لا يا أختاه.. فأنت تعرفينني جيداً
غير أنهم أهانوني أكثر مما تتوقعين
ولم أستطع أن أفعل شيئاً
لم أستطع ولكن..
هذا رأسي
خذيه بين أحضانك أيتها الغالية
أسنديه إلى ركبتك قليلاً
وأعيريني من سياج حزنك الطويل
فراشةً أو ظلها
وردةً أو ظلها
ظلاً أو ظله
أعيريني قصيدة لا أستطيع كتابتها
وعشباً لا أستطيع قراءته
واطمئني إلى خاتمة ما أمضي إليه
اطمئني .



#فرج_بيرقدار (هاشتاغ)       Faraj_Bayrakdar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تدمريات.. ما فوق سوريالية
- وَهْوَهات
- مقام خمر
- ما بعد منتصف الهذيان
- “أب.. إلى حد البكاء”
- حمامتان.. وقمر.. وثلج أيضاً
- الطريق
- دوائر ذات شهيق متصل
- “إلى الشرق”
- البرزخ
- صهيل
- تقاسيم آسيوية... ترجيعات
- تحية إلى أدونيس.. رداً للجميل
- تقاسيم آسيوية
- بيرقدار: السجن .. يا إلهي! هل يكفي أن أقول إنه حليف للموت؟
- ما يشبه بطاقة شكر من فرج بيرقدار إلى الشاعر محمود درويش
- ستة عشر يوما من الجمر


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرج بيرقدار - كأس