أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أشواق عباس - الإصلاح في العالم العربي وإشكالية التكامل العقلاني للمصالح القومية والدولية- جزء3















المزيد.....


الإصلاح في العالم العربي وإشكالية التكامل العقلاني للمصالح القومية والدولية- جزء3


أشواق عباس

الحوار المتمدن-العدد: 1585 - 2006 / 6 / 18 - 11:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمات الإصلاح في العالم العربي
إنَّ إحدى بديهيات الفكر السياسي العلمي المعاصر تكمن في الإقرار بواقع الترابط الفعلي، والتأثير المتبادل بين دول العالم المعاصر وثقافاته. وهو ترابط له مقدماته التاريخية الخاصة، التي تجعل من العولمة المعاصرة استمراراً له. وبالتالي، فإنَّ التغيرات الكبرى في أية منطقة من مناطق العالم مهما صغر حجمها لم تعد عملية منعزلة. على العكس! إذ يمكننا القول، بأنَّ الأحداث المحلية والعالمية تسير في فلك واحد، هو فلك الإدراك المتزايد لواقعية الترابط بين الأحداث والدول. وهذا الإدراك أخذ يتغلغل بصورة متزايد في الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي للدول والنخب السياسية والفكرية والقوى الاجتماعية في كل مكان. ومنه بدأت تبرز مختلف مدارس الرؤى الإستراتيجية، التي تكشف بدورها عن أنَّ تضاربها وصراعها واختلافها وتناقضها لا ينفي، بل يؤكد انتماءها إلى عالم واحد. هذا الواقع بدأ يفرض بدوره إدراك الحقيقة التي أخذت ترتقي إلى مصاف البديهة، والقائلة، باستحالة تحقيق المصالح الخاصة (للدولة والقومية) دون الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة المجريات العالمية والسياسية الدولية. وهي النتيجة التي بدأت تفرض نفسها على صياغة المواقف الإستراتيجية للدول ومصالحها الجيوسياسية. ولا يغيّر من هذه الحقيقة الطابع العرضي والمتغير للمصالح. على العكس، إنّها تؤيد هذا الاتجاه وذلك لأنَّ هذه المصالح عادةًَ ما تسير ضمن الأبعاد الاستراتيجية للدول (الكبرى والصغرى) وتستجيب لها. وضمن هذا السياق، يُمكن فهم ظهور "مطلب" الإصلاح ومشاريعه بالنسبة للعالم العربي من جانب مختلف القوى الكبرى، على أنّه جزء من تغيّر المصالح وثبات الإستراتيجية، بوصفها قوة فاعلة في السياسة الدولية. بعبارةٍ أخرى، إنَّ قضية الإصلاح التي يجري تداولها حالياً، وبالأخص ما يتعلق منها بالعالم العربي، هي جزء من استراتيجية المصالح المتراكمة في مجرى تغير العلاقات الدولية.
من هنا تبرز أهمية الدراسة العلمية لقضايا الفكرة الإصلاحية والأنظمة السياسية العربية وطبيعة أزماتها البنيوية، بوصفها حلقات مترابطة من أجل فهم مقدمات الإصلاح في العالم العربي المعاصر. وذلك لطبيعة ارتباط الفكرة الإصلاحية في التاريخ العربي الحديث بصيرورة الدولة العربية الحديثة. وهي صيرورة أثرت بشكل كبير على طبيعة الأنظمة السياسية العربية وأزماتها الكبرى الحالية. ففيها تظهر نتائج المرحلة التاريخية السابقة، أي عدم تطبيق وتحقيق المشاريع المتنوعة والمفاهيم الأساسية للفكرة الإصلاحية الأولى كما طرحت في عصر النهضة. وفي هذا أيضاً تكمن إحدى مقدمات التدخل الأجنبي المعاصر، مما جعل ويجعل من قضية الإصلاح إشكالية دولية، وجزءاً من صراع المصالح على النطاق الدولي.


الفكرة الإصلاحية وإشكالية النهضة في التاريخ العربي الحديث.
خصوصية الفكرة النهضوية الحديثة.
يعدُّ الإصلاح صفة ملازمة لثقافات الأمم، والفكرة الإصلاحية هي الصيغة النظرية التي عادةً ما تلازم مراحل الصعود، أو الانعطافات الحادة في تاريخها. ولا تشذ الفكرة الإصلاحية العربية عن هذه القاعدة العامة، وبما أنّه لكل مرحلة خصوصيتها في هذا المجال، فعادةً ما تُربط دراستها في التاريخ العربي المعاصر بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر. فهي المرحلة التي تميزت بتراكم البوادر الأولى للانتقال من السيطرة العثمانية إلى الاستقلال الذاتي، وكذلك الانتقال من التقاليد الإقطاعية العثمانية والجمود الثقافي إلى التقاليد القومية (العربية) والتحديث والاحتكاك المباشر وغير المباشر بالثقافة الأوروبية المعاصرة.
لقد شكّل عصر النهضة العربية مرحلة تاريخية مهمة بالنسبة للعرب، نظراً لدوره الكبير والفاعل في تشكيل الوعي والتاريخ العربي المعاصرين. ففيه تبلورت للمرة الأولى ملامح ما يمكن دعوته بالمشروع الإصلاحي الكلي، أو العام للعالم العربي، فيما يتعلق بتذليل جموده الخاص وآفاق خروجه منه، والوسائل العامة والضرورية لمواجهة الغرب أو تحديه أو اللحاق به. وهي مكونات كانت تتشكل في ظل ظروف معقدة، ولكنها متراكمة في مجرى تحلل الإمبراطورية العثمانية من جهة، وفي مجرى تبلور الكينونة العربية الحديثة من جهة أخرى. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى هذا "المشروع العام" على أنّه محاولة كانت ترمي إلى تحقيق تطور العرب في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية كافة. وفي هذا "المشروع" يمكننا رؤية الملامح العامة والخاصة أيضاً لرغبة العرب بإصلاح أحوالهم والنهوض بها. وهي ملامح تكونت مع تنامي الإدراك المتنوع لقيمة الإصلاح بدءاً من فترة التنظيمات العثمانية، ومروراً بمرحلة السيطرة الأوربية وتجزئتها للعالم العربي، واستكمالاً بمرحلة النهوض الوطني والنضال من أجل نيل الاستقلال. ففي هذه المراحل التاريخية الكبرى والفاصلة في تاريخ العرب المعاصر، كانت تتراكم التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية. وفي مجراها كان يتراكم أيضاً إدراك قيمة وأهمية الفكرة الإصلاحية.
إنَّ التجربة الذاتية والاحتكاك بالآخر عرّف العرب بأنَّ النهضة هي طريقهم إلى التقدم، وهو طريق قادر على تهيئة الظروف المناسبة والضرورية للتخلص من المعوقات والقيود التي تعرقل تقدم المجتمع. ومنذ ذلك الوقت بدأ تأسيس خطاب النهضة. وهو خطاب يمكن الاتفاق مع الصيغة التي تصوره، على أنّه "نص أنتجه المثقف العربي الحديث منذ الربع الثاني للقرن التاسع عشر إثر صدمة الاحتكاك بالغرب، وإدراك طبيعة الفرق بين التأخر والتقدم". فقد كانت موضوعاته الأساسية تدور حول مطالب التقدم والارتقاء، وإنماء الشعور القومي وإحياء اللغة القومية ونشر تراث الأقدمين. أي كل ما كان يحمل في أعماقه تراكم الفكرة الداعية للتحرر من السيطرة التركية ومواجهة النزعة الطورانية، إضافةً إلى قضايا الحرية والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والترقي في مواجهة الانحطاط والتأخر، ثم الوحدة في مواجهة التجزئة. ومن الممكن إيجاز أبعاد هذا المشروع كما فكر فيه رواده الأوائل، وكما استمر موضوعاً للتفكير خلال القرن العشرين، بوصفه نزوعاً وطموحاً وعملاً من أجل الوحدة والتقدم بتعبيرنا اليوم، أو الاتحاد والترقي بتعبير الأمس.
إنَّ تعريف النهضة يتيح لنا معرفة مفهومها، والقدرة على تمييزها عن بقية المفاهيم التي تقترب منها كالحداثة والتحديث والإصلاح والتنمية والتقدم. فالنهضة في اللغة هي "من نهض. والنهوض هو البراح من الموضع والقيام عنه، نهض وينهض نهضاً ونهوضاً وأنتهض أي قام. والنهضة الطاقة والقوة ". ورغم صعوبة تحديد زمن ظهور مصطلح النهضة بمعناه المعاصر في الخطاب العربي، إلا أنَّ الكثيرين يذهبون للقول أنّه راج ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إذ نجد مادة نهض وبعض مشتقاتها مثل (نهوض) (ونهضة) تتردد على لسان كثيرين من الرواد أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. والغالب أنَّ هذه الألفاظ كانت تقترن بأضدادها كوسيلة لتحديد معناها، النهوض في مقابل السقوط، والنهضة في مقابل الانحطاط، وهو نفس المعنى اللغوي لهذه المادة.
أما النهضة بمفهومها الذاتي، فقد تباينت من حيث الحد والحقيقة بحسب فهم كل مفكر أو تيار لها. فبينما يذهب البعض إلى تعريفها على أنّها "هبة مجتمعية تسعى إلى إكساب الحضارة القومية قدرتها على إنتاج المعارف والمهارات في تعامل متكافئ مع الحضارات الأخرى"، يذهب آخرون إلى تعريفها بأنّها "نظرية الصعود من درجة إلى أعلى، أو هي إيصال العرب إلى مستوى الحضارة الكونية". أما النهضة بحسب ما ذهب إليه الجابري فتفيد معنيين: المعنى الأول وهو الولادة الجديدة، أي ظهور كينونة جديدة تحل محل الكينونة القديمة، أما المعنى الثاني فهو انتقال نفس الكينونة من حال القعود أو الجلوس إلى حال القيام.
لم يتم اختيار مصطلح النهضة في الخطاب الثقافي العربي بشكل اعتباطي، ولم يكن تفضيل رواد النهضة الأوائل لهذه الكلمة على كلمات أخرى مثل انبعاث وتجديد وغيرها تفضيلاً عشوائياً، بل كان وثيق الارتباط بالظروف والحاجة من وراء استعمالها. إذ لم تتبنَّ الثقافة العربية مفهوم Renaissance بالمعنى الأوروبي للكلمة، أي الولادة الجديدة أو الانبعاث الجديد، بل بمعنى النهوض لمقاومة التدخل الأوروبي والأجنبي، والذي يجب أن يكون في آنٍّ واحد قياماً وحركة. القيام بمعنى استجماع القوة والاستعداد، والحركة بمعنى مواجهة التهديد الخارجي، أي أنَّ النهضة لديهم هي صيرورة مستمرة باستمرار احتكاكهم بالغرب وتأثرهم به.
أما النهضة بمعنى التجديد، أو تحقيق ولادة جديدة في مجالات الفكر والفن والاقتصاد، وهو المعنى الأوروبي للكلمة، فإنّه لم يتناقض مع المعنى الأول بقدر ما أنّه مفهوم وجد مرجعيته في ثقافة أخرى. وهو الأمر الذي أفرز لاحقاً (بنتيجة اختلاف فهم المصطلح ومعانيه بين العرب والغرب) نتائج سلبية على صعيد الوعي العربي. ومما يجدر الانتباه إليه هنا أمران، أولهما أنَّ النهضة في قاموس الحداثة الأوروبية تعني الولادة الجديدة، وليس النهوض بمعنى القيام والحركة. ثانيهما أنَّ هذه الكلمة أصبحت منذ أوائل القرن التاسع عشر، وهو قرن الحداثة، عنواناً لحركة فكرية عاشتها أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قوامها العودة إلى أفكار وفنون العهدين اليوناني والروماني. بعبارةٍ أخرى، إذا كان مفهوم النهضة في خطاب الحداثة الأوروبية، يعني ولادة جديدة لأوروبا حصلت قبل أربعة قرون، فإنَّ معناها في الخطاب العربي كان ولا يزال رديفاً للطموح والقيام والنهوض فقط. وفي هذا أيضاً يكمن سر السؤال الذي يطرحه بعض الباحثين، عن الأسباب القائمة وراء سيادة وانتشار لفظة النهضة "في الخطاب العربي الحديث والمعاصر، بدل ألفاظ أخرى كلفظ الانبعاث أو التجديد". ففي حين يرى البعض أنَّ السبب الرئيس في ذلك هو أنَّ هذه التسمية المستعملة هي اصطلاح عرفته أوروبا بعد فترة طويلة من التخلف، ولعل هذا هو الداعي إلى توخي نفس التسمية لدى العرب باعتبار أنَّ النهضة تُعدُّ تجاوزاً لعصور الانحطاط المديدة. إضافةً لذلك، يمثل عصر النهضة من حيث تحديد بدايته ونهايته إشكالية تتعلق بها مسألتان. الأولى وهي مسألة الدافع إلى هذه النهضة، والثانية مسألة تأدية هذه النهضة للدور الذي أنيط بها، بمعنى تحقيق الإقلاع بالنسبة للعرب كي يتلافوا الفرق بينهم وبين الغرب المتقدم.
بشكلٍّ عام، اعتاد المؤرخون ربط بداية النهضة العربية بحملة نابليون على مصر، باعتبارها صدمة نبهت العرب إلى تخلفهم بالمقارنة مع محتليهم. لكن الكثير من الوقائع التاريخية تؤكد في المقابل أنّها كانت قد بدأت في الإمبراطورية العثمانية، وبالذات منذ عهد السلطان أحمد الثالث (1703-1730)، وخليفته محمود الأول (1730-1754)، واكتسبت زمن سليم الثالث (1789-1807) زخماً وقوةً كبيرين. ففي عهده تسلّلت مبادئ الثورة الفرنسية. ومن هنا يأتي اختلاف البعض حول تأثير الحملة الفرنسية على النهضة العربية، فثمة من يقول أنَّ الحملة كانت السبب الأهم، بينما يرى آخرون أنَّ السلاطين العثمانيين قد لعبوا أيضاً دوراً مهماً بالإضافة إلى أفكار الثورة الفرنسية. فالنهضة بحسب رأيهم كانت نتيجة لمراحل سبقت الحملة الفرنسية، فهذه الأخيرة ومحمد علي قد أثرا في صياغة مجراها. أما نقطة انطلاقها الأساسية فكانت انهيار الإمبراطورية العثمانية، وما ترتب عليها من ظروف جديدة رافقت قيام الثورات العربية المتعاقبة على الإمبراطورية العثمانية من جهة، وعلى الحملة الفرنسية من جهة أخرى. فرغبة العرب آنذاك (وهم يعدّون أكبر قومية عدداً وسعة أرض في الدولة العثمانية) بالتخلص من اضطهاد العثمانيين والأطماع الاستعمارية (الفرنسية والإنجليزية والروسية)، وشعورهم بمسؤوليتهم عن إعادة الازدهار الحضاري الذي عرفوه سابقاً، شكّل بمجموعه الأبعاد الأساسية للتفكير النظري والعملي النهضوي لتلك المرحلة.
ورغم الاختلاف حول تحديد زمن بداية النهضة، ومن هو المؤثر الأكثر فعالية فيها، إلا أنَّ حصيلة الوقائع والحقائق تشير إلى أنَّ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، كانت تحفل بحركة فكرية وسياسية قوية، أجمع أغلب الباحثين والمؤرخين على إطلاق اسم عصر النهضة عليها. وهي مرحلة ترتبط بمضمون النهضة، بوصفها المحصلة المنطقية لعملية التغيير التي تحدث إما من داخل المجتمع، كحدوث ابتكارات وتجديدات فيه، أو من خارجه كالاحتكاك بالثقافات الأخرى. ذلك يعني أنَّ النهضة تفترض وجود وتفاعل مؤثرين (الأنا والأخر). وهو تفاعل عادةً ما يؤدي توازن قواه، إلى تباين أشكال وأساليب النهضة. فهناك ما يمكن دعوته بأسلوب النهضة الذاتية، أي الأسلوب الذي تحدده عوامل داخلية بحتة تجعل المجتمع ينهض بذاته لذاته، حسب معاييره ومقاييسه ومقولاته وقيمه. وهناك ما يمكن دعوته بأسلوب النهضة المتأثرة بعوامل خارجية، أي النهضة التي يكون أسلوبها في الأغلب نتاجاً لتأثير ثقافات أجنبية، تعمل على إثارة الحمية، أو الرغبة فيه للنهوض والتقدم. وتأسيساً على ذلك يبرز السؤال الأهم هنا، وهو: هل حدثت النهضة في العالم العربي بصورة تلقائية أم لا؟ وما هي مقدماتها وأسبابها؟
لا يمكننا القول أنَّ عصر النهضة العربية كان نتاجاً لحراك داخلي، بقدر ما كان نتيجة لتأثير العامل الخارجي فيه. فالمحرض الأساسي للعرب كان العامل الأوروبي. أما العامل الذاتي فتمثل بشكل أساسي بافتقاد الدولة العربية وتاريخها السياسي، وتفكك المجتمع وانهيار الثقافة، والابتعاد شبه التام عن تراثها الكبير. فمقولة النهضة العربية نفسها تنتمي بشكل عام إلى الفضاء الفكري العالمي، حيث تجد مرجعيتها الأولى في إيديولوجيا عصر الأنوار، وفكر الحداثة الأوروبية. لكن ذلك لم يمنع حدوث التقابل والاصطدام (الذي ابتدأ مع حملة نابليون) بين كلٍّ من العالم العربي الذي كان يعاني من تخلف، وانحطاط شبه شامل في القرن التاسع عشر، كما هو واضح في ركود بنيته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وبين أوروبا التي كانت تتسم بديناميكية هائلة في مختلف المجالات والميادين. وفي هذا الاختلاف الجوهري كانت تكمن بوادر الصراع والاختلاف، والمواجهة التاريخية الحديثة بين أوربا والعالم العربي، التي كان من بين أهم نتائجها، تبلور الملامح الأولية للوعي العربي النقدي بصدد رؤية الفارق الحضاري بينه وبين الأوربيين.
وانطلاقاً من أهمية البعد التاريخي في فهم أي ظاهرة، يمكننا القول، بأنَّ المشروع النهضوي العربي مرََّ بمرحلتين أساسيتين، تشابكت فيهما الأحداث العربية والدولية. الأولى امتدت من أواخر القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، وهي المرحلة التي كانت تمثل أواخر السيطرة العثمانية على العالم العربي، واستكمال هيمنة القوى الاستعمارية الأوروبية على البلدان العربية. إضافةً إلى كونها المرحلة التي غرس فيها الاستعمار الأوروبي بعض مظاهر وبنية الحداثة الأولية في العالم العربي. أما الثانية فهي مرحلة ما بين الحربين العالميتين وما بعدها. والتي تزامنت بدايتها مع موجة الاستقلال وقيام "إسرائيل" من جهة، ومع انطلاقة المد التحرري في العالم الثالث كله من جهة أخرى. وهي مرحلة سادت فيها النزعة الثورية والقومية التحررية.
بغض النظر عن أنَّ مشروع النهضة العربية قد تأثر بصورة كبيرة بأفكار وشعارات الحداثة الأوروبية، إلا أنّه تمايز عنها تمايزاً كبيراً، وذلك بسبب انتماء كلٍّ منهما إلى مراحل تاريخية متباينة. على سبيل المثال إنَّ شعار "الاتحاد والترقي" الذي كان في طليعة توجهات الفكر النهضوي العربي، كان أحد شعارات الحداثة الأوروبية التي قامت في أوروبا (القرن التاسع عشر) بعد مرحلة الأنوار (القرن الثامن عشر)، والتي سبقتها نهضة أولى (القرن الثاني عشر). ومعنى ذلك أنَّ مشروع النهضة العربية كان عليه أن يتعامل مع حداثة تجاوزت الأنوار والنهضة. بالإضافة إلى أنَّ تزامن هذا المشروع مع مشاريع أخرى منافسة له، ومضايقة لطموحاته، ومعرقلة لمسيرته (الحداثة الأوروبية، والصهيونية) قد جعله يتعثر ويفشل في تحقيق مطمحه الأساسي المتمثل في الاتحاد والترقي، لاسيما مع وجود وضعية داخلية شكلت مساعداً مهماً لذلك. فمضامين مقولات النهضة العربية وحدودها تأثرت بشكل كبير بالعلاقة التي جمعت بين الحداثة الأوروبية والصهيونية، وهو الأمر الذي انعكس سلبياً على المشروع النهضوي العربي من حيث أنَّ المشروع الصهيوني ليس فقط خصماً صريحاً ومعلناً له فقط، بل أيضاً من حيث أنَّ نشاط الصهيونية في أوروبا من أجل قضيتها كان في نفس الوقت نشاطاً ضد المشروع النهضوي العربي.
لقد أفرز تعامل رجال النهضة مع الواقع آنذاك مواقف متعددة ومختلفة يمكن إجمالها بثلاثة مواقف كبرى، لا تزال قائمة حتى الآن تجاه الإشكاليات الكبرى لفكرة النهضة، وهي:
- الأول وتتلخص أطروحته، في أنَّ تحقيق النهضة والتقدم يكون في تبني الحداثة الغربية بشكل كامل، والقطيعة مع عصر الانحطاط وما قبله من العصور العربية والإسلامية. بمعنى ضرورة الأخذ بالحداثة الأوروبية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وصرف النظر تماماً عن الموروث الإسلامي الذي ينتمي إلى العصور الوسطى التي مضت وتجاوزها التطور. أبرز ممثليه شبلي الشميل وقاسم أمين في المرحلة الثانية من كتاباته.
- الثاني ويذهب إلى النقيض تماماً من الأول، بمعنى الاعتقاد بأنَّ سبب التخلف هو الخروج على الإسلام والتخلي عنه. فهو يرى في تجارب الماضي نموذجاً للمعاصرة. ومن ثم يطرح فكرة الرجوع إلى سيرة السلف الصالح والإقتداء به، والقطيعة الكاملة مع ما تحمله الحداثة الأوروبية بوصفها مخالفةً للشرع. ويرتبط هذا التيار بصيغ متفاوتة بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.
- الثالث ويدعو إلى التوفيق بين الموقفين السابقين. وتتلخص رؤيته بهذا الصدد في العبارة القائلة "نأخذ من الفكر الأوروبي ما هو ضروري لنهضتنا وتقدمنا، ولا يتناقض مع قيمنا وأصالتنا، ومن تراثنا تلك الجوانب المشرقة التي جعلت من حضارتنا أعظم الحضارات في عصرها، والتي لا تتعارض مع متطلبات التقدم في عصرنا". أي إنّه يدعو إلى الأخذ من الحداثة الأوروبية ما لا يتناقض مع التراث العربي الإسلامي، وما يساير العصر ومتطلبات التقدم.
هذه المواقف الثلاثة تقاسمها بصورة عامة أغلب مفكري النهضة. وإذا كان موقف التوفيق يأتي عادةً في آخر الترتيب عند التصنيف، فإنَّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّه الأخير زمنياً، بل يمكن اعتباره الأسبق. فالطهطاوي وخير الدين التونسي مثلاً، وهما الأسبق زمنياً، كانا أقرب إلى الموقف التوفيقي منه إلى الموقفين الآخرين، اللذين يرتبط أولهما بشبلي الشميل وقاسم أمين، ويرتبط الثاني بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. غير أن ذلك لا ينفي وجود قواسم مشتركة بين هذه التيارات الثلاثة، مثل السعي إلى تغيير الأوضاع التي كان عليها المجتمع العربي الإسلامي، وتحقيق التمدن، ورفض الحكم المطلق، والدعوة إلى حكم القانون وعدم وضع الدين موضع النقيض للدنيا.
يتبع.......................................



#أشواق_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإصلاح في العالم العربي وإشكالية التكامل العقلاني للمصالح ا ...
- الإصلاح في العالم العربي وإشكالية التكامل العقلاني للمصالح ا ...
- الإصلاح الاقتصادي في سوريا- نسخة معدلة- الجزء الثالث
- الإصلاح الاقتصادي في سوريا- نسخة معدلة- الجزء الثاني
- الإصلاح الاقتصادي في سوريا -
- الفكرة الإصلاحية وإشكالية النهضة في التاريخ العربي الحديث- ا ...
- الفكرة الإصلاحية وإشكالية النهضة في التاريخ العربي الحديث- ا ...
- الاصلاح الاقتصادي في سوريا - الجزء الثالث
- الاصلاح الاقتصادي في سوريا - الجزء الثاني
- الإصلاح الاقتصادي في سوريا
- إلى صديق راحل ، إلى روحه الباقية .
- المنعكسات المجتمعية المباشرة لسياسات المؤسسات المالية الدولي ...
- آراء في آلية عمل المؤسسات المالية الدولية .
- وجهة نظر الخبراء و المختصون في الدول الرأسمالية من أزمة المد ...
- وجهة نظر الخبراء و المختصون في الدول الرأسمالية من أزمة المد ...
- المعهد الوطني للإدارة العامة
- المعهد الوطني للإدارة العامة و الإصلاح المنتظر
- مواقف المؤسسات المالية الدولية من ازمة المديونية
- مواقف المؤسسات المالية من أزمة المديونية
- مواقف المؤسسات المالية الدولية من أزمة المديونية الخارجية لل ...


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أشواق عباس - الإصلاح في العالم العربي وإشكالية التكامل العقلاني للمصالح القومية والدولية- جزء3