أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليد البرنوصي - ثْسافْث















المزيد.....

ثْسافْث


خليد البرنوصي

الحوار المتمدن-العدد: 6564 - 2020 / 5 / 15 - 03:16
المحور: الادب والفن
    


جذوة من جذع البلوط تبقى حتى الفجر متقدة، هي نعمة من عند الله، لم يكن من نعم أفضل منها، لولاها لما كان للناس ان يعيشوا طويلا، بل لماتوا دون أسنان عن سن صغيرة. تخيل إذن لو فقدت النار، تخيل فقط، ماذا كان سيحدث؟ ماذا ستفعل حينذاك؟ لا شيء، ستبقى تنظر في السماء وتبحلق فيها، والخير أمامك، عند رجليك.
قلت، وماذا كنت تفعلين انت يا أمي حين تنطفئ؟
هذا لم يحدث أبدا، ولا مرة. منذ أن وعيت وأنا مع جدك، كانت النار في الموقد، الدخان لم يتوقف يوما عن الصعود عبر المدخنة، صحيح أنه يخبو في ليالي الشتاء الطويلة، لكنه في كل مرة ترى المدخنة وقد عاودت لفظ الدخان، كقاطرة قديمة لا تتوقف عن النفث إلا وقد أدركت محطة، لتنطلق من جديد. وأنا منذ أن انتقلت من وسط الدوار إلى هنا رفقة أبيك ، إلّا وأتذكر أن النار دائما ما تكون بصحبتنا، ونحن حريصين على أن يَبْقى كذلك؟ تُرى مَنْ سيقدم لك النار إذا انطفأت الشعلة؟ أما الآن فتبدل الحال، صار الأمر سهلا وميسرا، أعواد الثقاب متوفرة، أبوك يشتريها كلما ذهب إلى السوق، يقولون أن في السوق كميات كبيرة منها. لكن حتى وهي موجودة، أنا لا أطمئن، أوفر منها الكثير واحتفظ بها. لن أسمح لِرِجْلي فجرا أن تقطع كل هذا الطريق، لطلب النار من أحد. اموت ولا أفعل ذلك.
قلت، وهل حدث مرة ان أخذ أحد رِجْله إليك؟
لا يجوز هذا يا بني، عار أن تحكي عن الناس مثل هذه الاشياء. النار هي النار .
في شط الوادي كانت هناك جذع ضخمة لشجرة أرز عريقة جدا، لا أحد يذكر منذ متى كانت هناك. في فصول الشتاء، كانت السماء تمطر طويلا ولا تتوقف، كنا نوفر منها قطعا صغيرة، هي صلبة، أكثر صلابة من خشب البلوط. في آخر الليل كنا نضع قطعة واحدة في الموقد، وعندما نتأكد أن النار قد أولعت فيها، ننام. وهي لا تنام. في الصباح ننفخ عليها الرماد فتتقد وتتوهج من جديد. أما الآن فتغيرت الأمور. حتى جذوع البلوط لم نعد نحتاج اليها .
كنت مع أختي تحمل بنتها، بخوف تسير، سرنا كثيرا إلى هناك، بعيدا إلى حيث نبع وادي النكور. على ضفته الحادة بين الصخور، تتسلق اختي. هي رشيقة خفيفة، تعرف كيف تنط بين الصخور، ومن صخرة إلى أخرى تصعد. تجز بضعة أغصان من شجرة بلوط. ترتب حزمة من أوراقها، تمسد الحزمة،تفركها بين يديها، تضرب بها كفها، تتأكد أنها صارت رطبة، تعود إلى العين والصبية في حضني. تنزع كسوتها عن صدرها، فتظهر البثور الحمراء التي على صدرها، تمرر عليها الحزمة بهدوء وتسرع إلى شق في صخرة و تحشوها فيها. لم أسألها، هي قالت، إنشاء الله خير. لم أسأل و لم أفهم. الخير! الخير يكون في البيت، هكذا سمعت أمي تقول. كيف يكون في الصخر؟ قلبت شفتي السفلى وهززت كتفي. سألت أمي لماذا تحك أختي صدر الصبية بالبلوط؟ لا تحكي هذا لأحد. كان عليها أن لا تسمح لك بمرافقتها. "وَخّا.. وَخّا.. يا بنتي، لم تتعلمي بعد." كانت تُأنبها، وإن لم تكن بجانبنا، هي تأنبها، لا شك أن أختي تسمعها.
الصوت يصعد مع الوادي، يتسلق الجبال، أعرف هذا. في الشتاء تصيح أمي، "لا تنسى الشياه." وتشير بيدها، ثم تعيد كرة أخرى، أنا لا أرى شيئا، وهي تنظر الى بعيد. وعندما يصل أبي يقول لها، " ترين يا خْتيجَة، لم أنس، خذ وقدم لها قليلا، لن أذهب غدا إلى الغابة". تأخذ أمي أغصان البلوط الندية وتقدمها للشياه. أترون؟ كان صوت أمي ينزل ويصعد الى أن يصل أذن أبي. ياه.. كم كانت الشياه تقفز وتتعارك على أغصان البلوط المغذية في تلك الأيام الباردة.
صديقي لا يصدق هذا. أنا أحكي وهو يقول، أنت تهذي. أجره من يده الى الداخل، تعالى! أنظر! هذا الباب الثاني على اليمين، "يجب أن يكون على اليمين"، هذا مرقد الولي سيذي بوخيار. ماذا ترى؟ ألا ترى شيئا؟ كانت الباب مقفلة، لا تكاد ترى. رزم أغصان البلوط تغطي الباب، بعضها يابسة تفككت غصيناتها، بعضها بدأت تتساقط أوراقها. وأخرى لا تزال لينة طرية وخضراء. ألم تصدق بعد صديقي! إنهم يفعلون ذلك حتى هنا في هذا المكان.
خارج المرقد جهة الغرب أشجار البلوط تكسو منحدر قمة مقام لالة منانة، نمر وسط أيكاتها، هي قصيرة كثيفة ومتشابكة. نعبر صاعدين. نلهث، نعرق، نصل ونلهث. كَرْكور أحجار على الجهة اليمنى من المقام. بين فتحات الأحجار المرصوصة أغصان بلوط صغيرة قصيرة يابسة وخضراء. أدلف من باب المقام إلى ما يشبه كهف. ضيق من الداخل قدر مسند ظهرك. وعند الباب متسع قدر انفراج رجليك. من هنا يجب أن تنظر، بل عليك أن تتأمل، فالمقام بهذا الشكل خلق للصلوات والتأمل. أترى! إفعل كما أنا. وأشير إلى التحت، الى مرقد سيذي بوخيار في الأسفل حيث وطأ بالجبل، إنه مواجه للقبلة تماما. أترى كيف أن البلوط القصير لا يحجب نظرك، ألا تعتقد انهم لا يتركونه يكبر حتى لا يحجب المرقد والقبلة؟ ربما، قال وصمت. كان مأخوذا بقمم الجبال أمامه، في سلسلة لا تنتهي. "إن المكان موحي". سمعت "موحي"هل قلت شيء؟ تساءلتُ. هو لا يرد، وأنا أحدث نفسي.
تماما كما كنت أفعل هناك. وقفت عند جذع شجرة بلوط عملاقة، تبدو أنها معمرة، لم أشاهد مثلها ابدا. وأنا أقف، كنت أفكر في بلوطة النبي إبراهيم الخليل، يقولون إنه كان يستظل بها. لذا فهي لا تزال واقفة. الجميع يقول هذا وإن كانوا يختلفون في صلواتهم. الشجرة مباركة، أمي كذلك قالت هذا عنها، وهنا أمام هذه الشجرة المباركة، طلبت من صديقي أن يأخذ لي صورة. "مع الشجرة!" تساءل. اِلتقط الصورة وضحك. قال، الناس يأخذون الصور مع الاصدقاء والمشاهير، مع المتاجر الراقية ومع الطواجن، وأنت مع ثسافث.
قلت في نفسي، هو لا يعرف، لكن لو كانت أمي أو أختي هنا لقالتا "خذ لنا واحدة". أو لقبلن هذه الشجرة وعانقنها. إنها كبيرة وغريبة. أنظر الى أغصانها، قُلت لنفسي، وتأملتها من الأسفل إلى الأعلى، كم بدت لي مألوفة. تشبه في التواءها ولونها جبال الريف كثيرا.
في البيت، أشعلت سيجارة كنت أحتاج إليها. أخذت منها نفسا عميقا، ونفثت الدخان في سحب كثيفة متطايرة. من خلالها رميت نظراتي عليها، ونفس السؤال دائما ما يعاود طرح نفسه، لم لا تكبر؟ كنت أخذت شتيلتها من أزرو أقشار، كانت بلوطة صغيرة، إنها تتعبني بلا فائدة، من سنين هي لا تقصر ولا تطول، سقيتها ماء، ثم أزهار حديقتي، وأشعلت سجارة تالية ووضعت في جيب سترتي الولاعة.



#خليد_البرنوصي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرؤية


المزيد.....




- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليد البرنوصي - ثْسافْث