أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عفيف إسماعيل - المُعلّم.. أسرَى إلى البُطانة.. وأدّاها نمّة!!















المزيد.....



المُعلّم.. أسرَى إلى البُطانة.. وأدّاها نمّة!!


عفيف إسماعيل

الحوار المتمدن-العدد: 6556 - 2020 / 5 / 6 - 11:08
المحور: الادب والفن
    


مِن حِرفَته كبنّاء محترفٍ يشيد البيوت وكلّ ما يَعمُر تحته الناس، جاء لقب "المُعلّم"؛ فهو حاذق في صنع الزاوية، وماهر في رصّ الطوب بانتظام؛ واحدة بعد أخرى، بسرعة فائقة، مدماكاً بعد مدماك، من الأساس حتى يستوي بناءً باهراً يَسرّ الناظرين. أكسبَته مهنةُ أبي الأنبياء الصبرَ والمثابرة، وعلّمته أن لا شيء في الحياة يتمّ بغير تخطيط وحكمة في التصرّف الموزون والتنفيذ بدقّة متناهية حتى لا يميل مثل البنيان فيسقط وينهار، وعليه لم يكن هناك فاصل بين تفكيره المهنيّ والحياتيّ اليوميّ في مسرى الساعات بعد انتهاء العمل، فتداخَلا في حالة ذهنيّة حيويّة ترجَمَها أفعالاً سهلةً في ترميم نفوس كلّ مَن هُم حوله، أو بِنَاء جسور مودّة بينه وبين الناس وبين كلّ معارفه، فأصبح نقطةَ الالتقاء مثل مغنطيس بشريّ. لذا، نحن أبناؤه وبناته وأصدقاؤه والذين حظينا بقربه، كنّا نطلق عليه لقب "المُعلّم"، ليس لارتباطه المهنيّ، بل لحكمته الثاقبة في الحياة التي عنوانُه فيها الابتسام ومسكنُه الدائمُ فيها المحبّة.

عندما تجيء ابتسامتُه أمامَه تَفتح له كلّ الأبواب فيُطلّ عليك بجلبابه الأبيض الناصع مثل روحه المصقولة بالبريق والندى. لا تنس أن ذاك هو الجلباب المميّز الذي يرتديه في كلّ الأوقات، ويُلبس بالوجهين، وتلك هي الطاقيّة "الأنصاريّة" التي تكاد أن تثقب الفراغ بتطاوُلها الصاروخيّ إلى أعلى، ثم "العِمَّة" التوتال مزخرفة الحواف بخيوط فضية يُحكِم لفّها جيداً ثم يَترك "العَزَبة" تتهادى برشاقة أنيقة تتدلّى على كتفه. فهو مَهدويٌّ حتى النخاع، يجاهر بحبّه لآل المهدي، وحزب الأمة القومي هو بوّابته إلى الوطن الذي ظلّ يحلم أن يراه يوماً ما بخيرٍ وفيرٍ ينعم بالديمقراطيّة والسلام والتنمية المستدامة، وبالطبع، على حسب تقديره، أن يتولى أنصار المهدي رأس "جلكاية" التغيير مثل أبطالهم في التاريخ.
عندما هاتفتُه من السّاحل الغربيّ الأستراليّ، وهو في القاهرة، في اليوم الثاني بعد أول جرعة من العلاج الكيميائيّ، سألتُه عن صحّته وعن أي تغيّرات حدثت له، فجاءني صوته منطلقاً ممراحاً ضاحكاً كما هي عادته قائلاً:
ـ آآفوو، نحنا بخوِّفونا بالجَمُر؟، نحنا "أنصار" نأكل النار!!
يَحفظ تاريخاً للمهديّة غير مكتوب. في لحظات صفائه معنا يعيد كثيراً من الحكايات الشيقة كأنه كان حاضراً لها، عن البطل "محمد أحمد المهدي" وخليفته "ود تورشين". يحكي عن بطله المفضّل "عبد القادر ود حبّوبة" ويحفظ كلّ الأشعار التي تمجّده، ولا يتوانى لحظةً في أيّ مكان عندما يسمع الفنان "بادي محمد الطيب" يشدو بـ:
"بِتريد اللِّطام أسد الكُداد الزّام
هزّيت البلد من اليمن للشام
سيفك للفِقَر قلَّام".
تتهلّل ملامحه بالإشراق، ويزور دمعٌ شفيفٌ عينيه، ويرفع يدَه مبشّراً، ويصيح مثل درويش غارق في وله الحبيب صيحاتِ إعجابٍ وتقديرٍ لهذا البطل الهمام.

في يناير ٢٠١٨م، التقطَتْ عدسة الناشط "خالد بابكر" صورة السيد "يعقوب محمد مصطفى"؛ عضو المكتب السياسي لحزب الأمة القومي، وهو يسخر من آلة دولة الإخوان المسلمين لقمع الاحتجاجات السلميّة في عاصمة البلاد، ذلك عندما سقطت قنبلة للغاز المسيل للدموع تحت قدميه، فقام بهدوء بوضع علبة "البمبان" الحارقة في جيبه وسار في عمق سحابة من الدخان الخانق والحارق رافعاً يديه إلى أعلى مواصلاً الهتاف ضد القهر والقمع والجوع. تحوّلت تلك الصورة إلى أيقونة ثوريّة في كلّ نشرات الأخبار العالميّة، وبين مواقع التواصل الاجتماعي، فأرسلتها إليه. عندما اتصلتُ به في مساء اليوم ذاته، سألتُه عنها فوجدتُ شقيقي "عاطف" قد سبقني بإيصالها، قال بصوته متهدّج:
- هَلّا.. هَلّا! نحنا منتظرين "أب سروالاً حديد"ـ يقصد السيد "الصادق المهدي" ـ يدّينا الإشارة، الله أكبر ولله الحمد، نحنا أنصار باقي كَتلة، يمين لو الإمام أدّانا الإذن، الخرطوم دي كرررر ندخُلا الضحى الأعلى!!! وكررررر نحرّرها في ساعات زي ما حرّرناها قبل كدا من أبّان عيوناً خُدُر!! ما بنقيف إلا في فلسطين!! نحرّر ليكم القدس هوادة فوق البيعة. يمين لو كنتَ في الخرطوم الأيام دي كنت بقيت "يعقوب" تاني!!
بتلك الرّوح الوثّابة استطاع أن يقاوم المرض اللّعين وأدهش طبيبه المتابع من التطوّر المستمر في صحّته، عاد النخاع ينتج كُريات متوازية إلى حدّ ما، وتوقّف غسيل الكلى تماماً بعد الشهر الأول، وأصبحت كليتاه تعملان بكفاءة عالية، فبصق مرارة أوجاعه على تصريح وزير الصحّة الاتحادي "بحر أبو قردة" للصحف الذي صادف تلك الأيام، وجاء فيه:
"الحكومة بتَصْرُف قروش كثيرة جداً على مرضى السرطان وهم في النهاية يموتوا"!!!!
مثل هذا التصريح الخالي من أي حساسية إنسانيّة يُثبت أن حكومة الإخوان المسلمين تريد للشعب السوداني الموت البطيء! وهُم في الأصل دعاة موت وخراب، أو لا يدرك مثل هذا الوزير أن كلّ كنوز الأرض لا تعادل لحظة أن تكون سليم الرّوح والبدن؟.
اسمُه "إسماعيل عبد الرزاق إبراهيم"، الشهير بـ "المُعلّم" والد كلّ من "عاطف، وعاكف، وعفيف وسناء، وعارف، وعمار وعامر، وعمرو، وعزت، وعلاء الدين - الذي غاب باكراً عن هذه الحياة -، ثم آخر العنقود "سارا".
من خلال تراتُبيّة حزب الأمة القوميّ صار الأحبابُ من حوله ينادونه "الأمير"، تيمّناً بمواقفه التي تشبه ذاك الجسور الأمير "نقد الله"، وصارت تُطربه أكثر مناداةُ أصدقائه له "الأمير أبو الأمراء"، وهو أميرٌ بحقّ؛ عادلٌ في مملكة بيتنا، وديمقراطيٌّ حتى النخاع المصاب الذي نخرته الأوجاع. عندما انتمى ابنه الأكبر "عاطف" إلى الحزب الشيوعي السوداني في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بارك الأمرَ بسماحته المعهودة، لأنه يثق في أنّ اختياره دائماً يكون في ما ينفع الناس، وبنفس الرّحابة قابل قرار "عاطف" بترك مهنة التدريس والتفرّغ للعمل الحزبي. تبعتُ أكبرَنا الذي علّمَنا حبّ الوطن والجسارة في الثمانينيات بالانتماء إلى حزب "عبد الخالق وجوزيف ومحجوب شريف"، لم يتأخّر عنا "عاكف" كثيراً فصار الناس في أيام الديمقراطيّة الثالثة يسمّون بيتنا "موسكو". عندما انضمّ أصغر أبنائه "عزت" إلى حزب الطبقة العاملة السودانية قال لي:
- الشِّيْ شنو؟ ما تخلّوا لي واحد فيكم يقرا معاي الراتب! والله بعد دا إلا أطلب لجوء سياسي للجزيرة "أبا "ولا "نوباوي"!!
في فترة في عقد الثمانينيات أخبرتُه بأنّ الحزب قد وفّر لي فرصةً للدراسة بألمانيا الديمقراطيّة، تَلوَّن وجهه بفرح مشوب بالخوف ثم تمالك نفسه سريعاً وقال:
- مبروك، والله حزبكم دا ما ساهل، نحن نربّي وهو يعلّم ويشيل ويختف كَف زي الحِديّه مع السواسيو، شغّالين تِحت تِحت زي الموية مع السد، تقرقر تقرقر لامِن تفوت بهناك، آها ح تدرس شنو، هندسة ولا قانون؟
- فلسفة ماركسية.
اتكأ باتجاهي وأرخى أذنه اليمنى جيداً وسأل مستفسراً لمزيد من الإيضاح:
-ح تدرس شنو؟
فردَدتُ عليه بصوت عالٍ:
- فلسفة ماركسية.
صفّق بيديه الاثنتين وهو يقول:
- الزمن دا كلو إنتَ ما قريت الفلسفة القشرية دي يا عفيف وحفظتها؟ نحنا راتب الإمام دا بنحفظوا صَم في يوم واحد بس!! طيّب فوق كم نِقّتكم الما بتنتهي دي إنت واصحابك الكتار البجوك يبيتوا معاك كلّ يوم خميس ديل؟ والكتب الحمرا الفي شِنْطهم ما تدّيك الدرب، يمكن تعمل معرض كتاب عديل، شايلين الليل كلو ماركس قال، فلتكان ترك! ولينين فعل، وعبد الظمبار انقسم، والله حكاية! دا كلّو ولسه إنت ما قريت الفلسفة الماركسية؟! إنتو دروبكم دي مافي زول بعرفا غيركم، يا زول أقول ليك قولة، الله يهوّن عليك، بس ما تلقى ليك خواجيّة ماركسيّة عيونا حُمُر تقوم تعرّسا هناك تقعد قبَلك وتنسانا بي هِنا، لازم تجي راجع بعد ما تخلص.
- دا تكليف يا مُعلّم أكثر مما هو دراسة، لازم أخلص وأرجع طوالي.
وعدتُ بعد انهيار جدار برلين الذي تعلّمت منه أهم الدروس؛ أنّ الشعوب لا بدّ أن تعيش حرّة، ولن تبدّل توقها إلى هذه الحرية بجنّة اشتراكيّة عرضها مجانية العلاج والتعليم وأحياناً الطعام، وتُوفّر للإنسان حقوقاً كثيرة، لكن ينتفي فيها حقّ الاختيار البسيط للسُّلطة التي تُمثّلها. وأيقنتُ بأنّ مواثيق حقوق الإنسان هي إنجيلي المبجّل، وكلّ مَن يخالفها لا بدّ أن أقف في الجهة الأخرى منه.
في صبيحة اليوم الثاني لوصولي من ألمانيا سرتُ برفقة "المُعلّم" راجلاً لتلبية نداء الواجب وتقديم العزاء لبعض الأقارب وأهل الحصاحيصا. وكعهده بذات الأناقة؛ الجلباب الذي يُلبس بالوجهين، والطاقية الصاروخيّة، وتلك العِمّة مزخرفة الحواف مُحكمة اللفّة التي تتدلى "عزَبتها" برشاقة على كتفه، وخطواته صارت أيضاً أكثر رشاقة وخفّة مما تركته، وصرت أحياناً ألهث خلفه فقلت له:
- يا "مُعلّم" يبدو إنك نقصت ليك زي خمس سنين كدا، ولا أنا كبرت عشرة سنة ما عارف!! هسع أنا أطول منك بكتييير وانت ماشي أسرع مني!!
- تعرف يا "عفيف"؟ المداومة على الصلاة فيها فوائد كتيرة، فكلّ حركة فيها بركة كبيرة وخير كبير للبدن وبتحرِّك عضلة معيّنة، عندما تنتهي من ركعة واحدة بتكون مرّنت كلّ عضلات جسمك، كأنك عملت تمرين كامل بتاع سويدي جاري قدامك من المدرّبين "ود الريس ولا عباس إحيمر ولا هاشم كبير ولا زمبا". إنت عارف "المهدي" عليه السلام كان أطول منك كدا، وجسمه مليان ورياضي، شدّة ما هو ضخم يدّه بس تقول طالوش!! مافي زول بقدر يضمّها بكفّته، وإذا سلّم عليك وعصرك بيها ممكن تقعد في الواطة، دا إذا ما عملتَ حاجات تانية. كان قوي مَتين يشبح شبحة واحدة والزول الماشي معاه يخب تلات خطوات من وراه. خطوته الواحدة زي متر وواحد وخمسين سنت ونص!!
- هيي يا "مُعلم" انت حِضِرْتو وكنتَ شايل مِترَك معاك ولا شنو؟!
يضحك بصفاء ثم يقول:
- كدا خلينا من الفات، هسع الفلسفة القشرية القريتا عند أهلها دي ح تشتغل بها وين وشنو؟ فالبلد دي بقت مجَروس عندو دقن!!
- ح أبقى "مُعلّم" زيّك، مُعلّم ماركسية في الحزب، لكن ما تخاف درستَ برضو تصوير فوتوغرافي وح ألقى بيه شغل.
المجَروس والدقن وزمرة الكذبة الفاسدين، سرَقة قميص ابن يعقوب، كانوا قد تمكّنوا في أرض "كوش" الطيبة، تم رهنها بالكامل لكلّ أطماع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وحلمهم بإقامة دولة الخلافة الراشدة وأرجعوها قروناً ماحقةً إلى الوراء، ولا مجال للعمل ما لم تكن من المقرّبين. بعد أقل من عام صرتُ زبوناً دائماً لمعتقلاتهم بمعدّل مرة أو مرتين في العام، وفي كلّ مرة أفقد عملي. كان قلب "المُعلّم" أبينا الذي علّمَنا حب الحياة والوطن ينزف أكثر عندما يطال الاعتقال شقيقي الأكبر وصديقي ورفيقي في الحزب "عاكف"، لقد ترافقنا لخمسة اعتقالات من جملة أربعة وعشرين اعتقالاً بالنسبة لي في زنازين جبروت الإخوان المسلمين وتلك البيوت اللعينة.

حكت لي أمي، عند كلّ اعتقال ينقلب حال "المُعلّم" ويصير متجهّماً متوتراً وسريع الغضب عكس طبعه المتسامح، يلزم مُصلايته مسبّحاً معظم الليل، وينسى عادته في النوم المبكّر، ولا يجامل من تسبّبوا في الأذى له وللوطن ولكما.

أثناء اعتقالٍ لنا أنا و"عاكف" عام ١٩٩٥م، تم ترحيلنا بعد يوم من الاعتقال في زنازين الأمن الاقتصادي بمحالج الحصاحيصا إلى مدينة "تمبول"، بصحبة الرفاق الشيوعيين والديمقراطيين "عبد الكريم عبد النور، ومعروف علي أحمد، حسن وراق وأزهري محمد علي، وعبد الوهاب إبراهيم هنداوي، وعبد الوهاب أحمد صالح، والمحبوب محمد الأمين، وزرّوق الناجي". يحكي سكّان حي أركويت بجنوب الحصاحيصا عنه إنه دخل إلى الجامع لصلاة المغرب فوجد أحد أذناب النظام بالحي، وهو الذي كان أرشد كتيبة الأمن إلى بيتي الذي لا يبعد كثيراً عن منزل العائلة، يؤمّ الصلاة لغياب الإمام، فخرج "المُعلّم" بعد إقامة الصلاة من بين الصفوف وصلّى المغرب منفرداً. عندما أكمل المصلّون صلاتهم حاولوا بالطيبة السودانية أن يخفّفوا من احتقان الموقف فأجابهم بحزم: "بأنه لا يمكن أن يصلّي خلف فتّان نمّام يبيع الباطل ويجيد الخداع والتدليس ويخون العِشرة والجيرة والملح والملاح".

في ١٧ سبتمبر ١٩٩٤م استشهد الزميل "عبد المنعم رحمة"؛ رفيق عاطف إسماعيل في التفرّغ الحزبي بمنطقة الجزيرة، من جراء التعذيب الوحشي الذي ابتدأ بود مدني وانتهى بزنازين الحصاحيصا. كان الأمن اللاوطني قد استطاع أن يكشف عن خلية سريّة للحزب، وكانت كلّ الخيوط المتشابكة لديهم تبدأ وتنتهي باسم حركي وهو "إبراهيم". في آخر لحظات الشهيد "عبد المنعم رحمة" في الحياة كانوا يسألونه من هو صاحب الاسم الحقيقي لـ"إبراهيم"، فيردّ عليهم بالهاتف العالي بحياة الشعب السوداني والحزب الشيوعي السوداني، يقول لهم إنه هو "إبراهيم" فتزداد غلظة الجلاد حتى فاضت روحة الجسورة.
"إبراهيم" هو الاسم الحركي لـ"عاطف إسماعيل"، الذي أصبح منذ تم ضرب تلك الخلية السريّة هو المطلوب رقم واحد لأجهزة القمع والتنكيل بالجزيرة، فقرّر الحزب، قبل اعتقال الشهيد عبد المنعم، أن يختفي "عاطف" و"منعم" تحت الأرض، وقد تم اختفاء عاطف بتاريخ الرابع من سبتمر١٩٩٤ كي يؤدّي مهام عمله الحزبي التي لا غنى للمنطقة عنها، وكي يظلّ بعيداً عن تلك الأعين النهمة التي تريد ان تصطاده بأي ثمن. "الاختفاء تحت الأرض" يعني في قاموس الشيوعيين السودانيين أن يختفي الكادر المحدّد من الحياة العامة تماماً بما فيها الحياة الأسرية.

ويختفي "عاطف" تحت الأرض الأسبوع الأول من سبتمبر ١٩٩٤م!!
ويسشهد "عبد المنعم رحمة" يوم ١٧ سبتمبر ١٩٩٤م تحت التعذيب الذي قاده ضابط أمن "نبيل عبد الصادق".
ترك "عاطف" زوجته "نجوى"، وابنته "أسيل وابنه "أشرف" في رعاية الرجل الهمام حدّ الفنجرة، الكريم مثل محيط بلا حدود؛ جدّهم المرحوم "إبراهيم القيلاوي" الذي قام بمقام الجد والوالد.

بعد أسبوعين من اختفاء "عاطف" في يوم ١٨ سبتمبر، وُلد طفله الثالث، فسال لعاب كلاب الأمن للوليمة القادمة حسب ظنّهم الخاسر، فظلوا يحرسون بيت آل القيلاوي بمدينة المسلمية ليل نهار!!
لا مجال كي يكحل "عاطف" عينيه بطفله الوليد، لذا أرسل رسالةً طلب فيها أن يُسمَّى صغيره باسم "منعم" تيمّناً برفيقه الذي استشهد قبل يوم واحد فقط من ميلاده، أو أن يُسمّى باسم الشاعر السوري الذي يعشق "أيمن أبو الشّعر". لكن الزملاء بمدينة المسلمية، وعلى رأسهم "معروف علي" والنقابي المفصول للصالح العام "آدم شمبول"، فضّلوا لظروف التأمين أن لا يُسمّى باسم الشهيد "عبد المنعم رحمة"، واختاروا الاسم الثاني.

بعد عام كامل من تاريخ نزول "عاطف" تحت الأرض استطعنا في الحزب تدبير زيارة استطلاعيّة آمنة لرفيقة الأهوال والمحبة "نازك" و"رفيف" بنتي الصغرى التي تركها "عاطف" وعمرها سبعة عشر يوماً فقط فوجدها تتكلّم وتسير على قدميها تسأله تلك الأسئلة التي لا إجابات لها. تحت سيف المخاطر المعلّق كان يتحرّك المرحوم "عادل ميرغني" وآخرون مثل الأشباح الخفيّة ليتم بنفس المهارات الحزبية تدبير زيارة آمنة لي وحدي أولاً، ثم بعد شهرٍ آخر لـ"المُعلم" والوالدة معاً حيث أمضيا ليلة كاملة معه، أعطى فيها "المُعلّم" والوالدة "عاطف" جرعات من التماسك كي يستمرّ تحت الأرض حتى مفاصلة "الترابي" الذي انقلب عليه سِحره في نهايات التسعينيات.

لا أدري كيف احتمل "المُعلّم" وأسرتنا تلك الأعوام الكالحة المقيتة!! في شهرٍ ما صادف، إلى جانب اختفاء "عاطف"، أن اختطف جنود الخدمة الإلزامية شقيقي الأصغر "عامر" وهو في طريقه من الخرطوم إلى الحصاحيصا، ورموا به في أتون المحرقة، ثم تم اعتقالنا في الأسبوع ذاته أنا و"عاكف"، وبيتنا مراقب على مدار اليوم. ويسير ركب المراقبة المكشوفة لكلّ أفراد الأسرة، يتابعون "المُعلّم" والوالدة حتى في ذهابهما إلى صلاة الصبح وصلاة العِشاء. في تلك الأيام العصيبة جاءت إحدى قريباتنا وقالت" للمُعلّم":
- يا "سماعين" يا أخوي ما تقرع الأولاد ديل من البعملوا فيهو دا!! كفاية شَلْهَتة وكفاية بَهْدَلة، وكفاية شيل حال!!
وصفَت لي رفيقة الأهوال والمحبة "نازك" أن "المُعلّم" وقف كالملدوغ وانفجر بصوت راعد تسمعه لأول وآخر مرة وقال لها:
- أولادي في السجن لا نهبوا لا سرقوا ولا حرامية، ولا مسكوهم في جريمة قتل ولا جرائم أخلاقية، أولادي ما بجيبوا العيب ولا الشين، خشّوا السجن عشان بدافعوا عن حقوق الناس المساكين الزيّنا، حقّك وحقّي وحقّ أولادك، بدفعوا التمن حرّيتهم عشان حرية البلد دي كلها.

وُلد المُعلم بقرية "ود أبشام" في حضن بطانة "أب علي وحسان" وأرضها الخصيبة الطيبة، لذلك علّمنا كلّ أسرار الزراعة المطريّة ومعرفة تقويم منازل عِينات المطر من "العصا العطشانة" حتى "العوا والسّماك"، وكذلك معرفة قدومه قبل ساعات من موعده، وقراءات تقلّبات الطقس بعلامات في الطبيعة، وعلامات الخريف أيضاً؛ إن صحَّ أو كان فاشلاً. كنا نقضي إجازاتنا المدرسية أحياناً في "الكديب" وتنظيف الأرض وأحياناً أخرى في الحصاد وجمع محصول الذرة الذي يشكّل لنا مؤونة العام ويفيض إلى كلّ من له حظّ ونصيب فيه من الجيران والأهل، إلى جانب قدر معلوم من " القنقر" ومخزون إستراتيجي من "الويكة" و"أم تَكَشُو" اللتين تنموان "بَرُوس" ومعهما "المُوليتا". توحَّد عشقه بأرض "ود أبشام"، يذهب إليها في كلّ المناسبات الاجتماعية التي تخص أهلها، وأيضاً بلا مناسبات عندما يشتدّ به الحنين ليتكرّف أنفاس الأرض الطيبة التي يحبّ، برغم أنه فارقها باكراً إذْ تعلّق قلبه ببنت خاله "عبد الله خير السيد" بالحصاحيصا. عندما قرّر الزواج بأمي، كانت صغيرة السنّ كعادة أهل ذاك الزمان، وهو أيضاً تخطّى عتبات المراهقة بقليل.
يُحكى عن تلك الليلة أنّ "السيرة" عبرت النيل الأزرق، من مُشرع رفاعة إلى الحصاحيصا، وتحرّكت راجلةً تسبقها الزغاريد والدفوف، فخرج لها كلّ أهل الحي الأوسط حتى وصلت بيت جدي "عبد الله خير السيد". وكان العريس صبيّاً نحيلاً تَجلّط شعره بالضَّرِيرة ويتلامع الهلال الذهبيّ فوق جبينة ويهرج حرير البنفسج بيده اليسرى ويحمل بها سوط عنج من جلد "العِنْسِيت"، ويهزّ بيمينه سيفاً لامعاً، منتشياً مبتسماً. تزاحم الخلوق كي يروا العريس الذي يبدو لصغر سنه كأنّه أحد أشقّاء العريس الصغار، مما حدا بإحدى جارات جدتي "آمنة الجمل" بطولها الفارع الممتلئ أن تقول وهي تشهق استغراباً:
ـ آجي يا بنات أمي؟! دا ما شويفع ساكت يا اخواني عريس الشَرِق دا!! هسّع عليكم الله دا عريس ولا ود طهور!! أُووغسم بالله العظيم ممكن اشيلوا في صفحتي دي!!
أطلّ "عاطف" أكبرُنا وأجملُنا إلى الحياة أولاً فاستَحقّ عن جدارة لقب الفرحة الأولى والابن البكر، بمتوالية ثابتة لا تعرفها جداول حبوب التنظيم. جاء "عاكف" بعده بعامين، ثم تبعتُ "عاكف" بعد عامين أيضاً، وبعد عامين من الانتظار الملهوف جاءت الأميرة المنتظرة "سناء"، لتكسر حدّة التسميات التي تبدأ بحرف العين وتنتهي بحرف الفاء. برغم أنها حرَمتني من دفء أمي باكراً لكننا صرنا كما التيمان في التلازم والمحبة، وكان الأمر يختلط على كثير من أهل المدينة فينادونها باسم "عفاف"، وأحبّها "المُعلّم" بعمق مختلف عن حبّه لنا، وكنا نلحظ ذلك؛ طيلة عمره عندما يدخل البيت لا ينادي أحداً غيرها، وأحياناً كثيرة يلهج باسمها قبل أن يفتح الباب.

لـ "المُعلّم" تقاليد ثابتة النوم المبكر والصحو المبكر أيضاً، لا ينام إلا بعد أن يقرأ سورة "الواقعة". يقول دائماً إن البيت الذي تُقرأ فيه سورة "الواقعة" ليلاً لا يَعدَم قوت غده، وبعد صلاة الصبح يتلو بصوته الرخيم إحدى سور القصص القرآني، ثم راتب الإمام. أظنّ ذلك أحد محفزات مخيّلتي باكراً لعشق الحروف النورانيّة، وتنمية ملكة السرد والكتابة، والتعلّم من هذا الإرث المقدّس العظيم، وتأمّله باستمرار.

كذلك كان منفتحاً على قراءات متنوّعة ومتعدّدة. عندما كنتُ في التاسعة من عمري، كان يعمل مع المقاول المرحوم محمد الأمين من قرية "التمييد" الحلاوين، وكان نصيبه عطاءً لتشييد مدارس عديدة بالجزيرة في أول السبعينيات، واقتضت طبيعة العمل أن يغيب لمدة أسبوعين عن الحصاحيصا. وكان إلى جانب زاد الجسد حريصاً على زاد الروح؛ مثلما فتح لنا حساباً لشراء احتياجات البيت عند دكان المرحوم "عثمان طه" على الناصية المقابلة لبيتنا الأول بالحي الأوسط، كذلك فتح لنا حساباً بـ "مكتبة النور" بسوق الحصاحيصا، كان يأخذ منها زاده. وتعلّمنا منه أيضاً تلك الغبطة النادرة التي ما زالت تلازمني حتى الآن عند اقتناء الكُتب الجديدة. وقرأت في مكتبته كلّ كلاسيكيات الأدب الفرنسي في بواكير الصبا، لذلك عندما كنت أصرف كلّ ما معي من مال في شراء الكتب يعلّق قائلاً:
- قروش تعبك دي كلها مكمّلها في شراء الكتب دي!!
كنت أردّ له:
"دي ما بذرتك يا مُعلم".

أظنّه اختار الاغتراب لسنوات بليبيا ليس فقط لأنّ خالي "محمد عبد الله" قد سهّل له الطريق إلى هناك، وكان خيرَ يدٍ وعونٍ لصهره، إنما للعلاقة الطيبة التي تجمع "القذافي" بالسيد "الصادق المهدي"، وكانت محلّ حديثه وافتتانه دائماً. ويذكر تفاصيل كثيرة؛ كم مرة تدخَّل "أب سروالاً حديد" لحلّ مشكلات السودانيين العالقين "بالكُفرة" وكل المجاميع التي تهدّدها المخاطر في صراع الأفيال الطائشة، ويراعي حال السودانيين أن لا يصيبهم مكروه كلما ساءت العلاقة بين الدكتاتورين العقيد "القذافي" والإمام المخلوع "نميري".

أمضى في ليبيا سنوات طويلة، وكنت أخباره تصلنا من الخطابات السلحفائيّة المكتوبة بخطّ يده المميّز على صندوق بريد ٩٨ لصاحبة العم "سر الختم حاج عبد الله" بسوق المدينة، أو من تسجيلات صوته عبر شريط الكاسيت عندما يحضر أحد القادمين من طرابلس.

عاد في أوائل الثمانينيات ليصبح مقاولاً للبناء، ولديه بين حين وآخر كماين لصنع الطوب الأحمر، فوجد الكتوف قد تلاحقت طولاً وليس مقاماً، وصرنا "عاكف" وأنا نعمل معه. ومع عودته ظهَرَ فجأةً عامل البناء الجنوبي "الفِيات" الذي كان يرافقه في السبعينيات، وكان يأتي إلى بيتنا دائماً ويلاعبنا نحن الصغار بحملنا إلى أعلى وهو يضحك يقول:
- شوف سما دا بعييييد ولا قريب؟ شوف شمش بتاع ربُّنا دا باااارد ولا هاااار!!
عندما ظهر كتاب لتعليم لغة "الدينكا" اجتهد شقيقي "عاكف" في تعلّم لغة أجداده، وراح يتمرّن تطبيقياً مع العمال ويساعده "الفِيات" مبسوطاً وبحماس على النطق السليم، فأتقن فهمها ونطقها. وذات يوم، ونحن نعمل قبيل الساعة الثالثة بقليل موعد انتهاء العمل، تبقى مُدماك واحد قبل أن نصل حدّ السقف، أصرّ العامل الجديد الذي جلبه "الفِيات" في الصباح أن يتوقف عن العمل أو يُحسب له أجر إضافي لأن الساعة ستتجاوز الثالثة بعد دقائق، فتكلم "الفِيات" معه بلغة "الدينكا" وأقنعه بأن يحمل قدحاً واحداً، وهو سيحمل قدحين، فقال له العامل الآخر، بلغة "الدينكا" ناظراً باتجاه "عاكف" وهو معلّق على علوّ السقالة الشاهق: "أنا ح أملا القدح دا لحدّ ما يدفق! والنشوف الولد دا كان يقدر يرفعو" فصاح به "عاكف":
- جيب ليك طشت مش قدح!! وبعد ما تملاه أطلع فيه وأرفعه شوفني بقدر أشيله ولا ما بقدر.
فذُهل العامل وصاح مخلوعاً:
- ووهه.. ووهه!! ناجركوك بتاع مندكورو دا بعرف كلام بتاع نحنا!!
فضحك "المُعلّم" و"الفِيات" طويلاً، وصار ذاك العامل بعد ذلك من معلّمي "عاكف" لإتقان لغة "الدينكا".

نصّب الإخوان المسلمون، بضلالهم الانتهازي، الدكتاتور العربيد "جعفر نميري" إماماً ليعلن شريعة الترابي المهووسة التي لم تُراعِ حقوق المواطَنة السودانية، وقد سَمَّاها المفكّر، الشهيد في مقارعة الهوس، الأستاذ "محمود محمد طه" بقوانين سبتمبر ١٩٨٣م التي لم تَرَ من الشريعة الإسلامية غير تطبيق الحدود، فكثرت متاعب" الفِيات" مع محاكم الكشَّات، وكان "المُعلم" يسارع إلى حَراسات السجن ليُخرجه بالضمان قبل أن يُجلد في ميدان عام هو ورفاقه من العمّال الجنوبيين. عندما تكرّر الأمر كثيراً قرّر "الفِيات" العودة إلى مسقط رأسه وترَك حزناً كبيراً في قلب "المُعلّم".

عندما عاد "المُعلّم" من ليبيا وجد الإخوة "غبريال قيتانو" حارس مرمى نادي قلب الجزيرة ومعه "ديڤيد" يسكنان معنا بالبيت بعد بعض المصاعب مع إدارة النادي بنهاية موسم، ولا سبيل لهما كي يرجعا إلى "واو" إلا بعد توقّف موسم الأمطار وإكمال العام الدراسي، فذهب إلى إدارة النادي الذي لعب له كحارس مرمى فترة قصيرة في شبابه واتفق معهم على حلٍّ يرضي جميع الأطراف، وهو أن يفي النادي بكل التزامات سفرهما وسكنهما حتى نهاية العام الدراسي وأن يتناولا كلّ الوجبات في بيتنا.
في عام ٢٠١٥م كنتُ في جولة حول الوطن العربي لتدشين كتابين صدرا في ذات العام بالقاهرة وهما: "الأعمال الشعرية"، و"مُنمنمات حكائيّة" بعنوان "مثلما ينام الضّوء بعيداً".

بعد نهاية الأمسية الاحتفالية كنت في ضيافة الصديق "سمير الماجدي" في أبوظبي. قال لي:
- أظنّ يا "عفيف" أن عقيدتنا الكروية أنا وأنت هي نادي قلب الجزيرة بالحصاحيصا؛ لأن أسرتينا لديهما ارتباط وثيق بهذا النادي العريق.

وعدنا بالذاكرة إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، حيث كانت بدايات خروجنا الاجتماعي ليلاً في المدينة. كانت بنادي قلب الجزيرة لأن بين عضويته أخوال وأعمام لنا، ثم جذبتنا الرفقة الطيبة لسنوات عديدة بشيخ الأندية بالحصاحيصا؛ النادي الأهلي الثقافي الاجتماعي الرياضي، إلى كلّ من الأعزاء "محمود سعيد، وعوض حمدنا لله، والفاتح بابكر، وأبو الدرش، ومحمد ورّاق، وسعيد وحسن مطر، والفاتح محمد الأمين، وسامي الماجدي، وأمين محمود، وشهاب قجة، والتوم ود شكير، والمرحومين إسماعيل سعيد "هندوس"، وعثمان الصديق"، وكثير من الصحاب. ثم تفرّقت بنا الأندية المختلفة وصرتُ أنتمي إلى كلّ نادٍ على حسب نشاطه الثقافي وليس الكروي، فكان بعد ذلك نادي الشبيبة، ثم نادي النيل.
وتذكّرت، في تلك الليلة التي كان برفقتنا فيها الموسيقار الصديق ربيع عبد الماجد "ساورا"، واحداً من ردود "هاشم كبير" حاضر البديهة ولاذع العبارة دائماً. ذلك عندما دعاه "المُعلّم" في إحدى إجازاته إلى وجبة الغداء معنا، ومعروف عن "هاشم كبير" حبه الجارف لنادي قلب الجزيرة والشطّة وكل ما هو مفروك، كان الصحن الرئيسي كبير الحجم تتسلطن به كسرة مملحة بملاح "ورَق" مفروك بالبامية والشمار الأخضر في وسط الصينية، وإلى جانبه صحن صغير للشطّة، وآخر لسلطة الخضار وصحون إضافية أخرى. في أقل من دقيقة امتدت الأيادي الكثيرة التي كان يعمر بها الديوان دائماً نحو الشطّة فصار صحنها فارغاً، فالتفت هاشم كبير نحو "المُعلّم" وقال له وهو يشير بيده اليسرى إلى الصحن الكبير الذي كان مليئا بالكسرة المملّحة بملاح الورق:
- تاني لما تعزمني قل لبت الخالة تجهّز الشطّة في الصحن الكبير دا وتملّح لينا المفروك في الصحن الصغير دا!!
تلاحقت كتوفنا مع "المُعلّم" في الطول وليس في المقام، وصرنا نعمل معه "عاكف" وأنا ونعود منهكين في نهاية اليوم، ونحسب ونعد ثقل الأيام حتى نهاية الأسبوع. ويتحوّل يوم الجمعة إلى عيدٍ وَقفتُه يوم الخميس كلّ حسب غواياته، ويجتمع شمل أغلب أفراد العائلة الممتدّة بالحصاحيصا وقُراها المجاورة بمنزلنا من الإفطار حتى المساء، في سمر وألفة لا ينتهي، ونحن نلعب "كونكان ١٤" مع الأخوال والأعمام. لأنّ العدد كبير جداً كانت هناك قوانين عادلة تساعد في أن يجد كلّ فرد فرصته. من تلك القوانين: إذا أعلن أحد اللاعبين، بسرعة خاطفة وصوت مسموع، عن فتح الورق بجرّ "الخمسين" فإن ذلك يعني خسارة الفريق المنافس من غير أن تصل حصيلة المجموع للرقم المطلوب وهو ٣٥١. وإذا فتح أحد اللاعبين الورق من غير نزول أحد أفراد الفريق المنافس "تفطيرة" بالحد الأدنى المطلوب هو ٥١، تعتبر "صائمة" ويتم خروج الفريق الآخر مهزوماً مكسور الخاطر.

ذات يوم كنت أزامل "المُعلّم" بعد أن خسرنا في الجولة الأولى من خمسين جدَعها " المُعلم" بسهولة في وقت حرج والصندوق ماشي على الدك، والتنافس في أشدّه. دارت الدائرة مرة أخرى، ووجدنا في الجانب الآخر يجلس الحريفَان جداً وطويلَا اللسان؛ "محمد سُلّم" و" فضل جابر". نظرتُ إلى ورقي في التوزيعة الأولى فوجدت أن كلّ ويكة البطانة لا يمكن أن تلايقو، ومع أول بايظ مني نزل "محمد سُلم" الذي يجلس على يميني بأحد عشر كرتاً، فصحتُ خائفاً من الخروج المبكر وندهت بأعلى صوتي "المُعلم":
- يابا ما تنزل، أنا ورقي كعب!
يجدها "محمد سُلّم" فرصة للترْيَقة وحرب الأعصاب ويضحك هو يحرّك الكروت الثلاثة المتبقية بيده اليسرى ويقول:
- شوف النَّـنُّوشي، التَّـنُّوشي، التَّـمْـبُوشي دا! أحيييييي انا، يابا ما تنزل!! يابا ما تنزل!!
يزداد ضحك وحماس المتحلّقين.
وتمرّ دورة أخرى والورق ما زال كما هو، وأقول له بصوت أعلى:
- الناس ديل بالطريقة دي بقوِّمونا صايمة، يابا ما تنزل!!
فوضع "المُعلّم" الورق كله على الطرابيزة وهو ينظر ناحيتي، قال لي:
- هيا ولدي، ما تنزل إنتَ!! إنتَ طالع ليك في شجرة لا شنو!
يسافر "المُعلّم" إلى خارج السودان ويعود كما هو؛ القرويّ الفقير الذي تمدّن قليلاً، سريعاً يخلع البدلة والبنطال ويرتدي جلبابه الذي يُلبس بالوجهين. وعندما عاد نهائياً من ليبيا صار مقهى "عبد الرحمن الجعلي" الشهير بـ "أب شنب" مكتبه الذي يدير منه كلّ عملياته لمقاولات البناء، هذا المقهى معروفٌ بأنه مركز تجمّع كلّ ما يخص عملية البناء من بنّايين وعمّال ونجّارين ونقّاشين. تقف قربه لواري التراب والرملة.

نمَت بين "المُعلّم" و"عبد الرحمن الجعلي"؛ "أب شنب"، صداقة نادرة، تحكمها مناقرة حميمة. و"عبد الرحمن أب شنب" يميز وجهه ذاك الشنب الضخم المبيضّ الذي يمكن أن يركّ عليه العصفور بسهولة، ويعتني به عناية خاصة. حتى بعض الناس لا يعرفون اسمه الحقيقي، وينادونه فقط بـ "أب شنب" فينتشي لذلك كثيراً.

دائماً ما كانا يجلسان معاً يتسامران، ما بين الساعة الحادية عشرة إلى منتصف النهار، في ذاك الوقت الخامل لهما معاً حيث يكون "المُعلّم" قد أكمل التصاريف الصباحية لترتيب يومه لكلّ عمّاله، ويكون الفوج الأخير بالمقهى قد عاد بعد تناوله وجبة الفطور إلى مكان عملهم، ولقتل ذاك الضجر ابتكر "المعُلم" لعبة صارت شغلهما الشاغل بشكل يوميّ على مدار سنوات عديدة. ذات يوم جلس "المُعلم" على مقربة من "عبد الرحمن الجعلي"، وصار يبرم شنبه الصغير جداً مقارنة بشنب "عبد الرحمن الجعلي" الأصلي، واتفق مع ثلاثة من العمال الذين يعملون معه من وقت إلى آخر عندما يمرّون قربه وهو جالس في الجانب الآخر من الطاولة التي يجلس عليها "عبد الرحمن أب شنب" أن ينادوه هو بـ "أب شنب"، فجاء العامل الأول وقال:
- سلام عليكم، ازيّك يا اب شنب!
تأهّب "اب شنب"؛ سيد اللِّسِم، ليردّ عليه التحية كما هو متعود دائماً، فسبقه "المُعلم" وردّ عليه بسرعة:
- أهلاً وسهلاً اتفضّل اشرب شاي.
وانهمك معه في حديثٍ وهو يبرم شنبه، وأتى الثاني والثالث وتكرّر نفس المشهد، فاغتاظ "أب شنب" الحقيقي بغضب مهول، وتحسّس شنبه الضخم أكثر من مرّة ليتأكد بأنه ما زال في مكانه، ولم تبرد نار حنقه إلا بعد أن مرّ آخرون وألقوا عليه التحية المعهودة بالنسبة إليه؛ باللقب الذي يفتخر به، فهدأ قليلاً وراح ينظر إلى "المُعلم" وهو يقول:
"بالله عليك الله شوف اب شِنِيب دا"!!
منذ ذاك اليوم استمرّت هذه المباراة الشنبية بشكل يوميّ، وصار كلّ من يريد أن يشرب شاياً مجانيّاً أن يأتي إلى مقهى "عبد الرحمن الجعلي"؛ "أب شنب"، بعد الساعة الحادية عشرة، وصارت للمباراة أسس وقوانين أشبه بقوانين الانتخابات. هناك يجلس في الوسط بينهما من يحمل كرّاسة وقلماً ويسجّل أرقام التصويت ليعلنها بعد نهاية الساعة المحدّدة، والرابح هو من يقدّم مختلف المشاريب مجاناً لرواد المقهى.

كنتُ أنا جزءاً من هذه المباراة الشنبية الودّية. عندما أمرّ بهما يتحفز "المُعلّم" ويقف وهو ينتظرني فاتحاً يديه كي أناديه بلقب "أب شنب"، فألقي التحية بصوت عالٍ وأحيّي "أب شنب" الحقيقي أولاً فيقوم باحتضاني بقوة، يمسك يدي بيده ويرفعها إلى أعلى مثل حكم مباريات الملاكمة، قبل أن التفت إلى "المُعلّم" وأناديه وأقول له: كيفك يا "مُعلّم". فيقهقه المرحوم "عبد الرحمن الجعلي" طويلاً فهو يعرف أنني لا أشرب لا الشاي ولا القهوة فيقول:
- دي يا "مُعلّم" أصوات واعية وحرة ما مكرية بكباية شاي، حقّو الصوت بتاعها يكون بصوتين، دي أصوات الخرّيجين يا "مُعلم".
عندما رحل "عبد الرحمن الجعلي" إلى سبيل الأوّلين والآخرين، كان سكان المدينة الصغيرة يرون "المُعلم" لأول مرة وهو في تلك الحالة من الحزن المعلن، حيث لم تتوقّف دموعه وهو يسير خلف جثمان صديقه إلى المقابر وحتى العودة مرة أخرى إلى بيت العزاء. ابتدأ الأمر ببكاء صامت ثم تحوّل إلى جعير مثكول. لن تراه المدينة في هذه الحالة مرة أخرى إلا حين رحل صديق عمره العم "عمر أحمد" والد "عبد الرؤوف ورقية عمر".

تلك أيضاً هي حالته كلما ذهبنا لعزاء الأقارب في "ود ابشام"، ويبدو "المُعلّم" متماسكاً طيلة المشوار، وحين تقترب العربة من تخوم القرية، ويشمّ ترابها، تبدأ دموعه تنَتَّف أشبه بصنبور محلوج، وعندما نصل إلى بيت العزاء يكون الأمر قد خرج عن سيطرته تماماً، وأصبح يبكي بصوت راعف يسمعه كلّ أهل القرية، فتخرج النساء ويقالدنه واحدة بعد أخرى.

"رفيف" بنتي أطلقت عليه لقب "بابا جدو"، للتمييز بينه وبين أجدادها الكُثر، فصار كلّ من في البيت بما فيهم الوالدة ينادونه "بابا جدو"، ومثلما كانت أيضاً تنادي أمّها "ماما نازك" صار الجميع ينادونها بهذه الطريقة بما فيهم "المُعلّم" نفسه وكذلك أغلب الصديقات والأصدقاء المقربين. لـ "رفيف" الصغيرة، وهي تلثغ بالكلمات التي بدأت في النطق بها وعمرها سبعة شهور، أسئلة لا تتوقف؛ عن جلبابه الأنصاري الذي يُلبس بالوجهين، وهي التي تظنّ أنه يرتديه مقلوباً! وتسأله لماذا لا يضع نقوداً وقلماً في الجيب الخلفي من جهة الظهر!!
- يا جماعة دي مصيبة شنو دي؟، بت "عفيف" ح تفوّتنا صلاة المغرب!!
ذاك كان المشهد اليومي عندما تتعلّق به ومعه والوالدة قبل خروجهما لأداء صلاة المغرب، وفي أغلب الأحيان تستطيع إيقافهما بالبكاء المستمر، فعقلها الصغير لا يفهم لماذا يذهبان فجأة إلى مشوار ما ولا يأخذانها معهما؟ فصارت هناك خطة للطوارئ؛ ما إن يعلن أذان المغرب ميقات الصلاة، حتى يأخذها شقيقي "عمرو" أو "عزت" ليشغلها في الديوان ويتم الخروج الآمن والعودة للوالدة والمعُلم، وهي بلا توقف تنادي بلثغتها:
ـ الجامغ.. الجامغ.. "بابا جدو" مشى الجامغ، ودّووني لـ "بابا جدو" في الجامغ.

بين "المُعلّم" ورفيقة الأهوال والمحبة "نازك" مسرى شفيف متبادل من المودة والامتنان، فهي من أعطته أحفاداً نابهين مثلها، أيضاً لأنها وهبت ابنه أفراحاً مترعة وسنداً عضيداً في ظل الأهوال التي عبرنا بها معاً كتفاً بكتف خلال سنوات الجحيم الذي أوقدته حكومة الإخوان المسلمين.
حين حان موعد خروجنا القسري من السودان، لظروف تأمين الخروج بسلام، كنت قد غادرت الحصاحيصا وحدي قبل يوم من موعد السفر، وأخبرتني رفيقة الأهوال والمحبة "نازك" عند ذهابهم في اليوم الثاني إلى البيت الكبير لوداعهم، جلس "المُعلم" في منتصف الحوش يبكي بصوت عالٍ، ويعانق أحفاده و"نازك" بين حين وآخر، وخاصة "شادي" الذي لم يكمل حينها العامين، بينما كانت "تبريكاته" تسبقني وتفتح لي الأبواب حتى تم خروجنا بسلام إلى برّ القاهرة ثم من بعدها إلى أرض الكانغارو.

كلما أردت أن أتأكّد من صحة "المُعلم" العامة أقوم بالاتصال بصديق العمر "بابكر عبد الرازق" الذي يقول الحقيقة بلا مواربة في كلّ الأوقات، وبينه وبين "المُعلم" ضحكات صاخبة ومحبة خالصة واحترام، فيقول لي: "آخر مرة قابلته بصحة تمام ولا يشكو من شيء، وأنا وإنت إذا مشينا معاهو ح يقوِّم نفَسْنا، لكن يريد أن يرى أطفالك "رفيف ووريف وشادي"، دائماً في سيرتهم ويستعيد الكثير من طفولتهم. وأحياناً لا يستطيع أن يتمالك دموعه".

ذات مكالمة مع "المُعلم" في شهر اغسطس ٢٠١٦م أحسستُ من صوته أنه حانق على شيء ما، وتكاد العبرة تخنقه، فسألته مباشرة عن ما به، فلم يصدّق وانفجر قائلاً:
ـ يا أخي الكلام دا عيب عليك، ستطاشر سنه ما نشوف الأولاد ديل إلا في الصور!! هسّع عليك النبي كان جو مارّين بالصُّدفة في الشارع ما ح أعرفهم ولا يعرفوني.
حاولت الزوغان وقلت له:
ـ يا "مُعلم" القفا أعوج، والجناح ليهو رافع.
قال بحسم:
ـ هو قفاك دا ح ينعدل متين؟ لازم تجيبهم أشوفهم قبل ما أموت.
وهكذا...
وفي نهاية ديسمبر من العام نفسه اجتمع شملنا جميعاً في القاهرة إلى جانب شقيقي "عاطف" وأسرته الجميلة؛ زوجته "نجوى" وابنته "أسيل" وابنه الأصغر "أيمن"، افتقدنا ابنه الأكبر "أشرف" كثيراً، لأنه كان بعيداً بسبب ظروف الدراسة خارج مصر، وكنت أكثر المحظوظين عندما علم أصدقائي "بابكر عبد الرازق، وياسر عراقي، وسراج مُبشر" بالأمر، فتركوا الوراهم والقدامهم وحضروا في نفس التوقيت إلى القاهرة ليعيدوا ذاك البهاء القديم للروح.

هكذا...
بعد ستة عشر عاماً من الشتات، يرى"المُعلّم" والوالدة أحفادهما الذين فارقوهما أطفالاً صغاراً!! فوجدا أصغرهم ابني "شادي" يفوقهما في الطول، تلك جريمة أخرى تضاف إلى سجل حكومة القتلة اللصوص الحاكمة في الخرطوم التي حرمت الآلاف من الأطفال الذين نشأوا في الدياسبورا من دفء الأسرة الممتدة.
ويا له من دفء في عزّ شتاء القاهرة!!
في اليوم الأول كنتُ أعمل مترجماً بينهم، وكان أطفالي كأنهم يريدون أن يعوّضوا في جرعة واحدة كلّ السنوات التي سرقتها منهم الهجرة القسريّة التي فرضتها قسوة الإخوان المسلمين على الملايين من الأُسر. "رفيف"؛ بنت الحادية والعشرين توهّجاً وإبهاراً، التي كانت مرشّحة قبل بضعة شهور لدخول مجلس الشيوخ الأسترالي عن حزب الخضر الأسترالي، تقفز لتجلس بين "المُعلّم" والوالدة في نفس السرير كما الزمان القديم، و"وريف " بهمّة يجهز سلة الفاكهة ليحضرها قرب "المُعلّم"، و"شادي" تتسع ابتسامته العذبة ويحاول ما استطاع أن يتحدّث بـ "عربي أستراليا" المكسّر. تسابقت أسئلتهم أن يحكي لهم "المُعلّم" عن طفولته وعن جذوره، وكنتُ المترجم الذي يحاول بجهد جهيد ما استطاع أن ينقل كلّ الجزئيات الثقافية المضمرة والثراء المفهومي المتعدد للحكايات.
طاف بهم "المُعلم" في سياحة في شجرة العائلة استغرقت أكثر من ساعة، نسوا فيها تماماً تلك العادة المزمنة لكل أطفال الدياسبورا، وهي النظر بين دقيقة وأخرى في شاشات هواتفهم الذكية التي لا تفارق أيديهم وعيونهم، وبالطبع عرج على عشقه الذي ينافس حبّه لآل المهدي وهو أرض "بطانة أب علي وحسان"، وحدّثهم عن خيراتها ومساديرها ودوبيتها وانتمائه إليها وأنه قد ولد من ترابها وليس هناك في الأرض أحبّ إليه في كلّ هذا الكون الشاسع غير تلك البقعة الممتدّة بسهولها وتلالها.

استهوت ابني "وريف" تلك الحكاية التي حكاها "المُعلم" عندما جاء أعرابيّ عابر لا ينتمي إلى المنطقة وأناخ بعيره الجائع الذي صار يأكل من خيرات الأرض التي أمامه بلا حساب في منطقة قرب "رفاعة" تؤول ملكيتها لزعيمهم، فاعترضه أحدهم قائلاً:
ـ ها.. يا عربي ها.. إنت قايل الأرض هاملة ساي؟
فردّ عليه عابر الطريق:
ـ السهَلة دي حقّت زول بتدور تحميني ليها؟ دي هُول الله؟!!
فعاجله قائلاً:
ـ ها يا عربي ها.. أرعى بقيدك!! حرررم السهَلة من هنا لا حدّ الأتبراوي الله ما عندو فيها ولا شبر!! دي "أم همج"!! بطانة أب علي وحسان!!
طبعاً سيرة زعيم عموم الشكرية "أبوسن" بطرفتها وحكمتها وتجديفها كانت حاضرة بحكاياتها التي لا تنتهي، وعندما حاول "المُعلم" أن يختتم حديثه الطويل عنه بما حدث عندما انطلق خبر موته في البطانة، قلت له:
ـ فُط، يا "مُعلم" فُط ليك سطرين تلاتة، الحكاية دي مجزرة، القطر فيهو مفتش من حزب الخُضر؟
فهمَت بنتي "رفيف" ما أقصد فأصرّت بإلحاح أن يسمعوا ما حدث من غير حذف وبترجمة دقيقة كمان:
فواصَل "المُعلم" قائلاً:
ـ دا تاريخ أهلكم بزينو وبشينو. لما مات زعيم عموم قبائل الشكرية،" أبوسن" ناحت النائحات ودقّوا النحاس وصوته ينسمع عبر بلود وبلود. آها الشكرية المتفرّقين في البطانة هَمْبَاتَة ورَوَاعيّة ومُزارْعيّة كرّوا كلهم راجعين من حدود الحبشة ومن قريب شندي وبورتسودان، لرفاعة، حزنانين حزن كبير، راكبين جمالهم وسالّين سيوفهم السنينة ويصرخون كلما رأوا شجرة خضراء نضيرة مفرهده فيقطعون ساقها وهم يقولون:
"أب سن مُتحدّر
وانتا مُخدّر".
لم يتركوا شجرة واحده في البطانة واقفة على حيلها.

نظرْتُ إلى "رفيف" لأجد الدهشة تطلّ من فمها الفاغر وعيناها تكادان أن تفارقا محجريهما. و"شادي" كأنه امتصّ شجرة ليمون كاملة، أما "وريف" بعد أن قضى "شادي" على شجرة الليمون، لم يجد ما يعادل له هذه الحموضة فانطفأ البريق في وجهه وصار ينظر بعيداً كأنه يرى تلك الغابات تُنحَر بسيوف أجداده الشكرية.

في اليوم الثاني تخلّوا عن خدماتي للترجمة، ووجدوا لغة تواصل مشتركه بينهم و"المُعلّم" الذي لا تتوقّف حكاياته. في اليوم الثالث أيقظني مبكراً صوت قرقرة ضحكات صاخبة فخرجت إلى الصالة لأجد "المعلم" وابني الصغير "شادي" يجلسان على أريكة ويتّقيَان غائلة البرد ببطّانية واحدة تقاسَمَا أطرافها، والمُعلّم يتكئ من جانب ويسند خدّه بيده اليسرى، و"شادي" يتكئ على الجانب الآخر يسند خدّه بيده اليمني كأنهما تجسيد لصورة الجد والحفيد عند الطيب صالح بتشابههما في الملامح ولغة الجسد الحركية. كأنهما لوحة لرسام حاول أن يرسم ورقة جديدة لصندوق الكوتشينة وأوراق لعبها فرسم وجه الشائب في جهة ووجه الصبيّ في جهة أخرى.

كان أسبوع العمر وزاد مسافات طويلة، وكان رأس السنة في عمق نيل القاهرة، برفقة الأصدقاء "بابكر عبد الرازق وياسر عراقي وسراج مُبشّر"، عندما تعالت أصوات الألعاب الناريّة عند منتصف الليل ازدانت سماء القاهرة بالألوان الصارخة، أيقنتُ ساعتها بأن حياتنا قد تلوّنت بمحبة "المُعلّم" خلال أيام الأسبوع الماضي بعمق لوحة خالدة إلى أبد الآبدين.

في صباح يوم الاثنين ٢٤ أكتوبر ٢٠١٧م قال "المُعلم" لشقيقتي الصغرى "سارا" بأنه يحسّ ببعض التعب والإرهاق وحيله مهدود، وبالأمس ترنّح حتى كاد يسقط، فقالت له سارا: "تعال لي في المعمل بعدين افحص ليك الملاريا".

مضى صباح يوم الاثنين هادئاً هدوءاً لن يعود مثله إلى بيتنا!!
عند منتصف النهار ذهب "المُعلّم" إلى المعمل الذي تعمل به "سارا"، عندما نظرَت زميلتها "د.كوثر عمر إبراهيم" من خلال عدسات الميكروسكوب رأت أن تلك الكريات البيضاء المريبة قد تكاثرت بشكل غير الطبيعي، فتهجّست "سارا" وتوكّأت على رفقة "د.كوثر وهبة الجيلي" وعبرتا إلى "رفاعة" على الضفة الأخرى من النهر لإجراء مزيد من الفحوصات، التي أكدت أن هناك خللاً في وظائف الكلى، فكان لا بدّ من الذهاب إلى مستشفى "ود مدني" صباح يوم الثلاثاء، وهناك قرّر الطبيب أن يدخل "المُعلم" فوراً في قسم الكلى، واستشار آخر في قسم الذرّة فقرروا أن يأخذوا عينة من النخاع للفحص في صبيحة يوم الأربعاء.

ومضى صباحٌ آخر لن يعود مثله لبيتنا.
سألتُ أسرتي من لديه جواز صالح للسفر مع المعلّم إلى القاهرة. شقيقي "عمار"، الذي كان يعمل في ذاك الوقت في مدينة "سنار" ويأتي يومياً للمتابعة في مدينة "ودمدني"، قال إنّ جوازه جاهز. قلت له:
ـ يا عمار، "عزة" زوجتك تنتظر مولودها الثاني بعد أسبوعين، وطفلك الأول "فكر" ما زال صغيراً، وستحتاجك كتير، من الأفضل أن يذهب أيّ من الإخوان، يمكن أن تلحق بهم بعد ميلاد طفلك.
قال بإصرار عنيد:
ـ ح أوصّل أبوي وأقعد معاه أسبوعين وأجي راجع، أنا أكتر واحد جاهز في أخواني، كلّ ما أحتاجه تأشيرة ممكن تتم يوم الأحد أو يوم الاثنين القادم، والثلاثاء نسافر!
ـ خير يا عمار.
اتصلت بالدكتورة الصديقة "سناء فؤاد"؛ أرملة الشاعر المصري الصديق المرحوم "حسن بيومي"، وهي دليلي الرحيم في القاهرة كلما احتجتُ طبيباً جيداً في مختلف التخصّصات، كي ترشدني إلى أفضل مستشفى لعلاج هذا المرض اللعين، فأشارت بالذهاب إلى معهد ناصر للبحوث والعلاج. لكن "د.عثمان حسن موسى" من الخرطوم أشار على "عاطف" بأنه من الأفضل مقابلة "د.محمود صلاح" استشاري ورئيس قسم أمراض الدم، وجراحة الأورام ورئيس زراعة النخاع بالمركز الطبي العالمي بالقاهرة.

وابتدأت رحلة علاج "المُعلّم" من مرض سرطان الدم اللعين، بالمركز الطبي العالمي. وحار الطبيب المصري كيف لم يتم له غسيل للكلى بالسودان وجسمه يكاد يتسمّم! تواصل الغسيل بمعدل مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع. في الشهر الأول بدأ "المُعلم" في استعادة عافيته سريعاً، وفي الشهر الثاني بدأ النخاع ينتج ما يسنده، وتُرسَل لي الفحوصات الأسبوعية في أستراليا لتراها الصديقة "د. إيناس عبد القادر". لفارق التوقيت دائماً ما كانت "د.إيناس" تسبق الطبيب المصري وترسل إرشاداتها العامة، التي كان دائماً ما تتطابق مع الطبيب المصري عندما يقابلونه في المساء، الذي قرّر بعد ثلاثة شهور من الجرعات الكيميائية المنتظمة أن الحالة وصلت إلى استقرار، وأنه يمكن أن يعود إلى السودان ويواصل في نفس الجدول ليتابعه هناك "د.عثمان حسن موسى" المشهود له بالكفاءة العالية حتى في دول الجوار.

اطمأنّ "عمار" الذي لم يستطع مفارقة "المُعلّم" بإصرار عنيد، واستقبل خبر ميلاد طفله "فخر" بعد أسبوعين من وصوله إلى القاهرة، ولم يعد كي يعطيه اسمه "فخر". الفخر لي يا "عمار" أن أكون أخاك، وأنت فخر أبيك، الذي لازمته في زمن مثقل بالأهوال.

وتعود يا "عمار" على أمل أن ترجع بعد شهر ونصف، لأننا كنا قد قررنا جميعاً وخاصة الوالدة، أنّه من الأفضل أن يواصل "المعلّم" علاجه بالقاهرة لمدة أخرى حتى يكمل ستة شهور هناك، ويعود بعدها إلى السودان، لأن حالة البلاد والعباد في الصحة والعلاج تسير بفعل الإخوان المسلمين كلّ يوم إلى متدحرج أسفل سافلين.

رجع "عمّار" إلى السودان. وجاءت "سارا وعارف"، وكانت وليمة من الفرح لـ "المُعلّم" لأن "سارا" بشقاوتها المستديمة ولاستثمارها رخصة آخر العنقود، لم تعلن لـ "المُعلم" أنها قادمة. فكانت مفاجأة ساعدت بدفقها الحيوي على رفع روحه المعنوية إلى ما فوق السحاب. في مساء الوصول قال "المُعلم" لي بفرح مزهو:
ـ الليلة جاتنا جرعة جديدة.
و...
"سارا" لم تفارقه لحظة،
حتى في ساعات النوم تأتي وتمدّ جسدها النحيل قربه.
وكان "عارف" بصبره يتابع التفاصيل التي تسير كلّ يوم إلى أحسن، فاطمأنّ هو أيضاً، وبعد شهرين عاد إلى السودان، وأصرّت "سارا" على البقاء شهراً آخر مستنفدةً كلّ إجازاتها إلى العام القادم. وبدأ "عمار" في السودان يرتّب نفسه لعودة أخرى ومعه الصغير "فخر" كي يراه "المعُلّم"، ويمارس طقوسه التي يفعلها مع كلّ أحفاده، وهي أن يطلق نداء الأذان في عمق أذن المولود ويتلو ما تيسّر من القرآن الكريم بصوته الرخيم. فهو رجل خبير ببدايات الحياة وعليم بأحوال الموت أيضاً، ما نسمّيه في نطاق العائلة "عريف الموت"، فهو من يدخل على المحتضر إذا كان من العائلة الممتدّة أو من الجيران كي يفتي لهم حول صحّة مريضهم في تلك اللحظات الحرجة، فعندما يخرج مبتسماً ويطلق دعاباته حول الخوف من الموت وهو سبيل الأوّلين والآخرين، نعلم أنها شدة وتزول، أما عندما يخرج ويتنحنح ثلاث مرات، ويحمل إبريقه ذاهباً للوضوء في غير ميقات الصلاة نعلم أن المريض يحتضر، وأن الطب عجز عن معالجته. سألته ذات مرة من أين تعلم تلك الفراسة في أمر صعب كهذا فقال لي:
ـ أولاً الأعمار بيد الله، لكن هناك علامات لخروج الروح واضحة. تعلّمت ذلك من جدك "عبد الله خير السيد" فهو آخر عريف للموت، الموت الزمن داك ما كان ساهل، والروح ما بتخرج بسهولة!! كان الناس تنتظر مع المحتضر بالأسابيع، وفي الأيام الأخيرة تصعب حركة الأرجل لأن الروح تخرج من الأرجل، والعيون تصبح ثقيلة ويضيق التنفس، وكان زمان تسمعوا زي الكرير، وجدك "عبد الله" كان بيعرف كلّ دا وادّاني سرّو.

كانت ليلة الثلاثاء الأخيرة من مارس ٢٠١٨م، "سارا" تجلس قربه، طلب منها أن تحضر له ماءً كي يتوضأ، بعدها صارت تمسّد له يده، فجأة سحب يده منها، واستعدل جسده واستلقى على ظهره تماماً وحاول أن يسحب البطانية، قالت له "سارا":
ـ بردان ولا شنو يا ابوي؟
فهز رأسه بالموافقة ووضع يديه على جنبيه، وهو يتمتم بالشهادة و"سارا" بدأت بسحب البطانية من فوق رجليه، عندما وصلت إلى صدره كان قد أكمل ترديد الشهادة للمرة الثالثة وأغمض عينيه إلى الأبد!
قالت لي "سارا": "في تلك اللحظات فهمت ماذا كان يعني أبوي عندما قال لي في نهار نفس اليوم: إنتي بت تمام يا "سارا"، يا ريت كلّ بنات الدنيا زيك!! ملازمة أبوك حتى النهاية!!".
هل كانت تلك هي النهاية؟!!
لا!!
فـ "المُعلم" لازم "يدّي البطانة شَقّة"
فتلك الأرض عشقَه.
انتعل "عاطف" قلبه الدامي وطاف في رحلة صباح الأربعاء الرمادي كي يرتّب مع تجار الموت بالقاهرة أمر ترحيل الجثمان إلى السودان، فاكتملت الترتيبات بيُسْر وحُدّد موعد السفر في ليلة الأربعاء على أن يصل الجثمان إلى مطار الخرطوم فجر يوم الخميس ٢٩ مارس ٢٠١٨م، ويتم قبره بالحصاحيصا مع شروق الشمس، ودقّ "أيمن عاطف إسماعيل" صدره بنضوج أكبر من عمره كي يرافق جده إلى مرقده لتعذُّر سفر "عاطف" وسفري للأهوال المعلومة بالوطن. وذهب "عاطف" والوالدة التي لازمته كلّ هذه الرحلة حتى النهاية، لغسل جسد "المُعلّم" الطاهر قبل أن يوضع في مستقرّه قبل الأخير.

لكن...
قبل نهاية المستقرّ،
كان لا بد لـ "المُعلّم" أن يدّي البطانة شقّة!!
تقول الأساطير الأفريقية القديمة إنه عندما يغادر أحد أركان الأرض إلى الضّفّة الأخرى، تمارس الطبيعة حزنَها عليه بشكل أو بآخر، لأنّ ركناً ركيناً قد انهدّ.
عندما وصلَت الطائرة إلى مطار الخرطوم كانت هناك عاصفة ترابيّة لم يَرَ الناس مثلها في هذا القرن، استحالت معها الرؤية، فحلّقت الطائرة حول مطار الخرطوم لمدة تكفي أن تذهب روح "المُعلم" الطاهرة لتهدهد صدر "فخر" ابن "عمار" الذي وُلد في غيابه، وكان في تلك اللحظات يبكي بحرقة من ضيق التنفّس الذي يعاني منه منذ ميلاده، عندها وهبه "المُعلم" رقية بعد أن مسح صدره، فنام "فخر" بهدوء ما قبل العاصفة. ثم عرجت روحه إلى "شمبات" حي "صَرَصر" مهد صباه وبعض شبابه، ثم طافت بتلك القبة حيث آل "بشارة"، رفعت السلام إلى آل "الفَضُل" وآل "جولا"، وآل "حاج إبراهيم". ثم عبرت روحه الطاهرة سريعاً إلى "أم ضريوة" وألقت التحايا على رفيقه في غربات ليبيا؛ الخال "محمد عبد الله "وأسرته. وأخيراً عبرت النيل إلى "قبة المهدي" وطافت بها مرات ومرات.

عندما عادت روحه الطاهرة إلى الطائرة، قرّر طاقمها تحويلها إلى مطار بورتسودان في أقاصي شرق السودان، فأرسل "المُعلم" قبل دورانها اعتذاره إلى المنتظرين بالمطار من الأهل والأصدقاء والزملاء: ابنه عزت، وأشرف عبد الغني، وأزهري ميرغني، وسليمان عثمان سليمان، ومحمد تجاني، ومحمد سهيل عبد الغني، وعبد العزيز حامد، وحسان أحمد فرج الله، وعز الدين حاج إبراهيم، وجعفر نَصر، والهادي جمعة، وعبد الوهاب أحمد صالح، وحسن كمال، وسيف سمعريت، وعبد الظاهر عبد الغفار، وبابكر عبد الرؤوف بشارة، وعبد الحميد قريب الله، ومرسي نايل، وجعفر دياب، وعبدالله نيران، ومحمد بطحاني، ونجم الدين النعيم، ومحمد يحيى، ومكي عبد القادر، وعصام كامل. ووعَدهم "المُعلم" بعودته بعد ساعات بعد أن يدّي البطانة شَقّة ويجيهم راجع ويرافقهم إلى الحصاحيصا.

في مطار بورتسودان هبطَت الطائرة والعواصف ما زالت عالقة!! وصار البحر الأحمر أحمرَ حقاً!! ولا ترى الذي أمامك!!
واهِمٌ من ظنّ أنّ "المُعلّم" في ليلته تلك يرقد وحيداً في تلك الثلاجة الباردة!!
فهم لا يرون!!
روحه قد أدّت البطانة شَقّة!!
وطافت بـ "ود ابشام" لتودّع أهلها فرداً فرداً، وتطوف بقبر أبيه، وأخويه الاثنين "إبراهيم وناصر"، ليُحانِن قبر أخته "مريم" التي ربّته، ويقالد أخته "فاطمة بت بشارة "وعم "رجب وابنه عبد اللطيف"، بمودّة وإجلال عانق "حاج الناجي" زوج أخته بالرضاعة "رقية".

بعدها صعد جبل "بيلا" أدّاها نمّة نمّتين مع " اللّدر" والهمباتة، وشعراء البطانة، ونقز نقزة نقزتين على صوت مغنّية الحماسة فنّانته المفضّلة "التومة عبد القادر" الشهيرة بـ "التومة البادْرابيّة" فصوتها ودلّوكتها الحارّة كانا يشغلان الفراغ والمدى بين جبل "اللبايتور" وجبل "بيلا"، وليعرج مرة أخرى إلى مطار بورتسودان، وينتظرهم في الصباح وقد اعتدل الطقس قليلاً تحوّل إلى رياح قوية بلا أتربة، تراجعت العاصفة غير المسبوقة التي استمرّت أكثر من نصف يوم، وخالفت توقّعات خبراء الأرصاد بأنها سوف تستمرّ ثلاثة أيام، فتحرّكت الطائرة إلى الخرطوم فوجدت عربة الإسعاف جاهزة للانطلاق إلى الحصاحيصا بعد ان قام اخو الاخوان "أحمد محجوب" بيده الخضراء الممدودة لأسرتنا في كافة الازمان بتجهيزها، ليرتاح "المُعلم" راحته الأبديّة في أحبّ الأيام إلى قلبه وهو يوم الجمعة. ليرتاح من رحلة ثلاثة وثمانين عاماً نثر فيها بين الناس التوادد والابتسامة، وخرج من الدنيا فقيراً كما جاء إليها.
خرج منها فقيراً إلا من المودّة الصادقة، والتسامح مع الذات والآخرين، والمحبة الخالصة غير المشروطة.
تلك هي ثرواته الباذخة التي تركها لنا وأوصانا عليها وبها.
مذبوحةٌ بالغياب، ونازفةٌ مثل صنبور خَرب، روحي.
كم هو يتيم هذا القلب الآن،
وإلى الأبد، يا أبي!!.

بيرث/ أستراليا
٣ أبريل ٢٠١٨م



#عفيف_إسماعيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بين الناشط الثوري والإداري التنفيذي
- النساء ذوات الوشاح الأبيض*
- *الأستاذ محمود.. ولعبة الموناليزا
- ارح مارقه*... والترميم الثوري
- -ارح مارقه-*... والترميم الثوري (1)
- *الأستاذ محمود.. ولعبة الموناليزا..
- اسامة الفَراح عوان الحِله
- وتَبقَى طفلةُ العصافير الموسميّة*
- وداعا النقابي الجسور وسيم الروح فاروق احمد -جدو-
- من وصايا الشهداء
- تَشبَهي العيد في بَلَدْنا
- صور شعبيّة.. وقسم السّيد أدفريني*
- وداعا ..زوربا السوداني(2-2)
- مُسامرة من وراء المحيط..محمود.. أرق المهووسين
- وداعاً زوربا السوداني1
- لوحة2
- مُسامرة حوارية مع الفنانة المغنية د. ياسمين إبراهيم
- رنين الحنين على أجنحة نوارس عائدة أو نغم أخضر
- مسامرة حوارية- جريدة الحصاحيصا
- زهور ذابلة


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عفيف إسماعيل - المُعلّم.. أسرَى إلى البُطانة.. وأدّاها نمّة!!