|
عنف و سياسة
سهيَل العرفاوي
الحوار المتمدن-العدد: 6601 - 2020 / 6 / 24 - 01:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إذا كان هناك من فضل يذكر في إستشارة حفيظة الذَاكرة الأسطوريَة القديمة فقد تكون تلك الاسطورة المعروفة بسرير بروكرست ، و بروكرست هو قاطع طريق من الميثولوجيا اليونانيَة ، كان يسكن الجبل ، و إذا حلَ عليه ضيف يدعوه إلى النوم في سريره فإن كانت قامته أطول قام بقطع الزَائد منها و إذا كانت أقصر قام بشدَه حتى تتخلع أطرافه و يموت . قد يدعونا سلوك بروكرست إلى استغراب و الاستنكار و لكن حسبنا أن نتفكَر ، نتفطَن أنَ سرير بروكرست هذا قد صار خطَة سياسية تكتيكية اتَسم بها الفكر النظري العسكري الغربي لتكريس الهيمنة و تدعيم السيطرة و التدخَل في كلَ الحالات في كيان الشعوب و برمجتها و تعديلها حسب الرَغبة ...يظهر ذلك في مفهوم العقلنة و العلاقة بين القوَة و العقل و موضوع حقوق الإنسان : هذا الثلاثي ارتكزت عليه القوى العالميَة الاستعماريَة و اكسبته من اللَين و الطراوة ما يمنحها القدرة على تشكيله و رسم معالمه وفقا للرَغبة و الميل الذَاتي : إمَا بالشدَة و التمطيط و إمَا بالقطع.
يدعو الواقع المعيش إلى الوقوف على مفارقة ما بين مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن جمعيَة الأمم المتَحدة سنة 1948 و ما بين الواقع الإنساني . هذا المشكل الفارقي يحمل في ثناياه مشكلات أشدَ خطورة كالإستغلال الغير إنساني لحقوق الإنسان ، أو التسليم بها داخليَا لكنَها تتنكر لأصولها على مستوى خارجي ، و لعلَ النموذج الأمريكي خير شاهد على ذلك ، الذي يرفع شعار حقوق الإنسان و يمزَقه في آن من خلال التَجاوزات الممارسة بإسم حقوق الإنسان و إستنزاف ثرواتها و وسيلتها في ذلك هي العنف ، إذا كان ماديَا ظاهرا للعيان أو مكروفزيائيَا خادعا يتحلى بحلي إنسانيَ و لكنَه في حقيقة الأمر أشدَ خطورة و دهاءا و خراباً للإنسانيَة . هنا تظهر رهانات شتَى لعلَ أبرزها في ذلك البعد السوسيولوجي لقيام الدولة وهو تنظيم المجتمع و صهره في كيان واع ، حر و فاقه لمعنى الحرية ، يحسَ بعزَة إنتمائه لدولته التي تضمن حقوقه و حرَياته و تذود عنه ضدَ كلَ ما يترصَده من مخاطر خارجيَة أو قوميَة أهليَة.
المشكل يلامس بعمق كيان الدولة و الفرد و من أجل إستكمال صورة واضحة و كليَة ، ملمَة بتداعيات هذه الأزمة ، وجب برهنة أن العنف قد يكتسب شرعيَة ما يخول له تحقيق وجود الدولة ، هذا النوع من العنف مقام في شكله القانوني و أغراضه الساميَة والنبيلة. وهو أداة لتكريس النَظام و والحفاظ على الملكيَة الخاصَة و إعطاء كل ذي حقَ حقَه . بيد أن هذا لا يتحقق إلا في ضل دولة حقوقيَة تقوم على الديموس الإغريقي و تعامل الأفراد سواسيَة قصد الرقيَ بهم إلى أعلى الدَرجات ، و تحقيق السعادة الكاريزماتية في الدول ذات بعد واحد تختزل كمَ الحرَيات و الحقوق و السَلط في شخص واحد و حزب واحد . إن إمكانيَة أن يكون العنف الممارس من قبل الدولة هو عنف غير مبرَر و بالتَالي سيكون المقصد هو ضمان الحرية الذاتيَة و فرض نظام القمع و الجزر و الإرغام. هل العنف ملازم للدولة و يشترط قيامها أم هي ضامن للحرَية ؟
دعنا نتطرق إلى تعريف العنف و نلم بأشكاله ، العنف كما عرفته بعض الخطابات التأملية على أنه إفراط في إستعمال القوة ، فإذا كانت القوة هي المعادل بين الضعف و العنف فإنَ العنف هو تهوَر و نتاج لليأس ، إذ أن اللجوء للعنف هو دليل على إنعدام الطَرق و الأليَات و إستحالة التَفاهم إلا بالتعنيف و القمع و قد تتبلور هذه الفكرة في معاملة أب يائس من محاولة إصلاح إبنه ، فإلتجأ للعنف كوسيلة و أمل في الإصلاح ، لكن العنف في الدولة هو غير ذلك العنف في العائلة فإما أن يكون شرعي أو غير شرعي و خاربا للعمران .
الدولة و العنف فكرتين متلازمتين و لا يستلزم منا البرهنة على ذلك سوى مراجعة للتَاريخ حتى تدعم هذه الفكرة نفسها و تقرَ بوجودها ، إذ أن الثورة البلشيفيَة التي قامت بإبادة العائلة القيصريَة و قتل طبقة النَبلاء، تبرز الثورة البلشيفيَة و غيرها من الثَورات و الإنقلابات القوميَة و القبليَة و الاديولوجيَة أن الوصول إلى الحكم كان على مرَ التَاريخ رهين العنف يعني مثلما أقر هوبز : الفوضى أو ما وصفه بحرب الكل ضد الكل و بالتَالي فإن قيام العنف هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ النوع البشري و تنظيم الوجود الإنساني و في هذا الإطار كان هوبز قد شبَه الدولة بالتنَين ، ذلك الكائن الخرافي الذي ذكر في التوراة و عرف بقوته و شكله العنيف . و على حد تعبير تروتسكي : كل دولة تقوم على العنف ، يحملنا هذا القول إلى التسليم بصفة القوَة و العنف التي اكتسبها كيان الدولة عبر التاريخ حتى صارت ملازمة له ، حسبنا أن نبحث عن إمكانيَة أن يكون هذا العنف دافعا و حافزا لإستثمار قدرات الشعوب و الرقيَ بالإنسان و الفرد و ضمان الحرَية الفرديَة و حماية الملكيَة الخاصة .
إنَ العنف المنظَم و الخاضع للقوانين و مبادئ الدستور بما لا يخدش تلك القيم و البنود التي ينصَ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 ، قد يكون في نهاية الأمر وسيلة مثلى لضمان الحرَيات و تحقيق سعادة ممكنة للإنسان ، إذ أن نرجسيَة الإنسان و انانيَته السَاكنة فيه و الغالبة على طبعه ، قد تصوَر له إمكانيَة تحقيق حريَته الفرديَة على حساب حريَة الآخر ، كما أن حبَه للإمتلاك و السَيادة قد يتسبَب في عديد النَزاعات التي قد تتبلور في فوضى عارمة و سلب و نهب و قتل في وضح النهار ، و لعلَ الواقع العراقي الرَاهن هو النَموذج الأمثل لما سلف ذكره ، ألا يحق للدولة التدخَل حتى و إن إستلزم الأمر عنفا لفكَ النَزاعات و تكريس النظام ؟ أليس العنف هنا هو الأداة و الوسيلة الوحيدة لفرض النَظام و حماية النَوع البشري من الهلاك ؟
هنا يطالعنا القول الريكوري مؤكَدا أن الدولة هي السلطة المعنويَة للواجب و السلطة الماديَة للإرغام. ربما جاز لنا تبرير ملازمة العنف للدَولة ، و لكن علينا أن لا ننخدع بهذه الشرعيَة التي إلتحف بها العنف ، إذ أنَه في ضوء الإنعكاسات المحتملة و الواقعة لممارسة العنف من قبل الدولة يمكن إستقراء مبادئ العنف الغير شرعي المتنافي مع ما كل ماهو إنساني وهو معبر عن وجودها و شامل لهياكلها . الدولة تفرض أشكال عنف غير شرعي و تكسبه صفة خادعة من أجل تخدير العقول البشريَة و ممارسات التَجاوزات الإنسانيَة تحت شعار حقوق الإنسان و الحريَة و تكريس حياة أفضل أو حقَ الشعوب في تقرير مصيرها وهو حقَ هذه القوى الإستعمارية في إبادة الشعوب و محاصرتها بجميع أشكال العنف الماديَة و المعنويَة و الماكرو و الميكروفيزيائيَة وهي بارعة في تغطية و إكساب هذه التَجاوزات صفة شرعيَة عن طريق نشر الوهم و مفاهيم الحيل و التَسامح و الأخوة ، هي مفاهيم معلَبة في جنيالوجيَتها ، تخترق العقول و تغزوها و تعميها عن حقيقة الأشياء و حتى المثقَف صار صيدا و فريسة لهذه المفاهيم المروَجة من قبل رعاة العولمة .
هناك دائما غاية لكيان الدولة ، وهو تحقيق حريَة الجهاز الحاكم على حساب الشَعوب و الحرَيات الفرديَة و فرض النَظام القمعي الرامي إلى قتل الحسَ النَقدي و الإحساس بالإغتراب و الإستلاب و هنا ينعدم مفهوم المواطنة و تصبح الدولة شأنها شأن العديد من الشَخصيات التي تمَ تقديسها و حتى عبادتها ، و بالتالي تنحني عن بعدها السَامي و الرَامي إلى صهر المجتمع في كيان واحد قادر عن الذَود عن نفسه و عن دولته ضدَ الأطماع الخارجيَة .
المراجع :
(Thomas Hobbes, LEVIATHAN´-or-the Matter, Forme and Power of A Commonwealth Ecclesiastical and Civil ( -print-ed for Andrew Crooke , 1651
عدنني إكرام, سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر (بيروت: منتدى المعارف, 2012).
#سهيَل_العرفاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس
...
-
-حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع
...
-
دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر
-
جمعية مغربية تصدر بيانا غاضبا عن -جريمة شنيعة ارتكبت بحق حما
...
-
حماس: الجانب الأمريكي منحاز لإسرائيل وغير جاد في الضغط على ن
...
-
بوليانسكي: الولايات المتحدة بدت مثيرة للشفقة خلال تبريرها اس
...
-
تونس.. رفض الإفراج عن قيادية بـ-الحزب الدستوري الحر- (صورة)
...
-
روسيا ضمن المراكز الثلاثة الأولى عالميا في احتياطي الليثيوم
...
-
كاسبرسكي تطور برنامج -المناعة السبرانية-
-
بايدن: دافعنا عن إسرائيل وأحبطنا الهجوم الإيراني
المزيد.....
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية
/ جدو جبريل
المزيد.....
|