أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - نبيل ياسين - مستقبل الثقافة في العراق















المزيد.....



مستقبل الثقافة في العراق


نبيل ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 1584 - 2006 / 6 / 17 - 11:41
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


مستقبل الثقافة في العراق لا تماثل بين الثقافة والايديولوجيا. لا وحدة ثقافية بدون تنوع وتعددية الثقافة في هيئة سلطة ام في هيئة مؤسسة مدنية
محاولة محفوفة بالمخاطر لنقد التجربة الثقافية العراقية(المقال الاول)

سنعود ، بالضرورة،الى الماضي القريب للثقافة العراقية اذا توخينا تشكيل رؤية عن مستقبلها. البحث عن الجذور يعني العودة الى التاريخ، والتاريخ محرم لانه سيكشف عن اخطاء ومسؤوليات. ولذلك اضفيت القداسة الايديولوجية على هذا التاريخ لكي ينأى الكاتب عن تحميل المسؤولية للاطراف التي ساهمت في حفر خنادق لدفن الوقائع في مقابر جماعية. فالمثقف مايزال يطاب بوصابة وزارة الثقافة عليه كقاصر لايستطيع التصرف بالثقافة ,ويظهر نفسه لها مرتزقا بحاجة إلى اموالها لكي يظل تابعا للسلطة, ويحاول ان يخدش حياء الحكومة بعرض حاله عليها كفقير لايستطيع طبع انتاجه الرغائي المكرر والمنسوخ.فيما يتوسل اتحاد الادباء العراقيين في مذلته التي اكتسبها كاتحاد سلطوي فاشي سابق , السلطة كي يكون جزء منها وتحت وصايتها واشرافها تمديدا لفترة احتواء السلطة الرسمية لانتاج افكار ورؤى الثقافة. جذور الازمة تتلخص (هل تتلخص حقا?) في صعود التماثل بين الثقافة والايديولوجيا الى ذروته في مرحلة سياسية تطلبت هذا التماثل الذي قدمه المثقف الحزبي والايديولوجي برضا واندفاع في اطار قناعة سياسية انتجتها ثقافة التحزب والتحزيب واصطياد المثقف ليكون قارع طبل في مقدمة الجيوش التي توجهت لخوض حروب سياسية وايديولوجية ، سرعان ماتركت قارع الطبل في (معمعان)- كلمة ايقاعية حقا تناسب ايقاع ذلك المثقف- المعركة التي جعلته حطبا لها ومشغولا بكيفية الاندماج والخروج معا. ماهي الرؤية التي يمكن ان تتشكل من البحث في جذور ازمة الثقافة العراقية؟ نبدأ بالرجاء ان لا يعترض احد على الاتفاق على وجود ازمة.ومن تجليات هذه الازمة انهيار المثقف وغيابه. فما موجود ليس الا نسخ من نماذج منتهية الصلاحية في فهم الثقافة وممترسة انتاجها.
الرؤية التي غيبها الحاضر عن الماضي تتلخص في محو الاختلاف والمختلف. كانت مهمة الماضي صنع تماثل تام. رؤية واحدية تبعية ولائية مسطحة ، لا فرصة فيها لرؤية معارضة في قلب كل سلطة ولا رؤية سلطة في كل معارضة. انعدام الرؤية هذا ساهم في تشكيل معالم ثقافة عراقية لقتل المعارضة في قلب كل سلطة ولقتل السلطة في كل معارضة. هذا التأسيس خلق الصراع الثقافي في قلب الصراع الايديولوجي. وعمد الى صنع التماثل بين الثقافة والايديولوجيا, ومحا عن قصد كل حد شفاف او حاد بين الاطارين الثقافي والايديولوجي. تم هذا التماثل من خلال صناعة (وهم المهمات) التي صيغت في اطار من النعوت مثل المهمات الوطنية والديمقراطية والثورية والتحررية ومعاداة الامبريالية وغيرها من النعوت الايديدولوجية المصنعة مثل علب حافظة للمواد.لست بالطبع ضد التحرر الوطني فانا من دعاته والعاملين في حقله, ولست ضد الديمقراطية فانا من الديمقراطيين حتى حين كنت في صفوف اليسار, وربما لا ازال ديمقرطيا يساريا يسعى من اجل ديمقراطية سياسية وعدالة اجتماعية, لكنني اسعى إلى ان يكون المثقف منتجا للافكار وسجاليا مع التصورات ويملك رؤية نقدية للنص والواقع, وليس ناقلا لاوهام ايديولجية مدافعا عنها كعقيدة راسخة. اذا كانت الايديولوجيا سلاحا يعتمد حتى على الوهم والتخييل واشعال العاطفة بعيدا عن الابداع وتقوم بصناعة النعوت ، فاننا سنعثر ، اذا قمنا بعملية نقدية سريعة للثقافة السائدة في الاوساط العراقية والعربية, على التناقض بين رفع شعارات المهمات الوطنية و الديمقراطية, وبين واقع الالغاء والتغييب السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تشيعه وتمارسه غالبية القوى السياسية ومجموعات من المثقفين الذين ينتمون لها. هذا التناقض يرجع الى ثقافة احتكار الوطنية والديمقراطية واحتكار(المهمات الايديولوجية) ذاتها التي اصبحت محل نزاع الاحزاب ذات الاديولوجيات الشمولية في مرحلة من مراحل التاريخ العربي والعراقي المعاصر.
تم هذا الاحتكار عن طريق تغييب الاخر والغائه واحتواء شعاراته دون اية اهمية للمحتوى . وكدليل على ذلك فان شعارات الاشتراكية ومعاداة الامبريالية وانجاز مهمات مرحلة التحرر الوطني كانت مشتركة بين الحزبين المتحالفين الشيوعي والبعث في العراق وسوريا وبقية الاحزاب القومية والاشتراكية في دول عربية شتى, دون ان تتحقق مهمات المرحلة, ودون ان يفضي التحالف الى تطوير المجتمع وتحديث بنية السلطة باتجاه التعددية والمشاركة والدستور والقانون والمواطنة ,وانما حدث العكس تماما. فمثلا ,(انخرطت)- يلاحظ اني استخدم ما يليق من مفردات دون حساسية بقدم او تقليدية هذه المفردات-الثقافة العراقية الجمعية( والفكر الجمعي والغاء الفرد واعتباره جزء من قطيع جذر اخر من جذور الازمة) في استقطاب سياسي وايديولوجي حاد. وبدوره انتج هذا الاستقطاب ثنائية قسمت الثقافة الى وطني ولا وطني,وتقدمي ورجعي, وثوري ولاثوري . وتم كل ذلك على اساس الولاء اوالمعاداة على اعتبار حزبي ضيق اخذ يختصر نفسه في الولاء للقيادات الفردية الحزبية اكثر من الولاء للوطن والامة والمبادئ . وبدل ان تكون الثقافة ابداعا فرديا تحولت الى سلاح قمعي للاخر والى تجمعات تهدف الى احتكار الثقافة وقطع الطريق على تعددية الاتجاهات والمذاهب والمنطلقات. اين تقع ازمة الثقافة الجمعية؟ تقع في قلب المفهوم الغرامشي عن المثقف. اي المثقف العضوي الذي يتحول الى سلطة تبحث عن تجنيد المثقفين والافراد في جماعات موحدة عقليا وفكريا زاي جماعات متماثلة غير قادرة على الاختلاف والجدل والنقد . ان تحويل المثقف الى سلطة جمعية سواء في النظام السياسي الحاكم( السلطة على المجتمع) او في النظام السياسي الحزبي خارج الحكم ( السلطة في المجتمع) نأى بالثقافة عن كونها مؤسسة مدنية تستمد سلطتها من استقلالها عن السلطة الرسمية. في هذه السلطة اصبح المثقف عضوا في (قطاع المثقفين) التابع للايديولوجيا والحزب السياسي. وصار المثقف يستمد سلطته من سلطة هذا القطاع المنظم والمتحد والمؤهل لتنفيذ المهمات باسم الثقافة. ان البحث عن جذور ازمة الثقافة يقع في اطار تسيسس الثقافة وتحويلها الى اطار حزبي. لقد عمدت السياسة العراقية الى استكمال صورة المثقف السياسي الحزبي باعتباره جزء من (حشد) مكلف بايصال رسالة سياسية حزبية . في هذا الاطار كان الابداع ثانويا يستخدم للدلالة على المثقف وليس لتعريف جوهره.وهذه الدلالة هي تصنيف المثقف في سلطة الحزب السياسية في الدولة او في المجتمع. في هذا التحويل الذي تم بنقل المثقف من موقعه المدني الى موقع السلطة الحزبية والرسمية تحولت وظيفة الثقافة الى وظيفة سياسية مباشرة.وجرى تصنيف اهمية المثقف واهمية انتاجه استنادا الى موقعه في السلطة السياسية والحزبية .واصبح المثقف العضوي الحزبي يقيس المثقف الاخر بقدر ولائه للحزب.واذا نقص عدد المثقفين في الحزب فان الحزب يعمد الى (ترحيل ) انصاف مثقفين الى (قطاع المثقفين). ومن سوء طالع الثقافة منذ الخمسينات حتى اليوم ان تكون العناصر الاساسية للهوية فيها هي العناصر السياسية. وعلى الرغم من التاريخ المدوي ، السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، للعراق خلال النصف قرن الاخير ، الا ان الثقافة ، وبسبب الطابع الايديولوجي والحزبي الضيق، لم تستطع ان تكون المرجعية الثقافية لذلك التاريخ . وهذه المفارقة قامت على الصدمة السياسية للثقافة ، الصدمة التي اعاقتها عن ان تكون مرجعية تاريخية بسبب خوفها من التماس مع تاريخ يفترض تدوينا للافكار قبل ان يفترض تدوينا للاحداث.فحتى الان لم يستطع احد ابراز تاريخ العراق الاجتماعي من خلال الثقافة وانما من خلال السياسة وتاريخ الاحزاب فحسب.اما اذا اراد ابرازه من خلال الشعر والقصة والرواية مثلاو فان الطابع السياسي والحزبي لهذه الاعمال هو الذي يبرز اولا واخيراو للدلالة على موقف ايديولجي وليس على الحياة الاجتماعية للبلاد. نبقى في التجربة العراقية.فبانهيار تحالف الادباء والكتاب والفنانين من مسرحيين وتشكيليين وغيرهم, اثر انهيار التحالف السياسي الحزبي الذي ابرز التحالف الثقافي, عادت الثقافة الى انقسام سياسي وحزبي ثنائي. وفي مطلع الثمانينات وجدت الثقافة العراقية نفسها تعاني من التسمية والاصطلاح والبحث عن مفهوم واطار جديدين لها في المنفى يميزها ، سياسيا، عن ثقافة تنتج داخل العراق. فاخترعت مفهوم ثقافة البديل التي لم تتميز حتى بطابع التوجيه الحزبي المباشر للثقافة ودخل في اطار هذا التوجيه السيطرة على الثقافات القومية العراقية اذ تم انشاء اتحادات للكتاب الاكراد والكتاب التركمان تحت اشراف مباشر من ايديولوجيا حزب البعث الحاكم!
بدايات الازمة: توهج الانقسام
منذ الخمسينات اطلق اليسار العراقي على ثقافته اسم الثقافة الوطنية ذات الطابع الديمقراطي . وتوسع استخدام هذا المصطلح دون ان تتطور معانيه التي اقتصرت في اغلب الاحيان على تماثل مع الايديولوجيا الماركسية بشأن توصيفات مثل المثقف كبرجوازي صغير، والادب البروليتاري ، والوظيفة الاجتماعية للادب والفن. وقاد الخوف من تهمة المثقف كبرجوازي صغير الى تماثل بين الايديولوجيا والثقافة جعل المثقف العراقي اليساري يكرس دوره الحزبي ويسعى للتحول الىمثقف عضوي على طريقة غرامشي.
بهذه الطريقة اصبح المثقف محاربا في الصفوف الامامية للاحزاب يضخ في ابداعه الشعارات والتصورات والمفاهيم الايديولوجيه لحزبه, ويترقب عضوية الحزب بعد سنوات من حضور الاجتماعات الحزبية التثقيفية التي يترقى خلالها المثقف( الذي غالبا ما يكون ممارسا للاغتراب) تحت قيادة مسؤولين بعيدين عن الوسط الثقافي وينظرون الى المثقف بريبة ونزعة عدوانية. وخلال عقدين او ثلاثة كانت النتيجة ان المثقف العراقي قد جمع السياسي والثقافي والايديولوجي في شخصية واحدة ، وسينعكس هذا اكثر في المنفى في مطلع الثمانينات. مقابل هذه الظاهرة برزت ظاهرة ثقافية اخرى اتسعت في نهاية الخمسينات وتبلورت مطلع الستينات ، جمعت حولها طرفا آخر من المثقفين تميزت بظهور المثقف القومي الذاهب الى عروبة الثقافة وتراثها, منغمسا في تصنيف المثقف الى شعوبي وعروبي ، عازفا عن رؤية ذاته الا من خلال استقطابه في طرف ايديولوجي قومي يحارب مستقطبا في طرف ايديولوجي آخر . خلال هذا الاستقطاب انقسمت الثقافة الى مصطلحين آخرين هما ثقافة اليسار وثقافة اليمين والى مصطلحين اخرين هما الثقافة التقدمية والثقافة الرجعية والى مصطلحين آخرين ايضا هما الثقافة الثورية والثقافة المعادية للثورة. في عام 1973 تم التحالف بين حزب البعث الحاكم وبين الحزب الشيوعي العراقي.وتم تقسيم الثقافة العراقية على اتجاهين وانتمائين حزبيين كان العامل المشترك بينهما تمثيل اليسار بشقيه الماركسي والقومي. وبدأ الهجوم على المثقف الذي لايستجيب للعمل الحزبي اوالايمان بالاشتراكية والتقدمية كما في الذهنية الدوغمائية .وتم النظر الى الثقافة كانعكاس ايديولوجي يسعى الى تثبيت صحة المنطلقات الايديولوجية أكثر مما يسعى إلى رؤية الواقع. وشكل هذا الموقف امتدادا للاحتراب الايديولوجي والسياسي الحزبي في نهاية الخمسينات . وحين تدهور التحالف واضطر الشيوعيون للرحيل الى المنفى, برزت بصورة اكثر الحاحا مساهمة المثقفين في في العمل السياسي الحزبي في المنفى. فتم تشكيل رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقين لتنظيم اكبر عدد من الاشخاص في تنظيم ثقافي حزبي مع بعض العناصر الديمقراطية المستقلة . كان هذا التنظيم احدى الواجهات الحزبية سلمت للاعضاء الحزبيين بعد ان حشدوا فيه كما مختلف المستويات والمواقع الثقافية ووجد فيه اشخاص اميون لاعلاقة لهم بالثقافة سوى محاكمتها بين فترة واخرى انطلاقا من التوافق مع الحزب او اعضائه الذين اخذوا بدورهم يخضعون للمحاسبة على الولاء للقيادة لا للحزب ومنع اي انتقاد او تفكير ثقافي خارج مسطرة الولاء للقيادة والدفاع عنها. توزعت خريطة هذه المنظمة على بلدان عربية واوربية . اي حيث وجدت تنظيمات للحزب واخضعت لاشراف مباشر من قبل المنظمات الحزبية التي تدخلت في توجيهها وفرض اشخاص حزبيين لا علاقة لهم بالثقافة. وبعد سنتين تقريباانحسرت الدائرة الاعلامية لهذه المنظمة وابتعد عنها الكثير من المثقفين العراقيين وبضمنهم حزبيون لم يستطيعوا تحمل التوجيه القاسي للثقافة على اساس الولاء لاشخاص في قيادة الحزب. واقتصرت على عدد من الحزبيين الذين كانوا يستفيدون من مطبوعاتها ومطبوعات الحزب لتسويق انفسهم ثقافيا وهم الذين انتقلوا إلى نفس المؤسسة الثقافية التسويقية التي انفصلت عن الجسم التنظيمي للحزب ولكنها ماتزال نافذة فيه. ثم انحلت عام 1990اوتوماتيكيا بعد ان استنفذت اغراضها الحزبية والاعلامية. وماتزال تجربة هذه المنظمة بعيدة عن التقييم سواء من الحزب او من من مثقفيه او من المثقفين الديمقراطيين. كان تحديد اتجاهات الثقافة العراقية في المنفى خاضعا للتصنيف الحزبي.لذلك اقتصر على اتجاهين : حزبي ولا حزبي. وداخل الحزبي يتم تسويق شعارات واوصاف الثقافة الوطنية والديمقراطية ، الثقافة المناضلة ، البديل الثقافي الديمقراطي . الثقافة الانسانية ، الثقافة التقدمية ، ثقافة الشعب ، ثقافة التحرر والاشتراكية. وهذه الثقافة تقدم في وسائل الاعلام الحزبية ويتم نشرها وتسويقها عربيا ايضا . هذه الثقافة كانت تخضع في تأثيرها وانتشارها لموقع الحزب الشيوعي العراقي وظروفه. وليس غريبا ان تصمت اصوات عديدة منها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتحولات في العالم بعد حرب الخليج. او تنقلب ضدها بعد ان انتهت الفوائد المجنية منها لتصبح جزء من الاعلام الخليجي والامريكي منذ وقت مبكر . اما الثقافة اللاحزبية فقد تمثلت في ابداعات عدد غير قليل من المثقفين الذين واصلوا ابداعاتهم رغم الحصار الذي ضرب عليهم في المنفى ايضا.
في ظل هذا الصراع نفسه كان النظام يتابع تشديد الحصار على الثقافة العراقية في المنفى وعلى ممثليها باعتبارها ثقافة خارجة على السلطة. فقد اصدر قوائم منع تداول اسماء وكتب المثقفين العراقيين المنفيين ووضع عقوبات مشددة على ذلك . كما عمم في 17/8/1982 امرا برقم 2/3/8004 على جميع القوات المسلحة وبناء على توصيات من اجهزة وزارة الثقافة وملحقي وزارة الخارجية بمنع تداول اسماء اكثر من مائة كاتب وشاعر عراقي يعيشون في المنفى وحظر قراءة كتبهم بسبب معاداتهم للنظام القائم في العراق. والغريب ان الذين شاركوا في العملية البوليسية هذه من المثقفين وجمعوا الاسماء والكتب وكتبوا التقارير عادوا ليصبحوا جزء من الجسم السياسي الثقافي العراقي الحالي وقدموا خدماتهم من جديد دون ان يعتذروا او يطالبهم احد بالاعتذار, بل ان بعضهم اصبح يدير مؤسسات شيوعية ووطنية رسمية وغير رسمية.
واصل النظام البعثي عملية التطهير الثقافي لادب المنفى في داخل العراق من خلال توجيه اجهزة الامن لملاحقة الثقافة العراقية. فعلى سبيل المثال اصدر النظام العراقي عبر مديرية الامن العامة امرا صارما الى جميع اجهزة الامن لمنع تداول الكتب العراقية والعربية والاجنبية ايضا وبضمنها كتب ادب الطفل كما ورد في كتاب موجه الى مديرية امن محافظة السماوة برقم 44428 بتاريخ 3/1/1981. او كما ورد في كتاب مديرية الامن العامة رقم 298 بتاريخ 4/9/1987 الذي حظر قراءة كتب المؤلفين العراقيين المعارضين . وظل هذا الحظر يتجدد في كل مرة وكان آخر حظر صدر عن النظام العراقي في عام 1995 طال عددا من ابرز المثقفين العراقيين في المنفى. قبل ذلك كان النظام قد اخضع للتعذيب والموت تحت التعذيب اكثر من ثلاثين من الصحفيين والكتاب والفنانين والشعراء واعتقل وعذب قرابة 600 من الكتاب واساتذة الجامعة والصحفيين والفنانين والشعراء ، وطارد البقية . ولذلك تجمع في المنفى عدة مئات من المثقفين العاملين في مختلف الميادين الثقافية في الشعر والقصة والصحافة والرسم والمسرح والموسيقى والبحث العلمي والاكاديميات .وجرى النضال على تثبيت الوضع السابق بالنسبة للثقافة الحزبية كوضع ثقافي راهن واعتبرت ثقافة المنفى بديلا عن الثقافة العراقية وتم اختصارها بما ينشر في الصحافة الحزبية وجرى لسوء الحظ محاربة العديد من المثقفين الديمقراطيين المستقلين والغي التراكم من تاريخ الثقافة العراقية وتبوأ الواجهة الثقافية جلدون ساهوا في تدمير الثقافة وربطها بعدي او صدام وتم تسويقهم كضحايا ليحصدوا جوائز ويتم تسزيقهم باعتبارهم مهددون في لعبة تهريجية يساهم فيها مثقفون اعتادوا المساهمة الغوغائية في مثل هذا السيرك الثقافي ذي الاغراض السياسية. وفي التسعينات اعاد النظام العراقي اصدار قوائم منع طالت العديد من الاسماء الثقافية العراقية في المنفى. وهرب جيل جديد من المثقفين العراقيين من الجحيم العراقي المستمر, كما استغل النظام الهروب العراقي الكبير منذ نهاية السبعينات ليرسل إلى المنفى (شرطة مثقفين) لينظموا الى اطار الثقافة المعارضة ويحجبوها عن الانظار. وقد نجح النظام البعثي في ذلك وماتزال التجربة لم تكشف بعد. رغم سلبيات المنفى فانه اتاح لعدد غير قليل من الاشخاص الاتجاه الى الكتابة.وتقلص ميدان التعبير عن الذات من خلال المنظمة الحزبية ليتسع ميدان التعبير عن الذات من خلال الابداع.وتزايد حجم الانتاج الثقافي في المنفى ليحل محل الانتاج الثقافي داخل العراق الذي تقلص بسبب ظروف الحروب والحصار والخراب الذي شمل البلاد وازدياد وتيرة القمع ضد الثقافة والخوف من التعبير عن النتائج المأساوية لحرب الخليج. خفت حدة الانعكاس الايديولوجي في الادب والفن العراقي في الخارج وضعفت هيمنة المثقف العضوي لصالح المثقف المنفلت الذي لم يحصل بعد على حرية المخيلة وحرية التخلص من رواسب الايديولوجيا الماضية . ووسع من دائرة المثقف المنفلت جيل من الكتاب الذين عاشوا اكثر من عشر سنوات حربين مدمرتين ورأوا بام اعينهم كيف ان هيكل البلاد يتهدم اذ بقوا احياء فيما مزقت اجساد جيلهم قذائف الموت في الميادين والخنادق البعيدة. ان محنة المثقف التي واجهها في داخل العراق قبل الثمانينات انعكست بصورة متطرفة في المنفى . فالحذر الشديد من الليبرالية وتهمة المثقف البرجوازي الصغير التي تلاحق المثقف سمحت للرقابة الحزبية ان تتحول الى دعاية مضادة للافكار الحرة والابداع المستقل كما سمحت لتوجيهات الحزب ان تتحول الى سلطة قسرية وابتزازية ضد حرية الثقافة.
من المؤسف ان نتحول من دكتاتورية دولة شمولية داخل العراق الى شمولية حزبية تمارس الدكتاتورية عبر الوصاية على الثقافة العراقيةفي المنفى. ان اكثر من 95 % من الانتاج الثقافي المستقل في المنفى لايجد صدى له في المطبوعات الحزبية كما لايجد قبولا في المنتديات والندوات الحزبية المتعلقة بالثقافة. وبما ان الجزء الاكبر من الثقافة العراقية مايزال في المنفى, فمايزال يدور صراع حاد بين حرية الثقافة وبين الهيمنة الحزبية والايديولوجية عليها وتوجيهها. وبسبب ظروف المنفى فان المعايير التي تؤطر ادبا وطنيا او قوميا في منفى ماتزال غير قادرة على توصيف اتجاهات هذا الادب . ففضلا عن الموضوع السياسي الطاغي بسبب الوضع الكارثي للعراق والذي ينعكس في كتابات الاجيال الجديدة التي خرجت لتشهد على الرعب في داخل العراق من خارجه ، هناك كتابات ذاتية تنطلق من رؤية فردية تجريدية خالصة هي رد فعل على السيطرة المطلقة للنظام العراقي على التفكير.
نقد الماضي: السياسة والنقد المحرم
ليس تحليل العلاقة بين السياسي والثقافي وحدها مطروحة على العقل العراقي، وانما تحليل ونقد الماضي السياسي للعراق منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة في مطلع عشرينات القرن العشرين. فبدون تحليل ونقد ذلك التاريخ الطويل الذي شكل رؤى النخب السياسية والثقافية ، وبالتالي شعارات وبرامج وممارسات تلك النخب عبر احزابها وتجمعاتها ونشاطاتها وانقلاباتها ومظاهراتها وتحالفاتها ومواقفها من القوى الاجنبية والوطنية ، سنعيد التاريخ مرة بعد مرة بتفاصيله المأساوية ونتائجه الكارثية التي مزقت العراق شعبا ووطنا وتاريخا وثقافة. ان مهمة نقد وتحليل ذلك التاريخ ليست عملا لتجريح الاخرين وانما لوضع اليد على اسباب الجراح العميقة التي نعاني منها جميعا. انها جراح التقسيم الثنائي المطلق الذي لايسمح الا بخندقين متحاربين وكل خندق يدعي الخير المطلق لنفسه والشر المطلق لعدوه.وقد شمل التخندق الثنائي السياسة والثقافة والموقف من التاريخ كما شمل القوميات والمذاهب والجماعات الثقافية. لقد ضعفت الدولة العراقية وتحللت تحت سيادة السلطة . لقد ابتلعت السلطة دولة العراق سواء كانت سلطة الحزب الواحد او الطغمة او العشيرة او العائلة ، ولم تعد الدولة في العراق الا غطاء مهلهلا لسلطة الحزب او العشيرة او الطغمة او العائلة. فالولاء للوطن يمر عبر الولاء لاحد هذه الاشكال المتسلطة.وبضعف الدولة ضعف موقف المواطن العراقي الذي صار عليه ان لايكون مواطنا في دولة وانما عليه ان يكون مواليا لسلطة اكبر من الدولة. وشمل هذا الضعف ايضا موقف الدستور الشكلي والقانون الذي لم يعد سوى قانون السلطة الذي تفرضه على الدولة من خلال مؤسساتها، هكذا ضاعت الحقوق واصبحت مزاجية خاضعة لمزاج السلطة وتقلباتها. ان هذه الفقرات الاساسية في تحليل بنية العلاقة بين الدولة والسلطة والمجتمع في العراق يمكن ان تغتني بالبحث والتحليل الموضوعي المستقل الذي يتناول بالتفصيل دور السلطة في ابتلاع الدولة وتغييبها وبالتالي ابتلاع وتغييب المواطن والدستور والقانون لنصل الى تحليل السلطة الدكتاتورية التي تحكم العراق
المستقبل: الديمقراطية والثقافة
وبسبب غياب الوثائق الثقافية النقدية العراقية ،قد يصيب مثل هذا النقد الاطر القدسية التي شيدتها التوجهات السياسية والحزبية حول الثقافة والدور السياسي المقدس لها.ولابد من هدم هذه الاطر ونزع قدسيتها لكي يتم بصورة فعلية وواقعية ووطنية, التقدم في ميدان الثقافة والديمقراطية. ولتحقيق هذا التقدم لابد من ايجاد الاليات التي يقوم عليها ، واولها ظهور مثقف مستقل يمارس الديمقراطية ويمارس الثقافة الديمقراطية ويهئ الاسس الكفيلة لقيام ثقافة ديمقراطية تنظر الى ضرورة التلازم بين الحاجة الى الديمقراطية وبين اشاعة الوعي بمستلزمات ممارسة وتطبيق الديمقراطية وتوسيع قاعدة القيم الديمقراطية في المجتمع. ان بناء دولة ديمقراطية في العراق لاينهض على اكتاف الشعارات وتضمين البرامج السياسية للاحزاب والتجمعات مبادئ الديمقراطية. ان هذا البناء يقوم على ايجاد ضرورة للديمقراطية في الوعي وفي الواقع. وهذه المهمة ليست سهلة ولا عفوية. كما انها ليست مهمة فرد او تجمع ثقافي واحد. ومع هذا فان نقطة الانطلاق يمكن لها ان تكون عبر جبهة ثقافية من اجل الثقافة والديمقراطية. جبهة تكون نوعا من تيار واتجاه ثقافي مدني مستقل نقدي تنويري يمارس حقه في الوجود عبر احترام حق الاخرين في الاشتراك بهذا الوجود. جبهة تقوم على القيم وليس على الافكار وحدها. تقوم بنقد الماضي وتجاربه وتغلب المصالح الوطنية المتمثلة بسيادة البلاد ووحدة اراضيها وتنوعها الثقافي وحقها في بناء دولة عصرية يكون المواطن فيها حجر الزاوية التي يقوم عليها القانون والعدالة والمساواة وصيانة الحقوق السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية. جبهة تمارس حرية الثقافة وحداثتها دون ان تعادي التراث والتراكم التاريخي للثقافة والقيم واالمرجعيات الحضارية التي بنتها البلاد خلال الاف السنين من وجودها في التاريخ والجغرافية ومسيرة البشرية والمساهمات الحضارية الكبرى والانعطافية التي قدمتها باسم العراق. جبهة لا تستخدم الفيتو ضد احد ولاتقبل باستخدامه ضدها. جبهة لاتقيم سورا او اسيجة لممارسة الثقافة ، فهي تؤمن ان الثقافة نتاج فردي يتراكم ليكون نتاج اجيال واتجاهات متعددة، وبالتالي يتحول الى فكر واطار تفكير للمجتمع. جبهة لاتفاوض على حقوق الانسان والتعددية ودولة القانون والفصل بين السلطات لانها تعتبر ذلك من المسلمات العصرية والضرورية لبناء دولة عصرية في الشكل والمحتوى. جبهة ترى العالم المعاصر وما يحدث فيه من تغيرات مع احترام ما يلزم من خصوصيات ثقافية واجتماعية شريطة ان لاتكون عائقا امام الديمقراطية وتحقيق العدالة على اساس المساواة.
جبهة تتبلور وتتجلى من خلال تفاعل الاراء والاجتهادات والمواقف وتقبل الاختلاف في وجهات النظر بعيدا عن الاختلاف على مصالح الوطن والشعب المتمثلة في بناء دولة عصرية دستورية تفصل بين السلطات ، دولة القانون والمواطن المتمع بحقوقه دون تكريس وفرض عقيدة واحدة وايديولوجية واحدة وايمان واحد. تيارحداثة ينظر الى الحداثة نظرة واقعية يمكن لها ان ترى في بعض الخصوصيات القومية والثقافية والاجتماعية غنى وثروة دون اشتراط سيادتها على المجتمع العراقي. مثل هذا التيار يساعد على تطوره صعود موجة الديمقراطية والتعددية التي اصبحت واقعا وضرورة اجتماعية لتجنب مشكلة الاستبداد التي تفاقمت بشكل عميق جدا لايمكن معالجته عن طريق المطالبة باصلاحات او اطلاق حريات.ان ولادة ثقافة ديمقراطية تستدعي ولادة جيل ثقافي جديد. وهذا الجيل الثقافي ينتشر اليوم على مساحات شاسعة من العالم تمتد من العراق الى اوروبا واستراليا وكندا والولايات المتحدة ،. وتتطلب ولادته توحيد نشاطه من اجل الديمقراطية والثقافة والعدالة والتعددية واحترام الابداع وتقليص دور الايديولوجيا في الثقافة والمجتمع والسياسة. وبولادة هذا الجيل الثقافي الجديد المكون من عدة اجيال زمنية تولد نواة المرجعية القيمية للثقافة الديمقراطية. لكن ذلك يتطلب عودة الجيل الثقافي الى نقد الماضي وتشريح التجرية الثقافية والسياسية التي قادت الى تكريس الاستبداد السياسي والثقافي والى تكريس ثقافة الالغاء والتهميش بروح موضوعية، شجاعة وتنويرية تضع مصلحة الامة والوطن والمواطن في اطار واحد باعتبارها مصلحة عضوية واحدة ، بعيدا عن اعتبار المصلحة الحزبية والفئوية المصلحة الوحيدة للعراق. (كتبت هذه المحاولة في اعوام 1997 -2000 فاقتضى التنويه بما يخص الاستنتاجات الزمنية)



#نبيل_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موقف الدول العربية من الارهاب في العراق
- حدثني يا ابتي
- الديمقراطية في الفكر الغربي
- ربع قرن من العزلة
- لكي لانصاب بنكسة دستورية
- صاحب الحكيم ومحاكمة صدام
- اثينا 403 قبل الميلاد - بغداد 2003 دكتاتوريةالثلاثين- دكتاتو ...
- المرأة في الفكر السياسي العراقي


المزيد.....




- أوروبا ومخاطر المواجهة المباشرة مع روسيا
- ماذا نعرف عن المحور الذي يسعى -لتدمير إسرائيل-؟
- من الساحل الشرقي وحتى الغربي موجة الاحتجاجات في الجامعات الأ ...
- إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
- -السنوار في شوارع غزة-.. عائلات الرهائن الإسرائيليين تهاجم ح ...
- شولتس يوضح الخط الأحمر الذي لا يريد -الناتو- تجاوزه في الصرا ...
- إسرائيليون يعثرون على حطام صاروخ إيراني في النقب (صورة)
- جوارب إلكترونية -تنهي- عذاب تقرحات القدم لدى مرضى السكري
- جنرال بولندي يقدر نقص العسكريين في القوات الأوكرانية بـ 200 ...
- رئيسة المفوضية الأوروبية: انتصار روسيا سيكتب تاريخا جديدا لل ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - نبيل ياسين - مستقبل الثقافة في العراق