أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باقر جاسم محمد - جدل الشكل و لامحتوى في السرد الوائي: ( حديث الصبح و المساء إنموذجا )ا ً















المزيد.....


جدل الشكل و لامحتوى في السرد الوائي: ( حديث الصبح و المساء إنموذجا )ا ً


باقر جاسم محمد

الحوار المتمدن-العدد: 1591 - 2006 / 6 / 24 - 11:38
المحور: الادب والفن
    


جدل الشكل و المحتوى في السرد الروائي
( حديث الصباح و المساء إنموذجا )
باقر جاسم محمد

1. مقدمة
لئن كان الكاتب الكبير نجيب محفوظ قد أنجز، في سياق عمله الإبداعي في مجال السرد الأدبي، دورة الروائية العربية كاملة بكل ما انطوت عليه من أشكال فنية و تعبيرية. فإن هذا الأمر هو ما أنجزته الرواية الأوربية قبل ذلك، و لكن ضمن سقف زمني أكبر يكاد يبلغ القرنين، و بجهود عدد كبير من الروائيين في بلدان شتى: بريطانيا وفرنسا و ألمانيا و روسيا و ايرلندا ثم أمريكا. على أن السمة البارزة في جهد نجيب محفوظ الإبداعي في حقل الكتابة الروائية هي أنه لم ينقطع يوما ً عن العمل الحثيث و المثابر بحثا ً عما هو جديد و سعيا ً لتخصيب و إغناء الشكل الروائي العربي و إقامته على أسس مستمدة من طبيعة الثقافة و اللغة العربية بوصفهما الحاضنة الحضارية لهذا الإبداع، دون أن يعني ذلك الكف عن التحاور الإيجابي و الفعال مع تطور التجارب الشكلية على مستوى الإبداع الروائي في أمريكا اللاتينية و أوروبا و آسيا على وجه الخصوص.(1) و تجيء رواية ( حديث الصباح و المساء) لتشكل معلما ً بارزا ً في مسعى كاتبنا الكبير هذا. فالرواية تدهشنا بشكلها غير المألوف، بل الصادم، و ببنائها الفني التجريبي الذي يؤشر نقلة مهمة في تجديد الخطاب الروائي العربي. و هذا مما يؤكد حقيقة مهمة هي أن نجيب محفوظ ليس رائدا ً تاريخيا ً للرواية العربية المتقدمة فنيا ً فحسب، و إنما هو أيضا ً رائد في مجال التجديد و التطوير و ريادة آفاق و أراض ٍ بكر في شكل الرواية العربية، و في محتواها الفكري و الفلسفي كذلك.

2. الأسس الفكرية للتجريب الشكلي
يثير التجريب في الفنون عامة، و في البناء الشكلي الرواية خاصة، مسألة أساسية هي ضرورة أن يرتبط المسعى التجريبي بمواقف اجتماعية أو بهموم فكرية و فلسفية تسهم في ربط هذا المسعى بعصره من جهة و تسوغ للكاتب محاولاته التجريبية من جهة أخرى. فالكاتب المبدع لا يكتفي بمجرد استهلاك أشكال فنية أبدعها أسلافه من الكتاب. و بما أن الأشكال الفنية كانت دائما ً نتاج تفاعل عبقري بين ذوات مبدعة و عصورها. فنحن نفترض بأن الكاتب المبدع يجد تناقضا ً بين ما تتيحه الأشكال الفنية السائدة و المستقرة، و بين ما يروم التعبير عنه، و هو ما أسميه بالعلاقة الجدلية بين القوالب الفنية و الواقع الموضوعي و رؤيا الكاتب المبدع. و لقد حسمت فلسفة الفن المعاصرة، و كذلك نظرية الأدب، هذه المسألة بأن جعلت ثمة توازيا ً و تفاعلا ً بين عمق و ثراء الفضاء الفكري للنص الأدبي ( content ) و الشكل الفني ( form ) الذي يفرغه فيه الكاتب. فلم يعد التجريب الشكلي نوعا ً من الترف الفكري، إنما هو استجابة لقلق حضاري ضارب في وعي المبدع، و تعبير عن ضيق ذلك المبدع و إحساسه بقصور الأشكال التقليدية عن استيعاب رؤياه الجديدة؛ ذلك أن " الفن ليس تأملا ً، إنه شيء فعال، و لذا لا يمكن كتابة أدب مهم إذا لم يكن متعلقا ً بموضوع مهم"(2) كما يقول أحد منظري الفن الحديث. و لقد تساءل أثنان من كبار الباحثين في نظرية الأدب " إن كانت ملحمة (الفردوس المفقود) ستكون بالأهمية نفسها لو أنها كانت تصف مكنسة." (3)
و استنادا ً إلى هذا الفهم الذي يربط على نحو وثيق بين الشكل الفني المبتكر أو التجريبي الذي يصوغ فيه الكاتب و من خلاله رؤياه الفكرية التي يطرحها فيما يعرف بمحتوى العمل الروائي، سنحاول استقراء طبيعة العلاقة الجدلية بين الشكل الفني الجديد لرواية( حديث الصباح و المساء) و محتواها الفكري العام ، و ما يقترحه هذا الترابط الوثيق بين الشكل و المحتوى على صعيد توصيف المغزى الشامل للإنجاز الروائي المتحقق؛ فهذه الرواية، كما يصفها الناقد صبري حافظ" واحدة من النصوص الأخيرة القليلة التي تنطوي بنيتها على أهم محددات رؤيتها."(4)

3.السمات التجريبية في ( حديث الصباح و المساء)
ترى ما هي ملامح التجريب في الشكل الروائي التي تضمنتها رواية( حديث الصباح و المساء)؟ و ما هي الدلالات الفكرية و الفلسفية التي يمكن أن نقيمها عليها بوصفنا قارئين للنص ؟
و لأن السؤالين مترابطان و متداخلان، فسوف تكون إجابتنا عليهما متداخلة أيضا ً.
تقع رواية ( حديث الصباح و المساء) في حوالي 231 صفحة من القطع المتوسط. و هي تحتوي أيضا ً عددا ً من الرسوم التخطيطية لبعض شخصيات الرواية. و سنهمل هذه الرسوم لجملة أسباب مهمة هي:(1) أنها ليست جزءا ً من النص السردي الذي أبدعه الكاتب و إنما هي إضافة المصمم و الناشر؛ (2) أنها تنتمي إلى حقل الفنون التشكيلية؛ (3) أنها تعبر عن رؤيا الرسام، أو أن لنقل قراءته التشكيلية للرواية، و ليس عن رؤيا المؤلف نفسها. و بذلك فنحن نعدها، و بهذه المعاني فقط، موجهات خارجية( نسبة إلى النص السرد)، و عنصرا ً دخيلا ً مما يوجب استبعادها في هذه المقالة/ الدراسة.
إذن، تقع الرواية في 231 صفحة، و في هذه الصفحات القليلة نسبيا ً قدم الكاتب ستا ً و ستين شخصية تنحدر من ثلاث عائلات هي: عائلة عطا المراكيبي و عائلة يزيد المصري و عائلة معاوية القليوبي. و قد تتبع المؤلف هذه المجموعة الكبيرة من الشخصيات عبر رحلة زمنية امتدت لأكثر من مائة و ثمانين عاما ً( ابتداءا ً بالحملة الفرنسية على مصر في العام 1797 و انتهاءا ً بأواسط الثمانينيات من القرن العشرين). و شكلت هذه المسافة المدة الطويلة الإطار الزمني الخارجي لأحداث الرواية. أما الإطار المكاني للأحداث فقد شمل رقعة جغرافية واسعة تتضمن الإسكندرية و بني سويف و أحياء سكنية و مناطق مختلفة من القاهرة. فكيف تعامل الكاتب فنيا ً مع كل هذه العناصر في حيـِّز كتابي ضيق نسبيا ً؟
لقد ابتكر الكاتب شكلا ًجديدا ً في بناء نصه الروائي هذا، فاعتمد على أسلوبا ً مختصرا ً في تقديم حكاية ( بمعنى الإخبار و السرد البسيط ) كل شخصية من الشخصيات الست و الستين وفقا ً للتسلسل الألفبائي لأسماء الشخصيات.فكان يورد حكاية كل شخصية على حدة، و بإيجاز سردي شديد التكثيف معتمدا ً أسلوب التلخيص لا أسلوب المشهد.(5) و لقد نتج عن هذا المزج الدقيق بين البنية السردية ذات الجوهر الحكائي و توزيع المادة السردية داخل النص باعتماد التسلسل الألفبائي ما يأتي:
أولا ً. تفتيت الزمان السردي و كسر، بل تشظية، المسار الخطي للزمن التقليدي. فالرواية تبدأ بحكاية ( أحمد محمد إبراهيم ) في عشرينيات القرن العشرين ليتشكل مسار زمني من نوع جديد ذي طبيعة بندولية: رجوع في الزمان عن لحظة بدء الزمن الروائي، ثم تقدم عليه، فرجوع، فتقدم؛ و دون أن تغفل هذه الحركة الزمنية البندولية المرور بزمن البداية عدة مرات. و يستمر هذا النسق الزمني الداخلي حتى تنتهي الرواية بحكاية ( يزيد المصري ) التي تأخرت بسبب من أن اسم صاحبها يبدأ بحرف الياء، و هو آخر حروف الهجاء العربي، أما زمن ( يزيد المصري ) التاريخي، فإن الجملة الأولى من الحكاية تفصح عنه بجلاء إذ نقرأ " وصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة الفرنسية بأيام" ( ص 216 ) ثم يجري بعد ذلك سرد الحكاية كاملة بإيجاز خبري متمكن. و هذا يعني أن الزمني الخارجي، أعني المدة التاريخية للرواية، قد جرى تحطيم تسلسله و تفتيته و إعادة توزيعه وفقا ً لمنطق التسلسل الألفبائي الذي هيمن على بنية النص الروائي و شكل المعلم الأساس في بنائها. و لعل هذا الصنيع يذكرنا بعنوان الرواية من جهة و يوحي لنا بالمقولة السائدة " سأحكي لكم القصة من الألف إلى الياء"من جهة أخرى.
ثانيا ً. و بالارتباط مع النقطة أولا ً أعلاه، فقد أوجدت الرواية زمنا ً حياتيا ً، و قد أقول بيولوجيا ً، خاصا ً بكل شخصية و اتخذته منطلقا ً للتبئير الزمني السردي. و يتجلى هذا الزمن بتكرار دورة الولادة فالطفولة، الصبا، فالشباب، ثم الكهولة، و الشيخوخة، و الموت مع كل شخصية تقريبا ً. و شكل هذا الزمن الداخلي إيقاعا ً ثابتا ً في الرواية بالرغم من أن الكاتب قد اختار أن يكسر هذا الإيقاع أحيانا ً فجعله غير مكتمل حين تنتهي الحكاية الأولى بموت احمد إبراهيم المصري و هو في مرحلة الصبا ليعبر هذا الخيار المبكر عن مزاج مأساوي يسود الرواية منذ البداية.
ثالثا ً. لا يرتبط الزمن السردي الداخلي والخاص بكل شخصية بالزمن الخارجي( التاريخي) ارتباطا ً واضحا ً، لأن لكل منهما طبيعته الخاصة. إنما ترد في النص الروائي جمل متفرقة هي بمثابة إشارات و دلائل على مثل هذا الترابط. و لتشكل هذه الجمل المتفرقة نقاط التقاء و تمفصل للزمنين. ففي حكاية ( قاسم عمرو عزيز ) نتابع زمن الشخصية في تحولاته، حتى يرد في النص ذكر خبر زفاف قاسم على ابنة عمه ( بهيجة سرور عزيز) فنقرأ " و تم الزفاف فيما يشبه الصمت بسبب الظلام المخيم في فترة الحرب، و احتفلت به المدافع المضادة للطائرات" ( ص 184). هنا نكتشف الصلة بين زمن الشخصية الروائية معبرا ً عنه بتتابع أحداث الحياة الخاصة للشخصية و الزمن الخارجي، زمن الحرب العالمية الثانية و فترة قصف القاهرة تحديدا ً، فتنعقد الصلة. و لا تخفى على القارئ الرصين لهجة السخرية التي صيغت بها هذه الجملة، كما لا يفوته أن يلاحظ ذلك التناقض بين ( الفرح) الذي يفترض أنه يسود حدث الزفاف، و هو حدث خاص، و ( المأساة ) التي تسم الحدث الخارجي، وهو حدث عام، كونه حدثا ً حربيا ً لـه ضحاياه. فكأن الأفراح هي نقاط ضوء صغيرة منشرة هنا و هناك على خلفية مأساوية شاملة.
و تتكرر حالة التمفصل الزماني مع أحداث تاريخية عديدة مثل الحملة الفرنسية التي ورد ذكرها في بداية الرواية و ذكرناه سابقا ً، و تسلم محمد علي حكم مصر، و ثورة 1919، و الحرب العالمية الثانية، ثم حروب العرب و إسرائيل 1956 و 1967 و 1973، و موت جمال عبد الناصر، و حادث اغتيال السادات. و هكذا تنعقد صلة واضحة، و إن تكن متقطعة و مبعثرة، بين الأزمنة الشخصية ( الذاتية ) و الزمن الخارجي الاجتماعي ( الموضوعي).
رابعا ً. لقد كانت نتيجة هذه التقنية في التعامل مع الزمن داخل الرواية أن أعيد إنتاج الزمن الشخصي الخاص بكل شخصية في الرواية و الزمن الخارجي الاجتماعي أو كلاهما معا ً مرات عديدة، و في مواضع مختلفة من الرواية. فمثلا ً جرى ذكر أحداث و تحولات مرتبطة بشخصية ( بهيجة سرور عزيز) و تعبر عن زمنها الخاص بها، كما جرى ذكر الأحداث المرتبطة بالزمن الخارجي عند الحديث عن هذه الشخصية في جزء مبكر من الرواية لأن أسم هذه الشخصية يبدأ بحرف الباء، و هو ثاني حرف في الألفباء العربي، ثم أُعيدت رواية هذه الأحداث نفسها، و المرتبطة بالزمن الشخصي أو بالزمن الاجتماعي، في الحكاية الخاصة بشخصية ( قاسم عمرو عزيز) في جزء متقدم من الرواية لأن اسمها من الحروف المتأخرة في الألفباء العربي.
خامسا ً. ما حصل مع الزمان حصل مع المكان أيضا ً، فجري تفتيته و توزيعه على مواضع متباينة في الرواية. و قد نقلنا الكاتب إلى حيث عاشت كل شخصية؛ كما أعاد الكاتب وصف الأمكنة التي اشتركت في العيش فيها أو ارتبطت بها عدة شخصيات روائية. و هكذا تحول المكان أيضا ً إلى عنصر تابع للبناء الفني القائم على التسلسل الألفبائي العربي.
سادسا ً. لقد ترتب على تفتيت المكان و توزيعه و إعادة وصفه أن الكاتب تجنب الإفاضة في وصف المكان سواء أكان بيتا ً أو وكالة تجارية أو محلة؛ فكان يذكره لمحا ً و بذكر اسمه و دون التركيز على ما يميزه من ملامح مدركة بصريا ً. و هذه السمة غالبا ً ما نلاحظها في سرد الحكايات الشعبية و في قصص ألف ليلة و ليلة. أعني أنها قد تكون ذات جذر تراثي، و لكن الأصح هو أنها قد فرضتها الحاجة الفنية النابعة من طبيعة البناء الروائي المستند إلى تفتيت الزمان و المكان و إعادة توزيعهما مما يمنع الكاتب من ذكر مكان بعينه تفصيلا ً للمرة الأولى ثم ذكره بإيجاز في المرات اللاحقة لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى فضح حضور المؤلف التاريخي، أعني نجيب محفوظ نفسه. كما أنه يمكن أن يفسر على أنه انحياز إلى شخصية ما دون الأخرى و بالتالي فهو سينال من موضوعية السرد. و لو قارنا أسلوب وصف نجيب محفوظ للمكان في روايات( زقاق المدق) و ( خان الخليلي) و ( بين القصرين) و وصفه للمكان في هذه الرواية للاحظنا اختلافا ً جوهريا ً لـه مغزاه. فالوصف الروائي للمكان في تلك الروايات كان مشهديا ً حين كان يقدم المكان للمرة الأولى، ثم مشهديا ً أيضا ً و لكن أقل احتفاءا ً بالتفاصيل حين يرصد الكاتب المكان في المرات اللاحقة؛ أما في ( حديث الصباح و المساء) فقد التزم الكاتب أسلوب الاكتفاء بذكر الاسم أو الإيجاز المكثف للغاية في وصف المكان. و هذا يفصح بوضوح عن تغيير جوهري في الرؤيا الفنية و الفكرية معا ً. كما أنه أسلوب يتطلب قارئا ً من نوع خاص.
سابعا ً. يمكن القول أن بعض الأمكنة قد اقترنت بعائلات و مظاهر سلوكية معينة ميزت أفراد تلك العائلات و وسمت حياتهم بميسمها. و هكذا اكتسبت هذه الأماكن صفة رمزية ثرة، و هو مما يغني الفضاء الدلالي للنص؛ فسراية ( ميدان خيرة) كانت رمزا ً لثراء و عنجهية عطا المراكيبي و طبقته، بينما كان ميدان( بنت القاضي) رمزا ً لعائلة يزيد المصري و طبقته. فلم يعد مغزى العمل مقتصرا ً على تتابع الأحداث، الذي يجب أن يعيد القارئ إنتاجه، و على مصائر الشخصيات و ما يمكن أن يعزى إليها من دلالات فكرية و فلسفية، و إنما صار نتيجة لتأويل رمزية المكان أيضا ً.
ثامنا ً. نتيجة لكل ما سبق فقد تأثرت الحبكة( plot ) و الحدث ( event ) في الرواية، إذ افتقرت الرواية إلى الحبكة المركزية بالمعنى التقليدي. فبدلا ً من الحبكة المركزية قدمت الرواية حكايات، أو لنقل حبكات، صغيرة متعددة تشبه المراقي أو الدوائر الحلزونية المرتبطة بالشخصيات. و هنا يمكن القول أن الشخصيات و حكاياتها كانت وحدات البناء الفني الأساسية وفقا ً للكيفية الخاصة المشار إليها سابقا ً. و قد انعكس هذا على الحدث بوصفه دالة تتحدد بموجبها كثير من خصائص الشخصية الروائية. فقد استعيدت الأحداث بأعيانها مرات عديدة لأن الشخصيات التي أسهمت فيها كثيرة و مبثوثة في أجزاء مختلفة من الرواية. أي أن التكرار الناتج من جعل الزمان و المكان تابعين للشخصيات الروائية قد أدى أيضا ً إلى تكرار الحدث كلما ذكرت شخصية لها علاقة به. فهذه الحكايات تروى و تكتمل و تنقطع ليعاد إنتاجها مرة أخرى و بالأسلوب نفسه. و قد سبق لنا القول بأن الكاتب قدم ستا ً و ستين شخصية في حيـِّز كتابي ضيق نسبيا ً. و إذا ما قمنا بقسمة عدد الصفحات على عدد الشخصيات لظهر لنا بأن معدل عدد الصفحات المكرس شخصية قد كان حوالي ثلاث صفحات و نصف. و قد وصل الحد الأقصى لعدد الصفحات المكرس لحكاية ( أحمد عطا المراكيبي) إلى ثماني صفحات، و وصل الحد الأدنى المكرس لحكاية ( وردة حمادة قناوي) إلى ثمانية أسطر فقط. و يرتبط اختلاف عدد الصفحات باختلاف و تعدد الأدوار و الأحداث التي تسهم بها كل شخصية.
تاسعا ً. يمكن تشبيه البناء الفني لرواية ( حديث الصباح و المساء) بصورة فسيفسائية هائلة الحجم قـُطِعَـت أجزاؤها الستة و الستين إلى أجزاء غير متساوية و قـُدِمَـت لنا على غير الترتيب المألوف لكي نعيد تجميعها و تخليق حبكتها المركزية، بهذا فهي رواية قارئ بقدر أكبر من الروايات ذات البناء السردي التقليدي. و فضلا ً عن ذلك، قد أسهم هذا المنحى الجديد في بناء الشكل الفني في الآتي:
أ‌. زيادة حصة كل شخصية في الرواية من السرد. فكانت تحظى بحصتها الخاصة عند رواية حكايتها لأول مرة، ثم تحظى بفرص أخرى حين يرد ذكرها في حكايات و مواضع أخرى من الرواية.
ب‌. منح الحكايات، أو السرد الأدبي، سمة الموضوعية التي هي صفة ترتبط عادة بالإخبار ( بكسر الهمزة) المجرد، فكانت الموضوعية حصيلة تواتر ذكر كل حادث و كل شخصية عدة مرات، و من ثم، وهو الأهم, بمنظورات سردية مختلفة.
ت‌. جعل الشخصيات الروائية، نتيجة ما ورد في (أ) و (ب) أعلاه، على درجة عالية من الوضوح و التميز في التكوين البدني و النفسي و الاجتماعي حتى لتكاد تكون مرئية. و هذه المسألة تحتاج لدراسة خاصة تستبين كيف يمكن لسرد بهذه البساطة، من حيث مكوناته في كل حكاية، أن يؤدي بالنتيجة إلى مثل هذا الأثر الأدبي الذي يتطلع إليه كثير من الكتاب و لكن عبر تقنيات إخبار سردي أكثر تعقيدا ً.

4. في مغزى رواية ( حديث الصباح و المساء)

قبل أن أشرع في الكلام على مغزى الرواية لدي ملاحظتان مهمتان. الأولى هي أنني قد تحدثت فيما سبق عن بنية النص الروائي دون محاولة إعادة سرد أحداثها لأن من شأن ذلك أن يوهم القارئ بأن ما سردناه هو النص الروائي بعينه في حين أنه في الحقيقة نص ثان ٍ. و لذلك فأنا أؤمن بأن من أخطاء النقد القاتلة محاولة الناقد أن يقدم تلخيصا ً للنصوص موضع البحث النقدي لأن التعليق النقدي سيكون على النص الثاني و ليس على نص المؤلف نفسه، كما أنه قد يصرف القارئ عن قراءة النص الأولى مكتفيا ً بالنص الثاني. و لكن ذلك لا يعني أبدا ً الامتناع عن الإشارة إلى بعض مما تضمنه النص الروائي من أحداث أو قضايا فكرية أساسية في فهم النص الأصلي للمؤلف. و الثانية هي أنه إذا أقررنا بأن علم التأويل hermeneutics يتعلق بالمعنى الحرفي للنص الذي نفترض أنه يعبر عن قصد المؤلف، فإن مغزى النص، و صوره العديدة، هو موضع اهتمام النقد الأدبي.(6) و هكذا فإن بعض الملاحظات التي أوردناها حين الحديث عن السمات التجريبية في شكل البناء الفني في رواية ( حديث الصباح و المساء) هي من قبيل الجهد التأويلي الذي يمهد و يدعم الجهد النقدي دون أن يكون بديلا ً عنه لأنه جزء منه. أما مغزى العمل فهو ما سيكون موضوع كلامنا هنا.
لقد سعى الكاتب الكبير نجيب محفوظ، في سياق روايته هذه، إلى الكشف عن صيرورة الشخصيات و تنوع استجاباتها إزاء ثلاثة مؤثرات أو قوى ضاغطة هي: قوة العاطفة و الغرائز كما في حكايات ( بليغ معاوية القليوبي) و ( جميلة سرور عزيز) و ( عزيز يزيد المصري)، و قوة الأعراف و التقاليد الاجتماعية كما في حكاية( داود يزيد المصري)، و قوة المتغيرات السياسية و الاجتماعية في أغلب الحكايات الأخرى. و قد ركـَّز الكاتب على تجسيد استجابات الشخصيات المختلفة و ردود أفعالها إزاء هذه القوى دون الإغراق في التفاصيل ليصل في النهاية إلى تشكيل مشهد شامل بانورامي لصيرورة الذات الإنسانية في تفاعلها مع هذه القوى المُمـَثـِلة لمؤثرات ميتافيزيقية على الرغم من كونها ترتبط بوجود الإنسان في مجتمع بعينه. و بذلك يكون الأستاذ نجيب محفوظ قد قدم رواية ملحمية في جوهرها و إن كانت ذات شكل فني جديد تماما ً و هي أيضا ً بدون بطل ملحمي بالمعنى التقليدي الذي نعرفه في الملاحم القديمة. فقد كانت المصائر الشخصية تتداخل، و تتقاطع، و تصطرع لترسم صيرورة زمن عصيب هو زمن المتغيرات الاجتماعية الشاملة، زمن الخروج من مجتمع القرون الوسطى و التحول إلى مجتمع نهايات القرن العشرين. و كل ذلك قد أُنجـِز في حيـِّز كتابي ضيق نسبيا ً و بأسلوب و معمار فني جديد حتى ليمكن القول أن الرواية تمثل نمطا ً جديدا ً من الكتابة الملحمية.
لقد فعلت الرواية كل ذلك دون التفريط بخصوصية الشخصيات، فكان المؤلف يركـِّز على الإنسان فردا ً و ذاتا ً اجتماعية واضحة الملامح في المجتمع و شديدة الخصوصية في ملامحها الفردية و في معاناتها الذاتية. و نعتقد بأن هذا المنهج يقدم مدخلا ً مهما ً في فهم مغزى الرواية الشامل. فالرواية تظهر و تؤكد الفردانية الإنسانية و تـُعلي من شأنها، و تـُقلل نسبيا ً من أهمية الأحداث العامة التي يرد ذكر لمحا ً في حين تذكر استجابات الشخصيات لهذه الأحداث على نحو أكثر تفصيلا ً. أعني أن الأحداث العامة تذكر لكي يشار إليها بوصفها أسبابا ً لمعاناة الشخصيات و حياتهم المأساوية؛ تلك المعاناة التي هي في مركز الاهتمام و التبئير السردي.
إن هذا الصنيع لكاتبنا الكبير هو على الضد مما تقوم به الرواية الواقعية الاجتماعية حيث يجري خفض قيمة المعاناة الفردية بالمقارنة مع المعاناة الاجتماعية التي تحتل مركز العمل. و قد يمكن تفسير هذه الرواية على أنها تؤكد فكرة أن القضايا العامة إن هي إلا حصيلة ذلك التنوع الهائل للحيوات الفردية الخاصة بكل حقائقها و بكل ما يكتنفها من مشكلات و تعقيدات متشابكة. بمعنى أن الرواية لم تخفض قيمة الجانب الاجتماعي بقدر ما أعادت التركيز على الجانب الفردي حتى ليمكن الاستنتاج بأن رواية ( حديث الصباح و المساء) هي رواية ردِّ الاعتبار للإنسان فردا ً إزاء طغيان النزعة الجمعية. و لقد فعلت ذلك على نحو فيه تجريب يربط ربطا ً جدليا ً محكما ً بين الشكل الفني الجديد و الرؤيا الجديدة.

***************


الهوامش و الملاحظات

صدرت رواية ( حديث الصباح و المساء ) في العام 1987 عن دار مكتبة في القاهرة. أي قبل فوز الأستاذ نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988. كما أنتج التلفزيون المصري مسلسل درامي مأخوذ عن الرواية. و قد فقدت الرواية في المسلسل التلفزيوني كل المزايا الفنية و الفكرية التي تحثنا عنها في هذه المقالة/ الدراسة إذ تحولت، كما هو متوقع، إلى شكل درامي ذي بناء تقليدي.
1. لقد درس عدد من باحثين الأكاديميين و النقا إسهامات الأستاذ نجيب محفوظ في تأسيس الدورة الكاملة للرواية العربية. و قد اتخذ مسار التأسيس هذا البدء بمرحلة الرواية التاريخية، و تضمنت روايات (رادوبيس ) و ( عبث الأقدار) و ( كفاح طيبة)؛ ثم مرحلة الرواية الاجتماعية، و أبرزها روايات ( زقاق المدق) و ( خان الخليلي) و ( الثلاثية)؛ ثم المرحلة الرمزية الفلسفية الرمزية، و أبرزها روايات ( أولاد حارتنا) و ( الطريق) و ( اللص و الكلاب ) و ( الشحاذ)؛ ثم تحول الكاتب إلى نزعة تجريبية تهدف إلى تقديم رؤيا سردية شاملة معبرة عن المسؤولية الفنية و الفكرية للكاتب فكانت سلسلة الروايات التي بدأت بروايات ( ملحمة الحرافيش)، ثم ( حديث الصباح و المساء) و هلم جرا.
2. كولنجوود، روبن جورج، ( مبادئ الفن) ترجمة أحمد حمدي محمود. ص 413. الدار المصرية للتأليف و الترجمة، القاهرة 1966.
3. ويليك، رينيه، و أوستن وارين، ( نظرية الأدب) ترجمة محي الدين صبحي و مراجعة د. حسام الخطيب. ص 115. الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت 1981.
4. حافظن صبري، مقالة ( البنية الروائية كمرآة للتفكك الاجتماعي) مجلة (العربي) الكويتية، العدد 366، مايو 1989.
5. سرمليان، ليون، ( بناء المشهد الروائي)، وهو فصل من كتاب ترجمه الناقد فاضل ثامر و نشره في مجلة (الثقافة الأجنبية) العدد الثالث، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1987. و يذهب سرمليان إلى أن هناك أسلوبين في السرد القصصي و الروائي هما أسلوب السرد المشهدي ( scene) و أسلوب التلخيص ( summary).
6. أنظر :
”A Glossary of Literary Terms" Abrams, M. H.(1999)
New York. Holt Rinehart & Winston. Hermeneutics ( pp 127-134).



#باقر_جاسم_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلمانية و الدين و المجتمع
- لحية كارل ماركس
- في أخلاقيات الحوار و شروطه المعرفية
- حول اللغة و سوء التفاهم
- مفهوم الهوية الوطنية: محاولة في التعريف الوظيفي
- مرة أخرى، حول وجود قوانين للتطور الاجتماعي
- حول احتمال وجود قوانين للتطور الاجتماعي
- تعاريف ليست سياسية
- جناية محمد الماغوط
- حول حرية الكلام
- قصائد قصار
- الخطاب السياسي و اللغة العادية
- صمت الجميل ، فهل سيصمت كل جميل في حياتنا!؟
- قراءة جهرية في نص مسرحية صامت
- رسالة محبة للدكيور سيار الجميل
- أصدقاء الديمقراطية و أعداؤها
- حياة جديدة في كيريفاسو
- الأيديولوجيا و السلطة السياسية
- قريبا من الفن بعيدا عن السياسة
- نظرية الاحتمالات و نظرية المؤامرة


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باقر جاسم محمد - جدل الشكل و لامحتوى في السرد الوائي: ( حديث الصبح و المساء إنموذجا )ا ً