أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - أبق حيث الغناء 7















المزيد.....

أبق حيث الغناء 7


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 6611 - 2020 / 7 / 6 - 11:17
المحور: الادب والفن
    


عمان الجديدة منفصلة عن المدينة القديمة بطراز الأبنية، توزيع الشوارع، حركة الناس الكثيرة، السوق. فعمان الجديدة، فيها استرخاء وهدوء، لا ضجيج، الحي منفصل عن حركة الناس والسيارات. عمان الغربية لم يكن فيها مساكن للفقراء، أو اصحاب الدخل المحدود والمتوسط. ونوعية السيارة التي يقتنيها الإنسان في هذا البلد تدل على الوجاهة أو المكانة الاجتماعية.
في المساء، حوالي الساعة العاشرة، أخذني نجيب معه إلى المكان الذي كان يعمل فيه كمغني، مطعم فخم وراقي. صاحبه رجل لبناني.
يتميز مطعم الفردوس بموقعه الجميل، والطبيعة الخلابة، فيه جلسات صيفية متميزة وجلسات شتوية بأطيب المأكولات اللبنانية الشهيرة.
يبعد هذا الفردوس عن العاصمة عمان مسافة عشرة كيلومتر، جنوب عمان على طريق البحر الميت، يعتبر من المظاهر السياحية المهممة لهذه المدينة، وهو كبير الحجم.
طلب نجيب من النادل أن يجلسني في أفضل مكان من المطعم، فيه منصة، أربعة عازفين، الجاز والأوكرديون الكهربائي والعود والكمان.
اقترب مني النادل بعد استواء الجلسة وسألني عن طلبي، ماذا أكل وماذا أشرب؟ خجلت أن أطلب، فأنا ضيف على رجل لا يعرفني سابقًا، ولم يسبق له أن رأني في منامه، جئته الصاعقة، ضيفًا على حين غرة دون سابق إنذار أو تحضير مسبق، وفرضت نفسي عليه، ولم يكن في حوزتي المال الذي يسمح لي الجلوس في هكذا مطعم فخم، عليه الأبهة والمكانة العالية.
وقفت حائرًا، لم يكن في ذهني أن أكل أو أشرب، أنما أن أجول مع نجيب في هذا العالم الغريب عني وعن حياتي. ثم، أنا جئت إلى الأردن من أجل أن اسافر إلى السويد، فكيف سأثقل على الرجل الذي فتح لي بيته وقلبه وعقله وروحه، وبيني وبينه مسافة، علاقة غريبة لرجلين غريبين ليس بينهما أي شيء مشترك، هو فنان وحياته وممارسة حياته مختلفة في العمق والسطح عن حياة عاشها في مكان منعزل، سجن تدمر، كيف يمكنني أن أكل طعام فخم بسعر غالي، أو اشرب الكحول.
رفضت رفضًا قاطعًا أن اتناول الطعام أو الشرب. قلت للنادل:
ـ لا أريد شيئًا. أنا جئت مع نجيب،سأسهر هنا إلى حين انتهاءه من عمله وسأعود معه إلى البيت.
ـ لقد طلب مني أن أخدمك، أن أرى طلباتك.
كان نجيب على المنصة يغني ويراقبي، الموسيقا تعزف، والطعام يدور والشراب أيضًا، وبدأ رواد المطعم يدخلونه زرفات زرفات، نساء جميلات ورجال وسيمون، الثياب أنيقة على الزوار، مظاهر الغنى والمكانة تفوح منهم، وكل عائلة جاءت بسيارتها الفخمة، مارسيدس.
كانوا يتوافدون، يغلفهم الصمت المكتمل، وكأنهم جاؤوا إلى جنازة، لا مظاهر للفرح أو السعادة أو الابتسامة على الوجوه.
الأردني يشبه الأردني، لا تقرأ على وجهه أي مظهر. تشعر أنه خرج من جوف الأرض، وكميات كبيرة من الأتربة والخوف على محياه، لهذا لا يمكنك تمييز الفقير من الغني، السعيد من الحزين، القبيح من الجميل، كلهم في الهم سوا.
كنت أقول لنفسي:
ـ إن سبب انطواء على الأردني على الذات لكون الأردن مجرد أرض، أي، لا وطن، دخل الحداثة المتأخراوية، دون أن يدخلها، لا يشعر بأي انتماء، سواء لعروبته أو دولته أو وطنه أو أسرته. التعصب وحده هو سبب انكماش الأردني على أردنيته. لا يشعر بالحماية أو الأمان في المكان، مكانه القريب من إسرائيل.
بعد أن استقر بنا الليل، وفرض علي نجيب أن أطلب الطعام ورفضي له، جلب لي النادل الكباب والسلطة وقنية البيرة الباردة مع الكأسة.
كانت عينه الجميلة علي، يتابعني، بيد أنه تصرفه اللبق والجميل، زرع الخجل في قلبي وعقلي. قلت لنفسي:
سجين سياسي سابق، كان يأكل في الملعقة البلاستيك قبل سنة من هذا التاريخ، والصحن البلاستيك والكأس البلاستيك، والطعام بارد، والمرق باهت وبارد، والرز متكتل على بعضه كالعجين، لا طعم فيه، كل هذا حدث قبل عام واحد وما قبله، واليوم في صالة فخمة تعج بالحياة والموسيقا والغناء، والنساء الجميلات الأنيقات.
يا للحياة المتناقضة، الغير عادلة. الحياة المجنونة التي تسير إلى المزيد من الجنون. قلت لنفسي:
حتى نكمل السير في هذه الحضارة علينا أن ندوس على قيم البراءة الكامنة في النفس الإنسانية، أن ننسجم مع تناقضاتها، أن نبلع الإهانة ونشرب الخراب والجنون.
الشروط الاجتماعية والسياسية هي المنتج الحقيقي للعهر أو النبالة، ولا عهر تحت الشمس لولا هذه الشروط.
عندما تولد، تولد نبيلًا، كائنًا جميلًا سواء كنت إنسانًا أو حيوانًا أو شجرة أو نهر أو بحر.
هذا العقل السياسي الملتوي الذي يدير الدول وهذا العالم، هو نتاج السلطة، هو المنتج الحصري للتقسيم الاجتماعي والإنساني، والطبيعة وفق قانون أو قوانين ناظمة ومهيمنة ومسيطرة.
لا يوجد في الطبيعة إنسانة عاهرة أو إنسان انتهازي او كذاب.
إنها تقسيمات قانونية وحقوقية مبتذلة.
إن تحسين الشروط الاجتماعية والسياسية وتنمية الثقافة المعبأة بالقيم العظيمة كالحب والإخلاص والرحمة والعدالة هو من يرفع سوية الإنسان ويحمي إنسانيته وإنسانية الطبيعة بكل كائناتها.
إن أنسنة الإنسان والحياة هو أنسنة الطبيعة بكل جمالها وخيراتها وبراءتها.
نجيب يصدح بالغناء، وفي قلبه حزن لا يتسعه هذا العالم، يشاهد كل يوم تناقضات التناقض على وجوه الناس. فالفقراء لا يأتون إلى هذا المكان، لهذا فهو مضطر أن يعيش مع الطبقة المخملية، أن يغني لهم، يخرج قلبه من صدره ويضعها على طاولات هؤلاء المترعين، أن يقدم لهم السعادة الشكلانية ليسترخوا ويرتاحوا ويهضموا.
إنه العمل، المال الذي لا يعرف له صاحب، الانتقال من يد إلى يد، ومن جيب إلى أخر، ومن مصرف إلى أخر، لا يهمه نوعية الإنسان ومكانته ومقداره، أنه يمنح دون أن يمنح، يرفع البعض دون أن يرف، ويذل البعض دون أن يذل، ليس له صديق او حبيب أو رفيق. إنه سيد الناس وتاج على رؤوسهم وهم مجرد، كائنات مشوهة، تكبر به وتمزق من لا يمسكه وتحوله إلى مجرد كائن جائع، محتاج ومكسور.
في السجن انفصلنا عن الواقع، وشكلنا لأنفسنا عالمًا افتراضيًا على مقاس المكان الضيق.
وحلمنا بالحرية، بالطيران، بالأمل، بالمرأة، بالحب، في عملية تأجيل عبثية لزمن العبث والضياع.
كانت الغاية من ذلك ترميم النفس من الانهيار.
وعندما خرجنا من السجن كان العمر قد تجاوز مرحلة الشباب، ودخلنا مرحلة الكهولة. وبعد أيام من وجودي في الحياة سمعت لأول مرة من أحد الأطفال من يقول لي:
ـ يا عمو.
وقتها شعرت بثقل الزمن، وأنني أعيش في زمن آخر لا أعرفه ولا يعرفني.
طلب لي نجيب من مكانه على منصة الغناء، قنينة بيرة أخرى، وراقب تفاعلي مع غناءه وأداءه، وما سيكون عليه رأي في شغله، وطريقة تعامله مع الناس، ومدى تفاعل الناس معه.
للوهلة الأولى، عندما رأني في الأردن، قال لي:
ـ كنت أظن أنك صغير في السن، قريب من سني أو اصغر، لم أتخيل أنك كبير في السن، عليك ملامح التعب وهم السنين.
ـ كنت في سجن تدمر، السجن الأكثر قسوة في هذا العالم والحياة، الحاكم عندما لا يضبط بالقانون يتحول إلى وحش يأكل الأخرين أبناءه وأحفاده، ياكلهم أحياء، وحافظ الأسد وحش وحرامي.
سجنت في عمر صغير، كنت وقتها وسيمًا، ناضحًا بالطاقة والجمال والحيوية والحياة، وخرجت مأسورًا. لقد اكلني ذل السجن والسجان القذر.
لقد ماتت ملامح الحياة في وجهي، وغزا الشيب مفرقي، وبعد أن تحولت إلى مومياء بفعل غياب الشمس والتنفس والهواء الطبيعي، والحياة الطبيعية والطعام والحب، اليوم، أحاول استعادة ما مضى مني، أن أعيد الاندماج في هذا العالم النتن.
نظرات نجيب في اللحظة الأولى للقاء، الاستغراب الذي أبداه، جرحت قلبي وروحي، أنه أعاد إنتاج القهر في داخلي، لعلمي علم اليقين أن النضارة ذهبت إلى بيتها بعد أن أخذت عصارة الشباب والأمل في داخلي، قلت لنفسي أخاطب نفسي:
ـ أنت أعزل من ورق التوت، لم يعد لك وطن تحتمي به، لا مال، لا أرض أو بيت يضمك، أو امرأة تلمس شعرك أو ترطب خاطرك. أنت عاري في هذا العراء الحضاري القذر. أما عن مجتمعك الذي دافعت عنه، فهو أخر من يعرفك أو يتعرف عليك.
كنت أنظر إلى المجتمع، الروابط فيه، مجرد خيوط مفككة، لا رابط بينهم، تأتي السلطة إليه من فوق، لتشكله أو لتعيد رتقه أو ضمه او تقطيعه، وهو مرن، مطواع، يتجاوب مع كل الظواهر، إن أراد الحاكم تمزيقه فهو قادر، وإن أراد إعادة رتقه فهو قادر، وإن اراد احترامه فهو قادر. المجتمع، الوطن، الأخلاق كذبة كبيرة، أغلبنا في داخل حفرة عميقة.
كانت النساء، الشابات يرمين بقصاصات ورق صغيرة إلى نجيب، يأخذها النادل له، يطلبن أغنية ما، موسيقا ما، وكن يرغبن في التعرف عليه، لوسامته، لطوله الفارع، ورشاقة جسده.
كان نجيب من خامة إنسانية نادرة، خامة نظيفة، قلبه رقيق، مهذب، وطويل البال في عمله، بيد أنه عصبي مثله مثل أغلب الناس في بلادنا، يحتاج إلى التفعيل ليخرج المارد، القسوة الكامنة في أعماقنا إلى السطح. كل شيء يبدو طبيعيًا إلى حين تلقي الإشارة إلى هذا المارد.
رقصت النسوة على صوت نجيب، وموسيقاه على العود والفرقة الموسيقية التي معه، على الأغاني التي كان يصدح بها باللغة العربية، ويتخلل ذلك الموسيقا الغربية، لتتحول الحفلة إلى مكان دافئ ينسى فيها الإنسان إنه إنسان معذب في هذه اللحظات الانتقالية السريعة.
في الاستراحة جاء نجيب وجلس إلى جانبي، أراد أن لا يشعرني أنني وحيد، وحدثني عن رأي في غناءه وفي جملة الأحداث التي كانت تدور في المطعم.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأخوان وتركيا
- مركزية النظام الرأسمالي
- أبق حيث الغناء 6
- أبق حيث الغناء ـ 5 ـ
- أبق حيث الغناء 4
- أن تقرأ لوليتا في طهران
- أبق حيث الغناء 3
- روائح عنبرية
- أبق حيث الغناء 2
- الرجوم
- رقص منفرد على الجمر
- أبق حيث الغناء 1
- كل البشر كاذبون
- المكتبة في الليل
- الساعة الخامسة والعشرون
- اعترافات خارجة عن الحياء
- اللهب المزدوج
- عزلة صاخبة جدًا
- مذكرات نعيم أفندي
- الراقدة على الصليب


المزيد.....




- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - أبق حيث الغناء 7