أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم الحلوائي - سنوات بين دمشق وطهران ( 6 )















المزيد.....


سنوات بين دمشق وطهران ( 6 )


جاسم الحلوائي

الحوار المتمدن-العدد: 1599 - 2006 / 7 / 2 - 02:35
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


ذكريات
في عام 1985 علمنا أن السلطات الايرانية تروم إستبدال الكارت الأخضر (هوية العراقيين المهجرين) بآخر، بعد التحقيق الدقيق معهم. وقد حصلنا على نموذج للإستمارتين اللتين يجب ملأهما. لاحظنا ان من الصعوبة بمكان إدراج أية معلومات غير صحيحة فيهما. فالمعلومة غير الدقيقة في إحداهن تكشفها الأخرى. وإضافة الى ذلك سيجري تحقيق على انفراد مع كل فرد من العائلة لإكتشاف الكذب. وكان كارتنا الأخضر المزور وسيلتنا الوحيدة، ام شروق وأنا، للإقامة في إيران، كما أشرت الى ذلك سابقا. وعند التداول في الأمر مع الرفيق فلاح توصلنا الى خطورة إمتثالى وأم شروق أمام تحقيق منفرد عن كيفية تسفيرنا تفصيلا. فقد كان من الضروري أن نتجنب مثل هذا التحقيق. وبعد جهد جهيد تمكنت من الحصول على وثيقة ايرانية مزورة تؤهلني للإقامة في إيران، وابطلوا إسمي على الكارت الأخضر، فتحررت من متطلبات التبديل، وبقي إسم أم شروق على الكارت. وقد علمنا إنه من الممكن أن تحصل أم شروق بسهولة على كارت أخضر جديد مستقل بالإستناد الى القديم الذي يحمل اسمها فقط ، على أن تقدم طلبا بذلك لدائرة النفوس وأن أرافقها مع وثيقتي الجديدة. وبهذه الطريقة نتخلص من الوثيقة القديمة التي تحمل إسمي. كنا نخطط لذهاب أم شروق لوحدها للتحقيق لإستبدال هويتها الخضراء لصعوبة تدبير هوية ايرانية مزورة لها.
كانت أم شروق تروم الذهاب الى السوق لشراء بعض الهدايا لأبنائنا فقد كانت تنوي السفر الى دمشق بعد ثلاثة أيام. عندما رجوتها مرافقتي لإنجاز معاملة الهوية أولا والذهاب الى السوق لاحقاً، وذلك في يوم 24. آب 1985. توجهنا الى دائرة النفوس وقدمنا الطلب، فتعرضنا الى تحقيق دقيق وإتسمت إجاباتنا بالارتجالية . فعندما سؤلنا عن أسباب طلب هوية جديدة في الوقت الذي تتمكن أم شروق إستخدام القديمة. أجبت بأن هناك مشاكل بيننا ونفكر بالطلاق. وعند الإستفسار من أم شروق أين تقيم، أجابت بأنها تقيم لدى معارف عراقيين وإسم رب العائلة محمد جاسم! وأعطت عنوانا وهميا. وكنت مترجما لها خلال وجودنا في هذه الدائرة. دارت المعاملة من الطابق الأرضي الى الطابق الثالث دورة مكوكية ، وأنا أصعد وأنزل الدرجات بسرعة واداري قلقي. وأخيرا إستقرت المعاملة لدى المدير في الطابق الثالث. تصفح المدير المعاملة وأعاد ذلك أكثرمن مرة، ونحن نشاهده من خلال باب مكتبه المفتوح، فهمست بإذن أم شروق:
ـ يبدو بأنه لم يصدق إدعاءاتنا، ومن الضروري أن نظهر أمامه كزوجين على وشك الطلاق.
واخيرا طلبنا المدير الذي أعاد التحقيق معنا وأعطينا نفس الأجوبة السابقة. وقع المعاملة وحولها الى الطابق الأرضي، فتنفسنا الصعداء. صرفوا، في الطابق الأرضي، هوية جديدة لأم شروق وحولت المعاملة للمدير في الطابق الثالث لكي يوقعها. شعرت ببعض الألم في صدري وضيق في تنفسي. أخبرت أم شروق بأنني تعبان ولم أتمكن من أن أتسلق السلالم حتى الطابق الثالث مرة أخرى، وطلبت منها الذهاب وحدها خاصة وإن الأمر لايحتاج الى كلام، وإنه مجرد توقيع. أنجزت المعاملة وحصلت أم شروق على الهوية. وعندما أصبحنا في الشارع العام قالت لي أم شروق:
ـ واخيرا صارت عندي هوية.
ـ أخشى أن يكون ثمنها غاليا. قلت ذلك من شدة الألم الذي كنت أعانيه في صدري، ليس إلا.
أخذ الألم يشتد في صدري، وصرت أنحني ونحن نسير نحو الشارع العام لإستئجار تكسي يوصلنا الى البيت. عند وصولنا الشارع العام لم أتمكن من الوقوف فطلبت الإستراحة قليلا وجلست على الرصيف. أخذ الألم يزداد وأصبح ساحقا في عظم القص. لم نحصل على تكسي. إقترحت على أم شروق الذهاب الى بيت قريب إلينا يعود لصديق عراقي للإستراحة أولا، ومن ثم الذهاب الى البيت. وافقت أم شروق على مضض بدافع تجنيب الآخرين المضايقة. عندما وصلت بيت الصديق، إستقبلتنا زوجته الفاضلة أم وصال. تناولت قرص اسبرين وإضطجعت على فراش مفروش على الأرض. أم وصال لديها هواية متابعة الشؤون الطبية والأمراض في المجلات والصحف، ويبدو بأنها كانت قلقة، لذلك عادت الي بعد فترة وجيزة وإستفسرت عن حالتي فأخبرتها بأن الألم أخذ ينتشر في كتفي وعضدي الأيسر أيضا. فإقترحت علينا الذهاب الى المستشفى فلم نؤيد ذلك. تجاهلت أم وصال تحفظنا وطلبت تكسي بالتلفون. نوينا أن نذهب بالتكسي الى البيت بدلا من المستشفى لجهلنا وعدم معرفتنا بمخاطر ما أعاني منه. عندما حاولت أن أنهض وأتوجه الى التكسي تعذر علي ذلك بدون مساعدة أم شروق وأم وصال. عند ذاك فقط إقتنعنا بالذهاب الى المستشفى . وما أن فحصوني في المستشى ( تهران كلينك) حتى شخصوا السبب وهو القلب. بعد فترة وجيزة جاء من يبشرني بوجود سرير لي في العناية الفائقة. [1] وكان سريرا مؤقتا، لحين إخلاء سرير بعد فترة وجيزة، وضعوه في الصالة الصغيرة أمام الباب وأتاح ذلك الوضع إمكانية مشاهدتي من وراء الباب، وكانت أم شروق هناك.
كنت فاقدأ لوعيي تقريبا. شعرت بأن حياتي قد إنتهت بدون أدنى ريب. وما أن خطرت هذه الفكرة ببالي حتى مرت في ذاكرتي سنوات حياتي كشريط سريع ومتسلسل . وعندما إنتهى الشريط كنت متراضيا مع روحي ومت!! كم من الوقت إستغرق سيرالشريط ، هذا ما يصعب علي تحديده ولكن شعرت بأن الأمر لم يكن يعدو أكثر من لحظات أوربما ثواني وليس أكثر من ذلك. ولم أشاهد أي نور في نهاية نفق في اللحظات الأخيرة من حياتي ولم التق بوالدي أو باي من أقربائي الموتى أو بعزرائيل أو الأولياء الصالحين كما يروي البعض ممن مر بنفس الحالة.
ويبدو بان هناك نوع من التناقض بين عدم التأسف لمفارقة الحياة وبين حب الإنسان لها من خلال عنايته الكبيرة بصحته وتجنبه المخاطر غير المبررة التي تحيق به ... ولكن يبدو أن هذا التناقض ظاهري، فالذي يعتقد بأن الإنسان، كأي ظاهرة بيولوجية أخرى، هو الآخر يولد وينمو ويموت، سوف لن يأسف في اللحظات الأخيرة على مفارقته الحياة، عندما يصبح الموت أمرا واقعا. فلا غرو أن نجد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، الذي عرف من أطبائه موعد وفاته تحديدا، يقطف الزهور التي تزين نعشه عشية وفاته من حديقة قصر الإليزية الغنية بأجود أنواع الزهور.
ولا أجدني بحاجة لسرد كل ما ورد في الشريط الذي ذكرته فقد سجلت جُل ذلك في ذكرياتي التي نشرتها. كان الشريط يسير بوتيرة واحدة وعندما وصل في لحظاته الأخيرة، توقف هنيهة عند العائلة الصغيرة المتكونة من خمسة أشخاص. فكرت بمصير أبنائي الثلاثة وشعرت بالإطمئنان عليهم، فهم يدرسون وبإمكانهم أن يكملوا مشوارهم. وفكرت بمصير أم شروق وشعرت ببعض القلق لأني لم أوفر لها شخصيا ما يضمن مستقبلها. وسرعان ما طمأنت نفسي بمساعدة الحزب لها، وثقتي بها بأنها ستتجاوز الصعاب التي ستواجهها بصبرها وحسن تدبيرها وخصالها الحميدة الأخرى. وتوقفت عند نفسي فوجدتها راضية، فانا أموت في مكان جئت اليه بقرار من الحزب الذي يجسد أمانيي الوطنية والإنسانية، فمت قرير العين بهدوء غير نادم على أي شيء وغير آسف على مفارقتي الحياة والى الأبد!!
سأعطي الكلام لأم شروق لتروي ما شاهدته.
" كنا عدداً من النساء نقف خلف الباب وننظر من خلال زجاج غرفة العناية الفائقة وكنا نشاهدك ونشاهد تخطيط قلبك على الشاشة، فجأة نفخت نفخة قوية ورميت يديك الى الوراء وأخذ تخطيط القلب يرتجف وتحول الى ما يشبه الخط المستقيم. في هذه اللحظة صاحت إحدى النسوة في داخل الصالة (مرد)؛ أي مات، فجلست على الأرض وضربت الأرض ولطمت وجهي وقلت:
ـ ماذا سأقول لأبنائه الثلاثة؟
وإذا بإحداهن تقول لي:
ـ إنهضي قلبه يعمل.
وعندما نهضت شاهدت رئيسة الممرضات في القسم تضغط على صدرك، ثم عاد تخطيط القلب، بعد قليل، الى الأرتجاف والسير بإستقامة تقريبا. فجلست ولم أقم هذه المرة، عندما نبهوني بأن القلب أخذ يعمل. شعرت بدخول عدد من الأشخاص الى غرفة الأنعاش. بعد حوالي عشرة دقائق خرج أحد الأطباء فسألته عن حالتك فقال:
ـ (برﮔشت) رجع.
وبعد حوالي الساعة سمحوا لي بالدخول عليك. فأزاحوا شيئا يشبه الغليون من فمك. تكلمت معي ولكن بصعوبة وإستفسرت مني عما جرى لك، فهونت عليك الأمر... فقلت لي:
ـ كنت أشعر وكأنما أغمى علي."
فحصني في صباح اليوم التالي أحد الأطباء وإستفسرت منه عما أصابني فأجاب:
ـ سكتة قلبية.
بعد ذهاب الطبيب، وكنت غافيا عندما أحسست بأن أحد ما يمسد بيده على ذراعي، وحين فتحت عيني وجدت فتاتين جميلتين على رأسي وإبتسامة حلوة على شفاههن، وإبتعدتاعني بسرعة ما أن نظرت اليهن بعد ان سمعتهن تقولان:
ـ الله يحبك.
ظهر إن الفتاتين كن ممن شاهد السكتة القلبية التي تعرضت لها، ولديهن مريضة في نفس الصالة. وعرفت لاحقا بإن الايرانيين يتبركون بالأشخاص الذين ينجون من السكتة القلبية، ويعتبرون الناجي موضع رعاية الهية خاصة. وصادفت الفتاتين بعد ذلك مرتين على الأقل تنظران من بعيد الى الغرفة التي كنت أقيم فيها، بعد خروجي من غرفة الإنعاش، وتبتعدان حالما تشاهداني. وفي اطار مباركة الايرانيين هناك حادث طريف يستحق أن نستبق به الأحداث قليلا.
أرسلني طبيبي الى التخطيط في أول وآخر مراجعة لي بعد خروجي من المستشفى ببضعة أسابيع. وكان يرافقني الرفيق أبو فاطمة. عند دخولنا غرفة تخطيط القلب إستقبلتنا ممرضة شابة، رشيقة، متوسطة الجمال. وما أن إستلمت رسالة الإحالة ، حتى إستفسرت من أبي فاطمة:
ـ وانت ماذا تريد؟
ـ أنا مترجم.
ـ تفضل أخرج من الغرفة فإنه لا يحتاج مترجم.
ـ أنا صديقه ومرافقه أيضا.
ـ تخطيط القلب لا يحتاج الى مرافق. تفضل إنتظره في الخارج.
إ ستغربنا أشد الإستغراب من طلبها. رجوت أبا فاطمة أن ينتظرني خارج الصالة. لم يخطر ببالي في حينها سوى إنها تريد أن تتبرك بي بطريقة ما.
توجهت هي الى إحدى زوايا الصالة لتكتب إسمي في السجل وتوجهت أنا الى مصطبة التخطيط، وكلي شوق لمعرفة ما تبغيه. بعد برهة وقفت أمامي وقالت:
ـ أنا واحدة من الذين كانوأ في صالة الإنعاش:
ـ يعني إنك واحدة من الذين أنقذوا حياتي، اليس كذلك؟
لا... لا... هذا كثير.. أنا واحدة من اللواتي ساهمن. كنا أربعة نمسك بك وأنت تنتفض وترمينا أربعتنا بعيدا عنك. لقد أعطوك ثلاث صدمات كهربائية. لم يكن الجهاز عندنا وجلبوه من صالة إنعاش أخرى في الطابق... كان يكفي أن يتوقف المصعد لبضعة دقائق حتى ينتهي كل شيء. إنك محظوظ جدا لإحضار الجهاز في الوقت المناسب, شكرتها وتمنيت لها أجمل الأمنيات.
قلت لأبي فاطمة بعد خروجي من غرفة التخطيط:
ـ يظهر ليس كل الايرانيين يتبركون بالناجي من السكتة القلبية، إنها تثق بجهاز الصدمة الكهربائية أكثر من أي شيء آخر.
(تهران كلينك) واحدة من أحسن المستشفيات الخاصة في ايران وفيها جميع الإختصاصات وأطباؤها من خريجي البلدان الغربية. ورغم مرور أكثر من ست سنوات على قيام الجمهورية الإسلامية فإن التطرف الإسلامي المعادي لحقوق الإنسان لم يمسها كثيرا. فالأطباء وجميع الموظفين يشدون الأربطة. وغالبيةالمضمدات يرتدين الحجاب بطريقة يضفي جمالا على جمالهن وينسجم مع مكياجهن. النظافة والدقة والنظام تذكرك بمستشفيات البلدان المتحضرة. ولم تكن المستشفى مكلفة بالنسية لنا فالدفع بالعملة المحلية. وكنا نعالج فيها الأنصار في الحالات التي تتطلب ذلك.
لم أوافق على مقترح أم شروق القاضي بتأجيل سفرتها الى الشام لصعوبة التأجيل ولعدم وجود حاجة ماسة لوجودها وانا راقد في المستشفى ، فسافرت بعد ثلاثة أيام من إصابتي. طال رقادي في المستشفى حوالي الاسبوعين. كنت في فترة النقاهة عندما بلغت بإنتقالي من طهران الى الشام. باشرت بمعاملة الجواز. كان سفرنا خارج ايران يتطلب معاملة على جوازنا الصادر من أحد البلدان العربية لبقائنا في ايران مدة أطول مما هو مسموح به وهي شهر واحد. وهذه المعاملة تمر بدائرة الأجانب (بيكاناكان)، الوثيقة الإرتباط بالمخابرات، للتأكد من حامل الجواز أمنياً. ويتم ذلك بتزكية خطية من أحد الأحزاب الكردية التي تدعي بأن الموما اليه من أنصارها أو كان ضيفا عندها. وعادة ما يرافق ممثل عن تلك الأحزاب صاحب المعاملة، الذي يمثل أمام أحد المسؤولين، ويكون مترجما أيضا. وكانت مثل هذه المعاملات تنجز بسهولة أكثر الأحيان. وتتعرقل أحيانا. وكنت اقلق في كل مرة أضطر فيها للمرور بهذه الدائرة، بعد أن كشف حزب البعث عن وجودي في طهران، وكان الوضع يتطلب التظاهر بعدم المامي باللغة الفارسية. في هذه المرة، وجه المسؤول الايراني فجأة سؤالا مباشراً الي بدلآ من توجيهه الى المرافق المترجم، فلم أجبه وبالتالي لم أقع في الفخ. وأخيرا إنتهت المعاملة، وسلمنا الجواز للرفيق سيد هاشم لكي يؤمن تذكرة سفر الى دمشق.
جاء نسيبي عبد الله، شقيق أم شروق، بإجازة من موقع إعلامنا الأنصاري في كردستان،لمرافقتي والإعتناء بي .وكنا نقيم في بيت الرفيق أبا فاطمة، عندما زارني الرفيق فلاح ليخبرني، بأن جوازي قد ضاع، ولايعرف سيد هاشم كيف حصل ذلك، فقد كان معه عند مجيئه للبيت ولم يجده صباح اليوم التالي وقد فتشوا غرفته جيدا ولم يجدوه.أزعجني الخبر وكان من الممكن أن تكون وطأته أثقل لو لا تمهيدات الرفيق فلاح وتهيئته لي قبل إخباري.
ساعدنا حزب كردي حليف على تدبير جواز مرور (ليسه باس)، وزرت مرة أخرى دائرة الإقامة والسفر وتمت الأمور بدون عراقيل، ووصلت مطار دمشق في أواخر تشرين الثاني عام 1985. لم تسمح لي سلطات المطار بالخروج . ولم تجد محاولات وجهود رفاقنا لحل المشكلة ، بل ولم تجد برقية وزارة الداخلية التي جلبها موظف منها الى المطار. بعد إنقضاء بضعة ساعات على بقائي في المطار جاءني أحد العناصر وأخرجني من كمرك المطار ومن هناك الى قبوه ، حيث كان اثنان آخران ينتظران. فعصبوا عيني وأصعدوني الى سيارة جيب عسكرية. وعندما إستفسرت عن السبب أجابوني بخشونة:
ـ بعدين تعرف!
أزالوا العصابة عن عيني عندما وصلنا مركزا ، جميع الموظفين فيه يرتدون الملابس المدنية، عرفت لاحقا بأنه أمن المطار. أجرى معي أحد المحققين تحقيقا عن أسباب إستخدامي جواز مرور وكيف ضاع جواز سفري. أجبت على الأسئلة بعد أن أخبرته بأني عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. كان المحقق روتينيا ومؤدبا. أدخلت التوقيف. كان هناك حوالي خمسة أشخاص معي في الغرفة. بعد فترة فتح أحد العناصر الباب ، وسرعان ما قام الآخرون وإستداروا نحو الحائط، بقيت جالسا في مكاني، وتهيئت لخوض معركة معينة، وإذا بعنصر الأمن يتجاهل عدم وقوفي كالآخرين، ويبادر بالقول:
ـ لا لا ... لا ضرورة لقيامك، أنت مريض.
ثم نادى بإسم أحد الموقوفين وقاده الى خارج الغرفة. ولم يستدر الآخرون إلا بعد أن سمعوا صفقة الباب.
بعد يومين جرى معي تحقيق ثانٍ ، وكان واضحا بأن المحقق من جهاز آخر،لأنه أجاب على إستغرابي من تكرار نفس الأسئلة في التحقيق الأول:
ـ هذا التحقيق لا علاقة له بالتحقيق الأول.
كنت مطمئناً بأن الرفاق سيتابعون قضيتي وسيطلق سراحي. في اليوم الرابع من توقيفي نقلوني الى مكان آخر وزجوا بي في موقف، لم أر شبيها له في حياتي. غرفة 3× 7 أو 8 أمتار وليس أكبر من ذلك أبدا، فيها حوالي ستين موقوفاً. يضطجع قسم منهم على الأرض وتتداخل أرجلهم مع الذين يضطجعون في الجهة المقابلة لهم، وقسم يقف بالدور، شققت طريقي بالكاد وجلست في نهاية الغرفة شبه المظلمة. القمل يدبي في كل مكان وتراه على أرجل الموقوفين أو على الأرض والبطانيات، وجو الغرفة خانق جدا. إستفسرت من المحيطين بي عن أسباب إعتقالهم وإعتقال الآخرين، فإتضح لي بأن غالبيتهم موقوفون بسبب عبور الحدود من لبنان أو الأردن الى سوريا أو بالعكس، بشكل غير شرعي. وقضى الكثير منهم شهورا عديدة في الموقف. كنت أفكر بقيمة الإنسان في عالمنا العربي وفي أنظمة تزعق ليلا ونهارا بالحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان و... وفكرت في نفسي وكيف سأعيش في هذه الغرفة ... وإذا بالحرس ينادي علي. عندما خرجت من الغرفة وجدت نفس أمام ضابط شرطة كبير بملابسه الرسمية. قدم نفسه ومد يده وصافحني وإعتذر للمضايقة التي تعرضت لها. واليوم فقط عرفوا أين أنا؟ وسيطلق سراحي. ثم قادني الى مكتبه، وجلس في كرسيه وراء المكتب. تحدثنا عن الوضع في ايران. ثم أبدى الإستعداد لمساعدتي ومعالجة أي شيء أو شخص يزعجني أو يضايقني، والباب مفتوح لي في أي وقت أشاء. شكرته وتجاهلت تلميحاته ومغرياته... وقلت له:
ـ عندنا ممثل يتصل بكم وعن طريقه سأقدم طلباتي، إن وجدت.
بعد فترة وصلت سيارة من مكتبنا في دمشق وغادرت بواسطتها دائرة المخابرات السورية.
ـ بعد أن حصلت على جواز جديد ، أخبرنا الرفاق في طهران بأنهم وجدوا جوازي الضائع. وتبين إن الرفيق سيد هاشم كان متعباً جدا ودائخ عندما أخفى الجواز في مكان غير إعتيادي حرصا منه عليه. لذلك لم يتذكّر المكان في حينه. وعثر عليه، صدفة، بعد فوات الأوان.
***
لم أتمكن من حضور المؤتمر الوطني الرابع للحزب الذي إنعقد في تشرين الثاني 1985، فقد كنت في دور النقاهة الذي يتطلب ، حسب توصيات الطبيب، أن لا أمشي بدون مرافق ،ويجب أن أرتاح إذا مشيت كيلو متر واحداً، في حين كان الوصول الى مكان المؤتمر في كردستان يتطلب بضع ساعات مشيا على الأقدام في طريق جبلي.
كان إسمي في قائمة المرشحين للجنة المركزية "أبوسمير". ولم يعرفني بهذا الإسم، الذي إستخدمته في ايران فقط، سوى عدد محدود من المؤتمرين ولم أنتخب للجنة المركزية. لاأشك بان ترشيحي بهذا الإسم كان له دور سلبي في عدم إنتخابي ، واليكم دليلي؛ في صيف العام الماضي (2005) جرى حوار بيني وبين الرفيقين داود أمين (ابو نهران) والرفيق عبد المطلب البلجاني (أبو قصي) وكان الإثنان مندوبين في المؤتمر الرابع، وبحضور الرفيق يونس بولص متي ( أبوسيفان)، واليكم نص الحوار:
ـ أبو نهران: أبو شروق كتاباتك تعكس حيوية وذاكرة جيدة .. لماذا لم ترشح لعضوية اللجنة المركزية في المؤتمر الرابع؟
ـ أبو قصي: صحيح والله، أنا الآخر عندي نفس السؤال؟
ـ أبو شروق: كنت مرشحا وأنتم لم تنتخبوني!
نفى أبو نهران وأبو قصي علمهما بالترشيح وتساءلا: كيف ومتى حصل ذلك؟
ـ أبوشروق: كنت مرشحا بإسم أبو سمير.
ـ أبو نهران وأبو قصي: ولماذا أبوسمير، ومن يعرف أبوسمير؟
ـ أبو شروق: علمت بأن الرفيق عزيز محمد قام في المؤتمر وأوضح من هو أبو سمير.
ـ أبونهران: أنا لم أسمع ذلك.
ـ أبو قصي: أنا كنت مرهقا في العمل اليومي ، ولم أكن في القاعة دائما وربما كنت خارجها، عند توضيحات الرفيق عزيز محمد.
ـ أبو شروق لا قيمة كبيرة لمثل هذه التوضيحات في لحظة الإنتخابات. ويضيف "مازحاً" فالدعاية الإنتخابية تكون قد إنتهت.
على أي حال، لقد باتت مثل هذه الأساليب المنافية للديمقراطية، وإفرازاتها غير السليمة في حياة الحزب الداخلية، في طي الماضي بعد المؤتمر الخامس، مؤتمر الديمقراطية والتجديد.
إنتهت
________________________________________
[1] ـ المستشفيات الخاصة في ايران لا تدخل مريضا الى المستشفى مهما كانت حالته خطرة إذا لم يكن لديها سريرا له في العناية الفائقة. ولا تتحمل مسؤولية تصرف كهذا لو مات المريض على عتبة باب المستشفى. ولكنها تتحمل مسؤولية، إذا أدخلت مريضا الى المستشفى يتطلب وضعه سريرا في العناية الفائقة ولم توفره له. وهذا هو سبب البشارة التي إستغربتها في حينه.



#جاسم_الحلوائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سنوات بين دمشق وطهران 5
- سنوات بين دمشق وطهران 4
- سنوات بين دمشق وطهران - 3
- سنوات بين دمشق وطهران - 2
- سنوات بين دمشق وطهران - 1
- في الذكرى الثانية والسبعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي
- الديمقراطية في الحزب الشيوعي العراقي
- الآيديولوجيا والبراغماتية في سياسات الحزب الشيوعي العراقي ال ...
- الآيديولوجيا والبراغماتية في سياسات الحزب الشيوعي العراقي ال ...
- حقيقة علاقة القيادة السوفيتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي ف ...
- القمع الوحشي 6
- القمع الوحشي 5
- القمع الوحشي - 4
- القمع الوحشي - 3
- القمع الوحشي - 2
- القمع الوحشي - 1
- الدراسة الحزبية في الخارج 5 - 5
- الدراسة الحزبية في الخارج 4 - 5
- تعقيب على مقال الأستاذ منير العبيدي-الديمقراطية والإصلاح الس ...
- الدراسة الحزبية في الخارج 3 - 5


المزيد.....




- خمس مدن رائدة تجعل العالم مكانا أفضل
- هجوم إيران على إسرائيل: من الرابح ومن الخاسر؟
- فيضانات تضرب منطقتي تومسك وكورغان في روسيا
- أستراليا: الهجوم الذي استهدف كنيسة آشورية في سيدني -عمل إرها ...
- أدرعي: إيران ترسل ملايين الدولارات سنويا إلى كل ميليشيا تعمل ...
- نمو الناتج الصيني 5.3% في الربع الأول من 2024
- حضارة يابانية قديمة شوه فيها الآباء رؤوس أطفالهم
- الصحافة الأمريكية تفضح مضمون -ورقة غش- بايدن خلال اجتماعه مع ...
- الولايات المتحدة.. حريق بمصنع للقذائف المخصصة لأوكرانيا (صور ...
- جينوم يروي قصة أصل القهوة


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جاسم الحلوائي - سنوات بين دمشق وطهران ( 6 )