أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - بين ليبراليتين في سوريا: -ليبرالية موضوعية- بلا وعي ذاتي، و-ليبرالية ذاتية- بلا شروط موضوعية















المزيد.....



بين ليبراليتين في سوريا: -ليبرالية موضوعية- بلا وعي ذاتي، و-ليبرالية ذاتية- بلا شروط موضوعية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1600 - 2006 / 7 / 3 - 08:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم يبق شيء من تراث ليبرالي في سوريا، لأن العهد الليبرالي لم يترك تراثا أو تقليدا. كانت الليبرالية في سوريا، وربما في مصر وبلاد عربية أخرى، محمولة، بصورة طبيعية، على التنظيمات السياسية والإدارية والقانونية والاقتصادية الغربية التي أخذت تتسرب إلى مواطن العرب بدءا من عصر التنظيمات العثماني، ثم خبروها في ظل الاستعمار الغربي الذي أخذ، في سوريا والمشرق، شكلا يفترض أنه ليبرالي إرضاء لضمير عصبة الأمم: الانتداب. نريد القول إن الليبرالية بدت لأسلافنا بعد الحرب العالمية الأولى نظاما للدولة والإدارة والاقتصاد لا منافس له. ليس لأنه متفوق على غيره، بل بكل بساطة لأننا لم نكن نعرف غيره. إنها ليبرالية غير موعاة كمذهب بعينه بين مذاهب أخرى. وهي لذلك ليبرالية بلا فكر ليبرالي، وبلا مفهوم لليبرالية: ليبرالية غير واعية لذاتها. كانت سوريا في الليبرالية، ولم تكن الليبرالية في سوريا.

"ما قبل تاريخ" سوريا الحالية
ليبراليا كان "القانون الأساسي"، الدستور، الذي تمخض عنه "المؤتمر السوري" في عام 1920، قبل أربعة شهور ونصف فحسب من "يوم ميسلون" ( ساطع الحصري) ووقوع البلاد تحت الاحتلال الفرنسي. فهو يؤسس حكما "ملكيا مدنيا نيابيا"، يقوم على "اللامركزية الواسعة"، و"استقلال السلطات"، و"حماية الأقليات" ومسؤولية الحكومة أمام المؤتمر، ويقوده ملك دستوري هو الأمير فيصل بين الحسين الذي سمي ملكا. ومثل صدوره محاولة من قادة الرأي في الأمة إثبات استغنائها عن السيطرة الفرنسية التي كانت خططها وغاياتها معروفة بعناوينها العريضة، إن لم يكن بتفاصيلها. لكنه كان أيضا جهدا موجها نحو توفير أساس قانوني للحكم العربي المتجدد النشوء بعد طول اندثار.
كانت القومية الليبرالية المستندة إلى تصور الرئيس الأميركي ويلسون (لا إلى التصور البلشفي المعادي للامبريالية) لحق تقرير المصير هي الإيديولوجية الضمنية للكفاح الاستقلالي الذي قاده أعيان مدن (فيليب خوري) ورجالات أسر ملاّكة ومتحدرون من الطبقة الوسطى الحديثة: محامون وأطباء بصورة خاصة. كانت "الأمة" في تصور هؤلاء الرجال تطلق على السوريين أو على العرب دون أن يحمل إطلاقها هذا المضامين الحصرية التي سيكتسبها المفهوم من الفكر القومي العربي في وقت لاحق: إن أطلقت على العرب فإنه لا يصح إطلاقها على السوريين وغيرهم، وإن أطلقت على هؤلاء أنكرت على العرب. تصور الأمة كان ذا محتوى اجتماعي سياسي، بوصفها أهلية للتمثيل، وليس باعتبارها كيانا أو هوية تقف قبالة أو ضد هويات أخرى. بعبارة أخرى، كان ثمة بعد تعاقدي في مفهوم الأمة وقتذاك، بعداً لم تعمل الأيام المقبلات إلا على حذفه وإحلال بعد ماهوي مكانه. نسجل أيضا أن العروبة، وكان راية كفاح السوريين ضد الانتداب الفرنسي، أبدت وجها تعاقديا سابقا على وجهها العقيدي.
أخذ المفهوم القومي العربي بصيغته شبه البعثية يبرز شيئا فشيئا في ثلاثينات القرن العشرين في استمرارية لفكرة المملكة العربية التي تمحورت مفاوضات الشريف حسين مع البريطانيين، وكانت الفكرة المشرعة لما سيعرف باسم "الثورة العربية الكبرى".
وفي عشرينات القرن العشرين كان قد تكون الحزب الشيوعي السوري اللبناني الذي يصدر عن تصور للدولة والنظام الاجتماعي والاقتصادي والقانوني متعارض تماما مع التصور الليبرالي. لكن الحزب الشيوعي السوري الذي بقي ضعيفا في العشرينات، انتعش في النصف الثاني من الثلاثينات، وفي الخمسينات كان قوة صاعدة نسبيا مثل حزب البعث (أقل منه)، ما سوغ للأميركيين، في ظل عز هستريا الحرب الباردة، أن يصوروا أن سوريا على وشك الوقع بين أيدي الشيوعيين.
في مطلع النصف الثاني من الثلاثينات أيضا، وفي الوقت نفسه تقريبا، تكون "الحزب القومي السوري" بقيادة اللبناني أنطون سعادة، وكان متأثرا بمناخ النازية الصاعدة، الرامزة وقتها للعزة القومية للأمة الألمانية، في عين العرب على الأقل. كذلك تكون كذلك "حزب الكتائب" اللبناني بقيادة بيار الجميل، وكان متأثرا بكتائب الجنرال فرانكو الفاشية في أسبانيا. وبينما اقتصر التنظيم الأخير على موارنة لبنان، فإن تنظيم سعادة شمل مسيحيين ومسلمين، وسوريين ولبنانيين من مختلف الطوائف. لكن المشترك بينهما تباعدهما عن الليبرالية، واحتفائهما بتقاليد انضباط قوية وبعبادة الزعيم. بالمجمل، يمكن القول إن نصف الثلاثينات الثاني شهد تكون أو نمو تيارات مضادة لليبرالية: الحزب الشيوعي، القوميون العرب، القوميون السوريون، والكتائب.. فضلا عن تنظيمات أصغر لم تعمر.

سوريا المستقلة
استقلت سوريا عام 1946، وحكمها أعيان المدن الذي قادوا الكفاح الاستقلالي، المتحدرين أساساً من دمشق وحمص وحماة وحلب، وهم في الغالب ملاك أراض واسعة في الأرياف السورية. هم كذلك مسلمون سنيون و، بدرجة أدنى، مسيحيون. وبعد ثلاث سنوات وقع أول انقلاب عسكري في سوريا من قبل ضابط سابق في الجيش الفرنسي، حسني الزعيم، تحول إلى معسكر "الوطنيين" أثناء الحرب العالمية الثانية، وعرف بأنه غير مستقر الشخصية. بعد أربعة شهور ونصف وقع انقلاب ثان على يد عسكري آخر هو سامي الحناوي. وكلا الرجلين من أصول إثنية غير عربية، تسنى لهما الانخراط في "جيش المشرق" الذي شكله الفرنسيون أثناء انتدابهم الذي دام أقل من 26 عاما. وقبل أن ينتهي عام 1949 وقع انقلاب ثالث قاده أديب الشيشكلي الذي سيحكم من وراء ستار أو مباشرة خمس سنوات تقريبا. قبل ذلك، وفي أيار 1948 كانت تأسست دولة إسرائيل وخرج مئات ألوف الفلسطينيين نازحين من ديارهم إلى البلاد العربية المجاورة، ومنها سوريا. كان وطنيون سوريون قد شاركوا في جيش الإنقاذ واستشهد بعضهم، وعاد آخرون مستائين من أوضاع بلادهم ومن عجز الفئة الحاكمة فيها، ما جعل من مأساة فلسطين إحدى المسوغات المعيارية للانقلابات العسكرية السورية.
كانت سوريا المستقلة حديثا موضع تجاذب بين المستعمرين السابقين، من فرنسيين وبريطانيين، ثم الأميركيين الذي دخلوا لتوهم ميدان التنافس على الهيمنة على "الشرق الأوسط"، وبعد قليل سينظرون إليه من منظار الحرب الباردة ومقاومة "الخطر الأحمر" و"التغلغل الشيوعي" المفترض. كانت الخمسينات زمن خطط الدفاع عن الشرق الأوسط، والأحلاف العسكرية، ومبدأ آيزنهاور، والعدوان الثلاثي على مصر 1956، و"المؤامرة الأميركية" على سوريا عام 1957، والحشود التركية على الحدود الشمالية في العام نفسه.
كانت دكتاتورية الشيشكلي التي انتهت عام 1954 بفرار الدكتاتور، موفرا على بلده حربا أهلية أكيدة، قد أطيح بها على يد تحالف واسع شاركت فيه طبقة الأعيان السابقة، لكن برز بصورة متزايدة نفوذ الطبقة الوسطى الحديثة من أطباء ومحامين وكتابا و، لأول مرة، معلمي مدارس. على أن اللاعب الأخطر الذي أدخلته الانقلابات المتلاحقة ملعب الحياة السياسة السورية هو ضباط الجيش. ورغم أن السنوات الأربعة المنقضية بين سقوط الشيشكلي والوحدة السورية المصرية في أيلول 1958 كانت فترة خصبة وديمقراطية وشهدت حياة سياسية غنية وصاخبة وقلقة في آن معا، وكان الشيوعيون والإخوان المسلمون (تأسست الجماعة السورية عام 1945) والبعثيون (عقد حزبهم مؤتمره التأسيسي عام 1947)، فضلا عن الحزبين التقليديين، حزب الشعب والحزب الوطني، أصلاء جميعا في المشهد السياسي، أقول رغم ذلك فإنها الفترة التي شهدت، تراجع الحزبين التقليديين اللذين يصدران تلقائيا عن تصور شبه ليبرالي للمجتمع والسياسة من جهة، ومن جهة أخرى نمو تيارات سياسية وإيديولوجية "ثورية" وعقيدية ونزاعة نحو التطرف.
كان العهد ذاك أظهر حساسية ضعيفة نسبيا حيال المسألة الفلاحية في سوريا. لقد كانت أكثرية السوريين، أكثر من ثلاثة أرباعهم، يقيمون في الأرياف ويعيشون من الزراعة، عيشا لا يتجاوز في كثير من الأحيان مستوى الكفاف. سيجد الحزب الاشتراكي العربي، الذي أسسه أكرم الحوراني واتحد مع حزب البعث العربي عام 1952، آذانا صاغية في أوساط الفلاحين، بالخصوص في منطقة الغاب من أرياف مدينة حماة وسط سوريا. وسيجد الجيش في أوساط أولئك الريفيين متطوعيه الجدد الذين سيكون لهم شأن عظيم بعد سنوات عشر فحسب من ذلك الوقت.
إن حزب الحوراني هو الذي سيحرر حزب البعث العربي (كان أسسه خريجا باريس ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار) من طابعه النخبوي، ويمنحه قاعدة اجتماعية شعبية. وبالتقاء فكرة الانبعاث العربي مع قاعدة فلاحية، وبعد قليل مع عسكر ريفيين ينحدر أكثرهم من أقليات مذهبية، أقول بهذا الالتقاء انحكم تاريخ سوريا خلال السنوات الثلاثة والأربعين الماضية.
المسألة الثانية التي لم يجد لها العهد ما بعد الاستقلالي حلا هي التجاذبات العربية والدولية الحادة حول الكيان السوري، ما سيسميه باتريك سيل "الصراع على سوريا". كانت سوريا مخطوبة الود من الحكم الهاشمي في العراق، ومن محور مصري سعودي سيتفكك أواخر الخمسينات، بالتواقت مع وحدة سوريا ومصر. وكان حزب الشعب المكون من أعيان حلبيين أساسا منجذبا إلى الوحدة مع العراق، فيما كان الحزب الوطني، وقاعدته الأوسع دمشقية، مشدودا إلى المحور السعودي المصري.
جملة هذه الظروف والتفاعلات وضعت "الليبرالية الموضوعية" للحزبين التقليديين وللدولة السورية الموروثة عن العهد الانتدابي أمام امتحانات عسيرة، قلما تيسر لها أن تنجح فيها. ومع احتداد التوترات والضغوط والصراع على سوريا برز دور الضباط والسياسيين الإيديولوجيين.
لكن قبل أن ننتقل للمرحلة التالية، لنلخص وضع الليبرالية في الفكر والسياسة في سوريا. قلنا إنها ليبرالية طبيعية أو موضوعية، بدت للنخبة الاستقلالية أشبه بنظام للطبيعة، لأن تكوين تلك النخبة جعلها تشعر أنها في بيتها في النظرة الليبرالية للمجتمع والسياسية، ولأن المستوى الحضاري لسوريا في ذلك الوقت لم يتح لها ولأكثر السوريين معرفة أكثر تدقيقا باتجاهات الفكر السياسي الحديث ومذاهبه. ومن غير المفاجئ أنه غاب عن الليبرالية الموضوعية في سوريا مبدأ الليبرالية الأساس، أي الفرد وحقوقه وحرياته وملكيته. فقد كان ممتزجا بتلك الليبرالية التكوين التقليدي المحافظ اجتماعيا وفكريا لطبقة الأعيان المدينية. وضمن هذه التكوين، قلما كان الفرد موجودا. كان الموجود هو الوسط المحلي والقرابي الضيق والتجاري الأوسع قليلا، وهو الأمة المنخرطة في صراع من أجل الاستقلال. على أن الليبرالية الموضوعية نفسها ستبدو للمعلمين والعسكر ذوي المنابت الفلاحية إيديولوجية الاستعمار الأوربي الذي حكم سوريا وغيرها من البلاد العربي، الأمر الذي سيجعل من نزع الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية نزعا لليبرالية، في الاقتصاد والسياسة والنظام الاجتماعي. يروي المثقف السوري المرموق والمأسوف على شبابه ياسين الحافظ أنه حين جلا الفرنسيون عن سوريا عام 1946 ألقى شاعر مدينته دير الزور، محمد الفراتي، قصيدة وطنية حادة النبرة ضد المستعمرين، بينما كانت الجماهير التي أخذها الحماس تغذي نارا متأججة بكتب فرنسية!
باختصار بين 1918 و1958 كان لدينا ليبرالية بلا ليبراليين. لذلك لن يدافع عنها أحد.

مرحلة الوحدة
دون علم قيادتهم السياسية اتجه 14 ضابطا سوريا، جواً، إلى مصر، وعرضوا على جمال عبد الناصر.. سوريا. صلاح الدين البيطار، وزير خارجية سوريا آنذاك، وثاني اثنين من مؤسسي حزب البعث، التحق بهم، ولم يكن في وسعه غير المضي في عملية الوحدة التي توجت حماس السوريين للوحدة العربية من جهة، ومثلت حلا لتنازعات النخب السياسية والإيديولوجية، المدنية والعسكرية، السورية، من جهة ثانية. ناصر الذي لم يكن متحمسا للوحدة اشترط على ضيوفه السوريين غريبي الأطوار وحدة اندماجية كاملة كي يقبل أي وحدة. كان هذا يعني أن يحوز هو على سلطة مطلقة في الكيان الجديد: الجمهورية العربية المتحدة. كان صناع الوحدة هم العسكر السوريون، ومثقفون عقيديون لم يلبثوا أن دفعوا ثمن نظرياتهم. لكن ينبغي القول إن الوحدة العربية كانت تطلعا مشتركا لجميع النخب السورية، بما فيها النخبة الاستقلالية الليبرالية. كان شكري القوتلي، أول رئيس لسورية المستقلة، قد قال عام 1946 إنه لن يرتفع فوق علم سوريا، الذي رفعه محل العلم الفرنسي، غير علم الوحدة العربية. ولعله من سوء حظ فكرة الوحدة العربية أن تجربتها الأولى دشنت القطيعة مع الليبرالية، أي مع مبادئ الدستور واللامركزية والفصل بين السلطات والتعددية الحزبية. لم يكن الفصل هذا ضروريا ولا مدونا في فكرة الوحدة العربية ذاتها، لكنه كان ثمرة التقاء ضعف حساسية النخب الاستقلالية حيال المسالة الفلاحية كما قلنا، واحتداد الضغوط الدولية، وصعود الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، ما سيسمى بعد حين البرجوازية الصغيرة. فضلا عن وجود نموذج جاهز، معاد لليبرالية بنشاط، وكان يبدو واعدا جدا، أعني النموذج الشيوعي، المتمركز بإفراط حول الدولة.
فرض ناصر حل الأحزاب السياسية في سوريا، وشهد عهد الوحدة أول موجة اعتقالات سياسية مهمة في تاريخ البلاد، وكان ضحيتها هم الشيوعيون، ما سيسهل للبعثيين، فيما بعد، قمع الناصريين، ثم الإسلاميين، ثم الشيوعيين، والجميع. وفي عهد الوحدة تحول مركز المبادرة في الحياة السياسية السورية، بصورة كاملة وحصرية تقريبا، إلى الدولة. قامت دولة الوحدة بإصلاح زراعي أخذ في اعتباره المسألة الفلاحية، وجرى تأميم بعض المصالح الاقتصادية، ونالت سوريا حماية من التدخلات الخارجية. لقد ضربت الطبقة التي حكمت سوريا منذ انفصالها عن السلطنة العثمانية، وصعد الفكر الدولاني، واصطبغت الفكرة القومية العربية بطابع تدخلي مفرط. وأثار النزوع المركزي المفرط لدولة الوحدة تحفظ، إن لم نقل عداء، أقليات دينية وإثنية في "الإقليم الشمالي"، فضلا عن طبقة ملاكي الأراضي والطبقة البرجوازية السورية الفتية.
انهارت الوحدة في أيلول من عام 1961 على يد ضباط متحدرين من البرجوازية الدمشقية. غير أن انهيارها أخفى، إلى حين، انهيار الطبقة تلك وعجزها عن تجديد شبابها وتفكيرها وبرامج عملها وأساليب تعاملها. ولم يخطر لها ببال أنها كانت، من وجهة نظر تاريخية، عميلة لطرف إيديولوجي وسياسي واجتماعي معاد لها بشدة أكبر من دولة الوحدة الناصرية: حزب البعث العربي الاشتراكي. ولا شي أدل على أن هذه الطبقة غدت من الماضي من حقيقة أنها، خلال عام ونصف من عودتها إلى الحكم بعد الوحدة، كانت ترى بالعين تقريبا العسكر السوريين، الناصريين والبعثيين، يشحذون سكاكينهم لقطع رقبتها دون أن تحرك ساكنا أو تستطيع قمعهم والدفاع عن نفسها. في النهاية استسلمت للموت، واستولى الضباط القوميون بسهولة على السلطة، وأنهوا "عهد الانفصال" صباح يوم 8 آذار 1963.
برنامج القوميين لم يكن غير ليبرالي بل كان نقيضا لليبرالية نقطة بنقطة، بل للديمقراطية ايضا، وإن تحت قناع الديمقراطية الشعبية: لا سلطة دستورية، لا استقلال سلطات، لا حماية للملكية الخاصة، لا حريات عامة ولا صحافة حرة ولا تعدد أحزاب.. الواقع أن الديمقراطية، والليبرالية أكثر، كانت قد حازت سمعة سيئة منذ أواخر الخمسينات. لقد غدت شيئا مرتبطا بالاستعمار والغرب والامبريالية والبرجوازية. بالمقابل صعدت نظريات مناقضة من نوع الاشتراكية العربية والديمقراطية الشعبية في سوريا البعثية، والديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية العربية في مصر الناصرية.
ولم تتم إعادة الاعتبار للديمقراطية إلى في أواخر سبعينات القرن العشرين وعلى يد .. ماركسيين وشيوعيين، منشقين على الاتحاد السوفييتي والشيوعية المحلية الموالية له، وعروبيين، وفي سياق الاعتراض على "تغول" السلطة التقدمية، الديمقراطية الشعبية، الاشتراكية، البعثية. أما الليبرالية فقد ظلت أشبه بالخروف الأسود حتى نهاية القرن العشرين، بل بالفعل حتى عام 2003 أو 2004، حتى في عيون من أعادوا الاعتبار للديمقراطية قبل ربع قرن. كانت الطبقات "الليبرالية" القديمة قد انقرضت نهائيا، ولم يعد لديها ما تطرحه في المجال العام. والواقع أن من بقي منها صار حليفا وأليفا لـ"الأرستقراطية الجديدة"، التي أنتجها النظام الامتيازي الحاكم، بعد عهده الثوري الذي انتهى عام 1970 أو 1973. لذلك أمست التناقضات الحاسمة تدور ضمن الكتلة القومية اليسارية، وليس بين الكتلة هذه والأعيان والبرجوازيين السوريين الذين انهاروا وقضي عليهم عام 1963.
ليست الطبقات العليا هي التي تعرضت للتحطيم على يد النظام الشعبوي، بل كذلك الطبقة الوسطى التي فقدت استقلالها السياسي والفكري عن طريق استيلاء العسكر والمثقفين الشعبويين، المتحدرين من الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى على السلطة والحياة العامة. أما الأولى فقد نزعت ملكياتها من الأراضي والمعامل والمصارف وتمت تصفيتها تماما. بل إن عددا كبيرا من أفرداها هاجروا من البلاد إلى لبنان والخليج والغرب. ومن بقي منهم انضوى تحت لواء محدثي النعمة الذين أنجبهم النظام، والذين لم يغادرهم شعور النقص حيال الارستقراطيين القدامى.
وهكذا لم يعد في البلاد طبقات أو فئات مستقلة عن الدولة. وهو ما سينعكس على الحياة الثقافية بنزعات عقيدية تتفاوت في شدة تطرفها، وفي انتشار ماركسية دولانية وغير نقدية في أوساط المثقفين السوريين، أو شيوع أساطير الخلاص والانبعاث في أوساطهم برعاية الإيديولوجيتين القومية السورية والبعثية. لقد تراجعت العناصر المدنية في الثقافة مع خسارة الثقافة لمنابرها المستقلة من صحف ودور نشر، ومع تأميم المعاني والقيم الوطنية لصالح نظام الحزب الذي عوض بشعاراتية صادحة عن فقره الفكري والثقافي المقيم. مصير كل من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار يلقى ضوءا على هذا الشرط. فبعد أقل من ثلاث سنوات على الانقلاب البعثي الأول وقع انقلاب بعثي ثان عام 1966 حطم نهائيا البعث الذي بناه المعلمان. وكانا قد تعرضا للتهميش حتى قبل هذا الانقلاب الأخير. وقد انتهى الأول محكوما بالإعدام في بلده، وعلى يد رفاقه (مات في العراق عام 1989)، فيما اغتيل الثاني في باريس في صيف 1980، على يد رفاقه أيضا. قد نذكر ايضا مسار سامي الجندي، اكثر المثقفين البعثيين نباهة ومدنية، وقد ابتعد عن الحكم بعد قليل من المشاركة في السلطة البعثية، ونشر كتابا مهما عن حزب البعث ("البعث"، دار النهار، بيروت، 1969).

شتاء الشعبوية الطويل
نضرب صفحا عن عهد ما بعد سبعين الذي اتسم، بعد انفتاح قصير، بنمو غير متكافئ لمكونيه العضلي والعقلي، لمصلحة الأول طبعا.
قلنا إن إعادة الاعتبار للديمقراطية بدأت في النصف الثاني من السبعينات على يد يساريين. الفضل في ذلك لمفكر ماركسي قومي مرموق هو ياسين الحافظ الذي توفي وعمره 48 عاما عام 1978، ولجناح منشق عن الحزب الشيوعي الرسمي المرتبط بكل من الاتحاد السوفييتي ونظام الرئيس حافظ الأسد. لذاك التحول حدوده الفكرية والسياسية طبعا. قد نذكر أنه في مطلع ثمانينات القرن العشرين شعر المثقف الماركسي العروبي المرموق إلياس مرقص، وقد كان صديقا لكل من ياسين الحافظ وللجناح المنشق المشار إليه (الحزب الشيوعي- المكتب السياسي؛ اسمه منذ أيار 2005: حزب الشعب الديمقراطي السوري) بوجوب التمييز بين الديمقراطية التي بدت أجدر بالاعتبار أو بإعادة الاعتبار في منظوره الماركسي غير السوفييتي، وبين الليبرالية التي لم يكن ممكنا إعادة الاعتبار لها في ذلك الوقت.
في بداية عقد الثمانينات ذاته تعرضت الحياة السياسية والثقافية لموجة ثانية من التحطيم، تمخضت عن مئات وألوف المعتقلين السياسيين، ومناخات من الهلع تعم البلاد، وإرغام الناس على إبداء الولاء للنظام. لقد خيم مناخ من الخوف والصمت والانكفاء على الحياة الأسرية، وتقاصر الروابط الاجتماعية الطوعية بين السكان، دام عشرين عاما. في أواخر التسعينات بدأ ثلج الشمولية الرهيبة يذوب ببطء. وبعد عام 2000 فقط أخذت تظهر نبتات خضر هنا وهناك، على شكل نقاش عام حيوي، وعودة المثقفين إلى المبادرة، وانتزاع مساحات صغيرة من المجال العام لأنشطة مستقلة... مجمل ما سمي "ربيع دمشق". وكان العنوان العريض لهذه الأنشطة جميعا هو الديمقراطية.
كانت الليبرالية كلمة وفكرة خارج التداول، لكنها أخذت ترتسم بالتدريج في أفق تفكير المثقفين الذي شرعوا يفكرون بالديمقراطية ولا يكتفون بالدعوة إليها. على أن تنظيمات ليبرالية بدأت تتكون بوفرة في عام 2004 وما بعده. مع ذلك لا نجد حتى اليوم مثقفا سوريا واحدا مرموقا يمكن أن نقرن اسمه بالليبرالية. ويصح القول أن سوريا عرفت تنظيمات ليبرالية قبل أن تعرف نقاشا حول الليبرالية وقبل أن تعرف فكرا ليبراليا.

ليبرالية ما بعد الشعبوية
ليبراليو سوريا اليوم صنفان وحساسيتان: صنف حديث حساسيته أشد تركزا حول الدين، وصنف أحدث بعد، حساسيته اشد تركزا حول الدولة، مع بعض الحول للأسف: فهو ضد وظائفها أكثر مما هو ضد سلطاتها. بعبارة أخرى: ضد "اشتراكيتها" أكثر مما هو ضد طغيانها.
الصنف الأول ريفي أكثر ("التجمع الليبرالي السوري" الذي تأسس في مطلع خريف 2004، ولم يعمر أكثر من ثلاثة أسابيع) والثاني مديني أكثر ("تحالف الوطنيين الأحرار" الذي تأسس في 10/6/2005). ولعل هذا هو السبب في أن التنويعة الأولى ذات مظهر عقيدي ساخط (العقيدية أو التمامية المذهبية هي المنهج الريفي في المعرفة، إن صح التعبير..)، تتحدد بما تعادي أكثر مما بما تريد، وتسودها روح شجارية تفتقر إلى الرحابة والسخاء والتسامح؛ فيما الثانية ذات طابع مدني تتحدد بما تريد أكثر، وروحها أقل مخاصمة وأكثر يسراً. الصنف الأول متشدد في علمانيته وفي سلبيته حيال المعارضة التقليدية المنحدرة من أصول يسارية وإسلامية وقومية عربية. الثاني معتدل العلمانية، وأكثر انفتاحا على تنظيمات المعارضة. كان لافتا أيضا أن البيان التأسيسي للتجمع الليبرالي خلا خلوا تاما من كلمة ديمقراطية، ونميل إلى النظر إلى التجمع الأخير بوصفه نوعا من الليبرالية الريفية التي تمثل استمرارا للشيوعية السورييتية (إن صح المزج بين شيوعية سورية وبين هواها و"دستورها" السوفيتي)، بمرجعية أخرى. وتتميز بالروح الإقصائية ذاتها، وبالعنف اللفظي ذاته، وبالنزوع العقيدي المكتمل ذاته، ودائما بالفقر الفكري واللغوي ذاته أيضا. أما تحالف الوطنيين الأحرار فهو مديني مفرط في مدينيته، حلبي أساسا، وهو يميل إلى أن يضرب صفحا عن مرحلة ما بعد 1963 التي تعادل نصف تاريخ الكيان السوري الحديث بالتمام والكمال. ولعله ينظر إليها، دون أن يصرح، في وصفها المرحلة الريفية من تاريخ سوريا. (والواقع أن الريفية مرحلة من تاريخ سوريا أكثر مما هي بنية اجتماعية سياسية فكرية ثابتة، تعبر عن سيطرة ريفيين على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد. ولعلها انتقام الريف المهمل والمحتقر من المدن المتعجرفة والعاجزة عن الدمج أو المخصية في الوقت نفسه. غير أنه لا مجال للتوسع في هذه القضية بالغة الأهمية والحساسية هنا). وذو دلالة أنه، أعني تحالف الوطنيين الأحرار، يدعو إلى "إعادة النظر في القوانين التي صادرت أملاك المواطنين السوريين من خلال قوانين التأميم والإصلاح الزراعي والمصادرات الأخرى والتعويض العادل لهم". ويعتبر أن "الحرية والعلم أنجع علاج للفقر في سورية".
من حيث دعاواهما الإيجابية يعتبر "التجمع الليبرالي في سوريا" أن "مفهوم (الانتماء السوري) يقابل التعريف السائد (عربي سوري) الذي انتهت صلاحيته بعد الفشل الذريع". وأن "سورية وطن تعددي وأن تعدديته أصيلة وتاريخية وما عداها هو الطارئ". لذلك يرى في "علمنة الدولة الحل الوحيد للقضايا الخلافية من قومية ومذهبية وغيرها". يرى أيضا "ضرورة التحضير لمشروع يهدف إلى عقلنه الأعراف والتقاليد السائدة". ويبرز "أهمية التواصل مع الآخر محلياً، وإقليميا، ودولياً وسيسعى للتنسيق والتبادل والحوار مع الأخر أينما كان". واضح أن برنامج التنظيم متمركز حول الدين والهوية وليس حول السياسة والسلطة. وقد انحل هذا التنظيم بعد أسابيع من تأسيسه، لكن حلت محله خلال عام 2005 مجموعة تطلق على نفسها اسم "التجمع الديمقراطي العلماني الليبرالي"، أو اختصارا "عدل". وهي مكونة من الأشخاص نفسهم تقريبا، وتصدر عن الحساسية نفسها. وكان أحد معتقلي "ربيع دمشق" المفرج عنهم، كمال اللبواني، قد تعاون لبعض الوقت مع المجموعة، قبل افتراق عدائي يعتقد أن للأجهزة ضلع فيه، كما كان بصدد تأسيس تنظيم بالاسم المتنازع عليه ذاته. وتنويعة اللبواني أكثر سياسية، وأقل عداء للمعارضة التقليدية، وأكثر استقلالا عن أجهزة السلطة. وقد أعيد اعتقاله في تشرين الثاني من عام 2005، بعد أن سافر إلى بريطانيا والولايات المتحدة، وأطلق من هناك تصريحات قوية ضد النظام.
أما "تحالف الوطنيين الأحرار" فيرى "أن المجتمع السوري بعد الاستقلال كان مجتمعاً وليداً في طور التكوين والنمو على أسس ليبرالية حقيقية". وأنه في "8/3/1963 تم إلغاء الحياة السياسية وتهجير كافة القوى السياسية الليبرالية من الساحة السياسية وحتى من الوطن أيضاً حين أُسس للمشروعية الثورية على حساب المشروعية الدستورية وبدأ الحكم الشمولي القائم على مبدأ الحزب الواحد (القائد للدولة والمجتمع)". ويرى أن "المفهوم الليبرالي من وجهة نظرنا لا يعني التخلي عن الهوية الثقافية أو القيم الاجتماعية أو الدين، بل يعني التأكيد على حرية الفرد في معتقداته وقيمه". ويرفض "التزمت والتعصب والانغلاق مهما كان نوعه ويشجع الاعتدال والانفتاح"، ويعتقد أن "الغزاة والطغاة والغلاة هم في مقدمة الأخطار التي تهدد مجتمعنا". ويدعو إلى اعتماد آليات اقتصاد السوق هي الأجدى في تحقيق الازدهار الاقتصادي لكافة فئات المجتمع السوري ويبقى تدخل الدولة في مجالات محدودة – التعليم – الصحة – الخدمات وفي دعم المواد الأساسية وفي الدفاع عن مصالح الفئات المحرومة وذلك لضمان السلم الاجتماعي"، ويؤكد أنه "يحترم حق الملكية بكافة أشكالها". هذا فضلا عن الكلام على تداول السلطة وفصل السلطات الثلاث، ولا ينسى بيان تأسيس الحزب الكلام على استعادة الجولان والتعاون العربي والالتزام بالقوانين الدولية. وواضح أن التنظيم هذا ذو تمركز سياسي اجتماعي.
على أن الموجة الليبرالية الجديدة لا تقتصر على هذين التنظيمين وتناسخاتهما المحتملة. ففي الشهر ذاته الذي تأسس فيه "تحالف الوطنيين الأحرار"، تشكل في دمشق تجمع أطلق على نفسه اسم "«التجمع الديموقراطي الحر»، وذلك بهدف "نشر الفكر الليبرالي ومقاومة المعارضة الشمولية»، وصولاً إلى تطبيق شعار «سورية أولاً». وتقول زعيمة التجمع الجديد، رهاب بيطار، التي أصرت أنها ليست أول امرأة تتزعم حزبا سياسيا في سوريا بل وأول امرأة تؤسس حزبا، إن مجموعتها "بعثت برسالة إلى الرئيس بشار الأسد تتضمن العزم على تأسيس هذا التجمع بمجرد صدور قانون الأحزاب الذي وعد به المؤتمر العاشر لحزب البعث الحاكم [ في حزيران 2005]"، معبرة عن أملها في «أن نكون في لجنة صوغ القانون الجديد».
وقبل ذلك وفي عام 2003 كان تشكل "حزب النهضة السوري الوطني الديمقراطي" برئاسة ابن أحد شيوخ العشائر العربية الكبيرة في منطقة الجزيرة، شمال شرق البلاد. متحدثا عن ليبراليته، يقول عبد العزيز دحام المسلط، رئيس الحزب، "إنه لا يعرف سوى شيئاً واحداً [كذا] وهو أن الليبرالية أضحت اليوم هي الحل الحقيقي كضرورة تاريخية للاستجابة الوطنية". ويضيف أن "الليبرالية هي فلسفة الذات العقيدية [لعل في هذا صدى مشوها لقول السوسيولوجي الفرنسي ألان تورين: الديمقراطية هي سياسة الذات الفاعلة] في تثوير مكامن الفكر الإنساني لتأسيس واقع المصالح الاجتماعية، الليبرالية هي ثقافة المجتمع لا ثقافة الحزب أو النخبة، الليبرالية هي صيانة القوانين لحماية الفرد داخل مجتمعه ومنتظمه الإنساني. الليبرالية هي البعد المناخوي الطبيعي لتوازن الحق والواجب، الليبرالية هي شرعية العصر، والمرحلة التاريخية"!!
على أن التنويعة الليبرالية السورية التي قد تكون الأكثر جدية هي تلك التي مثلها الصناعي الدمشقي رياض سيف، الذي أفرج عنه في مطلع عام 2006 بعد سجن ناف على أربعة سنوات وأربعة أشهر. ولا يطعن في ذلك أن سيف رفض بعيد الإفراج عنه في مطلع العام الحالي إطلاق كلمة ليبرالي على الحزب الذي ينوي تأسيسه. أما قبل اعتقاله فقد كانت وثيقة "حركة السلم الاجتماعي" التي كان يزمع تشكيلها مضطربة الأفكار حائرة التوجه، وليبرالية بمعنى محدد: إنها تنتظم في تراث العهد الاستقلالي، وليس في التراث العقيدي والتدخلي للأحزاب السورية، القومية واليسارية والإسلامية.
ملامح الليبرالية السورية الجديدة
في إطار هذه العجالة، قد يفيد أن نبرز ملامح مشتركة بين تنويعات الموجة الجديدة من الليبرالية السورية. أولها إنها تنظيمات "سوروية" حصرا. موقفها من العروبة يتراوح بين العدائية ("التجمع الليبرالي"، و"التجمع الديمقراطي الحر"، رافع شعار "سوريا أولا") وبين التجاهل. ثاني ملامحها أنها تكونت في مناخ ما بعد سقوط نظام البعث العراقي، ما سماه داعية ليبرالي أردني مقيم في أمريكا "فجر التاسع من نيسان". لا نُلْمح من ذلك إلى أنها مندرجة في المشروع الأميركي، أو متحمسة للأميركيين بالضرورة. نكتفي بالقول إنها مستفيدة بلا ريب من أزمة البعثية السورية نظاما وعقيدة. وكذلك من ضعف فعالية المعارضة التقليدية وتراجع جاذبية عقائدها. من هنا سمتاها الثالثة والرابعة: إن "المسالة الوطنية" غائبة من أفق تفكيرها، أو غنها تحتل مكانا ثانويا؛ وإن معظمها معاد للمعارضة التقليدية، وبعضها، "التجمع الليبرالي" و"التجمع الوطني الحر" بخاصة، أشد عداء للمعارضة هذه، التي وقع عليها قمع النظام خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، من اعتراضها على النظام ذاته. ويتناسب العداء للمعارضة التقليدية طردا مع تمركز التنظيمات هذه حول الدين والاعتراض على دوره في الحياة العامة (ما يتمفصل في سوريا أيضا مع الروابط والانتماءات الأهلية..)، ويقل بدرجة تتناسب مع التمركز حول السياسية ونقد الاستبداد.
أما السمة الأبرز فهي أن ليبرالية اليوم واعية جدا لذاتها وعديمة الوعي جدا لموضوعها. وهي في ذلك النقيض التام لليبرالية الموضوعية في مرحلة ما بين تشكل الكيان السوري عام 1918 وإعلان استقلاله في آذار 1920، وبين صعود الدولة والمذاهب الدولانية كما تكرس في الوحدة السورية المصرية عام 1958 والانقلاب البعثي الأول عام 1963. إن المشترك بين ليبراليي اليوم هو أن معرفتهم بتاريخ سوريا الحديث، وبتكوين المجتمع السوري، وبالتيارات الفكرية والسياسية والإيديولوجية في البلاد، وبتاريخ الفكرة العربية، وبتكوين النظام الدولي وتحولاته، وقبل ذلك كله بتاريخ الليبرالية ذاتها، فكرا وسياسة، إن معرفتهم بكل ذلك تقارب العدم. هذا ما يحكم على الليبرالية برثاثة لا برء وشيكا منها. ولعل أصل الرثاثة هذه أن شروط نهوض الليبرالية غير متوفرة في المجتمع السوري: فلا طبقة وسطى مستقلة وناهضة، ولا مجتمع مدني حيوي ونابض بالنشاط، ولا مدن دامجة ومستوعبة، ولا انتعاش للثقافة والاقتصاد، ولا ارتفاع لدخول الأفراد، ولا حريات عامة، ولا معنويات وطنية مرتفعة...
ليبراليون بلا ليبرالية، وبالعكس!
في الختام، قد لا يكون مفاجئا أن الليبراليين الأكثر جدية في سوريا هم من لا يطلقون على أنفسهم لقب ليبراليين، هم في الواقع معارضون تقليديون، يستوعبون أكثر من أي وقت سبق عناصر من الثقافة والحساسية الليبرالية، ويدرجونها في تطلع أوسع للتغيير والمساواة في سوريا. بعبارة أخرى، نحن هنا إزاء ليبرالية مقيدة، أو ليبرالية دستورية، وليست ليبرالية مطلقة تكاد تكون محض انعكاس للسلطة المطلقة التي تحكم البلاد منذ أكثر من أربعة عقود. إن الليبرالية، وبقدر ما لا تكون مستوعبة ثقافيا وسياسيا، تطرح نفسها كإيديولوجية قائمة بذاتها، مستقلة عن غيرها ومتعالية عليه. وبالعكس حيث تكون الليبرالية مستوعبة، فإنها تكف عن الوجود كعقيدة ذاتية وتغدو منطقا للعمل السياسي والثقافي.
اليوم ثمة كثير من الليبرالية في سوريا، لكن ليس هناك إلا القليل من سوريا في الليبرالية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في صدد خصائص ثلاثة لليبرالية الجديدة العربية
- الليبرالية والديمقراطية والحداثة السياسية
- في أن الغرب طائفي، وأن موقع العقل الكوني شاغر
- إطلاق سراح الماضي لقطع الطريق على ثمانينات جديدة...
- احتلال الجولان وانتقاص مقومات الوطنية السورية
- تحت ظلال العار..!
- ميشيل كيلو وولادة المثقف السوري
- من -العروبة أولا- و-سوريا أولا- إلى الوطنية الدستورية
- -انغماس في العيب- حقاً!
- أوربا ومخاطر انفجار قيامي للشرق الأوسط
- خارج السلطة: تحول موقع الماركسية الثقافي
- تساؤلات بصدد الحرب الأهلية والحرب الطائفية
- في أية شروط تغدو الطوائف فاعلين سياسيين؟
- من سلطة غير دستورية إلى أخرى
- إعادة تنشيط التمركز الأمني للسياسة السورية
- هل يمكن للمقاومة الانتحارية أن تكون شرعية؟
- مقاربتان حولاوان في التفكير السياسي العربي
- العدو ذات تنقذ نفسها، ونحن ينقذنا التاريخ، لكن بأن نغدو موضو ...
- ماذا يفعل السلاح في الشارع؟
- التلفزيون والسجن: صندوقا السلطة


المزيد.....




- البحرية الأمريكية تعلن قيمة تكاليف إحباط هجمات الحوثيين على ...
- الفلبين تُغلق الباب أمام المزيد من القواعد العسكرية الأمريك ...
- لأنهم لم يساعدوه كما ساعدوا إسرائيل.. زيلينسكي غاضب من حلفائ ...
- بالصور: كيف أدت الفيضانات في عُمان إلى مقتل 18 شخصا والتسبب ...
- بلينكن: التصعيد مع إيران ليس في مصلحة الولايات المتحدة أو إس ...
- استطلاع للرأي: 74% من الإسرائيليين يعارضون الهجوم على إيران ...
- -بعهد الأخ محمد بن سلمان المحترم-..الصدر يشيد بسياسات السعود ...
- هل يفجر التهديد الإسرائيلي بالرد على الهجوم الإيراني حربا شا ...
- انطلاق القمة العالمية لطاقة المستقبل
- الشرق الأوسط بعد الهجوم الإيراني: قواعد اشتباك جديدة


المزيد.....

- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - بين ليبراليتين في سوريا: -ليبرالية موضوعية- بلا وعي ذاتي، و-ليبرالية ذاتية- بلا شروط موضوعية