أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - بعض المسائل العلمية-الفلسفية لنظرية الحقيقة. القسم الثاني: الحقيقة كوحدة للموضوعية والنسبية في المعرفة















المزيد.....



بعض المسائل العلمية-الفلسفية لنظرية الحقيقة. القسم الثاني: الحقيقة كوحدة للموضوعية والنسبية في المعرفة


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 6597 - 2020 / 6 / 19 - 17:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


المقالة للماركسي السوفييتي تيودور اليتش أويزرمان

ترجمة مالك ابوعليا

ان الملاحظات والشروح بعد الحروف الأبجدية بين الأقواس (أ)، (ب)... هي من عمل المترجم

ان التفسير الذاتي اللاأدري لمقولة الحقيقة والذي تتخذه "العقلانية النقدية"، والتي بحثناه في القسم الأول، له جذورٌ ابستمولوجية عميقة. وبالتالي، فان تحليل لينين لأفكار الابستمولوجيا المثالية "الفيزيائية"، والتي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، قابل للتطبيق تماماً على نظرية التفنيد لكارل بوبر وأتباعه.
لاحظ فلاديمير لينين أن "المثاليين الفيزيائيين" انطلقوا من نسبية المعرفة، التي أظهرتها الثورة في الفيزياء بشكلٍ مقنع، على النقيض من الماديين الميتافيزيقيين. لكنهم فسّروا بشكلٍ سلبي ضرورة اعادة البحث النقدي لعددٍ من مفاهيم و افتراضات الميكانيك الكلاسيكي المنهجية. "وبما أنهم أصروا على طابع معارفنا التقريبي، النسبي، فقد انزلقوا الى انكار الموضوع المستقل عن المعرفة، والذي تعكسه هذه المعرفة بصورة صحيحة نسبياً"(1).
ان النسبية المعرفية هي التعبير الابستمولوجي لكونية التطور، وبهذا المعنى، فان الدياليكتيك هي دراسة نسبية المعرفة. ووفقاً للينين، فان الدياليكتيك هو "نظرية التطور بأكمل مظاهرها وأشدها عمقاً، وأكثرها بُعداً عن ضيق الأفق، نظرية نسبية المعارف الانسانية التي تعكس المادة في تطورها الدائم"(2).
يجب أن نؤكد أن مشكلة نسبية المعرفة مُهملة الى حدٍ ما في دراساتنا. ومع ذلك، فان دراسة هذه المجموعة من المسائل تُساعد على تجنب الدوغما وتُشجع على تملّك الماركسية اللينينية الابداعية. ان الاعتراف بالنسبية باعتبارها السمة الأساسية لطبيعة المعرفة هو انكار انه لا يمكن لهذه المعرفة أن يتم توسطها. وهذا بدوره يعني أن المعرفة العلمية مُستقلة نسبياً عن الأشياء موضوع البحث. هناك أفكار علمية مُختلفة الى حدٍ كبير عن نفس الموضوع. تتغير هذه الأفكار في أهدافها ومصطلحاتها في عملية تطور المعرفة، بغض النظر عما اذا كان الموضوع قيد الدراسة قد تغيّر أم لا. تتوضح العلاقة بين المعرفة العلمية وموضوعها من خلال البحث واختبار نتائجه، خصوصاً اذا لم يأخذ الموضوع تفسيراً ما من قِبَل الخبرات ما قبل العلمية. يتم اثبات وجود العديد من الظواهر ايضاً من خلال وسائل البحث النظري، والتي تكون مقدماته الأولى على شكل افتراضات. من الناحية التجريبية، يتضح في الغالب أن الوجود لا يكون سوى مُجرّد مظهر. ومع ذلك، فان هذا الأخير (اي المظهر) هو ايضاً حقيقة تخضع للبحث. في كتاب الرأسمال، لم ينتقل ماركس من المظهر الى الجوهر وحسب: حتى انه استمد المظهر من الجوهر، اي أنه أشار الى ضرورة وجوهرية طبيعة المظهر، على الرغم من حقيقة أنه يتناقض مع الجوهر. وهنا تكمن عبقرية وعُمق فقرة كارل ماركس التالية: "ان الحقائق العلمية مُستغربة دائماً حين يُحكم عليها بناءاً على التجربة اليومية التي لا تتناول غير ظاهر الأشياء الخادع"(3).
لا يمكن للعلاقة بين المعرفة وموضوعها أن تكون مفهومةً للميتافيزيقا: فهي غير قادرة على الفهم الايجابي بأن نفي معرفة مُحددة هو تطورها. لا تستوعب الميتافيزيقيا نفي النفي، وبأن تجاوز النفي هو اثراء لمحتوى الحقيقة الموضوعي. ان قضاء بوبر على الحقيقة، وانكار ماخ للحقيقة الموضوعية هما ظاهرتان من نفس النوع.
على عكس هذا التفسير المثالي الذاتي و(اللاأدري) لنسبية المعرفة، فان المادية الدياليكتيكية "تنطوي بلا ريب على النسبية، ولكن لا ينحصر فيها اي انه يعترف بنسبية جميع معارفنا، لا بمعنى انكار الحقيقة الموضوعية، بل بمعنى الشرطية التاريخية لمدى اقتراب معارفنا من هذه الحقيقة"(4). استنتاج لينين هذا هو مزيد من التطوير لمواقف ماركس وانجلز الابستمولوجية الأساسية.
أوضح انجلز ان الفهم الدياليكتيكي لنسبية المعرفة قد تور تاريخياً من خلال التقدم العلمي الذي تجاوز اضفاء صفة الاطلاق على المكتشفات والمُنجزات العلمية، وتجاوز ايضاً الموقف اللادياليكتيكي بين الحقيقة الصحيح والخطأ والافترضات غير الصحيحة حول مُطلقية واستنفادية موضوع بحث المعرفة. ومع ذلك، لدن انتقاده لمزاعم دوهرينغ في وضع حقيقةٍ نهائيةٍ لكل مسألةٍ يتم بحثها، لم يدّع انجلز ان هذه الحقائق مُستحيلة عموماً: مثل هذا التأكيد سيكون بحد ذاته حقيقةً نهائيةً ايضاً (مسحوبةً بطريقة خاطئة بالطبع) على جميع ثمار النشاط الادراكي. برفضه لمُطابقة دوهرينغ لأي حقيقة بالحقيقة المُطلقة وخلطه الخاطئ للحقيقة المُطلقة بالمعرفة المُطلقة، وباصراره (انجلز) على نسبية المعرفة وعدم اكتمالها بسبب الظروف الملموسة وعملية التطور العلمية الشاملة، يعترف انجلز بالرغم من هذا بأن بعض نتائج علم الكون والميكانيكيا والفيزياء والكيمياء هي "حقائق أبدية، حقائق أخيرة نهائية"(5)، وهو يُعارض بحزم، الفهم المُبسّط والوحيد الجانب للتقدم العلمي باعتباره انتشاراً وتكاثراً للحقائق النهائية. ولكن يجب على المرء ألا يُبالغ بأي حالٍ من الأحوال في القيمة العلمية لهذه الحقائق Truths، والتي كقاعدة، تصف حقيقة Fact فردية واحدة بصورة عامة أو مُبسطة جداً. ان اهم انجازات العلم هي اكتشاف قوانين وأشياء جديدة لم تكن معروفةً من قبل وانتشار المعرفة التجريبية ودمجها في الأنظمة النظرية الكاملة. هذا هو المسار العام الذي اتخذته المعرفة كعملية، من الظاهرة الى الجوهر ومن جوهرٍ الى آخر أعمق، ويمكن على الأقل التعبير عن هذا الجوهر الأعمق بالحقيقة النهائية في نهاية المطاف. على الرغم من أن مثل هذه المفاهيم تعبّر عن نتائج معينة مُهمة للادراك، فانه غالباً ما يتم التشكيك فيها وحتى دحضها في سياق التقدم العلمي. بمعنى آخر، ليست كل الحقائق النهائية في نهاية المطاف هي كذلك، في هذا الصدد، يُشير انجلز الى انه في انجازات الرياضيات والفيزياء والكيمياء البارزة "تُصبح الحقائق النهائية الأخيرة هنا مع مرور الزمن نادرةً بشكلٍ عجيب"(6). لا تُشير مُحاججات انجلز وموقف لينين المذكور أعلاه فقط الى مُعارضة الفهم العلمي الفلسفي للحقيقة بالفهم المثالي الذاتي لها، ولكن ايضاً الى الاختلاف النوعي بين المادية الدياليكتيكية والمادية الميتافيزيقية.
يعترف جميع الماديين بالحقيقة الموضوعية ويعتبرون الموضوعية سمةً من سمات الحقيقة. ان مفهوم الحقيقة الذاتية في نظرية الابستمولوجيا المادية ليست الا هُراء، ولكن هذا لا يستبعد الجوانب الذاتية للحقيقة، والتي سننظر فيها لاحقاً. لكن المادية الميتافيزيقية لا تفهم الوحدة الدياليكتيكية الموجودة بين الموضوعية والنسبية في محتوى الحقيقة نفسه، لا نجد اي شيء في المادية ما قبل الماركسية تحليلاً نظرياً ابستمولوجياً لموضوعية الحقيقة، ومع ذلك، ينطوي هذا الجانب من الموضوعية على أهمية خاصة عندما يشوه المثاليين الموضوعيين مفهوم الحقيقة الموضوعية، أي انهم يعترفون بها ولكن بطريقة غير سليمة.
وفقاً لأفلاطون، فان الحقيقة هي الواقع المتعالي السامي، أما الأشياء الملموسة المُدركة حسياً فهي صورة مشوهة لها، وهكذا تقف نظرية الانعكاس على رأسها: بدلاً من أن تُعيد الحقيقة انتاج الأشياء فكرياً، تتحول الأشياء الى انعكاسات شاحبة للأفكار المتسامية.
ميّز هيغل الحقيقة من الأفكار التي تتوافق مع الأشياء. تفترض الحقيقة، حسب هيغل، وجود تطابق بين الأشياء وجوهرها الروحي الموضوعي اي التفكير. في التحليل النهائي، تتوافق الحقيقة مع المفهوم المُفسّر انطولوجياً، الجوهر هو حقيقة الوجود، والمفهوم هو حقيقة الجوهر. وعليه، "التفكير هو حقيقة الشيء!، أو "طبيعة الأشياء الحقيقية"(7). وهي، بهذا المعنى، اي في الفكر المتسامي، قدرة انسانية ذاتية، الى مُطلق يؤكده هيغل: "الحقيقة هي الموضوعي المُعطى"(8). عند ادموند هوسرل الذي يتحول تسامي أفلاطون في ظواهريتيه الى شيءٍ محوري في الوعي البشري ولكن مستقلٍ عن وجوده المثالي، يُعارض الحقيقة بعملية الادراك كواقعٍ مُطلق يسبق الادراك. يعتبر هوسرل تعريف الحقيقة كمحتوىً موضوعي لأفكار البشر وأحكامهم بأنه "سكلجة" للذاتية الانثروبولوجية. يُلاحظ، بالنظر الى نظرية زيغفارت في هذا السياق: "فالحقيقة، عند زيغفارت، تتلخص الى خبرات واعية، مما يجعله، رغم كل ما يقوله عن الحقيقة الموضوعية، يتنكر لموضوعية هذه الحقيقة التي تستند الى امثليتها ما فوق العيانية"(9)(أ).
هناك بلا شك لحظات عقلانية في انتقاد هوسرل للتجريبية المثالية، لكن هوسرل لا يميز بين الابستمولوجيا المادية عن هذه النظرية المثالية. بالنسبة له من غير المعقول تماماً أن يُنظر الى الحقيقة على أنها ظاهرة للادراك. انه يناقش "مملكة المُثُل اللازمنية"(10). الحقيقة، انطلاقاً من وجهة النظر هذه ليست "شيئاً ما متعيناً في الزمان. وقد تعني الحقيقة أن مطلباً ما، ان مطلوباً ما يوجد، أن تبدلاً ما قد حصل، الخ.. لكن الحقيقة نفسها تتخطى كل زمنية، اي انه ليس ثمة من معنى يمكن أن نحمله على وجودٍ زمني، على ظهور أو اندثار"(11). وهكذا، فان المثالية الموضوعية تُضفي صفة الاطلاف على موضوعية الحقيقة، وتطمس نتاج الادراك هذا الهام للغاية، وتُعارض احدى أنماط الحقيقة المُتعالية، بالادراك كـ(نشاطٍ انساني). وعلى النقيض من المثالية الموضوعية، فان المثالية الذاتية تُبالغ في الجانب الذاتي من عملية الادراك، والذي (الجانب الذاتي) هو بلا شك موجود في كلاً من عملية الادراك ونتاجاته، ومنها، الحقيقة.
يجعل فحص المفاهيم الانطولوجية الموضوعية واللاأدرية الذاتية حول الحقيقة ضرورة التحليل المادي الدياليكتيكي للعلاقة بين موضوعية الحقيقة ونسبيتها، أكثر وضوحاً. اذا لم تكن المعرفة المُطلقة غير موجودة بالفعل، واذا كانت المعرفة نسبية بطبيعتها، فان مسألة العلاقة بين النسبية والموضوعية تفترض أهميةً حاسمةً لنظرية المعرفة المادية الدياليكتيكية، ويظهر هذا بشكلٍ أوضح في أن انكار المادية الدياليكتيكية للمعرفة المُطلقة هو أبعد ما يكون عن معنى انكار الحقيقة المُطلقة. وبالتالي، فان هذه الأخيرة، يجب أن تُفهم، كما سنرى لاحقاً، بأنها مُرتبطة عضوياً بنسبية المعرفة.
لقد صاغ لينين مسألة الحقيقة الموضوعية على النحو التالي: "هل توجد حقيقة موضوعية، اي هل يمكن أن يقوم في التصورات الانسانية مضمون لا يتوقف على الذات، لا يتوقف لا على الانسان ولا على الانسانية؟"(12). لينين يتحدث عن المحتوى الموضوعي للحقيقة. هذا المحتوى موجود بشكلٍ مستقل عن عملية الادراك، ولكن فقط عندما يكون محتوى عملية ذاتية ما حقيقة، اي حقيقة موضوعية. الحقيقة هي انعكاس محدد للواقع الموضوعي من خلال ادراك الذات- مُحدد بمعنى أنه ليس كل انعكاس لشيءٍ ما هو انعكاس صحيح. الحقيقة بالطبع، هي معرفة، ولكن ليست كل معرفة حقيقة. وبالتالي، فانه من الخاطئ معرفة المظهر دون مفهمته كمظهر، اي بدون نفيه. بغض النظر عن المفارقة التي تظهر هنا، فان الخرافة تعمل كمعرفة، اي معرفة شيء غير موجود، ولكن الشخص الذي يؤمن بالخرافة يتخيل انه موجود. كذلك، الخطأ Error عموماً، بهذه الصفة، يمتلك شكلاً ذاتياً من المعرفة. وعلى النقيض من الأخطاء، الحقيقة هي محتوى موضوعي للمعرفة، لذلك من الضروري التمييز بين المعرفة الواقعية والظاهرية، وهذا ضروري في كثيرٍ من الأحيان لتوضيح العملية الدياليكتيكية لاقتراب المعرفة من الحقيقة الموضوعية، بما في ذلك اقترابها من الحقيقة المُطلقة.
بما أن الواقع الموضوعي كموضوعٍ للادراك ليس بأي حالٍ من الأحوال مكوناً مباشراً لصورته، فان الصورة، بالطبع، ليس لها خصائص الموضوع المُدرَك. ان الفكرة الصحيحة حول شيءٍ ماديٍ ما، هي شيء مثالي Ideal، وبهذا المعنى فهي لا تشبه الموضوع الذي تتمثله. انها فكرة صحيحة، ويمكن ان تكون وصفاً لخصائص أو اخرى للموضوع الذي الذي تُشير اليه. لا يجوز بالمرة تجاهل هذا الجانب الذاتي للحقيقة الموضوعية. ويرتبط بها-اي بالجانب الذاتي،على وجه الخصوص، تلك الافتراضات التي بدونها لا يمكن ان يكون هناك وصف صحيح للموضوع. اذا افترضنا، على سبيل المثال، ان نظامنا الشمسي يحتوي على 9 كواكب، فان هذا يفترض ايضاً ان مصطلح الكوكب يُشير الى الأجرام السماوية المماثلة في الكتلة مع كتلة الأرض. ان حساب كتلة الكواكب بحد ذاتها، هي مسألة مختلفة، وهو ما يفعله علماء الفلك في الواقع باثباتهم وجود عدة آلاف من الكواكب الصغيرة (الكويكبات).
ان تأكيد بعض الافتراضات كمقدمة لتصريحٍ صحيح لا يؤدي بأي حالٍ من الأحوال الى استنتاج أن الحقيقة ليست الا خاصية للحكم لان الحكم الصحيح عن الأشياء يفترض مُسبقاً علاقةً مع الموضوع، مُقارنة الأول بالثاني، مُطابقة الحُكم مع موضوعه.
من خلال هذه المقارنة، التي تتوسط حتى أبسط الحالات (على سبيل المثال، اختبار حُكُم حول المسافة بين شيئين مرصودين بالقياس)، يتم تحديد الدرجة التي يتطابق فيها الحُكُم مع موضوع الحكم. وبالتالي، يتم تحديد درجة المصداقية (الحقيقة)، ولكن دائماً من حيث حدود دقة الحكم الصحيح الذي يتضمن ايضاً درجة الخطأ. بالطبع، ليست خصائص الحقيقة متأصلة بأي حالٍ في موضوع الحقيقة. انها تُشير الى تقريب للحقيقة الكاملة، أو كما يُقال في بعض الأحيان، تقريب لحقيقة الموضوعية، والتي لا تعني أن الأخيرة تتجاوز المعرفة، وأنها موجودة خارج الادراك. هذا الفهم لموضوعية الحقيقة، والذي يؤكد عليه بعض الماركسيين، يعني التسليم بالمفهوم الانطولوجي للحقيقة بروح أفلاطون وهيغل وهوسرل.
هناك العديد من أنواع الأشياء موضوعية. بكلماتٍ أُخرى، من الضروري تصنيف العامل الموضوعي. يُشير لينين، في مواجهته لسؤال المثالية الذاتية "هل وُجِدَت الطبيعة قبل الانسان؟"، الى التعريف الأساسي لـ(الموضوعية) كشيء موجود مُستقل عن وجود الناس. بما ان الناس يخلقون "الطبيعة الثانية"، الا أن مَوضَعة Objectification أنشطتهم تُشكل عالماً موضوعياً من نوعٍ آخر. ان الواقع الموضوعي لـ(الاجتماعي)، لا يسبق بالطبع وجود البشرية. على العكس من ذلك، انه (الاجتماعي)-أي الانتاج المادي، الحياة الاجتماعية، الضرورة التاريخية- يفترضه (وجود البشرية) كشرط اساسي له- ان هذا الكل الاجتماعي هو وحدة للذاتي والموضوعي، انه يُشكل واقع الموضوع-الذات.
يصف النوع الثالث من الموضوعية المعرفة كعملية، وبالتالي يجب تعريفها كعملية ابستمولوجية. تُعبّر الحقيقة الموضوعية وكل المقولات عن العلاقات التي هي في جوهرها جزء من الواقع الموضوعي (على سبيل المثال، علاقة السبب-النتيجة، القانون، الزمان، الخ)، وهي بالتالي، اذا استخدمنا تعبير لينين، درجات في سلم ادراكها. ان هذه المقولات هي مثال لهذا النوع من الموضوعية. ومع ذلك، في الواقع، فانها كأشكال جوهرية للمعرفة، فانها تتغير على مدى قرون طويلة من تطور الادراك. يُبرز تطور المقولات بعض جوانبها الذاتية المتأصلة (التي تُشير ليس فقط الى شكلها ولكن ايضاً الى محتواها) والتي لا تُدخل العلاقات الموضوعية والصلات التي تعكسها هذه المقولات في دائرة الشك بغض النظر عن تأكيدات الموضوعيين. ان قواعد الفكر، التي يدرسها المنطق هي موضوعية (بالمعنى الابستمولوجي، بالطبع). لقد سقطت المادية الميتافيزيقية التي كانت تُظهر موضوعية مُحتوى الفكر، في الخطأ، عندما اعتقدت بأن أشكال التفكير ذاتية فقط، اي انها لا تعكس الواقع الموضوعي للعلاقات. تغلب هيغل على هذا الخطأ، على الر غم من مواقفه المثالية. لقد صور أشكال الفكر، عند تأكيده على موضوعيتها، على أنها أشكال من "الفكرة المُطلقة" وعلى انها واقع جوهري ما فوق انساني. مُستخلصةً البذرة العقلانية لطرح هيغل للمسألة، درست المادية الدياليكتيكية أشكال التفكير كوحدة دياليكتيكية للذاتي والموضوعي. وكما لاحظ لينين: "اختلاف الذاتي والموضوعي موجود، ولكن له ايضاً حدود"(13).
يؤدي مبدأ الوحدة الدياليكتيكية بين الذاتي والموضوعي، والذي يفترض بالطبع ايضاً بحث التناقض بينهما، الى ادراك واعي لنسبيته عندما يُطبّق على موضوعية الحقيقة. على الرغم من أننا قلنا سابقاً أن الحقيقة بحكم تعريفها موضوعية، يجب أن نذكر الآن ايضاً ان الحقيقة الموضعية هي نسبية بالتعريف. يجب أن يُقال هذا ايضاً عن الحقيقة المُطلقة، والتي تُعتبر حدودها نسبية (سنتحدث عن هذا).
صاغ لينين الطرح المادي لمسألة نسبية الحقيقة على النحو التالي: "أيمكن للتصورات البشرية التي تُعرب عن الحقيقة الموضوعية أن تُعرب عنها دفعةً واحدةً، بصورة كلية، بلا شك، بصورة مُطلقة، أم بصورة تقريبية فقط، بصورة نسبية فقط؟(14). يمكن أن يُجيب المرء على الجزء الأول من هذا السؤال بالنفي فقط، ولكن بالنفي الدياليكتيكي، لان الفرق بين النسبي والمُطلق ليس مُطلقاً. ان المعرفة التقريبية، الى المدى الذي يكون فيه عدم اكتمالها ومحدوديتها معروفة بوعي ومُحددة، هي مُطلقة بالأساس. يؤكد مفهوم الحقيقة المُطلقة الذي يكون عدم اكتمال الحقيقة وعدم كفايته واضحاً فيه على الجانب الذاتي للحقيقة، لان كل ما قيل هنا لا يُشير الى موضوع البحث، ولكن الى المعرفة حوله. ان كل جزء من المعرفة محدود، على الأقل بمستوى تطوره، أي ان مفهوم مستوى المعرفة هو مؤشر على حدودها. هذه الحدود ليست بأي شكلٍ من الأشكال حدوداً على الموضوع الذي يتم تأكيد الحقيقة حوله. ان نسبية الحقيقة (كما هي نسبية المعرفة بشكلٍ عام) هي وظيفة يحكمها تطور الادراك. يقوم التطور اللاحق في الادراك بتجاوز هذه النسبية، ولكنها- اي النسبية-تظهر باستمرار في كل مستوىً جديدٍ من التطور حيث أن "كل معارفنا المُكتسبة محدودة بالضرورة وتحدها الظروف التي نكتسبها فيها"(15).
تُعارض الميتافيزيقيا الحقيقة ليس بالمعرفة السابقة فقط، بل بتطور المعرفة اللاحق أيضاً. انها تعتقد أن الوصول للحقيقة يضع نهايةً لمعرفة الشيء. وبالتالي، لا ترى الميتافيزيقيا أن اكتمال دورات العمليات الادراكية لا يمكنه أن يكون ضماناً ضد امكانية اعادة البحث اللاحق في النتائج المُحصّلة. يمكن ايضاً لحدود الحقيقة وتطبيقها أن لا يكونان مُحددان مُسبقاً. أشار فريدريك انجلز الى أن الأجيال التي سيكون مطلوباً منها تصحيح معارفنا ستكون أكبر بكثير من الأجيال التي نقوم بتصحيح معارفها الآن. ان البشرية أقرب الى المراحل الأولى من تطور المعرفة العلمية منها الى مراحل ذروتها. بالطبع، هذه الأخيرة لا يمكن تصورها الا باعتبارها محطة أخيرة في وجود البشرية.
تتحدد نسبية المعرفة من خلال البُنية الجوهرية لعملية المعرفة، والتي تفترض دائماً، في أفضل الحالات، بعض التبسيط الواعي والمفيد لموضوع البحث. انه أولاً، تبسيط لعزل موضوع البحث عن مجموع العلاقات والروابط التي تجعله موضوعاً مُعيناً، وليس شيئاً آخر. يُدرك علماء الطبيعة، لا سيما في عصرنا، حتمية هذا التبسيط، تماماً كما يُدركون جوانبه السلبية، والايجابية ايضاً. لاحظ روس آشبي في هذا السياق أن "البيولوجي يدرس جزءاً صغيراً من النظام الذي يقف أمامه. وأي حُكم قد يُصدره هو نصف الحقيقة فقط، مجرد تبسيط. الى اي مدىً يمكن تبسيط النظام؟ هل يمكن للعالم أن يعمل بنجاح مع أنصاف الحقائق؟"(16).
ما أسماه آشبي "أنصاف الحقائق" هي في الحقيقة حقائق نسبية. لكنه يُغفل ذكر الظروف المهمة التي تتحرك فيها المعرفة من البسيط الى المُعقد: يحل شكل جديد نوعياً من المعرفة عند مستوى المعرفة الأرفع، محل التبسيط السابق: ان البسيط والمُعقّد هما ضدان مترابطان، ويجب فهم هذا ايضاً بمعنى أن البسيط ليس موجوداً لوحده، ولا المُعقد كذلك.
في انتقاده للكانطية، يصف لينين عملية المعرفة بأنها تحوّل المجهول، ولكن (القابل للمعرفة)، أي الشيء "الشيء بذاته" الى شيء معروف لنا. انه يُشير الى أن "الشيء لنا" هو جزء، جانب من "الشيء بذاته"، أي أن المعروف مرتبط بشكلٍ أساسيٍ بالمجهول. لا ينبغي أن يكون مستعصياً على فهم، أن هذا يستتبع حتماً تحددية المعروف وطبيعته التقريبية، وعدم اكتماله، الخ. يرتبط التضاد الدياليكتيكي بين الحقيقة والخطأ، بقانون المعرفة الموضوعي هذا. تُعامل الميتافيزيقيا المعرفة والخطأ كأنهما مُتطابقان بالمُطلق: الحقيقة هي حقيقة، والخطأ هو خطأ. سيكون بالطبع تبسيطاً القول أن التناقض بين الحقيقة والخطأ هو نسبي فقط، وأنه لا يمكنه أن يكون مُطلقاً. لا توجد هناك حقائق مُطلقة وحسب، بل هناك أخطاء مُطلقة ايضاً، على الرغم من أن هذه، كقاعدة عامة، لا تنتمي كثيراً الى العلم بقدر ما تنتمي الى الوعي ما قبل العلمي أو غير العلمي. من الضروري اجراء بحث ملموس للأضداد، والذي سيؤدي الى استنتاج مفاده أن المُعارضة بين الحقيقة والخطأ (بالطبع، الخطأ الجوهري الذي يُشير الى الحقائق Facts)، يجب أن تكون نسبية، وبالتالي، فان حدود الحقيقة ليست ثابتة: انها لا تتسع فقط، بل وتضيق ايضاً كنتيجة لصيرورة الحقائق أن تكون أكثر دقة، أي يتم التخلص من عنصر الخطأ فيها.
كنا حتى الآن ندرس بشكل أساسي الجانب الذاتي للحقيقة النسبية، والذي لا يستنفد محتواها بأي حالٍ من الأحوال. ليس أقل أهميةً، توضيح التحددية الموضوعية للنسبية، والتي هي بالضرورة جزء من الحقيقة الموضوعية، وبالتالي أحدى سماتها التي تُعرّفها. الحركة مطلقة كشكل لوجود المادة واحدى سماتها، ولكنها ايضاً نسبية نتيجةً لطبيعتها المُطلقة، أي لان الأجسام تتحرك بالنسبة الى الأجسام الأخرى التي تتحرك أيضاً. لا يوجد هناك اي نظام مُطلق غير مُتحرك، أي أن سرعة اي جسم متحرك تكون نسبية. ومع ذلك، لا يمكن لهذا أن يمنعنا من التحدث عن السرعة كسرعة (السرعة المُطلقة). على سبيل المثال، سرعة السيارة، بما أننا نُقدّر هذه السرعة داخل منظومة الأجسام التي تقبع في سكونٍ نسبي. لكن الجسم الساكن هو في حالة حركة كجزء من نظامٍ معين. وبالتالي، فان كلاً من الحركة والسكون نسبيان. ووفقاً لنظرية النسبية، فان الحركة نفسها (على سبيل المثال، الجسم الساقط) لها مسارات مختلفة بشكلٍ كبير في أنظمة متنوعة. ان موضوعية نسبية الحركة واضحة أيضاً من حقيقة أن سرعة الضوء مُطلقة، لان قانون جَمع السرعات The Velocity-Composition Law لا ينطبق عليها-اي على سرعة الضوء.
ان دياليكتيك المعرفة، او الدياليكتيك الذاتي، يعكس الدياليكتيك الموضوعي. لاحظ انجلز، عند وصفه لمنجزات العلوم الطبيعية في منتصف القرن التاسع عشر، أن العلوم الطبيعية تُحقق فهما متزايداً لنسبية الاختلافات والتضادات بقدر ما شرعوا يسيرون في طريق المفهمة الدياليكتيكية للظواهر. "ان حجر أساس الفهم الدياليكتيكي للطبيعة هو ادراك أن هذه التضادات والاختلافات، على الرغم من أنها توجد في الطبيعة، لها أهمية نسبية فقط، وبأن السكون المُتخيّل والأهمية المُطلقة يتم اضفاءها على الطبيعة من خلال تفكيرنا، من الناحية الأخرى(17). وهكذا، فان نسبية الحقيقة الموضوعية لا ترجع فقط الى وجود موضوع الادراك ولكن ايضاً الى نسبية العمليات التي تحدث في الطبيعة نفسها. كتب لينين: "ان الحكم الأساسي في الدياليكتيك الماركسي يتلخص في كون جميع الحدود في الطبيعة وفي المجتمع هي اصطلاحية ومتحركة، وأنه ما من ظاهرة لا تستطيع أن تنقلب الى ضدها اذا توفرت الظروف لذلك"(18). هنا بصرامة، يكمن الأساس المادي الحقيقي لموضوعية نسبية الحقيقة. ان اكتشاف هذه الظاهرة الابستمولوجية هو أحد أهم انجازات النظرية المادية الدياليكتيكية حول الحقيقة. وبالتالي، فان موضوعية نسبية الحقيقة تُثبت أنها انعكاسٌ كافٍ ليس فقط لعدم اكتمال ومحدودية جزء موجود من المعرفة ولكن ايضاً لوحدتها بموضوع المعرفة، والارتباطات العالمية بين الظواهر التي يوجد الموضوع من خلالها. في رأينا، يجب من هذا المُنطق، فهم عبارة لينين التالية: "ان (كنه) الأشياء أو (الجوهر) هما ايضاً نسبيان، وهما يُعربان فقط عن تعميق المعرفة البشرية للمواضيع"(19). لا يجب بالطبع، التشكيك بالوجود الموضوعي للجوهر. هناك العديد من تنوعات، (العديد من مستويات) الجوهر، وتقدم تدريجي لسيرورة معرفة هذا الجوهر: حركة من جوهر الى آخر أعمق، من جوهرٍ يقع في المستوى الأول، الى جوهرٍ يقع في المستوى الثاني فالثالث، الخ.
ان نسبية الحقيقة هي تحديد للحقيقة في الوعي، والتي بموجبها لا يمكن للحقيقة ان تنطبق الا على مجموعة معينة من الظواهر التي تكشف عنها عملية الادراك التي يؤسسها الباحثين، بحدودٍ معينة، والتي هي، أيضاً حقيقة، بالمعنى الدقيق للكلمة. الحُكم الحقيقي، كما يقول الديمقراطي الثوري الروسي نيكولاي تشيرنشيفسكي، "مشروط"، أي أنه يأخذ في الاعتبار أن "كل شيء يعتمد على ظروف المكان والزمان". هل المطر مُفيد أم ضار؟ هذا المثال العادي الذي يُفكر فيه الجميع يجعل من الواضح أن الحكم على ظاهرة مُعينة دائماً ما "يأخذ في الاعتبار الوضع الذي يوجد فيه"(20). لو سألنا، على سبيل المثال، عن الدور الذي يلعبه الاستغلال والشر الاجتماعي بشكلٍ عام، في تاريخ الحضارة، فان أي اجابة، كما يُظهر التاريخ، سُتسبب خلافاتٍ جادة ونزاعاً شرساً وتُصبح موضوعاً لصراع سياسي وايديولوجي. سيقول البعض أن العنف والعبودية والاستغلال هي شر، وهي شرٌ فقط. لا يمكن للشر الا أن يكون شراً وحسب. كل هذه حقائق Truths، ولكن لسوء الحظ، الحقائق المُجردة هي ايضاً أخطاء. هذه هي بالفعل طبيعة الحقائق المُجردة، ليس ببساطة انها ليست حقائق، ولكنها حقيقة-خطأ في ذات الوقت. قد تزيد المفاهيم المتضادة مثل هذه فهمنا للحقيقة المُجردة، والتي على الرغم من من المعنى المُباشر للمصطلح، الا أنها ليست حقيقة، أو على الأقل، ليست حقيقةً مُحددة.
كتب انجلز أنه بالنسبة الى هيغل "فان الشر عنده، هو الشكل الذي تتجلى فيه القوى المحركة للتطور التاريخي"(21). هذه الحقيقة Truth التي اكتشفها هيغل، ليست دائماً وفي كل مكان فعلية، ولكنها كذلك في ظل ظروفٍ محددةٍ تاريخياً، على وجه الخصوص، على هامش تطور المجتمع التناحري. بكلماتٍ أُخرى، لا توجد الحقيقة في فراغٍ اجتماعي- تاريخيٍ او ابستمولوجي. لا تنفصل الحقيقة عن ما يُحيطها، وعن المواضيع التي تعكسها بشكلٍ كافٍ. لذلك يمكننا القول أن تطبيق تحليل النُظم على مُشكلة الحقيقة، خصوصاً دراسة أنواع الحقيقة، لهي مهمة بحثية مُفيدة.
كان لينين يُشدد باستمرار على طبيعة الحقيقة "المشروطة"، مُشيراً الى أن "أية حقيقة، اذا تم جعلها (مفرطة)... واذا جرى الغلو فيها وبسطها الى ما هو خارج نطاق تطبيقها الفعلي، فانه يمكن السير بها الى حد السخافة، بل وأنها تتجول لا محالة الى سخافة"(22). الحقيقة المُجردة هي في الأساس حقيقة لم يتم تحديد حدود قابليتها للتطبيق في العالم الواقعي، او لم تُصبح معروفة، ونتيجةً لذلك يتم توسيع مداها الى منطقة غير مُحددة من الظواهر، وبالتالي يتم تحويلها الى ضدها. صاغ هيغل أولاً الموقف الذي قبلته الماركسية ايضاً، بأنه لا توجد حقيقة مُجردة، بأن الحقيقة عيانية. يرتبط هذا الموقف عضوياً بالفهم الدياليكتيكي للحقيقة كشيء يستتبع علاقة مُحددة بالمواضيع المُعينة.
كما نعلم، فان التفكير الجدلي يفترض تحليلاً مُسبقاً للمقدمات العلمية وتوضيحاً للمعنى العياني لحدود تطبيق هذه المُقدمات. لهذا السبب، لا يمكن تحويل المُقدمة الصحيحة التي تقول بأنه "لا يوجد حقيقة مُطلقة، الحقيقة عيانية" الى حقيقة مُطلقة. عندما نقول، على سبيل المثال، أن مجموع زوايا المثلث يُساوي 180 درجة، فان هذه حقيقة مُجردة لانها تُشير الى مواضيع مُجردة ولا تحتوي على أية حدود، وهو أمر ضروري تماماً نظراً لعدم وجود الهندسة اللااقليدية التي يكون فيها مجموع زوايا المثلث أكثرؤ أو أقل من 180. ولكن بمجرد صياغة المُقدمة حول مجموع زوايا المثلث، مع مراعاة هذه الحدود والظروف، فانها لن تبقى حقيقة مُجردة، بل ملموسة.
عرّفت كلاسيكيات الاقتصاد السياسي البرجوازي السلعة بأنها نتاج عمل يمكن استبداله بمُنتج عمل آخر يتناسب مع كمية العمل الضروري اجتماعياً المُدرج فيه. هذه، بالطبع، حقيقة مُجردة، لان السلعة، كما أوضح ماركس، هي نتاج عمل مُزدوج مُحدد تاريخياً: العمل الملموس، لانه يخلق قيمة استعمالية، والعمل المجرد لانه يخلق قيمة. ان النظر الى سلعة ما على أنها مُجرد نتاج لعمل وقابلة للاستبدال بسلع أخرى يعني أن يُعرّف المرء العمل الذي يخلق السلع بالعمل عموماً، الذي هو الشرط الطبيعي لوجود الانسان، أي أن هذا هو عملية تخليد لانتاج السلع. ولكنه سيكون من الخطأ اختزال هذا الموقف من الاقتصاد السياسي البرجوازي الكلاسيكي الى مُجرد خطأ. انه يحتوي على حقيقة مُحددة، بل وأكثر من ذلك، اكتشاف علمي.
انتقد لينين بليخانوف لفهمه المُجرد لجوهر الثورة الروسية الأولى. اقتصر بليخانوف على تكرار الحقيقة العامة (وبالطبع المُجردة) بأن هذه كانت ثورةً برجوازية، بافتراض أن مُجرد تأكيد هذه الحقيقة كان كافياً لربطها بممارسة حزب البروليتاريا. رفض لينين الصيغة المُجردة لهذه المسألة والتي كانت بمثابة تبرير لانتهازية المناشفة، كتب "... ان السعي للعثور على حلولٍ لمسائل عيانية في التطور المنطقي المُجرد للحقائق العامة حول الطبيعة الأساسية لثورتنا هو استهزاءٌ بالماركسية واستهزاءٌ مُطلقٌ بالمادية الدياليكتيكية"(23). في معارضة بليخانوف، أظهر لينين أن ثورة 1905 تختلف من الناحية النوعية عن الثورات البرجوازية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لانه في الظروف التاريخية الجديدة، ووفقاً لمستوى تطور الرأسمالية المُرتفع نسبياً، تُصبح البروليتاريا هي القوة الرائدة للثورة البرجوازية الديمقراطية. كان هذا هو موقف لينين، وهو مثال رائع على الحقيقة الملموسة، والتي هي، مثل الملموس في النظرية بشكلٍ عام، تُمثل وحدة المُحددات المتنوعة. ليس من الصعب ملاحظة أن الحقائق المُجردة Abstract Truths هي مفاهيم وحيدة الجانب، وصحيحة فقط بقدر ما أن احادية جانبها معروفةٌ بشكلٍ واعٍ، مما يعني أنها ايضاً غير صحيحة، حتى لو كانت كذلك جزئياً. ولهذا شدد لينين على أن "كل حقيقة مُجردة يمكنها أن تتحول الى عبارة اذا قبلتها دون اي تحليل على الاطلاق"(24). وبالتالي، فان المقاربة الدياليكتيكية للحقيقة المُجردة ليس لها أي علاقة مع انكارها المُجرد. يرقى الانكار الملموس الى الانتقال الى تعريفٍ آخر للموضوع المدروس مع الاحتفاظ بتعريفه السابق، وبهذه الطريقة يُحرَم من استقلاليته الظاهرة، التي طبعته بطابع الخطأ.
تُظهر دراسة منهجية كتاب (رأس المال) أن تركيب التعاريف المختلفة هو عملية متعددة المستويات، أي أن هناك مستويات متعددة للعياني في نفس النظرية. وتبعاً لذلك، حتى مفهوم الحقيقة الملموسة يجب أن لا يُفهم بشكلٍ مُجرّد، يعني أن يُفهم بأنها كلها على نفس المستوى من العيانية. ان الحقيقة النسبية هي عيانية بقدر ما يتم تحديد مُقدمات وظروف وحدود انطباقها على الواقع، بهذه الدقة أو تلك. ومع ذلك، توجد الحقيقة المُطلقة الى جانب الحقيقة النسبية. ان عيانية الحقيقة المُطلقة ذات تنويعات أكثر من عيانية الحقيقة النسبية، فقط اذا كانت الحقيقة المُطلقة هي وحدة عددٍ من الحقائق النسبية. ان كل حقيقة نسبية هي عيانية بقدر محدوديتها، والتي يتم تجاوزها بعد ذلك في عملية دمج الحقائق النسبية، وصعودها الى الحقيقة المُطلقة.
ان انشاء حدود نسبية الحقيقة الموضوعية هو الى حدٍ ما تجاوز هذه الحدود، اي لفرز حقيقة مُطلقة معينة مُحتواة في تلك الحقيقة الموضوعية. بهذه الطريقة تَبرُز وحدة النسبي والمُطلق في مضمون الحقيقة الموضوعية. شرح آنجلز هذا المبدأ المادي الدياليكتيكي، الذي يُميز في الأساس فلسفة الماركسية عن الأنظمة الميتافيزيقية بكل ادعائاتها عن المعرفة المُطلقة (الغريبة عن المنهجية العلمية). يقول انجلز "نحن نعلم أن الكلور والهيدروجين يتحدان، تحت تأثير الضوء، وفي شروط معينة من الحرارة والضغط، ليشكلا غاز كلور الماء، وأن انفجار يرافق هذه العملية، وما أن نعرف هذا، حتى نعرف، أيضاً، أن ذلك يحدث في كل وقت وفي كل مكان، تتوفر فيه الشروط المذكورة. وهنا لا يهمنا، مُطلقاً، هل حدث هذا مرةً واحدةً أم تكرر ملايين المرات، وفوق أي عددٍ من الأجرام السماوية حدث"(25). بالطبع، هذه الحقيقة المُطلقة هي حقيقة مُحددة لان هذه عملية متفردة وظروفها معروفة جيداً بما فيه الكفاية. ان حقيقة مُعينة متفردة، متعلقة بعملية معينة هي نسبية. نتحدث بالتالي عن نسبية حقيقة مُطلقة، أي أن حدودها نسبية.
وبالفعل، يكون كافياً معرفة الظروف التي يتكون فيها غاز كلوريد الهيدروجين من أجل اثبات ضرورة وحتمية هذه العملية الكيميائية في ظل ظروفٍ مختلفة، بالرغم من أنه لا يمكن توقع تنوعاتها. ان اكتمال المعرفة المتعلقة بأي شيء يفترض مسبقاً أن نعرف "أن علاقات كل شيء (كل ظاهرة، الخ)، ليس فقط متعددة، بل هي كلية". كل شيء (ظاهرة، عملية، الخ) مرتبط بكلٍ آخر"(26). ولكن هذا مستحيل، بل انه غير ضروري. ان وعي العلاقات اللامتناهية لكل شيء بكل شيء هو الزام ابستمولوجي يحول دون اضفاء صفة الاطلاق على ثمار المعرفة الأصيلة كعملية، بما في ذلك اضفاء صفة الاطلاق على الحقيقة المُطلقة نفسها، هذا الاضفاء الذي يتضمن نسيان نسبية حدودها، والذي سيقود الى نتيجة خاطئة.
تُعارض الميتافيزيقيا الحقيقة المُطلقة بالحقيقة النسبية وتفصل الأولى عن الثانية. من ناحية أخرى، تُظهر المادية الدياليكتيكية أن "لكل دقيقة علمية، بالرغم من نسبيتها، عنصر الحقيقة المُطلقة"(27).
لا توجد الحقيقة المُطلقة بشكلٍ مستقل عن الحقيقة النسبية. ليس لدى الحقيقة المُطلقة مجال وجودها ومعناها المُستقلين. انها تتكون من حقائق نسبية، ضمن منطقة بحث موضوعية مُعينة، قد يكون مجموعها كافياً للوصول الى استنتاجات يمكن وصفها بأنها مُطلقة وأبدية لا تقبل الجدل. لكن يحتاج المرء فقط الى تجاوز حدود هذه المنطقة الموضوعية لاكتشاف نسبية وعدم اكتمال هذه النتائج المُطلقة. عندما تكون المعرفة ناقصة وغير كافية، فانها تقع على حدود المجهول والمشكوك فيه، وبالتالي تكون محفوفةً بالخطأ. من ثم، فان أي استقراء لما هو معروف وصحيح حول منطقة غير معروفة كلياً بعد (ولا يمكن للعلم رفض اجراء مثل هذا البحث) يُشير الى أن التعارض بين الحقيقة والخطأ ليس مُطلقاً.
ان السمة الأكثر بروزاً لمنهجية لينين في طرح مسألة الحقيقة المُطلقة هي أنه يفحص هذه المسألة في اطار نظرية نسبية المعرفة. تم تضمين مبدأ نسبية المعرفة، النسبية مفهومةً دياليكتيكياً، من قِبَل لينين في تعريفه الأساسي، الذي صار الآن كلاسيكياً في المادية الدياليكتيكية، والذي اقتبسناه في بداية المقالة. ان الفهم العلمي والفلسفي لنسبية المعرفة يتعارض مع النسبوية المُطلقة، اي يتعارض مع الفهم الذاتي اللاأدري لنسبية المعرفة. في هذا السياق، قد يسأل المرء: كيف يمكن للحقائق المُطلقة أن تكون ممكنة اذا كانت المعرفة تتكون من الحقيقة النسبية؟ تُجيب المعارضة النسبية بين الحقائق المُطلقة والنسبية على هذا السؤال. بالنسبة لأحد المؤيدين للنسبية المُطلقة، فان نسبية التعارض بين الحقيقة المُطلقة والنسبية تدل على استحالة الحقيقة المُطلقة. يُجادل هذا المفكر ميتافيزيقياً: فقط التناقض المُطلق، المُعارضة المُطلقة يمكنها ان تشترط امكانية الحقيقة المُطلقة. ويُنكر المدافع عن النسبية المُطلقة بشكلٍ عام وجود اي شيءٍ مُطلق، وبالتالي، لا يتعارض مع المادية فحسب، بل ايضاً مع العلوم الطبيعية(28).
يُشير لينين بأن التمييز بين الحقيقة المُطلقة والحقيقة النسبية يحتوي على عنصر اللاتحددية هو أمرٌ مهم للغاية. لن تقبل الميتافيزيقيا هذه اللاتحددية الدياليكتيكية، والتي هي في نفس الوقت، نوعٌ من التحددية. هذا التمييز بين الحقيقة المُطلقة، والنسبية، يُشدد لينين "يَحول دون تحويل العلم الى عقيدة بمعنى هذه الكلمة السيء، الى شيءٍ ما ميت، متحجر، متجمد، ولكنه في نفس الوقت (واضح) الى حد انه يُتيح التنصل بصورة حازمة ونهائية عن الايمانية واللاعرفانية، عن المثالية الفلسفية وعن سفسطة أتباع هيوم وكانط"(29). قد نتذكر أن لينين يتحدث في مكانٍ آخر من كتاب (المادية ومذهب النقد التجريبي)، عن "لاتحددية" معيار الممارسة، الذي، وبالرغم من ذلك، تحديدي بشكل كافي ليُفرّق النظرات العلمية عن تلك غير العلمية.
ان "لا تحددية" هذه الفروق (استخدمنا أقواس الاقتباس هنا عن عمد) يميز بالتالي حتمية البحث العلمي الحاسمة، والتي تمنعه من اضفاء صفة الاطلاق على الحقائق الراسخة، بدلاً من ذلك لا تقوم فقط بتعزيز المعرفة النسبية، ولكن ايضاً بتعزيز النتائج التي تحتفظ بأهمية دائمة أيضاً. ان حدود الحقيقة المُطلقة غير متحددة سواءاً في المكان أو في الزمان. ان محتواها المُثبَت علمياً والقابل للاختبار هو المتحدد. تطور المفهوم المادي الدياليكتيكي عن الحقيقة المُطلقة تاريخياً بالنضال ضد الاضفاء الدوغمائي لصفة الاطلاق، هذا الذي يُميزالفلسفة ما قبل الماركسية، والأنظمة الميتافيزيقية على وجه الخصوص. في الفلسفة ما قبل الماركسية، بالمعنى الدقيق للكلمة، لم يكن هناك تمييز بين الحقيقة المُطلقة والحقيقة النسبية. بما أن أي حقيقة كانت تُعارض تماماً بالخطأ، فلم يكن هناك سوى مفهوم الحقيقة المُطلقة أو الثابتة، التي تتأسس لمرة واحدة والى الأبد. اذا تم اثبات أن حقيقةً ما محدودة، فيتم تفسير الأمر على أنه خطأ العالِم الذي خلط الصحيح بالخاطئ.
ان الميتافيزيقيين الذين قاموا بمعارضة المعرفة غير الفلسفية بالفلسفة، قاموا كذلك بمعارضة الحقيقة الفلسفية بتلك غير الفلسفية وغير الكاملة. كانت هذه المُعارضة بمثابة أساس لصياغة الفكرة غير الصحيحة عن الحقيقة ذات المستوى الرفيع والحقيقة الفلسفية المُطلقة والأبدية والنهائية. حتى دياليكتيك هيغل لم يكن خالياً من هذا التحيز. لقد أطلق مُسمى علم الحقيقة على الفلسفة، والذي
كان يعني به حقيقةً فلسفيةً خاصة تختلف اختلافاً جوهرياً عن الحقائق التي يمكن اختزالها الى بياناتٍ تجريبية، او مرتبطة عضوياً بهذه البيانات.
ناضل مؤسسو الماركسية ضد هذا الادعاء الباطل الذي يعود لفلسفة القرن التاسع عشر التقليدية التي عفا عليها الزمن تاريخياً. وبرفضهما الفلسفة بالمعنى القديم للكلمة، رفض ماركس وانجلز ايضاً المفهوم الفلسفي التقليدي عن الحقيقة، على وجه الخصوص، الحقيقة الفلسفية التي تقف مُقابل "الحقائق" Facts بالحقيقة Truth كما يصور ليبينتز الأمر. كتب كارل ماركس بُسخرية "كان لدى الفلاسفة، حتى الآن، الحل لجميع الألغاز الموجودة على مكاتبهم، ولم يكن على العالم الغبي وقليل الخبرة الا أن يفتح فمه ليلتقط الدجاج المشوي الجاهز للحقيقة المُطلقة"(30). ترفض الماركسية الفلسفة باعتبارها "علماً مُطلقاً" وتربطها بالبحث الفلسفي والممارسة الاجتماعية وحركة تحرير الطبقة العاملة. وكما كتب ماركس مُعلقاً على هذه النقطة الأخيرة: "في مثل هذه الحالة، نحن لا نظهر أمام العالم كعقائديين بمبدأ جديد ومُنتهي قائلين: (هذه هي الحقيقة، اركع امامها على ركبتيك!)"(31).
ان نضال مؤسسي الماركسية ضد المفهوم التقليدي حول الحقيقة المُطلقة، وبالتالي، انكارهم لمفهوم الحقيقة المُطلقة بمعنى الكلمة القديم (الميتافيزيقي)، يُصبح مفهوماً في ضوء هذا الوصف للماركسية كفلسفة من نوعٍ جديدٍ بشكلٍ أساسي. يوضح نقد انجلز لدوهرينغ ومنهجية التفكير الميتافيزيقية عموماً، هذه الخاصية الماركسية بالغة الأهمية، والتي كانت تُفسّر وتُشوه بمنهجية ذاتية بواسطة التحريفية الفلسفية. يمكننا بالتالي أن نتفهم، على سبيل المثال، وجهة نظر انجلز بأن الدياليكتيك "يُحطم"... "جميع التصورات عن الحقيقة المُطلقة"(32). في هذا السياق، أكد انجلز على الأهمية الكبيرة لمثالية هيغل الدياليكتيكية، الذي، على الرغم من استنتاجات نظامه الميتافيزيقي المحدودة، أظهر أن العلم لن يصل أبداً الى "نقطةٍ لا يستطيع أن يستمر سيره منها بعد ايجاد الحقيقة المُطلقة، ولم يعد له بتاتاً أن يبقى حيث هو، مكتوف الأيدي، يتأمل باعجاب الحقيقة المُطلقة التي حصل عليها"(33). هذا الاكتشاف لفلسفة هيغل، كما يؤكد انجلز، الى حدٍ ما بعد ذلك، يعني "تنتهي كل الفلسفة، بالمعنى القديم لهذه الكلمة. ونترك (الحقيقة المُطلقة) التي لا يُمكن أن يُدركها، وذلك في طريق العلوم الايجابية، مُعممين نتائجها بُمساعدة الفكر الدياليكتيكي"(34).
ترتبط هذه الصيغة الدياليكتيكية بحق، لمسألة الحقيقة، بشكلٍ لا ينفصم بتصنيف الحقيقة المُطلقة الموضوعية كحدٍ مُتسعٍ باستمرار بشكل تقريبي وتدريجي-اذا استخدمنا كلمات انجلز- لمسار المعرفة في كل مجالٍ من مجالات البحث. هذه هي المقاربة للحد، التي كان يُفكر فيها لينين بوضوح عندما صاغ اطروحته الابستمولوجية المهمة للغاية: "ان الاستنتاج الوحيد من ذلك الرأي الذي يُشاطره الماركسيون والذي يقول أن نظرية ماركس هي حقيقة موضوعية، يتلخص فيما يلي: السير على طريق النظرية الماركسية، سنقترب أكثر فأكثر من الحقيقة الموضوعية (دون أن نستنفدها أبداً)، اما بالسير على اي طريقٍ آخر، فلا يسعنا أن نصل الى اي شيء، غير التخبيص والكذب"(35).
وهكذا، رفض ماركس وانجلز الحقائق المُطلقة، بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، ورفضا مُطابقة الحقيقة بالحقيقة المُطلقة، التي يُفهم بأنها معرفة مُطلقة. ان المفهوم الميتافيزيقي عن الحقيقة والمعرفة، بشكلٍ عام، غير متوافق مع الدياليكتيك المادي كنظرية عن التطور. لا يمكن لأي فلسفة أو علم آخر أن "تتغلب على جميع التناقضات"(36). حتى أن طرح مثل هذه المهمة لا أساس له من الناحية العلمية، على الرغم من أن الحاجة الى حل جميع التناقضات تُعبّر بشكلٍ مُباشر عن محدودية المعرفة الانسانية وسُلطتها المُستقلة، والتي أكدها انجلز في كشفه عن ادعاءات دوهرينغ لانشاء نظام الحقيقة النهائية.
في ظل الظروف التاريخية الجديدة، أقام لينين صراع مؤسسي الماركسية ضد الاضفاء الدوغمائي لصفة الاطلاق على المعرفة والتفسير الميتافيزيقي لنتائجها، وعدم الاتساق الذي يُصبح واضحاً في اوقات التغيرات التاريخية المفاجئة وفي حالة الأزمات، وما شابه ذلك. كما كتب لينين: "يرفض الدياليكتيك الحقيقة المُطلقة في تفسير تعاقب الأضداد ودور الأزمات في التاريخ"(37). ولكن برفضه اضفاء صفة الاطلاق على الحقيقة، شدد لينين باستمرار، مُطوراً نظرية ماركس وانجلز، على أن الاعتراف بالحقيقة الموضوعية، هو في نفس الوقت، اعترافاً (على الرغم من أنه في حدود معينة) بالحقيقة المُطلقة. ان الحقيقة المُطلقة والنسبية وجهان لا ينفصلان عن الحقيقة الموضوعية. وشرط وحدتهما هو نسبية حدود الحقيقة المُطلقة، وهذه النسبية لا يمكن أن تتحدد عادةً بموثوقية مُطلقة بسبب تنوع الظروف الذي لا ينضب، حيث أن التغيرات المُحتملة في هذه الظروف يمكن التنبؤ بها جزئياً فقط. ومع ذلك، كما أكد لينين، فان "التفكير البشري بحكم طبيعته يستطيع أن يُعطينا هو يُعطينا الحقيقة المُطلقة التي تتكون من مُجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العبم تُضيف ذرات جديدة الى مُجمل الحقيقة المُطلقة هذا"(38).
ان كلاسيكيي الماركسية لا يعالجون الحقيقة المُطلقة على أنها شيء غير عادي يتجاوز حدود المعرفة التاريخية والمحدودة. الحقيقة المُطلقة، كمحتوىً محدد وكتحقيق لأعلى مراحل المعرفة، لا تُستثنى من عملية تطور المعرفة. بل على العكس، فان حقيقة وجود حقيقة موضوعية مُطلقة في العلم هي ضمانة ابستمولوجية لمزيد من التطور في المعرفة، بما في ذلك تطور الحقيقة المُطلقة.
بالطبع، الحقائق المُطلقة موجودة: انها تُعيّن الحقائق Facts الفردية التي لم يعد يمكن للتطور اللاحق تغيير اي شيء فيها. ان مفهوم التطور غير قابل للتطبيق على مثل هذا النوع من الحقيقة (يُقدم لينين على سبيل المثال: توفي نابليون في الخامس من أيار 1821)، لان مثل هذه الحقيقة Fact لم تخضع لعملية التطور. ومع ذلك، هناك حقائق مُطلقة لا تتعلق بالحقائق Facts الفردية وحسب، بل بالحقائق الخاصة والعامة ايضاً. وهكذا، فان مفهوم السببية، الذي خضع لتغيرات كبيرة على مدى سنوات طويلة من تطور المعرفة، سيستمر بلا شك في التغير ويمتلئ بمحتوىً جديد، ومع ذلك، عند اجمالنا لتاريخ المعرفة وتنوع أشكال الممارسة سنقول أن السببية هي علاقة موضوعية عالمية بين الأشياء. بالطبع، يجب أن يوضع في الاعتبار أن السببية "ليست سوى جزء صغير من علاقة كونية، ولكن (اذا قمنا باضافة مادية) فهي ليست جزءاً من علاقة ذاتية، بل موضوعية)"(39). يجب أن نقول، في ضوء هذه التحديدات الدياليكتيكية، أن وجود السببية هو حقيقة مُطلقة. اذا كان على هذا التأكيد أن يبدو تافهاً لأي شخص، فسيتم تذكيره بأحد أبرز ممثلي الفلسفة البرجوازية في القرن العشرين، لودفيغ فيتغنشتاين: "الايمان بالعلاقة السببية هو تحيّز"(40). ليس من الصعب أن نرى أن فيتغنشتاين لم يكن يُناضل ضد الايمان، ولكن ضد الاعتراف بالسببية الموضوعية الموجودة بشكلٍ مُستقلٍ عن المعرفة. وبالتالي، لم يُظهر التاريخ الانساني بأكمله مقولة الحقيقة المُطلقة وحسب، بل ومقولة الحقيقة المطلقة الواقعية، التي وضعتها المثالية الحديثة موضع الشك. بالاضافة الى ذلك، فان الحقيقة نفسها، كما قلنا في مقالتنا الأولى، تُحولها المثالية المُعاصرة الى مفهومٍ زائف، الى احدى تنويعات المُعتقدات وتجعل منها اسطورةً ابستمولوجية. ليست هناك حاجة لاثبات أن هذا الرفض الصارم للحقيقة في معرفتنا والمُحاط بتأكيدات كثيرة، والذي يحجب قلب المسألة وكل ادراك منطقي يُمكن تصوره، هو في الأساس ظاهرة ايديولوجية على كل مستوىً من مستويات تطور معرفتنا. المثالية الابستمولوجية الحديثة هي جزء لا يتجزأ من ايديولوجيا البرجوازية الامبريالية، المستعدة لفعل اي شيء في نضالها ضد الماركسية اللينينية، بما في ذلك انكار قيمة الحقيقة لأي معرفة.
في حين أكد ديكارت على ضرورة الشك المنهجي من أجل ارساء اساس لا يتزعزع للمعرفة العلمية، يحاول الفلاسفة البرجوازيون الحديثون، على عكس أسلافهم العباقرة، اثبات أنه لا يمكن أن يوجد أي شيء ثابت أو مستقر أو اساس حقيقي للمعرفة والعلم. بالطبع، يُعتَبَر هذا التأكيد العدمي بالنسبة لهم صحيحاً تماماً. هذا هو المنطق المُفارق للشكية الفلسفية، والتي تُصرّح بداهةً بعدم صحة اي تصريح نظري، على افتراض أن هذا الموقف يسمح له بتجنب ضرورة اظهار قيمة حقيقة التأكيد، على الرغم من أن هذا الموقف غير صحيح بالمرة.
ان أحدث تطور برجوازي لمفهوم الحقيقة طوال القرن العشرين مفيد ايضاً. في حين اختزل البراغماتيين في بداية القرن العشرين مفهوم الحقيقة الى المنفعة، والذي ظل تفسيره واسعاً وغامضاً، ولم يجرؤوا على رفض الضرورة الابستمولوجية لهذا المفهوم بشكلٍ مباشر، فان أتباع "العقلانية النقدية" في الوقت الحاضر (على الرغم من تحديداتهم وتعريفاتهم الاصطلاحية) قد انفصلوا عن مفهوم الحقيقة، ورفضوه كمفهومٍ دوغمائي لا يتوافق مع العلم الحقيقي. على النقيض من الالغاء العَدَمي المثالي لمفهوم الحقيقة، تُظهر الفلسفة الماركسية التي أرست مبدأ النسبية الدياليكتيكية لكل المعرفة، ان هذه النسبية هي تعبير ضروري عن "المعرفة الانسانية الحقيقية، الشديدة الحيوية، المُثمرة، القوية، الكلية الجبروت، الموضوعية، المُطلقة"(41).

1- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص305
2- مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المُكونة الثلاثة، فلاديمير لينين، من مُختارات ماركس وآنجلز في أربعة مُجلدات، المُجلد الأول، دار التقدم موسكو، 1975، ص30.
3- الأجور والأسعار والأرباح، كارل ماركس، دار التقدم موسكو، ص46.
4- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص154
5- ضد دوهرينغ، فريدريك انجلز، دار التقدم موسكو، 1984، ص103
6- نفس المصدر.
7- G. W. F. Hegel, Logika. Soch. Moscow, 1930. Vol. 1, p. 51
8- Ibid., p. 50
9- مباحث منطقية-مقدمات في المنطق المحض في ثلاث أجزاء، الكتاب الأول، هوسرل، ترجمة موسى وهبه، المركز الثقافي العربي 2010، ص154.
أ- يستخدم موسى وهبة مُصطلح (معيشات واعية) في الكتاب الذي يُترجمه، واستبدلتها بـ (خبرات واعية) هنا، لانها أقرب للفهم عندما نرى الكلمة المقابلة لها في نسخة الكتاب الانجليزية (Conscious Experiences). انه ايضاً يستخدم مُصطلح (فوق الأمبيرية ) الذي استبدلته هنا بـ(ما فوق العيانية)، الذي تُقابله الكلمة الانجليزية Supraempirical . النص الانجليزي في كتاب:
Logical Investigations, Vol1, Edmund Husserl, Translated By J. N. Findlay from the Second German Edition of Logische Untersuchungen, International Library of Philosophy, P85.
10- مباحث منطقية-مقدمات في المنطق المحض في ثلاث أجزاء، الكتاب الأول، هوسرل، ترجمة موسى وهبه، المركز الثقافي العربي 2010، ص155.
11- نفس المصدر، ص109
12- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص136
13- دفاتر عن الدياليكتيك، فلاديمير لينين، دار الحقيقة بيروت، 1988، ص120
14- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص136
15- لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، فريدريك انجلز، دار روافد للنشر والتوزيع، 2014، ص68
16- Yu. R. Ashby, Vvedenie v kibernetiku. Moscow, 1959, p. 150
17- K. Marx and F. Engels, op. cit., vol. 20, p. 14
18- المختارات في 10 مجلدات، فلاديمير لينين، المجلد السادس، دار التقدم موسكو 1977، ص71- مقالة (بصدد كُرّاس يونيوس).
19- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص305-306
20- N. G. Chernyshevskii, Poln. sobr. soch., Moscow, 1947, Vol 3, pp. 207-208.
21- لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، فريدريك انجلز، دار روافد للنشر والتوزيع، 2014، ص55
22- المختارات في 10 مجلدات، فلاديمير لينين، المجلد التاسع، دار التقدم موسكو، 1978، ص483.- كُتيب، مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية.
23- Ibid., vol. 3, p. 14
24- Ibid., vol. 36, pp. 11-12.
يكتب لينين في مكانٍ آخر فيما يتعلق بمسألة حتمية انتصار الثورة الاشتراكية على نطاقٍ عالمي: "هذه حقيقة اذا أخذنا في الاعتبار المسار الصحيح والشاق لانتصار الثورة الاشتراكية، حتى النهاية. هذه حقيقة فلسفية تاريخية لا جدال فيها اذا أخذنا في الاعتبار (عصر الثورة الاشتراكية) ككل. ولكن تُصبح اية حقيقة مُجردة عبارةً جوفاء لو طبقناها على اي وضع ملموس.
Lenin, op. cit., vol. 35, p. 396
25- دياليكتيك الطبيعة، فريدريك انجلز، ترجمة توفيق سلوم، دار الفارابي 1988، ص225-226
26- دفاتر عن الدياليكتيك، فلاديمير لينين، دار الحقيقة بيروت، 1988، ص220
27- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص361
28- يكتب ماكس بلانك "ليس هناك ما هو أعظم خطأً من التعبير الأحمق "كل شيء نسبي"، وهذا خاطئ حتى في الفيزياء نفسها. ان جميع الثوابت الكونية، مثل الككُتلة أو شحنة الالكترون او البروتون أو الشُحنة الأولية هي قيم مُطلقة (M. Planck, Izbrannye trudy. Moscow, 1975, p. 599). بعد هذا بفترة يُلاحظ بلانك "لا يمكن تعريف أي مفهوم، ولا يمكن بناء نظرية واحدة، بدون فرضية وجود القِيَم المُطلقة. (Ibid., pp. 599-600).
29- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص153
30- K. Marx and F. Engels, op. cit., vol. 1, p. 379
Marx and Engels, Collected Works Vol 3, Progress Publishers, 1975, P142.
31- Ibid., vol. 1, p. 381
Marx and Engels, Collected Works Vol 3, Progress Publishers, 1975, P144
32- لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، فريدريك انجلز، دار روافد للنشر والتوزيع، 2014، ص16
33- نفس المصدر، ص15
34- نفس المصدر، ص21
35- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص162
36- لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، فريدريك انجلز، دار روافد للنشر والتوزيع، 2014، ص20
37- V. I. Lenin, op. cit., vol. 37, p. 336
38- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص151
39- V. I. Lenin, op. cit., vol. 29, p. 144
40- L. Wittgenstein, Logiko-filosofskii traktat. Moscow1958, p. 64
41- المادية ومذهب النقد التجريبي، فلاديمير لينين، دار التقدم موسكو، 1981، ص427

ترجمة لمقالة:
Some Problems of the Scietific-Philosophical Theory of Truth (2).Truth as a Unity of the Objectivity and Relativity of Knowledge, Theodor Oizerman, Soviet Studies in Philosophy, 21:4, 33-58, 1983



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في نقد نظرية نعوم تشومسكي اللغوية
- أزمة الاتجاه التطوري في السوسيولوجيا، والاتجاهات المعادية لل ...
- بعض المسائل العلمية-الفلسفية لنظرية الحقيقة. القسم الأول: ال ...
- الدراسات الاجتماعية التجريبية في القرن التاسع عشر
- نقد الأسس النظرية ل-سوسيولوجيا المعرفة- البرجوازية
- السوسيولوجيا السيكولوجية على أبواب القرن العشرين
- الفلسفة والجماليات عند موريس ميرلوبونتي
- الاتجاه الطبيعاني في السوسيولوجيا على أبواب القرن العشرين
- مفهوم الفرد في أعمال البير كامو
- مفاهيم هربرت سبنسر السوسيولوجية
- سيكولوجيا شخصية التحقيق الذاتي في أعمال أبراهام ماسلو
- أوغست كونت ومنشأ السوسيولوجيا الوضعية
- من الفلسفة الاجتماعية الى السوسيولوجيا
- كيف نشأت الحياة؟
- الاتحاد السوفييتي: محاولة لتفنيد بعض جوانب التشويه السياسي ا ...
- الكذب المتعلق بتاريخ الاتحاد السوفييتي
- تعريف حول الكسندر اوبارين، والانتقال من المادة اللاحية الى ا ...
- الفلسفة، العلم والوعي اليومي
- الأيديولوجيا والوهم
- حول مؤتمر التطوير التربوي، والعملية التربوية التعليمية ما بي ...


المزيد.....




- نيويورك.. الناجون من حصار لينينغراد يدينون توجه واشنطن لإحيا ...
- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - بعض المسائل العلمية-الفلسفية لنظرية الحقيقة. القسم الثاني: الحقيقة كوحدة للموضوعية والنسبية في المعرفة