أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي سيد فرج - لغة واحدة ...ام لغات متعددة















المزيد.....


لغة واحدة ...ام لغات متعددة


فتحي سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 1584 - 2006 / 6 / 17 - 11:36
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في التقرير الذي أصدرته اللجنة العالمية للثقافة والتنمية عام 1995 عن الأمم المتحدة تحت عنوان "تنوعنا الخلاق" والذى كان من اهم عناصره الاهتمام بالتراث الثقافي ، وقد ركز على : أن جيلنا قد ورث ثروة من المصادر الثقافية تعتبر دين في عنق البشرية وأمانة لا يمكن أن تتجدد، وقد تبلور الوعي بمسئولية الحفاظ على هذا التراث في الآونة الأخيرة، وأصبح حركة عالمية تفاخر بها جهود التعاون الثقافي الدولي، وتنامي الاعتراف بأن ذلك يساهم في تدعيم الذات، وكذلك توثيق عري العلاقات بين كافة الشعوب لخدمة قضايا مشتركة، وقد حثت اللجنة المجتمع العالمي على أن يعيد اكتشاف رؤيته الانسانية للقرن الحادي والعشرين، وهذا يحتاج إلي جهود متناغمة لوضع البشرية على الطريق المؤدي إلي التقدم المنسجم ، حيث أن قدر البشرية هو اختيار لا مصادفة فيه. هذا وقد اعتبرت اللغة من أكثر عناصر التراث أهمية باعتبارها المكون الجوهري للثقافة.
ضع شعبا في السلاسل
جردهم من ملابسهم
سد أفواههم . لكنهم مازالوا أحرارا
خذ منهم أعمالهم
وجوازات سفرهم
والموائد التي يأكلون عليها
والأسرة التي ينامون عليها
لكنهم مازالو أغنياء
أن الشعب
يفتقر ويستعبد
عندما يسلب اللسان
الذي تركه الأجداد
يضيع إذاً للأبد
من قصيدة "لغة وحوار" للشاعر الصقلي اجازيو بوتيتا. المولود 1899.

يوجد في العالم حاليا ما يربو على العشرين ألف لغة، العديد منها معرض لخطر الانقراض، ويذهب الخبراء إلي أن حوالي 90% من هذه اللغات قد ينقرض خلال هذا القرن، وهذا يمثل استنزافا للموارد على نفس القدر من أهمية انقراض فصيلة من فصائل الحيوان أو النبات، فكل لغة من هذه اللغات كانت خلاصة للتجربة الإنسانية، تعبر عن طريقة فريدة للنظر إلي العالم وفهم الكون والتعامل مع الطبيعة، كما أن كل اللغات يجب النظر إليها بشكل متساوي في الأهمية من حيث أنها أدوات للأتصال ورمز لثقافة ما، وقد يكون لها نفس الإمكانية لتصبح لغة عالمية، فالاعتقاد بأن اللغات تشبه الكائنات الحية، تولد وتنمو وتموت، يعبر عن تصور غير صحيح، فاللغات أدوات ونواتج للمجتمعات الإنسانية تستمد حيويتها وقوتها من حيوية وقوة من يتحدث بها، ومصير كل اللغات وقف على البيئة الاجتماعية والسياسية، ورهن علاقات القوة قبل أي شيء آخر.
لقد ماتت ببطء لغات عديدة مثل اللغة المصرية القديمة والأكادية والآرامية والأنجلو ساكسونية ولغة سوغديان.. وغيرها، وتم إحياء لغات كانت قد شارفت على الانقراض مثل العبرية، ولكن التسارع في الآونة الأخيرة يسير في اتجاه عملية الانقراض، وذلك بفعل التوسع الاستعماري وفرض لغات يتسم متكلموها بالشراسة الثقافية فضلا عن أنهم أقوياء اقتصاديا، يعمدون غالبا إلي تدمير المواطن والقواعد للناطقين باللغات المحلية، إضافة إلي سيادة تعليم قسري ذي طابع استيعابي، وتمسك الأغلبيات بلغة واحدة يفرضونها ويفضلونها على لغات أخري للأقليات المقهورة، واللغة المهددة عند اللغوين هي اللغة التي لا يتعلمها الأطفال، وبذلك تختفي مع وفاة آخر المتحدثين بها.
ويمكن لسياسة لغوية مستنيرة إبطاء اختفاء اللغات، ولابد في هذه الحالة من توسيع مفهوم الحفاظ على التراث ليشمل الأوصاف والوثائق كالأجروميات والمعاجم والنصوص والتسجيلات، ويعد تعليم الابتدائي بلغة الأم للأقليات المحاصرة، الطريقة الوحيدة لإرسال الأطفال إلي المدارس وضمان بقائهم فيها، فثمة قيمة عاطفية كبيرة في التمسك بهذه اللغات، فالحديث بلغة لا يفهمها الطغاة يزيد من احترام هذه الشعوب لذاتها، كذلك تعمل اللغة كوسيلة قوية من وسائل تعريف الجماعات وقد تعيش لهذا السبب وحده.
ومنذ بداية القرن التاسع عشر اهتم العلماء بدراسة أصل اللغة ونشأتها. وكان لعلماء الأنثربولوجيا خاصة أصحاب الاتجاه التاريخي والتطورى السبق في ذلك بقصد التعرف على الأصول الأولي لكل الأشياء وخاصة اللغة، ولكن المدرسة البنيوية الفرنسية فتحت بابا جديدا للاهتمام باللغويات حين اعتبرت دراسة اللغة هي المدخل الأساسي الذي يمكن أن تقوم عليه نظرياتها الأنثربولوجية والأدبية والفلسفية، وقد اتاحت دراسات العالم السويسري الشهير فردينان دوسوسير Ferdinand desaussvre للنظريات البنيوية أن تبرز كمنهج يمكن استخدامه وتطبيقه بنجاح في كل العلوم الإنسانية، من خلال اهتمامه بالعلاقة الوثيقة بين عملية التفكير والصياغة اللفظية، ودور اللغة كأداة في التعبير عن الفكر، وباعتبار اللغة هي التي تساعد على ترجمة الصور الذهنية الغامضة إلي كلمات وعبارات واضحة، فإن الكلمات هي الأداة التي لا غني عنها في صياغة الأفكار ونقلها وتوصيلها، لذلك قامت نظرية دوسوسير على التفرقة بين اللغة والكلام. فقد اعتبر اللغة نسق أو نظام يتكون من مجموعة من قواعد ومعايير، وهي مثال محدد لها مركز في الذهن، وليس لها وجود حقيقي خاص بها، وإنما تستمد وجودها المشخص من المظاهر الجزئية التي يوفرها الكلام، وقد حاول رولان بارت roland barthers أن يسير على نفس المنهج، حيث كانت نقطة انطلاقة أيضا التفرقة بين اللغة والكلام، فاعتبر اللغة هي البناء، والكلام بمثابة الحدث، وقد ركز بارت جهوده على دراسة الأدب ومشكلات التفسير من خلال رؤية خاصة لطبيعة النص وعمليات القراءة ، وتتميز كتاباته بأنها كانت تعالج موضوعات ذات صلة قوية بالحياة اليومية، ولما يدور في أذهان الناس ولا تخلو من الجاذبية والتشويق.
والواقع أن البنيوية احرزت كثيرا من التقدم بعد جهود عديد من العلماء الآخرين خاصة كلود ليفي ستروس claude levi-strauss وجال لاكان Jacques lacan وميشيل فوكوه michel Foucault وغيرهم الذين بذلوا جهود كثيرة لدراسة الأبعاد اللغوية للثقافة، واستخدام اللغة في تحليل بناء الثقافة الإنسانية برمتها.
وما يهمنا من كل ذلك هو أن عدد من المفكرين المنشغلين بقضايا الفكر العربى قد استفادوا من هذه الدراسات في تحليل علاقة اللغة العربية بطبيعة الثقافة العربية ، وتطوراتها التاريخية وسوف نعرض لأثنين منهم ، محمد عابد الجايري ومدخله الابستمولوجي في نقد العقل العربي، ومحمد أركون ومدخله السوسيولوجي في النظر إلي تاريخ الفكر الإسلامي.
فمحمد عابد الجابري يضع مبدئين رئيسيين ضمن مباديء عديدة، يؤديان إلي بناء تصور خاص عن تكوين العقل العربي، المبدأ الأول يقوم على أن تكوين العقل العربي قد وضعت أسسه الأولي والنهائية والمستمرة إلي الأبد في عصر التدوين، وهو يؤكد أن وضع علم النحو وما تبعه من علوم اللغة، الصرف والبلاغة، ثم علم العروض لضبط الشعر، قد تم استنادا إلي السماع من الأعراب الذين لم تلمسهم أي ثقافة أو حضارة غير ثقافة البادية في قلب صحراء جزيرة العرب، وبهذا أصبح الأعرابي البدوى هو المؤسس والمرجع للأداة الرئيسية للعقل العربي وللوعاء الوحيد للجهاز الادراكي لهذا العقل، أي اللغة بقواعد نحوها وتصريفها وتفسير معانيها، هذه القواعد التي اكتملت ثم اغلقت نهائيا في عصر التدوين دون مراجعة تقريبا حتى الآن، فتجمد معها العقل الذي يستخدمها. وهذا تصور ابستمولوجي يركز على عامل وحيد كسبب لتجميد العقل العربي. ونحن نري أن هناك عوامل عديدة قد تكون أهم ساهمت في تجميد الثقافة والفكر العربي منها. طبيعة الواقع الاجتماعي والنظام الاقتصادي الذي يقوم على نمط ريعي غير انتاجي، فمواراد الدخل خاصة في عصور الفتوحات كانت تأتي من الفيء كمصدر أول، والخراج والجزية، وبصفة عامة كان الدخل يتحقق من خلال التجارة بعيدة المدي، أو من الرعي والزراعة على أمطار الصحراء الشحيحة والتي لا ندر سوي مردود ضئيل وهامشي، وكل هذه المصادر التي لا تدفع إلي العمل المنتج، وعندما تتوقف اليد عن العمل الحقيقي فإن الجهاز الادراكي والقدرات الذهنية تتعطل عن الفعل، إضافة إلي سيطرة مفاهيم غيبية تقوم على قدسية النص، تعطل الفعل الاجتماعي وإمكانية فهم الطبيعة، وتشكك في إرادة الإنسان وقدراته على الفعل والعمل.
اما المبدأ الثاني فهو وحدة الزمان الثقافي العربي، فرغم تعدد الأزمنة من عصر الخلفاء الراشدين، إلي عصور الدول الأموية والعباسية، إلا أن الجابري يري هذا الزمان واحد ممتد، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما كان يعيشه أجداده في القرون الماضية، له مكونات معرفية وضع الجابري لها تسميات وتعريفات خاصة هي: البيان والعرفان والبرهان.
وهو يقصد بالبيان العربي الإسلامي التفاعل الذي تم بين علوم اللغة من جهة، وبين علوم الدين من جهة أخري، ففي مجال اللغة قام التدوين على أساس نظري قولب اللغة وحنطها، ومصدر سماعي اعتمادا على لسان الأعرابي وطريقته في الاستيعاب والتصور، مما يعكس عالما بدويا حسيا لا تاريخيا، وفي مجال الفقه كان الشافعي هو المؤسس لأصوله مقيما هذا التأسيس على مبدأ القياس بين الفرع والأصل من أجل أن يصبح النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي، والمعتزلة والأشاعرة وضعوا أسس علم الكلام بهدف التوفيق بين النص والعقل على مباديء القياس الشافعية، وأن اختلفت طريقتهما في تأويل النص، وسبل وأهداف هذا التأويل.
ويقصد الجابري بالعرفان العلوم التي تضم التصوف والفكر الشيعي، والتفسير الباطنى للقرآن والفلسفة الاشراقية والسيمياء والتطبيب والسحر والتنجيم والطلسمات ، ويطلق عليها (اللا معقول العقـلي) حيث تنسب إلي العقل لا إلي الدين، وتقوم على نظام معرفي هو الكشف والتجازب والوصال، كما يقصد بالبرهان العلوم التي تضم المنطق والرياضيات والطبيعيات والألهيات، ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية، ويطلق عليها اسم (المعقول العقـلي) كرؤية واستشراف. وهكذا اتخذ الجابري من عصر التدوين نقطة البداية في تكوين العقل العربي الإسلامي، بل وجعل منها أيضا نقطة النهاية لملامح هذا العقل، بدأ منها واكتمل بها وجمد معها، وليست ثقافتنا العربية الإسلامية طوال هذه المرحلة وعبر جميع العصور التاريخية إلا مجرد تكرار واجترار لنظام معرفي واحد وراكد، توحد به العقل العربي وركد معه زماننا الثقافي، وتلاشت حركة التاريخ في الفكر العربي، وحركة الفكر العربي في التاريخ.
وإذا كان الجابري قد ركز في عرضه لعلاقة اللغة بالفكر من وجهة النظر الايستمولوجية، فإن محمد أركون يقدم وجهة نظر أخري تقوم على أسس سوسيولوجية، فاللغة عند أركون عبارة عن بنيات مستقرة ومتغيرة في نفس الوقت، حيث أنها في تركيبها وصياغاتها تتعلق بالفكر، من حيث هو جملة أفكار تفرزه ويفرزها، تشكله ويشكلها، كما تتعلق بالعقل الذي ابدع هذه اللغة وتطور في كنفها والمفروض أن تتطور في كنفه أيضا، وهو لا يفصل بين هذه المكونات كما يقول في مقدمة كتابه "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل- نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي" أعرف أن اللغة والفكر في تفاعل مستمر وكليهما يستمد غذاه المشترك وديناميكيته الخلاقة من الممارسة الحياتية اليومية، أي من التاريخ الفردي والجماعي معا. لذلك ألح على العلاقة الثلاثية الدائرية التفاعلية بين اللغة والفكر والتاريخ، ويقصد بذلك أن اللغة العربية هي كسائر اللغات لها تاريخها الفكري ومنظومتها الخاصة التي تحتاج إلي تطوير وتجديد لا ينطلق من كون هذه اللغة قاصرة، إنما يرتبط بالتعالي على المعوقات التي حالت دون منح هذه اللغة تاريخيتها، وذلك بالانتباه إلي ما لم يفكر فيه بعد ويهتم أركون بشكل خاص بعملية التأصيل المقصود بها البحث عن أقوم الطرق الاستدلالية وأصح الوسائل الاستنباطية للربط بين الأحكام الشرعية والأصول التي تتفرع عنها، أو لتبرير ما يجب الإيمان به، ويستقيم استنادا إلي فهم صحيح للنصوص الأولي المؤسسة للأصول التي لا أصل قبلها ولا بعدها، هكذا انصبت حجية القرآن ثم السنة النبوية والاجماع على القياس، وتعتبر رسالة الشافعي المحاولة الأولي لتأسيس ما ازدهر بعده بأسم أصول الفقه، وفكرة التأصيل نابعة من الخطاب القرآني نفسه الذي يربط بين ما جاء فيه من أوامر ونواهي، وبين قدرة الخالق والأصل الذي لا أصل قبله ولا أصل بعده ، وإذا استمر الفكر زمنا طويلا وهو يكتفي بترديد ما تسمح به اللغة والنصوص العقائدية وإجماع الأمة ومصالح الدولة ، فإنه يتضخم ويثقل ويتراكم ، ويسيطر على العقل ، وهكذا فان مفهوم التأصيل يحيلنا دائما الى الماضى والأصول الأولى ، وضد منطق التطور التاريخى .

ويتساءل أركون : كيف برز العقل العربي ، وما هي السمات المميزة له ؟ مثل هذه الموضوعات تتيح لنا تجميع الخصائص المكونة للفكر الإسلامي، والمتمثلة في العناصر الأساسية للتصور والاعتقاد وأشكال الادراك، ثم اطر التعبير وأساليبه، وآليات الانتقاء والقبول أو الرفض، إذن لا يمكن الحديث عن العقل دون الحديث عن اللا عقل ، وعن المعني دون الحديث عن اللا معني، لأن التاريخ الجديد للأفكار لا يؤمن بالاقصاء ، فلا يمكن تصور العلاقة بين اللغة، والفكر، والتاريخ العربي الإسلامي دون فهم علاقة كل ذلك بالقرآن ، ولا يمكن فهم أفكار القرآن دون ارجاعها إلي اللغة التي جاء بها ، فكل الشروح والتفاسير التي جاءت فيما بعد هي تأويلات أرادها أصحابها وليست محمولات اللغة كما عبر عنها القرآن ، يحملونها ما لا تحتمل .
وحين يتعلق الأمر بالمعني وإنتاجه وفهمه وتأويله يتساءل اركون أيضا : من ينتج المعني ويسوغه ؟ وما علاقته بالا معني ؟ كل ذلك يخضع لا محالة للعقل البشري ، ولكن الوهم الكبير الذي سيطر علينا طوال أجيال وأجيال سواء عند الاسلاميين أو المسيحيين، هو أن الله بذاته حاضر بين البشر، وأن الأنظمة السياسية والتشريعية والاجتماعية السائدة تمثل تعاليمه فعلا وحقا، وهو يوضح ذلك في كتابه عن "قضايا في نقد العقل الديني" فيقول: ما إن تلفظ كلمة الله حتى ينبغي أن تعود فورا إلي اللغة التي تقول بها هذه الكلمة. من يقولها؟ باية لغة بشرية؟ ثم ينبغي أن تعود إلي التأويل الذي يفسر هذه الكلمة، فنحن في الواقع لم نتوصل إلي الله إلا عن طريق اللغة، لذلك ينبغي أن نعود إلي اللغة التي يتكلم الله بواسطتها ويؤكد ذاته، أي الكتب المقدسة، فهذه الكتب هي أيضا مشكلة من لغة طبيعية بشرية، كما أنها في حاجة إلي وساطة البشر من أجل فهمها وتأويلها، وهنا تطرح كل إشكالية تأويل الكتب المقدسة، والطريقة التي فسرها بها علماء الدين والفقهاء والمشرعون، هنا يكمن كل تاريخ الإسلام والفكر الإسلامي، المشكلة هي أن المسلمين يعتقدون أنه من السهل أن نتكلم عن الله هكذا في الهواء، أو يكفي أن نذكر اسمه أو نحيل إليه لكي نوصل إليه مباشرة أو لكي يصبح حاضرا بيننا، هذا تصور مثالي عذب خاص بالعصور الأولي، أي عندما لم يكن الناس يستطيوعون التفريق بين الأسم/ والمسمي، بين الكلمة/ والشيء الذي تدل عليه، بين القول/ والفعل.
من خلال كل ما سبق نتبين أن العلاقة التى اقامها أركون بين اللغة والأفكار والتاريخ قائمة فى طبيعة فهم المسلمون للنص القرآنى ، وتفسيرهم له ، وتأويل آياته بما يتوافق مع مصالح الفئات الاجتماعية فى صراعها عبر مراحل التاريخ ، فلقد سادت أفكار المعتزلة لفترة قصيرة في الأوساط العقلانية أيام المأمون بشكل خاص ، ولكن بعد ذلك طمست هذه الأفكار تحت ركام التاريخ وسادت أفكار تخلع المشروعية الإلهية على كل ما هو بشري على يد الأشعري الذي يقول بأن الله خلق كل شيء ، العدل والظلم ، الخير والشر، وذلك يعني تقيدا للعقل الإنساني ، فالله هو الذي يفعل ، والإنسان ليس إلا منفذا لا إرديا ، وهكذا يسجن العقل ضمن نظرية الجبر والحتمية باسم ايمان مقطوع عن تاريخيته.
كما أن محمد اركون يضع أفكار أبو حامد الغزالي ضمن عوامل أخري لتفسير ظاهرة الردة والتدهور في التاريخ العربي الإسلامي فهو يقول: لا ينبغي أن تفسر ظواهر الأفراد فقط، وإنما عن طريق الحركات الاجتماعية أو البنيات التي تختص هؤلاء الأفراد، فالمجتمع هو الأول وليس الفرد، حتى لو كان هذا الفرد شخصية عبقرية أو بطلا كبيرا، وهو يؤرخ لتاريخ الجمود العربي والدخول إلي عصور الانحطاط الطويلة منذ بداية القرن الثالث عشر الميلادي بموت ابن رشد، صحيح أن ابن رشد حاول أن يدافع عن الفلاسفة، ولكن محاولته باءت بالفشل. لماذا؟ ليس لآن الغزالي أقوى منه من الناحية الفكرية، ولكن لأن حركة التاريخ كانت قد أخذت تمشي في اتجاه الغزالي، فالواقع أن حركة التدهور كانت قد ابتدأت قبله، ولم يفعل هو إلا أن ركب الموجة ونظر للعملية بكل ذكاء بتكليف رسمي من السلجوقيين.
ينبغي أن نطرح مشكلة الانحطاط من خلال منظور علم الاجتماع ونتحدث عن الأطر الاجتماعية للمعرفة، فهي التي تستقبل الفكر الفلسفي أو لا تستقبله، هي التي تتيح له أن يزدهر، أو تضيق عليه الخناق، وقد كانت هذه الأطر متوفرة في القرون الأولي من الإسلام، فازدهرت العلوم والفلسفات، ثم ابتدأت هذه الأطر تتلقص بعد مجيء السلجوقيين المعاديين للفكر الفلسفي، وأركون يؤكد أن سبب تقلص الأطر الاجتماعية للمعرفة هو انهيار البورجوازية التجارية وهي التي كانت تشكل الدعامة المادية لعقلانية المعتزلة والعلماء، إضافة إلي الخوف الذي ابتدأ يلف المجتمع بسبب الخطر الصليبي في الخارج والنزاعات الداخلية بين الخلافة الفاطمية في الداخل، وعندما يخشي المجتمع على نفسه ويشعر بأنه مهدد باخطار خارجية وداخلية، فالاحتمال الغالب أن يفكر هذا المجتمع بشكل غير عقلاني، وهكذا انتصر الفكر التقليدي المحافظ على الفكر النقدي العقلاني، وانتشرت أفكار الغزالي المنظر الأكبر للسلجوقيين الذين ركزوا على وجه واحد من وجوه التراث وحزفوا الوجه العلمي والفلسفي. فالغزالي لم يكن إلا افرازا لحركة اجتماعية أدت إلي تقلص الأطر المعرفية وقفل باب الاجتهاد.
لهذه الأسباب مجتمعة يدعو أركون إلي ضرورة إعادة النظر في عملية التأصيل كما فهمها ومارسها وأورثها لنا القدماء، فالتاصيل مفهوم مطلق يحملنا إلي مقدمات ومسلمات تتطلب بدورها تأصيل، وهكذا يتواصل البحث إلي ما لا نهاية حتى نكتشف استحالة التأصيل، ولابد من البحث والتساؤل عن المفكر فيه والمسكوت عنه من خلال ما يسميه العقل المنبثق الذي يقوم بكشف الغطاء عما يلبسه الممثلون الاجتماعيون أي البشر وتفعيل آلية النقد العقلاني وتحليل وتفكيك التراث الفكري والثقافي.
وأخيرا لابد من الاعتراف بأن اللغة باعتبارها جوهر الثقافة ، لا يمكن تقييدها بقواعد ثابتة ، أو سجنها داخل أطر عقائدية جامدة ، فلقد تطورت كل لغات العالم بتطور الملابسات الاجتماعية والسياسية والثقافية ، تأثرت وأثرت في مجريات الأحداث وفهم الواقع وحركة العلوم والفنون باعتبارها أداة التفكير ووسيلة التعبير، والبحث والتعليم ونقل الخبرات الإنسانية ، ومن المفارقات أن ظهور العلم الحديث في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، قد صاحبه انهيار الوحدة اللغوية التي أوجدها الاعتماد على اللغة اللاتينية في الاتصالات الرسمية والعلمية ، وذلك مع ظهور النزعة القومية القائمة على اتساع استخدام اللغات الوطنية ، ولقد نشر العلماء في كل من انجلترا وايطاليا مؤلفاتهم الأساسية أو ترجموا الأعمال الكلاسيكية إلي لغاتهم المحلية حتى يتسني للرجل العادي أن يشارك في الحوار العلمي وفهم الكون ، ولم يؤدى ذلك الى التخلي عن التراث أو العقائد أوالتقاليد ، بل اتسع فهمها والاستفادة منها في بناء نظم اجتماعية جديدة ومتطورة، وحققت أوروبا قصب السبق في التقدم العلمي والتكنولوجي وطورت الحضارة الانسانية إلي آفاق ارقي ، كما ان تعدد اللغات فى أوروبا لم يمنعها من السير فى تحقيق الوحدة الاقتصادية ، ومحاولة الوصول الى الوحدة السياسية . وفى العديد من بلدان العالم نجد ان التنوع الثقافى والعرقى ، وتعدد اللغات يعتبر من العوامل الدافعة للتنافس والتفوق .
هذا وقد حققت مدينة الاسكندرية ارقى درجات الازدهار سواء فى عصورها السابقة عندما كانت مكتبتها القديمة تمثل اعلى مستوى من التنوع والتناغم الفكرى والثقافى ، بتجميعها لمختلف الانتاج الفكرى فى العلوم والأداب بلغات متعددة ، كما عادت مرة أخرى فى العصر الحديث الى مستوى من الرقى والازدهار بفعل التنوع الثقافى ، من خلال وجود الجاليات الأجنبية اللذين وفدوا اليها من الدول الأوروبية ليعملوا فيها ويستوطنوها ، واعتبروها موطنهم الأول ، ففى نهاية القرن التاسع عشر شهدت الاسكندرية نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية ، كان الحديث يدور فيها بالفرنسية واليونانية والايطالية والانجليزية والألمانية ، ولغات آخرى أضافة الى اللغة العربية . تحولت الى مدينة " كوزموبوليتانية " واكتست الملامح العالمية ، وظهرت فيها دور شهيرة للصحف تصدر بلغات متعددة ، كما ظهرت فيها أول حركة مسرحية ، وأول محاولات لصناعة السينما فى مصر، أنشئت بها دور للمسرح وقاعات لعرض الأفلام وصالات للموسيقى ، تكونت فيها حركات للأدب وفنون النحت والتصوير ، وعكست مبانيها ومنشآتها المعمارية تنوعها الثقافى ، أنشأت بها حدائق عامة ، واستاد رياضى ، وشواطىء ومتنزهات ، وعشرات من المدارس والمعاهد الفنية ، والمستشفيات ، ومساجد وكنائس ومعابد ، وكانت أول مدينة فى الشرق الاسلامى تسمح باقامة مقابر لمن لا يعتنقون ديانة معينة " LIBERS PENSEURS " وشهدت ظهور أول جمعية أهلية ، وأول مجلة نسائية ، فقد انشئت هند نوفل مجلة " الفتاة " عام 1892 قبل حركة تحرير المرأة التى ارتبطت بأسم قاسم أمين ، وأول جمعية لمحبى الفنون الجميلة عام 1929 ، وجماعة الفنانين والكتاب " لأتلية " عام 1932 ، كما كانت أول مدينة مصرية تقوم بأنشاء متحف للفن الحديث . وكانت هذه الجاليات تتعامل بتسامح واحترام ، وفى هذا المناخ المزدهر والمتنوع والمنفتح على الثقافات المختلفة عاش وابدع كفافيس ، وأونجاريتى ، ومارنتى ، ولورنس داريل ، وسيد درويش ، ومحمد ناجى ، ومحمود سعيد ، وأدهم وسيف وانلى ، وليتساس ، وزانييرى ، وبراندانى ، وجول بلنت ، وهمبر ، وأنجلوبولو . وهكذا كانت مدينة الاسكندرية مثالا للازدهار الثقافى ، والارتقاء فى نوعية الحياة بفضل تنوع تركيبتها السكانية ، حيث استوطن وعمل فيها ما يزيد على اثنتى عشرة جماعة ينتمون الى قوميات وديانات مختلفة ، ويتحدثون لغات متعددة ، عاشوا معا فى اطار من التنافس والتعاون عملوا بجد من أجل حياة أفضل وأسعد للجميع
لذلك فإن الخوف من تعدد اللغات ، أو تطور اللهجات واللغات العامية واتساع استخدامها خوفا لا مبرر له ، وقد يكون له فضل الوصول إلي قواعد أكثر ديناميكية وبساطة ودقة في التعامل مع تطورات المجتمع والمساهمة في تحديث القواعد والأصول الجامدة ، وفك الارتباط بالعقائد والنصوص المقدسة.



#فتحي_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لغة واحدة 00أم لغات متعددة
- الاتجاهات الفكرية للإبداع فى مصر
- بينالى الاسكندرية الثالث والعشرون لدول البحرالمتوسط
- مرصد الإصلاح العربى
- العلم والنظرة الى العالم
- تفكيك الثقافة العربية
- إشكالية النهضة عند الطهطاوى
- قراءات ورؤى حول مشروع النهضة


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي سيد فرج - لغة واحدة ...ام لغات متعددة