أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليد البرنوصي - لا تُعر الكتب أبدًا














المزيد.....

لا تُعر الكتب أبدًا


خليد البرنوصي

الحوار المتمدن-العدد: 6571 - 2020 / 5 / 22 - 00:51
المحور: الادب والفن
    


"لا تُعر الكتب أبدًا، فلا أحد يرجعها، والكتب الوحيدة التي أحتفظ بها في مكتبتي هي الكتب التي أعارني إياها الآخرون."* ليس هناك من نصيحة أفضل وأجدى من هذه، لا شك أن صاحبها مرت عليه تجارب عديدة، ليختصر الأمر في هذا الدرس البليغ. ومع أني افتتنت بها، فعلى غير عادتي في مقاسمة النصائح المهمة مع معارفي وأصدقائي، فإن هذه بالذات أخفيها عنهم. خططتها بالحرف العثماني، ووضعتها في إطار مذهب خلف أحد أبواب خزانة كتبي. صارت تنبيها محسوسا لي عند كل حالة سهو ما، قد أفقد بسببها واحدا من كتبي، بالإضافة أنها تشعرني بالطمأنينة حين أجد فيها مسوغا حكيما لما أحتفظ به من كتب غيري. إنها ما يشبه صك براءة مع نفسي لنفسي.

صار لي مع القراءة والكتب علاقة وطيدة. ها أنا أتوفر على مكتبة تليق بشخصي، وبطموحاتي التي لا حدود لها. تشكلت عبر سنين، وفضاءات مختلفة. أتذكر من بدايات عشقي للحرف أن طلبت من أستاذي بعض الكتب، خاصة وأنه كان يشجعنا كثيرا على البحث والقراءة. دعاني مرة بعد ألحاح مني إلى مكتبته، وقال: لك أن تختار ما تشاء، حين تنهي قراءتها، يمكن لك أن تستعير أخرى. أخذت بضعة كتب قيمة، وانصرفت على أمل أن أعود سريعا.
ولم أعد أبدا...

مسارات الدراسة قادتني بعيدا، لم يكن أمامي وأنا أحمل معي رزم الكتب حيثما ارتحلت من مسكن إلى أخر، إلا أن أسجل في أعلى الصفحة الأولى من الكتب إسمي الثلاثي، وأدمغ أسفله توقيعي. توقيعي الذي تعبت من صباي على رسمه على الطاولات وأغلفة الدفاتر، حتى صرت مدمن على خطه الآن على أي بياض تصله أصابعي بأريحية، ما عدا بياض الشيك فلا زال يرعبني.

أيام الجامعة كنت شغوفا بالكتب. أقرأ كل ما يصل يدي من عند رفاقي وصديقاتي. وكان كل كتاب جديد لا يفارقني إلا وقد ملأت معظم فقراته سطورا، وبالهوامش على حواف الصفحات، حتى يكاد متنه يغيب بين تعليقاتي. وما أن أقترب من إنهاء قراءته، وبدون شعور أدمغه بتوقيعي، فيصير كما لو أنه جزء مني، ويحوي قدرا من كينونتي.
إنه لي وجزء مني، فكيف لي أن أتخلى عن بعضي.

لا أحد يمكن له أن يقنعني بغير ذلك، صديقاتي كن أكثر تفهما للوضع .
- لا بأس.. سأخذ نسخة أخرى، دع هذه لك.
في الغالب الى هنا ينتهي أي جدال مع الصديقات، إنهن لطيفات حقا، وأكثر تفهما.

بالنسبة لرفاقي، وإن كان الوضع يختلف قليلا، وحدث أن احْتدّ الجدال، والأخذ والرد، فغالبا ما ينتهي الأمر من جهتهم بقسم على أن لا يعيرو لي أي كتاب، ومن جهتي بمكسب لي أسر به كثيرا. كتاب جديد يضاف إلى مكتبتي.

لا شيء أغلى من أن تكسب كتابا. أوليس "خير جليس في الزمان كتاب".*

لاحقا في العمل مع رفاقي وزملائي، بسرعة تأقلموا مع طباعي، وصفها أحدهم مرة دون خجل بالسيئة. وصاروا يأخذون حذرا واضحا من إعارة الكتب لي، صحيح أني تهذبت كثيرا، وحاولت أن أتجاوز هذا الوضع المربك لي ولهم، فاهتدينا الى ما يشبه المقايضة، كتاب مقابل كتاب. ولكن لا أخفي عليكم أني كنت ذكيا في إنهاء ما يشبه تلك التجارة البدائية بمكاسب لي مهما بدت لهم بسيطة، تتعلق تحديدا في أهمية تلك الكتب التي أفوز بها، في تجويد مهامي الوظيفية وتعزيزها، أو بقيمتها المعرفية. لقد كنت تحت تأثير الطباع السيئة هذه، خبيرا في تعظيم قيمة الكتاب الذي ارتأيته أضحية للحصول على غنيمة أفضل، وأجعل صاحبها يتخلص منها وهو في كامل سعادته.

هذه التجربة التي وصفها أحد أصدقائي باللاأخلاقية والبعيدة عن الروح الإيجابية، كنت أحاول دائما وضعها في سياقاها، وفهم دوافعها، التي غالبا ما كنت أستسيغها، لأصل إلى ما يشبه رضى نفسي عن تصرفاتي.

يحدث أحيانا إن صادفت كتابا عندي، وتذكرت وقائع مؤلمة حدثت بمناسبة حصولي عليه مثل قطع صداقات كانت جميلة، أو خصومات عنيفة أو شابها سب أو شتم. في حالات كمثل هذه، أعترف أن ندما حادا يعتريني، لكنه ما يلبث أن يتبدد ليتحول فجأة إلى غضب جارف على الذين تمكنوا من كتبي إعارة، فخسرتها.
ورغم ما كان يحدث من مشاحنات فإن الخسارة بالنسبة لي واضحة وبسيطة: أن تخسر صديقا أفضل من أن تخسر كتابا.

مرة دعاني زميل، جلسنا في الصالون، كان واسعا، حسدته على نوع الأثاث الذي ينم عن ذوق رفيع لصاحبه، كما وضع رفوفا أنيقة على جنباته ليشكل مكتبة رائعة وغنية، كم تمنيت أن يكون لي مثلها. إنه محراب قراءة فعلا.
ما إن بدأت أتصفح بعض العناوين حتى انتبهت إلى لافتة كتب عليها بخط جميل:

"ألا يا مُستعير الكُتْبِ دعني
فإن إعارتي للكُتبِ عارُ
محبوبي من الدنيا كتاب
وهل أبصرتَ محبوباً يعارُ"*

"يا بن الكلب" قلت في نفسي، شاغلته حتى أخذت كتابا أثارني عنوانه "تاريخ القراءة"**، دسسته تحت معطفي وراء ظهري، انتشيت فعلا، وأنا أتأكد من أنه أخذ مكانا آمنا.
وضعته في رف يليق به بمكتبتي، إنها مكتبة حقا، ولكل كتاب تاريخ فريد في طريقه ليصل إلى هنا، حتى صار لي."إن كل هذه الكتب هي ملكي، إن مجرد وجودها يبدو وكأنه يغدق علينا الحكمة حتى دون قراءتها"*

لا أنكر أن اللحظة الوحيدة التي احسست فيها ما يشبه العار، وتمنيت لو شقت الارض وابتلعتني وكتبي، هي مناسبة زيارتي إلى برشلونة حيث قادتني خطواتي الى مكتبة «دير سان بدرو»، يوما واحد قبل إعلان حالة الطوارئ الصحية. وأنا داخل أروقتها بدت لي لافتة مميزة: "من يسرق كتاباً، أو يحتفظ بكتبٍ كان قد استعارها، عسى أن يتحول الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يُصاب بشلل ارتجافي قاهر وأن تُشل جميع أطرافه، عسى أن يصرخ عالياً طالباً الرحمة وعسى ألا تنقطع آلامه إلى أن يتحول إلى رمّة متفسخة، وأن تعشعش الديدان في أحشائه مثل دود الموتى الذي لا يفنى، و عندما يمثل أمام يوم الدين لتلتهمْه نار جهنم إلى الأبد."*
وأنا أقرأ، تحسست أطرافي كانت ترتجف.
___________________________________

* مقتبسة من نصوص قرأتها، ولا أنوي نسبها لأصحابها.
** عنوان كتاب ل آلبرتو مانغويل.



#خليد_البرنوصي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثْسافْث
- الرؤية


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليد البرنوصي - لا تُعر الكتب أبدًا