أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - داود السلمان - ذكريات بطعم التعاسة(1)














المزيد.....

ذكريات بطعم التعاسة(1)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 6569 - 2020 / 5 / 20 - 15:36
المحور: سيرة ذاتية
    


السنوات الاربعة الاخيرة من سبعينيات القرن الماضي، كان تلفزيون الاسود والابيض له هيبة كبيرة، وحضور مجيد، على مدينتي الفقيرة (الثورة)، لا سيما على عقليتنا نحن اليافعين يومذاك. فتلفزيون بغداد كان فيه قناتان لا اكثر، هما: القناة التاسعة والقناة السابعة، أما البرامج التي تعرضهما تلك القناتين فهي برامج محدودة جدًا، إلّا أنها لا تخلُ من متعة، لكن الافضل والاهم هو بثها للأفلام العربية يومذاك، والتي تعرض بشكل منتظم، وخصوصًا عصر يوم الجمعة من كل اسبوع وفي تمام الساعة الرابعة بعد الظهر، وهو فلم الاسبوعي الذي ينتظره الجميع كضيفٍ عزيز، ولا اعتقد أن فردًا بغدادي لم يكن يتحرق شوقا لتلك الفترة الذهبية، حيث المتعة الحقيقية التي تدغدغ شغاف القلب، وتعزف على اوتار الفؤاد انغاما طروبة.
الامر الذي أصبح لدى الناس كعادة مستديمة لا يُرجى شفاؤها، لكنها عادة محببة، لا تجد من يتذمر منها أو يستهجنها، بل الكل يفتخر أنه يتابع تلك الافلام ليقتبس منها المتعة والمرح، كأفلام يوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وفريد شوقي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وتحية كاريوكا ونجلاء وسعاد حسني، وافلام اسماعيل ياسين ومحمد عوض، والقائمة طويلة جدًا.
كانت أعمارنا تتراوح، ما بين عشر سنوات حتى أربعة عشر سنة، الى أن حلّ العام الذي دخلت فيه الحرب العراقية - الايرانية، تلك الحرب الضروس التي دمرت العراق كما تدمر النيران حقول الحنطة ايام قطفها، وبدأ حينها المجتمع العراقي يتقوّض ويتفكك، رويدًا رويدًا، وتتغير طبيعة الفرد العراقي بشكل سلبي، وبالتدريج فقد كثير من مقوماته الاجتماعية والانسانية معاً، لأن الحروب وبقسوتها عادة ما تُأثر على نفسية الانسان اينما وُجد، اذ يصبح حاد المزاج قاس الطبع، وتجده أحياناً يتحدث مع نفسه بصوت عال كأنه مجنون، او مصاب بلوثة عقلية.. حتى أن خلال الحربين العالميتين عندما انتهت ووضعت اوزارها، قد خلفت آلاف الضحايا من المصابين بمختلف الامراض العقلية والنفسية، فضلا عن المعاقين والاموات الذين طحنتهم الحربين بفكيها، وهذا هو ديدن الحروب، وهذا هو شرّ النزاعات والصراعات المختلفة لدى مختلف شعوب العالم.
بدأت الحرب عام 1982، وكان عمري لا يتجاوز الرابعة عشرة. أما أسباب هذه الحرب فلستُ أدري، على وجه الدقة واليقين، رغم أني اليوم في عقدي السادس، لا زلت أجهل الاسباب الكامنة، هل العراق هو الذي اطلق الشرارة الاولى، أم ايران هي التي بدأت تتحرش بالعراق خلال قصفها للحدود والمخافر؟. فهذا سر لم يتم كشفه بعد، بحسب وجهة نظري القاصرة.
في هذه الفترة من تاريخ العراق العصيب، كنت في مرحلة المتوسطة، وكنت أداوم في مدرسة مسائية يطلق عليها "ثانوية البحتري المسائية للبنين" (مُحيت فيما بعد هذه المدرسة واصبحت اطلال ينعق على ابوابها الغراب).
كنت في العشرة الاوائل!، لا من الشُطار الذين يشار اليهم بالبنان، بل من الكسالى!، فالحق يجب أن يقال، وفق المبدأ القائل (قل الحق حتى أنْ كان على نفسك). إذ كنت ابغض الفيزياء والكيمياء والهندسة والجبر، لأنّ هذه المواد جافة وعسيرة الهضم، كنت أحب اللغة العربية، والمطالعة والنصوص والمادة الاسلامية، كنت أحصل على أعلى درجة في هذه المواد، أما بقية المواد الاخرى فاحصل على اقل درجة بامتياز!، أما دروس اللغة الانكليزية فحدث ولا حرج، فلم أتذكر أنني أخذت أعلى من خمسين في مئة، وبشق الانفس. وهذا هو السر الذي جعلني اميل الى الدراسة المسائية، فضلا عن جائحة الفقر التي تعصف بأسرتي، ولو كنت شاطرًا لعدلت الى الدوام الصباحي، حالي حال من كانوا بعمري يومذاك، ولأن الحالة الاقتصادية لأسرتي كانت محرجة، وعلى حافة الهاوية في مستنقع العوز والحرمان، حيث كنا لا نأكل سوى وجبتين في اليوم، فوالدي يعمل بقال صغير له بسطة متواضعة على الرصيف لبيع الخضروات والفواكه الرخيصة، (رحمك الله يا ابي كم اتعبتك هذه الحياة التعسة) لا يربح منها سوى فُتات تسد فقط رمق يوم واحد، وفي اليوم الذي يعود به الاب الى الاسرة خالي الوفاض، صفر اليدين، فتقوم قيامة الاسرة، واذكر كثيرًا من المرات أرقد للمنام بدون عشاء، واصحو على امعائي وهي تتصارع كصراع الديّكة.
وحينما كنت اذهب الى المدرسة لا يعطيني أبي مصروفا كعادة الطلبة الذين يتباهون بأن احدهم قد اعطاه اباه زيادة في المصروف، لأنه حصل على درجة عالية في امتحان نصف السنة، والاحاديث كثيرة في هذا الاطار.
وحتى حينما ينتهي الدرس ويقرع الجرس لإعلان الفرصة، ويتجه الطلاب الى الحانوت لتناول العنبة والصمون وشراء بعض الحلويات، كنت انزوي في ركن من أركان المدرسة واصوّب نظري باتجاه الطلاب وهم يقضمون الصمون مع العنبة بشهية وتلذذ، بينما كنت اتحسّر من الداخل، كأنني اندب حظي العاثر والعن الساعة التي وُلدت فيها في العراق ومن ابوين فقيرين، كتب عليهم الشقاء فلحقتني سهام شقائهم، وسرق مني كنز طفولتي. والحقيقة أنه ليس أنا الوحيد الذي كان يذهب الى المدرسة من دون مصروف، بل كان كثيرًا من زملائي يشاركوني المحنة، حيث العزاء واحد، لكننا جميعًا كنا نخفي ذلك، ولم يبح أحدنا للآخر، لكن نظرات العيون تفضح الامر وتكشف السر الدفين.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات بطعم التعاسة(2)
- الشيخ عبد الرازق والقول بتفلسف ابن تيمية2/ 2
- الشيخ عبد الرازق والقول بتفلسف ابن تيمية1/ 2
- الختان كما يراه فرويد
- فلسفة الفن عند زكي نجيب محمود2/ 2
- فلسفة الفن عند زكي نجيب محمود1/ 2
- جريمة الاغتصاب: تحليل سيكولوجي2/ 2
- جريمة الاغتصاب: تحليل سيكولوجي 1 /2
- أبن خلدون ونبذ الفلسفة(1)
- (فجر الاسلام) وموضوع الزرادشتية(2)
- (فجر الاسلام) وموضوع الزرادشتية(1)
- التصوّف في نظر العقاد
- هل مكيافيللي يؤمن بالحظ؟
- علي الوردي وحديث المتصوّفة
- ظاهرة الانتحار: تحليل ترانسندنتالي
- كورونا الفتاوى تقتُل فيلسوف الاشراق
- تائهون بأحلامٍ منفية
- كوفيد - 19 : تحليل ترانسنتدالي
- السعداوي: الأنثى هي الأصل 1/ 2
- السعداوي: الأنثى هي الأصل 2/ 2


المزيد.....




- لافروف يتحدث عن المقترحات الدولية حول المساعدة في التحقيق به ...
- لتجنب الخرف.. احذر 3 عوامل تؤثر على -نقطة ضعف- الدماغ
- ماذا نعرف عن المشتبه بهم في هجوم موسكو؟
- البابا فرنسيس يغسل ويقبل أقدام 12 سجينة في طقس -خميس العهد- ...
- لجنة التحقيق الروسية: تلقينا أدلة على وجود صلات بين إرهابيي ...
- لجنة التحقيق الروسية.. ثبوت التورط الأوكراني بهجوم كروكوس
- الجزائر تعين قنصلين جديدين في وجدة والدار البيضاء المغربيتين ...
- استمرار غارات الاحتلال والاشتباكات بمحيط مجمع الشفاء لليوم ا ...
- حماس تطالب بآلية تنفيذية دولية لضمان إدخال المساعدات لغزة
- لم يتمالك دموعه.. غزي مصاب يناشد لإخراج والده المحاصر قرب -ا ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - داود السلمان - ذكريات بطعم التعاسة(1)